على العنصر العقلي. ولكن الخطأ الذي وقع فيه هو أنه ضيق نطاق العنصر العقلي بحيث جعله مقتصرا على النشاط العلمي، مع أن النشاط العلمي ليس إلا وجها واحدا لنشاط عقلي أعم، تتولد عنه أنساق كثيرة يختلف بناؤها تبعا للغاية التي تستهدفها (كاللغة والأسطورة والفن والمنطق والرياضة). وهكذا يرى ستروس أن الاختلاف بين مجتمع وآخر لا يرجع إلى استخدام كل منهما لشكل خاص من أشكال النشاط العقلي، ما دام من الضروري أن يتوافر فيها كلها حد أدنى مشترك هو وجود لغة، وهو الشرط الضروري لقيام أية ثقافة، وما دامت اللغة ترتكز على النشاط العقلي (الرمزي) ولا قيام لها بدونه.
وإذن فليس كل من قال بأن العقل البشري يتطور ويتخذ أشكالا متباينة «من حيث الكيف» وفقا لمستوى الحضارة التي ينتمي إليها، ليس كل من قال بذلك يعد في موقف أفضل من موقف ستروس، ومن المؤكد أن ستروس كان محقا في نقد بعض الاتجاهات التي ارتكزت على فكرة حدوث تحول أساسي في نوع العقلية البشرية عبر العصور. وكان على حق في دعوتنا إلى ألا نتعالى، وألا نتصور أنفسنا على أننا أسياد للآخرين، ونقيسهم بمقاييسنا الخاصة، بل ينبغي أن نترك المجتمعات البدائية توجه رسالتها بلغتها العقلية الخاصة دون حط من شأنها . ولكن المشكلة هي أن ستروس قد تطرف في تأكيد معقولية البدائيين إلى حد القول بأن للعقل الإنساني هوية أساسية تظل ملازمة له في كل زمان ومكان، وأننا نستطيع كشف هذه الهوية بتحليل نواتج هذا العقل - من أساطير ونظم اجتماعية وطقوس ... إلخ - في المجتمعات البدائية، وهنا يتعرض هذا التطرف المضاد للنقد الذي وجهه إليه بياجيه، والذي ركزه على قول ستروس «بمنطق طبيعي» يكون الأساس الثابت لكل تفسير وتنظيم إنساني أيا كان مكانه أو زمانه، فليس هناك ما يمنع على الإطلاق من تأكيد حدوث تطور حتى تلك البناءات التي تمسك بها ستروس - مثل أنساق القرابة - والتي ينبغي أن تكون ناجمة عن «مؤسسات» معينة، ولا بد أن يكون الجهد الجماعي الطويل الأمد هو الذي جعلها ممكنة.
وعلى عكس اعتقاد ستروس بأن العقل يكرم بتأكيد ثباته، يرى بياجيه أن التطور ميزة في البناءات البشرية ليس عيبا فيها؛ ذلك لأن الحيوان لا يستطيع أن يغير نفسه ما لم يغير نوعه بأكمله. أما الإنسان فينفرد بالقدرة على تشكيل ذاته وتحويرها عن طريق تكوين بناءات من صنعه هو لا تفرض عليه من الداخل أو من الخارج؛ ولذلك فمهما كان تأكيدنا لتلك الضرورات الباطنة التي تفرض نفسها على تطور الذهن من خلال تعامله مع البيئة الخارجية، ينبغي أن نعترف بأن العقل قد تطور، وبأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا إنقاذ البنائية من عزلتها المترفعة.
