تلك إذن سمة ضرورية من سمات الإنسان في عصرنا. وأعني أن يسلم ذاته في ميدان المعرفة العلمية، فلا يكون له فيها هوى على أن يعيد لذاته تلك اعتبارها ووجودها في ميدان التعبير الفني، وهو ميدان فسيح لا تكاد تحده حدود. وأما السمة الثانية لإنسان العصر، والتي ليس لنا إلا أن نتمثلها إذا أردنا المشاركة في زماننا، فهي الإيمان بما للإنسان من حق في تقرير مصيره، فردا كان أو جماعة. وأعني بذلك حق «الحرية» في مختلف أبعادها ومقيدة بشروطها؛ فالحرية الحق هي إبداع، وكما هو الشأن في كل إبداع، لا بد من «قيود» لضبط الإيقاع أثناء الحركة والسير، كالشاعر حين يقيم أمام نفسه قيود الشكل الفني من وزن وتقسيم، ليستطيع بعد ذلك أن يخطو على تلك القيود بالحرية التي يعرفها الفن في إبداعه. وما يقال عن هذا الضرب من الحرية في دنيا الفنون، يقال مثله في الحياة السلوكية بصفة عامة.
ولقد تفرعت عن «الحرية» في عصرنا، فروع بالغة الأهمية في حياة الإنسان؛ من أهمها أن تتعدد الثقافات بتعدد الشعوب، بعد أن كان الاعتراف في العصور السابقة لا ينعقد إلا لثقافة واحدة، تكون هي ثقافة الأمة الأقوى في ميدان الحضارة؛ فإلى نهاية الربع الأول من هذا القرن، لم يكن يعترف بنموذج ثقافي إلا للثقافة الأوروبية. وأما الآن فلكل شعب مهما صغر حجمه أن يعرض ثقافته الخاصة، دون أن يخجله اختلافها عن ثقافة الأوروبي أو الأمريكي. وانظر إلى مجتمع دولي كهيئة الأمم المتحدة عند انعقادها، تجد مهرجانا من اللغات والثياب والعادات؛ كل يعتز بما عنده، وكل يحترم ما عند الآخرين.
وسمة ثالثة لعصرنا، هي إيمانه بأن الحياة الإنسانية «تتقدم». ولقد يتعجب القارئ - كما شهدت بنفسي أناسا يتعجبون - عندما يقال إن عصرنا يؤمن ب «التقدم»؛ إذ قد يسألك سائل : وهل كانت العصور السابقة تؤمن ب «التأخر»؟ وفاتهم في ذلك أن الإيمان بالتقدم نتيجة لازمة، وهي أن نؤمن - بالتالي - بأن المستقبل سيكون خيرا من الحاضر، وأن الحاضر لا بد أن يكون خيرا من الماضي. وبناء على هذه النظرة لا يجوز لأحد ممن يؤمنون بالتقدم أن يلتمس نماذجه التي يقيس عليها الصواب والخطأ، فيما قد مضى وانقضى زمانه. وها هنا ستلحظ شيئا من الفزع عند من تعجبوا أول الأمر لقولك إن الإيمان بالتقدم هو من سمات عصرنا. فإذا كان السابقون قد رأوا التاريخ البشري في خط ينحدر مما هو أكمل إلى ما هو أقل كمالا، حتى لقد تعذر عليهم إلا أن يجعلوا «العصر الذهبي» فيما مضى، لا فيما هو حاضر بين أيديهم، فعصرنا هذا يعكس الأمر، ليجعل خط التاريخ البشري صاعدا أبدا نحو ما هو أكمل.
ومن الفروع الهامة التي تفرعت في عصرنا عن فكرة «التقدم» محاولة «التنمية» التي تشغل الناس اليوم في كل مكان؛ فهم في كل بلد ما ينفكون يسألون ويبحثون: كيف يحققون النماء في شتى وجوه الحياة؛ علمية واقتصادية واجتماعية وغير ذلك مما قد يخطر أو لا يخطر ببالك من وجوه، حتى ليقيسون نجاح الأمة من الأمم بدرجة قدرتها على تنمية نفسها عاما بعد عام؟ مما حفز الناس إلى مزيد من التنمية بعد مزيد. وكان هذا النهم نحو التنمية سببا في فزع طائفة من رجال الفكر في أرجاء مختلفة من العالم خشية أن يؤدي ذلك النهم الذي لا يشبع إلى استنزاف كنوز الأرض، فلا يبقى منها شيء للأجيال القادمة. ولم تكن لفكرة «التنمية» هذه أن تشتد قبضتها على عقول المعاصرين، لولا إيمانها أساسا بفكرة «التقدم».
على أن ما يهمنا نحن من هذا كله، هو ما نلحظه من تناقض في أفكارنا وفي أهدافنا؛ فبينما ننادي في جميع ميادين العمل بالتنمية في شتى صورها، حتى لقد أوردتها وزارة التعليم في تقريرها الخاص بتطوير التعليم، على أنها محور رئيسي في ذلك التطوير، لكننا في الوقت نفسه، ترانا في مجالات أخرى نذيع في الناس دعوة إلى الرجوع القهقرى، كأنما نريد نقيض النماء؛ إذ نريد انكماشا في قواقع الماضي.
