ومن الواجب أن ننبه - قبل بيان مبررات هذا التفسير - إلى أنه لا يمثل نقيضا تاما للتفسير السابق، فإذا كان التفسير الذي عرضناه في الجزء الأول من هذا البحث قد أكد أن اهتمام ديكارت كان علميا في المحل الأول، وأن وظيفة الميتافيزيقا سلبية أو تمهيدية فحسب، فإن التفسير الذي نعرضه الآن لا يعكس الآية، ولا يقول: إن الميتافيزيقا هي المحور الرئيسي، وإن العلم كان ثانويا، بل يقول - مع التفسير الأول: إن العلم كان هدفا أساسيا لفلسفة ديكارت (إذ إن الشواهد المؤيدة لهذا أقوى من أن يتجاهلها أحد). ولكنه يخالف التفسير الأول في تأكيده أن الميتافيزيقا تظل تقوم بدور إيجابي في جميع مراحل البحث العلمي؛ أي إن الجذور الميتافيزيقية لا تتوقف مهمتها عند حد ظهور النبتة العلمية فوق سطح الأرض. بل إنها لا تكف لحظة واحدة عن تقديم عصارة الحياة إلى جذع شجرة المعرفة وثمارها.
فلننتقل الآن إلى بيان أهم المبررات التي تثبت وجهة النظر هذه في علاقة الميتافيزيقا بالعلم. (6-1) وحدة المعرفة عند ديكارت
في مستهل هذا البحث، ذكرنا أن تشبيه الشجرة ذاته يوحي بأن ديكارت كان من أنصار وحدة المعرفة، ولم يكن يعترف بالاستقلال التام للعلم، وهو الاستقلال الذي كانت بوادره قد بدأت تظهر في عصره بوضوح؛ ذلك لأن الشجرة - كما قلنا - هي نموذج الوحدة العضوية التي لا يكون لأي جزء فيها كيان دون الباقين، وفكرة وحدة المعرفة هذه يمكن أن تكون مبررا قويا للرأي القائل بأن الميتافيزيقا الديكارتية تقوم بدور أساسي في العلم.
لقد حدد ديكارت مهمة الفلسفة في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة»، وهو كتاب يعبر عن الصورة الأخيرة لتفكير ديكارت؛ لأنه نشر قبل ثلاثة أعوام من وفاته، فقال إن «لفظ الفلسفة يعني دراسة الحكمة. وليس المقصود بالحكمة هو الفطنة في الأمور العلمية فحسب، بل هو أيضا المعرفة التامة لكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه سواء بسلوكه في الحياة وبحفاظه على صحته واختراعه لكل الفنون، ولكي تكون المعرفة على هذا النحو، ينبغي أن تستنبط من العلل الأولى؛ بحيث إن العكوف على اكتسابها - أي التفلسف بالمعنى الصحيح - يقتضي البدء بالبحث عن هذه العلل الأولى، أي المبادئ.
هذه النظرة إلى الفلسفة تعود بنا إلى العهد الذي كانت فيه المعرفة الفلسفية حكمة شاملة، تسري على الميدانين النظري والعلمي معا؛ فالفلسفة تشمل معرفة المبادئ الأولى - أي الميتافيزيقا - ومعرفة الطبيعة، والخبرة والحكمة في شئون الحياة، والحرف التطبيقية، ورعاية الجسم البشري في الطب؛ أي إنها هي النسق الكامل للمعرفة، ويمثل تفكير ديكارت في هذا الصدد ارتدادا أو تراجعا عن ذلك التحول الضخم الذي كانت معالمه قد بدأت تظهر منذ أوائل عصر النهضة، وهو التحول الذي أدى إلى استقلال العلم النظري وتطبيقاته العلمية بمجال خاص يميزه عن مجال الميتافيزيقا وبأساليب في البحث لا شأن لها بالتأمل النظري.