21
هكذا فإن نقد بياجيه يلقي ظلالا من الشك على الاعتقاد الذي لم يحاول ستروس أن يناقشه، وهو أن تأكيد أهمية البناءات في المعرفة يستتبعه حتما تأكيد ثبات هذه البناءات، وأن البنائية - من حيث هي مذهب فكري - ترتبط بفكرة الثبات ارتباطا لا ينفصم، وأغلب الظن أن العامل الذي أدى إلى تأكيد ستروس لهذه القضية وحرصه الشديد على أن يقدمها كما لو كانت هي إنجازه الأكبر في الميدان الأنثروبولوجي، هو ذلك المنهج الخاص الذي اتبعه في الدراسة الأنثروبولوجية، والذي أثار انتقاد عدد كبير من المتخصصين «المحترفين» في هذا الفرع، وإن كان قد أضفى على كتاباته طابعا فلسفيا شيقا، فقد كان ستروس يؤمن بأن البحث الأنثروبولوجي يحتاج إلى قدر محدود من الدراسة الميدانية التجريبية، وإلى قدر كبير من التفكير والتحليل العقلي. وكان - مثل كبار الفلاسفة الفرنسيين - يؤمن بأن التجربة لا تتضمن الحقيقة. بل إن الحقيقة «تضاف» إلى التجربة بواسطة العقل. ومن الطبيعي بالنسبة إلى الباحث الذي يجعل للتحليل العقلي الدور الأساسي، وأن تكون فكرة «الثبات» أساسية عنده؛ لأن مهمة العقل هي البحث عن عناصر الثبات من وراء المتغيرات، ولو كان ستروس يتبع المنهج الأنثروبولوجي التقليدي لما بدأ بحثه وفي ذهنه فكرة لا تتزعزع، هي محاولة الوصول إلى المبادئ العامة للعقل البشري من خلال دراسة الإنسان البدائي.
لقد كان ستروس - كما وصفه واحد من نقاده - من الأنثروبولوجيين «المربوطين على الكراسي
Chair-Borne anthroplgists »،
22 (أو المحمولين على الكراسي)، الذين لا يكترثون بالإقامة طويلا بين الشعوب البدائية التي يدرسونها، بل يقيم في مكان بالقدر الذي يسمح له بجمع المادة اللازمة لاستدلالاته العقلية والرياضية، التي هي في الواقع مهمته الأساسية. أما المعايشة وتعلم اللغات الأصلية للسكان والإقامة بينهم كأنه واحد منهم؛ فكلها أمور تدخل في باب «التفاصيل» التجريبية التي كان يترفع عنها. وكانت نتيجة ذلك أنه قام بمغامرة غير مضمونة العواقب، فهو لم يستطع أن يلقي ضوءا على عقل الإنسان المعاصر من خلال الإنسان البدائي؛ لأن الهوة التي تفصل بينهما سحيقة ولأن المسافة التاريخية والحضارية هائلة إلى حد لا يكاد معه القول بوجود «قوالب ثابتة» يفيدنا في إلقاء أي ضوء على السلوك المعقد للإنسان المعاصر، كما أنه (وهو الأهم) ربما كان قد شوه صورة الإنسان البدائي حين قصر همه على كشف «سماته الأساسية»، إذ إنه لم يحاول أن يفهمه فهما متكاملا يعايش فيه كل جوانب حياته، بل كان ما يهمه منه هو أن يجد فيه صورة بدائية أو «طبعة أولى» لتلك السمات التي يعدها أساسية في الذهن البشري بوجه عام، ومن شأن هدف كهذا أن يجعل البحث في الإنسان البدائي مجرد وسيلة لإثبات هدف فلسفي مسبق أصر عليه الباحث منذ البداية.
وهكذا كان الجانب الفلسفي الذي لا ينكر في أبحاث ستروس، سببا للحملة التي شنها عليه علماء متفرغون للأنثروبولوجيا، ينظرون إلى بحوثهم المتعلقة بالحضارات القديمة على أنها غاية في ذاتها، تستهدف بقدر الإمكان فهم هذه الحضارات من داخلها دون إقحام لأي هدف خارجي. ولكن الفلاسفة - من جانبهم - لم يقتنعوا بالأسس الفلسفية التي ارتكز عليها تفكير ستروس ولا بالأهداف التي سعى هذا التفكير إلى تحقيقها. وكان الخلاف المشهور بين ليفي ستروس وجان بول سارتر علامة مميزة للتباين في وجهات النظر بينه وبين الفلاسفة بوجه عام.
إن البنائية في نظر سارتر مذهب «تعالمي
Página desconocida