ولعل استطراد الحديث هنا لا يكون معيبا، إذا ما خرجت به من دنيا الثقافة إلى دنيا الحرفيين وغير الحرفيين في الحياة العملية؛ إذ يخيل إلي أن مناخ العصيان والتمرد والتحطيم، الذي أتاح لمبدعي الثقافة أن يلقوا عن أنفسهم كل قيد، ليتخبطوا بعد ذلك أحرارا كما شاءت لهم نزواتهم، كان هو نفسه المناخ الذي قضى على كل القواعد التي تحكم التعامل بين العاملين من جهة، ومن يستأجر عملهم من جهة أخرى؛ فقد تلجأ إلى كهربائي أو ميكانيكي ليصلح لك عطبا في جهاز عندك أصابه تلف، فلا تدري قط ماذا سيتقاضاه العامل، وما يسعك إلا أن تنتظر نطقه بالحكم وكأنك تنتظر حكم قضاء مجهول. وما هكذا تكون الحال لو ارتدت إلى حياتنا «قواعد»، إن لم تكن بالغة الدقة، فحسبها أن تكون معلومة عند المتعاملين على وجه التقريب. لقد طرأ على جهاز التليفزيون عندي شيء من اضطراب الصورة، فاستدعيت من زعم القدرة على إصلاحه. والذي أدهشني أن الرجل لم يكد يخطو داخل الدار خطوة واحدة، حتى بادرني بقوله إنه يتعاطى خمسة وثلاثين جنيها على الإصلاح الذي دعي من أجله! قلت له: لكنك لم تر الجهاز بعد، ولا عرفت ما به من خلل إن كان يسيرا أو خطيرا. فما كان منه إلا أن أعاد شرطه بغير تعليق، فسألته ساخرا من نفسي قبل أن أسخر منه: ما هي القاعدة التي تقيس عليها عند تقدير أتعابك؟ قال بدوره ساخرا مني لا من نفسه: قاعدة؟ إنه لا قاعدة عندي، وهل بقيت في بلدنا قواعد حتى تطالبني بذلك؟ ... وجاءني سباك ذات يوم ليصلح لي شيئا، وأنجز مهمته في خمس دقائق، وسألته كم يطلب؟ فأجاب: خمسة جنيهات! قلت له: هل تدري أن رئيس الوزراء لا يؤجر جنيها على الدقيقة؟ ولا أقول لك كم يؤجر أستاذ الجامعة في محاضرة ينتدب لها، مدتها ساعة، تسبقها ساعة يذهب فيها، ويلحقها ساعة يعود فيها. فقال: إنه إذا كان رئيس الوزراء يريد لنفسه دخل السباك، فحرفة السباكة لم تغلق أبوابها.
قد يخيل للقارئ أنني قد غلوت في استطراد الحديث، حين بدأت برجال العلم والأدب، وكيف اضطرتهم رومانسية الحرب العالمية الثانية أولا، وثورتنا عام 1958م ثانيا، إلى كسر القيود في ميادين فنونهم، والعبث بالقواعد، ثم انتهيت إلى شطط الحرفيين عندنا في تقدير أجورهم تقديرا جزافا، لكنني أرى جوانب حياتنا على اختلافها قد تشابهت في إعفاء نفسها من التزام المعايير، حتى أصبح الأمر كله مرهونا بعشوائية المصادفات.
إنني رجل أصيب بداء التحليل العقلي، الذي يفتت المواقف والأفكار إلى أدق مكوناتها، ويحاول رد هذا كله إلى ما يظنه الأصل الأصيل الدفين الذي انبثقت منه تلك العناصر الظاهرة. ولقد حاولت أن أعلل هذا الانفلات العام الشامل من وضع القواعد الضابطة واحترامها، فخيل إلي أن العلة الكامنة وراء هذا هي اختفاء العدالة وروح الإنصاف، فأضيف ذلك إلى ما أدت إليه رومانسية الحرب والثورة من تمرد على منطق العقل، فكان ما كان من عبث يهزأ بدقة المقاييس وملاءمة المعايير والقواعد، سواء كان الذي بين أيدينا قصيدة من الشعر ننظمها، أو تقريرا نكتبه عن شئون عامة، فلا نراعي فيه دقة العلم، أم زبونا يريد منا عملا فنذبحه ذبحا عند تقدير الأجر المطلوب.
إنه لا تعارض بين أن يطرد النمو يوما بعد يوم، وبين أن يكون ذلك النمو نفسه منطويا على خط ثابت يحفظ للشخصية هويتها واستمرار وجودها. لا فرق في ذلك بين أمة بأسرها وفرد واحد؛ فالفرد يتحول لحظة بعد أخرى لينتقل من طفولة إلى مراهقة فشباب فاكتمال فنضج، حتى لتتغير في جسده كل خلية ولد بها، ويصبح كأنه إنسان جديد، لكن ثمة وراء هذا التحول خطا يظل على درجة ملحوظة من الثبات، هو الذي يجعل أول حياته موصولا بكل حلقة من العمر يحين بعد ذلك حينها.
