والعامل الهام الثاني هو اندماجه الكامل في الحياة السياسية لعصره؛ ذلك أن هذا الاندماج جعله عاجزا عن التفرغ لمشروعاته العلمية ، وهو أمر كان له تأثيره في تخطيط هذه المشروعات وأسلوب كتابتها، كما سنرى فيما بعد. ومع ذلك فقد أراد بيكن أن يحول حياته السياسية إلى أداة لخدمة مشروعاته العلمية، وينتهز فرصة توليه أرفع مناصب الدولة من أجل تحقيق هذه المشروعات علميا، ويستدل بعضهم من ذلك على أن السياسة عند بيكن لم تكن سوى وسيلة، وأن الغاية الحقيقية إنما هي خدمة العلم؛ وبذلك يدفعون عنه تهمة الانتهازية والرغبة في الصعود إلى أعلى المناصب ولو على حساب القيم الأخلاقية. وهذا رأي لا يمكن الجزم بصحته. غير أن هناك شواهد متعددة على أنه كان يعد النجاح في ميدان الحياة العامة وسيلة لتحقيق أهدافه العلمية؛ وذلك لسببين: أولهما شخصي، وهو أنه بطبيعته لم يكن من ذلك النوع الذي يستطيع أن يعيش على الكفاف، بل إنه لم يكن يستطيع أن يقدم خير ما عنده إلا وسط مظاهر الترف التي توارثها واعتادها، والسبب الثاني عام، هو أنه كان يستطيع - بالوصول إلى المناصب الرفيعة - أن يكتسب من النفوذ والسلطة ما يمكنه من وضع مشروعاته موضوع التنفيذ الفعلي، ومن إقناع الحكومة والناس بها، ومن هنا فإن أهداف حياته كلها تتلخص في ذلك الخطاب الذي بعث به إلى خاله في عام 1592م يطلب منه مساعدته على الحصول على منصب هام، ويقول فيه: «لقد اتخذت من المعرفة كلها ميدانا لي». وفي هذه الرسالة أكد له أنه لا يريد المنصب الرفيع إلا ليستطيع تنفيذ ما في ذهنه من المروعات، إذ إن تطهير المعرفة من الأوهام والتشويهات «هو أمر استقر في ذهني حتى أصبح راسخا لا يتزعزع.»
ويرى «أندرسن» أن نداءات بيكن المتوالية إلى البلاط لكي يعينه على تنفيذ مشروعاته كانت دليلا على أن المعرفة عنده مفضلة على المنصب السياسي، «فمن الإنصاف لبيكن أن نقول: إنه كان على استعداد لأن يغامر في سبيل تفسيره الجديد للطبيعة. وفي الوقت الذي كان لا يزال يسعى فيه للحصول على منصب كبير في الدولة، بتقديم نداء صريح إلى رئيس الكنيسة القائمة وحاكم الدولة من أجل مشروع علمي يتضمن فلسفة مادية صريحة، ومن شأنه حتما أن يحدث انقلابا في تكوين معاهد العلم القائمة والأساليب المتبعة فيها»،
1
وهكذا ظل بيكن يلح على الأمراء وكبار رجال الدولة، وعلى الملك جيمس الأول - الذي كان يعرف عنه حب العلم؛ لكي يساعده في تحقيق مشروعاته العلمية، التي لخصها ذات مرة بأنها إنشاء مكتبة تضم كل ما جادت به قريحة الإنسان في الشرق والغرب، وحديقة بها كل أنواع النباتات في العالم، وكذلك كل أنواع الحيوانات وكأنها في بيئاتها الطبيعية، ومتحف يضم كل اختراعات الإنسان الآلية، ومعمل كامل المعدات. ومع ذلك لم يستمع إليه أحد، وظنوا أن مطالبه هذه إنما تنبعث عن طموح شخصي أو سعي إلى الشهرة والمنصب الرفيع، ولم يستطع جيمس الأول أن يقتنع بأن يزود بيكن ما زود به الإسكندر الأكبر أرسطو من المساعدات، فلم يساعده في مشروعه الذي يهدف إلى تأليف دائرة معارف للعلوم الطبيعية، وإنشاء مجمع علمي يتفرغ للبحث التجريبي، ولم يفعل شيئا لتغيير خطة الجامعات ومعاهد العلم القائمة من الدراسة العتيقة إلى الدراسة التجريبية الطبيعية الحديثة، ولم تبدأ هذه المشروعات في التحقيق إلا بعد وفاة بيكن، كما سنرى في الجزء الختامي من هذا البحث. (2) مؤلفات بيكن
كان أول مؤلفات بيكن هو كتاب «المقالات»
Essays
وقد نشره أولا في سنة 1597م. وكان عندئذ كتيبا صغيرا يحوي عشر مقالات فقط، ثم أعاد طبعه مع إضافة مقالات جديدة إليه، في سنة 1613م وسنة 1625م، ووصل في المرة الأخيرة إلى ثمانية وخمسين مقالا في موضوعات متفرقة، تتميز كلها بالأسلوب الشيق والأفكار المبتكرة، ويعد هذا الكتاب من أحب كتب بيكن إلى نفوس القراء.
وعندما تولى جيمس الحكم، أراد بيكن أن يتقرب إليه ويلفت نظره إلى مشروعاته، فنشر في عام 1605م كتاب «النهوض بالعلم
The Advancement of Learning » باللغة الإنجليزية وأهداه إلى الملك، وقد حمل بيكن في هذا الكتاب على تعاليم المدرسين، ونبه إلى الطريقة التي يراها كفيلة بالنهوض بالعلوم. وقد أعاد بيكن نشر هذا الكتاب فيما بعد، بعد ترجمته إلى اللاتينية وإدخال إضافات كثيرة عليه، بعنوان: «قيمة العلم والنهوض به
De digntitate et augmentis scientiarum
Página desconocida