يتحدد موقف ديكارت من المادية من خلال حقيقتين متعارضتين: فمن الشائع أن يقال: إن ديكارت كان عدوا للفلسفة المادية، وأنه فتح الطريق أمام المثالية بقضيته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود». ولكن من الواجب أن نلاحظ - من جهة أخرى - أن واحدا من أشد الماديين الفرنسيين تطرفا - وهو «لامتري» - يؤكد انتسابه إلى ديكارت، فكيف إذن نحل الإشكال الذي تنطوي عليه هاتان الحقيقتان المتعارضتان؟
يرى لانجه أن ديكارت قد دفع المذهب المادي إلى الأمام دفعة قوية عندما أبدى اهتمامه المشهور بالرياضيات واتخذ منها أنموذجا لكل العلوم. صحيح أن الرياضة علم عقلي، ذو منهج استنباطي، وأن الطريقة الاستنباطية تتنافى مع روح المذهب المادي، التي هي تجريبية في أساسها، «ومع ذلك فقد كان ديكارت هو العامل الأكبر على سيطرة ذلك الجانب الرياضي من الفلسفة الطبيعية، الذي طبق على جميع ظواهر الطبيعة معيار العدد والشكل الهندسي»،
4
وكان معنى ذلك تغليب النزعة الآلية في بحث الطبيعة، وهي نزعة مادية في أساسها، وإذن فقد كان ديكارت هو الذي أذاع فكرة الآلية في هذه الفترة من تاريخ الفلسفة الحديثة، وهي الفكرة التي ظهرت بأوضح صورها في كتاب لامتري «للإنسان الآلة
L’homme machine »، وإلى ديكارت ترتد الفكرة القائلة: إن جميع وظائف الحياة العقلية، فضلا عن المادية، تعد آخر الأمر نواتج لتغيرات آلية.
ومن المؤكد أن المادية قد وجدت سندا كبيرا في آراء ديكارت التي ترجع كل التغيرات في العالم الطبيعي - بل وفي الإنسان ذاته - إلى ظاهرة الحركة، إلى تأثير الأجسام بعضها في بعض، مما يؤدي تلقائيا إلى استبعاد التفسيرات الصوفية للطبيعة، ويقتبس لانجه في هذا الصدد عبارة ديكارت المشهورة في كتاب «انفعالات النفس»: «إن الجسم الميت لا يكون ميتا لأن النفس تغيب عنه، بل لأن الآلة الجسمية ذاتها تفسد في جزء أساسي منها»، ثم يعلق على هذه العبارة قائلا: «إذا تذكرنا أن كل الأفكار المتعلقة بالنفس لدى الشعوب البدائية إنما ترجع إلى مقارنة بين الجسم الحي والجسم الميت، لرأينا على الفور في هذه النقطة الواحدة إسهاما له أهمية في دعم المذهب المادي في المجال البشري»،
5
ومن هنا فإن لانجه يذهب إلى أن «لامتري» كان على حق عندما أرجع ماديته إلى ديكارت. وحين أكد أن ديكارت كان فيلسوفا حذرا، حاول تجنب رجال الدين فأضاف إلى نظريته نفسا في حقيقة الأمر خارجة تماما عن مضمون النظرية ذاتها.
ومع ذلك فإن الجانب المثالي موجود بدوره في تفكير ديكارت. ومن الجائز أن ديكارت قد احتفظ بالمادية المثالية معا دون أن يحاول التوفيق بينهما على نحو ما فعل كانت. ولكن الجانب المثالي هو الذي أثار اهتمام الناس، وطغى بذلك على الجانب المادي في فلسفته. أما ديكارت نفسه فكان الأمر لديه على عكس ذلك؛ إذ إنه لم يبد اهتماما كبيرا بالنظرية الميتافيزيقية التي ترتبط الآن باسمه، على حين أنه أبدى أشد الاهتمام بأبحاثه العلمية والرياضية، ونظريته الآلية في الطبيعة، وكل ما في الأمر أنه عندما وجد الناس يستحسنون آراءه الميتافيزيقية وبراهينه على وجود الله ولا مادية النفس، أطربه أن يشتهر بين الناس بأنه ميتافيزيقي كبير، وبدأ يبدي اهتماما متزايدا بهذا الجانب من مذهبه. وكان هذا التحول إلى الميتافيزيقا أدعى إلى اطمئنانه على نفسه من هجوم رجال الدين، «إذ إن من المعروف أن خوفه من رجال الدين قد دفعه إلى إعادة النظر في مؤلفاته التي كانت قد تمت بالفعل، ومراجعتها مراجعة دقيقة، ومن المؤكد أنه سحب منها - رغما عما كان يؤمن به فعلا - نظريته في دوران الأرض.»
6 (3-4) كانت والمذهب المادي
Página desconocida