ولولا هذه الاستمرارية لتعذر، بل لاستحال علينا كتابة التاريخ المتصل الفصول لأمة معينة أو لفرد بذاته، أو لمنشط من مناشط الإنسان في سيره الحضاري ، كتاريخ العلم، وتاريخ الشعر، وتاريخ العمارة، وغير ذلك.
ويلفت النظر في الأمم ذوات الامتداد التاريخي الطويل، أنها إنما استمدت هذا الدوام من ثباتها على ملامح معلومة تميزها، وأنها إذا ما تفجرت بالثورات حينا بعد حين، لتغير من نفسها جانبا أو آخر؛ فإنها لا تظل على ثورتها تلك إلا ريثما يتغير ما أرادت أن تغيره، ثم تعود لتستأنف سيرها على طريقها المألوف. حدث هذا في الصين بعد ماوتسي تونج، وحدث هذا في مصر عند ثورة التصحيح سنة 1971م، التي أريد بها أن يعود ميزان هذا السير إلى اعتداله بعدما أصابه بعض الانحراف عن المسار السديد.
وإذا قلنا عن فرد واحد أو عن أمة بأسرها إنها تحرص على أن تدوم لها هويتها عبر الزمن بكل تغيراته الطارئة، فكأننا قلنا بذلك إن ذلك الفرد أو تلك الأمة قد حافظ أو حافظت على معايير وقواعد التزمتها في حياتها الفكرية والنفسية والعملية، وتلك هي ما نطلق عليه اسم العرف، أو التقاليد، أو روح الشعب. فإذا كنا قد جاوزنا تلك المعايير والقواعد حتى أسرفنا في التجاوز، فالحكمة تقتضي أن نعمل على أن نعيد إلى حياتنا قواعد نبدع الفكر والفن على أسسها، ونتعامل بعض مع بعض على أسسها لنعود أسرة لها خصائصها التي بفضلها دامت على مدى التاريخ من يوم مولده وحتى يومه الحاضر.
لكي يعتدل الميزان
قد يكون من أبرز المعالم التي تميز ثقافة عصرنا، عندنا وعند غيرنا على حد سواء، ذلك التضخم، أو ربما كان أقرب إلى الصواب أن أقول ذلك التورم، الذي طرأ على نفوس الأفراد؛ بحيث أصبح شعور الفرد الواحد نحو نفسه، يميل إلى ابتلاع العالم كله في جوفه، إذا استطاع وبمقدار ما استطاع. ولعله شعور أوحى به إلى إنسان هذا العصر، جبروت العلم والصناعة، الذي شعر الفرد الواحد بضآلته منسوبا إليه، فبدل أن يتنفخ زهوا لأنه هو صانع الجبروت، انكمش إلى حد الفناء أول الأمر؛ لأن كل فرد أخذ ينسب عظمة عصره إلى الآخرين، ويتوهم في نفسه التفاهة وصغر الحجم، لكنه لم يلبث أن نفض عن نفسه هذا التخاذل، ووثب إلى النقيض الآخر، بأن بث في ضميره إيمانا بذاته، يظن به أنه هو وحده في إحدى كفتي الميزان، وسائر العالم في الكفة الأخرى. فجاء شعوره هذا ردا عنيفا على قوى عصره الجبارة، التي أرادت أن تهصره هصرا تحت أثقالها.
وانعكست ثورة الفرد النفسية هذه، في الفن المعاصر، وفي كثير من الأدب المعاصر، وفي بعض الحركات الاجتماعية. وإلا فلماذا نشأت مذاهب الفن التي تجيز أن يضع الفنان على اللوحة «طبيعة» من عنده هو، غاضا بصره عن الطبيعة الحقيقية الرابضة بجبالها وسهولها وبحارها هناك خارج نفسه؟ إنه فعل ذلك ليقول للدنيا من حوله: ها أنا ذا فلان الفرد الفريد المنفرد، الذي أرادت مكنات العصر أن تطحنه بعجلاتها. وهذه الوقفة الفردية نفسها قد انعكست كذلك بصورة واضحة في بعض المذاهب الفلسفية في عصرنا، وفي مقدمتها مذهب الوجودية، الذي جعل الفرد سيد نفسه؛ فهو إنسان حر بقدر ما يصنع هو لنفسه القرار، ثم يكون مسئولا عنه، لا يتبع في ذلك أحدا؛ لأنه بمقدار تبعيته يكون قد أهدر آدميته.
Página desconocida