وقد كان يمكن أن أجعل «التنمية» هذه، سمة أولى بين سمات عصرنا؛ لأنها تحوي في جوفها كل خيوط الحياة المعاصرة؛ فهي تحوي بين ما تحويه تنمية الإنسان الفرد تنمية تتيح له أن يعبر عما كمن في فطرته من قدرات. وحسبنا هذا النماء الحر لكل مواطن على حدة، ليتحقق لنا ما نريده من حرية للإنسان تبدع له ولنا ما هو جديد، ثم ليتحقق لنا ركن من أهم أركان العصر، ألا وهو أن يكون الهدف الأسمى للإنسان هو الإنسان نفسه. ولعل التاريخ لم يشهد عصرا كعصرنا إذ يدعو إلى ضرب من التعاون بين أغنياء الشعوب وفقرائها؛ فقد كانت دعوة كهذه تقتصر فيما مضى على العلاقة بين الفرد الغني والفرد الفقير. أما أن تقام الدعوة على أن تعطي الأمة الغنية مما عندها إلى أمة فقيرة، وعلى أن هذا العطاء ليس من قبيل الصدقة، بل هو من صميم النظام الاقتصادي نفسه، فذلك شيء جديد. ولسنا نقول إن هذا الجديد قد استقر على دعائمه، بل يكفينا أنه سار خطوات في طريق التنفيذ.
وإن شئت صورة موجزة لإنسان العصر - في المتوسط العام - فهو إنسان يؤمن في طبيعته البشرية بجانبين، ويريد أن يحياهما معا في توازن بقدر المستطاع؛ فالعقل من جهة والوجدان من جهة أخرى. من الأول يجيء العلم وما يتفرع عن العلم، ومن الثاني يجيء الفن وما يتفرع عن الفن. وإنسان العصر يؤثر البساطة في كل شيء فلم تعد ترى في عمارته قصورا مزخرفة كالتي كانت، ولا طعاما ولا ثيابا بالتعقيد الذي كان. ولعل بساطته تلك قد تفرعت عن نزوعه الشديد نحو الحرية، إلى الدرجة التي تجعل حتى أعداء الحرية يخفون عداوتهم تلك وراء الأستار ليظهروا بدعواها أمام الناس، وإنسان العصر أميل إلى الاعتدال بين الأطراف المتطرفة، فإذا مال به العلم نحو عقلانية خالصة في ناحية، شده الفن وتذوقه نحو نبض الوجدان في الناحية الأخرى؛ ولذلك لم يعد يظفر بالرضا العام من يتزمت في عقيدة أو في رأي. نعم إن العالم لم يخل - ولن يخلو - من تعصب المتزمتين، لكن المعول إنما هو عن الرضا أو السخط من الرأي العام. وفوق هذا وهذا وذاك، فإنسان العصر يزداد مع الأيام إيمانا بدعوة قديمة قدم التاريخ، لكن الإيمان بها هو الذي يضعف ويشتد، ألا وهي الدعوة التي تقول إن الإنسان إذا لم يكن في سمو الإله، فلا يجوز له أن يهبط إلى خسة الحيوان.
يا قالع الشجرة!
أستأذن أديبنا العظيم توفيق الحكيم، في تحوير العنوان الذي اختاره لمسرحيته «اللامعقولة» يا طالع الشجرة، لأجل عنوان مقالتي هذه: «يا قالع الشجرة»؛ فلقد كان أوفر مني حظا؛ إذ رأى بعين خياله ما كان شعبنا المصري الطيب كله قد وجده في سريرته وحياته؛ وذلك أنه رأى شجرة نمت واستقامت على جذعها، وكان طرحها أبقارا حلوبا؛ فقد رأى - إذن - زرعا أخضر، وضرعا مترعا بالخير، يدر اللبن فيتلقاه الناس بالملاعق الصيني. ومن هذه الصورة الفنية بزرعها وضرعها، جاء النداء: يا طالع الشجرة، هات لي معك بقرة، تحلب وتسقيني، بالملعقة الصيني. كان هذا هو ما أوحت به خبرة الحياة الطيبة لشعبنا الطيب، فأجراه على لسانه الشعبي أغنية حلوة. والتقطه أديبنا الكبير، فجعله - بكل ما فيه من اللامعقول - مصدر أدب جميل.
أقول: إن أديبنا كان أوفر مني حظا؛ لأنني بدل أن يقع مني البصر على شجرة نمت واستقامت على جذعها، وأثمرت للناس من خيرها لبنا وعسلا وفاكهة، فضلا عن ظل تنشره على الأرض ليفيء إليه من لذعته حمرة القيظ، رأيت شيئا آخر؛ إذ رأيت في طريقي طفلا في نحو الخامسة أو السادسة من عمره، يرتدي من الثياب ما يدل على ثراء وعلى عناية، يجاهد بيديه الصغيرتين أن تقتلع شجرة صغيرة، زرعها الزارعون لأيام قليلة خلت، هي وجارات لها على جانب الطريق، ثم أحاطوها بما ظنوه وقاية لتلك الشجيرات الرضيعة من أيدي العابثين.
Página desconocida