5
وتتجاوز بذلك الموقف الجشطلتي الذي يكتفي بافتراض أولوية الكل دون مزيد من التحليل لتركيبه الباطن. (2) البنائية والنزعة التاريخية
ربما كان التضاد الأهم، الذي تتحد به طبيعة البنائية بمزيد من الوضوح، هو تضادها مع النزعة التاريخية
historicisme ؛ إذ إن الجدل الأكبر الذي أثاره البنائيون كان موجها ضد أنصار النزعة التاريخية، والقوة الدافعة الأولى للتيار البنائي كانت الرغبة في مراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية؛ ومن هنا كان فهم موقف البنائية من النزعة التاريخية أساسيا في تحديث سماتها.
فقد كان من الشائع - في القرن التاسع عشر بوجه خاص - تفسير كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق هو الذي يتحكم دائما في اللاحق، والمنشأ الأول لأي ظاهرة، ثم مسارها التالي، أساسي في فهم طبيعتها الحالية. ولقد اتفق على هذه النقطة مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية؛ إذ قدم إلينا دارون تفسيرا لتطوير الأحياء من منظور تاريخي، وعمم «سبنسر» نظرية دارون من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية، واتخذ «نيتشه» من فكرة التاريخ أساسا لفلسفة كاملة تؤمن بأن للأخلاق والمعرفة والقيم (حتى المنطقية منها) تاريخا، وبأن حاضر هذه المعاني لا يفهم إلا من خلال ماضيها، وبأن الإنسان كائن تاريخي في صميمه، وطبق ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة، فقدم إلينا نظرية في «المادية التاريخية» تجمع بين تأكيد الشروط المادية (والاقتصادية بوجه خاص) لتطور المجتمعات البشرية، وبين إعطاء أهمية كبرى للعامل التاريخي في هذا التطور، بل يمكن القول، من وجهة نظر معينة. إن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها - وهي فكرة السببية - طابعا تاريخيا أو زمنيا؛ لأن السبب كان ينظر إليه على أنه «السابق المتكرر أو الدائم»، والتقطت علوم إنسانية كثيرة فكرة التفسير التاريخي، فأصبح من الضروري، من أجل فهم أية ظاهرة تنتمي إلى مجال الحياة الإنسانية، الرجوع إلى سوابقها الماضية، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته، ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في «التاريخ»؛ أي إن التاريخ أصبح متغلغلا في كل شيء.
ولم يقف هذا التيار التاريخي الطاغي عند حدود القرن التاسع عشر، بل كانت له إمدادات قوية في القرن العشرين، تمثل ذلك في عودة ظهور فكرة «التقدم» التي ترجع إلى القرن الثامن عشر، وتأكيد وجود اتصال واستمرار تاريخي بين الظواهر؛ فالحاضر كامن في الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر، وهناك خط متصل من التقدم، يمتد من أقدم العصور حتى اليوم، وبفضله يتحقق انتصار الروح في هذا العصر؛ لأن كل عصر وإن كان موجودا في حالة «كمون» في العصر الذي سبقه، يضيف جديدا إلى حصيلة التجارب البشرية، ويسهم في دفعها إلى الأمام؛ ولذلك فإن أعلى المستويات التي تصل إليها الروح البشرية ستكون في المستقبل.
ولقد ظهرت محاولات متعددة للحيلولة دون انتشار هذه النزعة التاريخية الطاغية، كان من أشهرها محاولة «باشلار
G. Bachelard » الذي أنكر وجود خط متصل من التقدم في المعرفة العلمية، وذهب إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء وعقبات تقف في وجه المعرفة بقدر ما هو تاريخ إنجازات ناجحة. بل إن الماركسية ذاتها - برغم ارتباطها القوى بالنزعة التاريخية - تنطوي على الفكرة القائلة بوجود نقاط انقطاع وانفصام في التاريخ البشري . وفضلا عن ذلك فليس من الضروري أن يكون الأساس الذي يبنى عليه التفسير سابقا من الوجهة الزمنية، فهناك غايات معينة تستهدف المستقبل، وتكون - في المجال الإنساني - نوعا خاصا من العلية تتطلع إلى الأمام لا إلى الخلف، وهذه مسألة ظهرت في الماركسية، التي يرتكز جانب كبير من دعوتها الأيديولوجية على نوع من العلية المتطلعة إلى المستقبل، هي تحقيق مجتمع بلا طبقات.
ولكن البنائية كانت هي التي أوقفت - بطريقة حاسمة - هذا التيار الطاغي للنزعة التاريخية، أو على الأقل قضت على ادعائها احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية، فقد استعاضت البنائية عن النظرة الشائعة إلى تقدم الروح الإنسانية، وهي النظرة التي تمثل هذا التقدم على أنه تراكم تدريجي لمكتسبات يضاف الجديد منها إلى القيم إضافة خارجية، بتصور آخر تكون فيه الأفكار الجديدة مجرد توسيع لأفكار سبق ظهورها من قبل، وإن كانت قد اتسمت في البدء بالبساطة والبدائية؛ فالعقل الإنساني لا يسير في طريقه بطريقة جيولوجية إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير؛ أي إنه لا يضيف طبقة من المعرفة فوق طبقة أخرى، وإنما يسير بطريقة عضوية، يعيد فيها تمثل القديم بطريقة أصعب وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وإن كان يدرك خلال تطوره أن هذا البناء - الذي كان يعد صحيحا صحة مطلقة في وقت مضى - لا يمثل إلا جانبا من الحقيقة، هو ذلك الجانب الذي كان عقلنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.
وفي وسعنا أن نربط بين معارضة البنائية للنزعة التجريبية ومعارضتها النزعة التاريخية في هذه النقطة بالذات، فنقول: إن تصور التقدم البشري بأنه تراكم تدريجي لمكتسبات تتجدد على الدوام - وهو التصور المميز للنزعة التاريخية - ينطوي على وجه من أوجه النزعة التجريبية، إذ يصبح التقدم عندئذ حصيلة وقائع تجريبية تضاف كل منها إلى الأخرى مكونة طبقات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مقابل ذلك ترفض البنائية كلا من النزعتين التاريخية والتجريبية؛ إذ تستعيض عن التصور السابق بتصور آخر يظل فيه العقل البشري متضمنا صورا أو قوالب أو عمليات ثابتة، وإن كنا لا نكف عن إعادة النظر فيها، وعن توسيعها وتعقيدها؛ أي إن كل تقدم يظل محتفظا بالنواة المركزية. وهكذا يمكن القول: إن نوع التقدم الذي تعترف به البنائية هو ذلك الذي يرى أن طريق المستقبل يمر بالماضي، وأن الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما تم بالأمس، فالبذور القديمة موجودة دائما، وكل ما نفعله هو أننا ننميها بطريقة جديدة.
Página desconocida