وإذا كان ديكارت قد حدد هذا التصور الشامل للفلسفة في أخريات أيام حياته، فمن الواجب أن نتنبه إلى أن ذلك لم يكن تصورا عارضا طرأ بذهنه في فترة معينة، بل لقد كان ملازما له منذ البداية، فقد استهل ديكارت حياته الفكرية «بالحلم» المشهور الذي كان نقطة تحول في حياته، وفي هذا الحلم تراءى له مشروع طموح للمعرفة، يهدي إلى بلوغ «علم شامل يسمو بطبيعتنا إلى أسمى مراتب الكمال»، وتعبير «العلم الشامل
Science universelle » هذا كان تعبيرا دائم التردد في كتابات ديكارت، لازمة من بداية الحياة العقلية حتى نهايتها. ومن الطبيعي أن تتواصل أجزاء هذا العلم الشامل بحيث يكون هناك اتصال وثيق بين الميتافيزيقا وبين العلم الطبيعي وتطبيقاته العلمية؛ لأن العلم الشامل هو الذي يجعلنا «أحكم وأبرع»
plus sages et plus habiles ؛ أي إنه يعلو بتفكيرنا نظريا وعمليا.
هذا العلم ينطبق من مبادئ واضحة بذاتها، موجودة لدينا «قبليا»، ويشيد البناء الكامل للمعرفة بعملية عقلية خالصة، وما دام «النور الفطري أو الإلهي» هو الذي يهدينا إلى هذه المبادئ الأولى، فلنكن على ثقة من أنها - مهما قل عددها - قادرة على أن توصل إلى أبعد آفاق المعرفة العلمية. وهكذا يقدم إلينا كتاب «مبادئ الفلسفة» نموذجا لأسلوب بناء المعرفة عند ديكارت؛ إذ يبدأ الباب الأول فيه بعرض مفصل للمبادئ الميتافيزيقية، ويكون الأساس الضروري للأبواب الثلاثة الأخرى التي تتعلق كلها بمشكلات في العلم الطبيعي.
هذه النظرة إلى الميتافيزيقا - بوصفها المبحث الذي يقدم المبادئ الأساسية لكل علم طبيعي - يبدو أنها تقلب وضع العلاقة التقليدية بين الميتافيزيقا وبين الفيزياء عند أرسطو مثلا، فليست الميتافيزيقا الديكارتية كما كانت تسمى في التراث الأرسطي «ما بعد الطبيعة» أو «ما وراء الطبيعة»، وإنما هي على الأصح «ما قبل الطبيعة»، إنها ليست تتويجا للمذهب. وليست بحثا في الصورة النهائية للعالم أو الحدود القصوى، يبدأ بعد أن يكون كل بحث آخر قد اكتمل، وإنما هي الأساس الذي ينبغي أن يأتي أولا، ويقدم لكل دراسة في الطبيعة تلك الدعامات الضرورية التي ينبغي أن ترتكز عليها، (ولكن لعلنا نظلم أرسطو في هذا الحكم: كما نعلم جميعا لم يكن هو الذي نحت لفظ «الميتافيزيقا»، والرواية التي تقول: إن اللفظ يرجع فقط إلى ورود الكتاب الذي يعالج هذا الموضوع بعد كتاب «الفيزيقا» في الترتيب، ربما كانت تدل على عدم التأكد من أن مبحث الميتافيزيقا يعني ما بعد الطبيعة، والاسم الذي أطلقه أرسطو على كتابه - وهو «الفلسفة الأولى» - يدل على أنه نظر إليها بوصفها هي الجذور، وهي التي تقدم الأسس الأولى لا الحقائق النهائية. وأخيرا فقد اشتغل أرسطو نفسه بالميتافيزيقا في المرحلة الأولى من حياته، واشتغل بالفيزياء في مرحلتها الأخيرة؛ أي إن الترتيب الفعلي كان من الأولى إلى الثانية لا العكس، وهذه أيضا قرينة تدل على أن الفارق بين استخدام ديكارت واستخدام أرسطو للكلمة قد لا يكون كبيرا إلى الحد الذي يبدو عليه لأول وهلة).» (6-2) المنهج الاستنباطي في العلوم
Página desconocida