كان هذا العلم - في عصر لانجه - قد بدأ يغلب فكرة الطاقة على فكرة المادة، ويرد الثانية إلى الأولى. ومع ذلك فإن قانون بقاء الطاقة قد لقي تجاهلا من الماديين المعاصرين له، من أمثال فشنر
Frchner
وبوشنر
Büchner ؛ «ذلك لأن العنصر الصحيح في المادية - وهو استبعاد المعجزة والتخبط من مجال الطبيعة - يثبت بفضل هذا القانون على نحو أعلى وأعم مما يستطيع الماديون إثباته من وجهة نظرهم الخاصة. أما العنصر الباطل - وهو القول بأن المادة هي مبدأ كل ما هو موجود - فإنه يطرح جانبا - بفضل هذا القانون - على نحو يبدو نهائيا قاطعا.»
8
والواقع أن عدم قدرتنا على طاقة خالصة، إنما يرجع إلى ضرورة نفسية تجعلنا ندرج ملاحظاتنا تحت مقولة الجوهر؛ فنحن لا ندرك إلا طاقات. ولكنا نطالب بعنصر تحل فيه هذه الظواهر المتغيرة؛ أي بجوهر. وهذا الجوهر هو في ذاته مجهول؛ ومن هنا فقد عرف لانجه المادة بأنها «ذلك العنصر في الشيء، الذي لا نستطيع أو لا نريد أن نمضي في تحليله إلى طاقات، والذي نجمده ونثبته فنجعل منه أصلا للقوى التي نلاحظها وحاملا لها.» (4-2) علم الحياة
يبدو لأول وهلة أن نظرية التطور عند داروين قد استبعدت فكرة الغائية نهائيا من مجال علم الحياة. ولكن هناك نوعا من الغائية لا تستبعده هذه النظرية، هو ذلك النوع الذي اعترف به كانت، الذي هو مجرد إقرار بمعقولية العالم؛ ذلك لأن الداروينية بدورها ليست إلا نظرية تضفي طابعا معقولا على أصل الأنواع الحية، وإذن فغائية العالم ليست - من الوجهة الشكلية - إلا تكيف هذا العالم مع أذهاننا. وهذا التكيف يتطلب بالضرورة سيادة قانون العلية على نحو مطلق، دون تدخل من أية قوى خارقة للطبيعة، كما يتطلب أن تكون الأشياء قابلة للفهم عن طريق ترتيبها وتنظيمها في صور وأنواع محددة. وهذا بعينه ما فعلته نظرية التطور في مجال الأحياء، أما النوع الآخر من الغائية، القائل بتدخل قوى تخرج بالحوادث عن مجراها المنتظم، وهو الغائية التشبيهية بالإنسان، فإنه يتنافى مع أسس فلسفة كانت، مثلما يتنافى مع العلم ومع الداروينية بوجه خاص. (4-3) علم النفس
لا ينكر لانجه أهمية البحث العلمي التجريبي الحديث في علم النفس وعلم وظائف الأعضاء، فلهذه الأبحاث في نظره قيمة عظمى. ولكنها لا تؤدي بأية حال إلى دعم المادية، فلندرس تأثير العوامل الميكانيكية في الإدراك كما نشاء. ولكن كل ما سننتهي إليه في الواقع هو أننا كشفنا القوانين الآلية التي تنظم أفكارنا لا حواسنا، ولو استطعنا أن نرد شيء إلى الحواس؛ لوجدنا آخر الأمر أن الحواس ذاتها إنما هي أفكار في أذهاننا؛ «ذلك لأن كل تركيب مادي - حتى لو كنت أستطيع إثبات وجوده بالمجهر أو المشرط - يظل مع ذلك مجرد فكرة لي، ولا يمكن أن يختلف في طبيعته عما أسميه بالذهن»،
9
وهكذا فإن أي تفسير يمكن أن يأتي به علم النفس - بشأن مفاهيم مثل الإدراك أو الإحساس أو غيرها - لا بد أن يرد إلى طبيعة «تركيبنا»؛ لأن كل ما ندركه في صورة إحساس يرتد إلى فكرة في ذاتنا في آخر الأمر. ولا شك أن هذه الطريقة في تفسير كشوف علم النفس - أو أي علم آخر - كفيلة بأن تفسد أية نتيجة يتوصل إليها ذلك العلم؛ لأن كل شيء يرجع حسب هذا المقياس إلى «فكرة» ذاتية. وهذا النوع من «المثالية» يستحيل تفنيده بالمنطق المألوف، وكل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه عقيم لا يغير من الأمور شيئا، وإنما يزيدها تعقيدا. (4-4) السياسة والأخلاق
Página desconocida