ما كنت أظن أن حب الاستطلاع يسيطر عليك إلى هذا الحد فقد ذهبت فيما زعمت لي إلى فندق جنيف حين انتهيت إلى مرسيليا، وكنت تظن أنك ستلقى فيه فرنند. ويحك! وهل تبقى فرنند في فندق واحد كل هذا الأمد البعيد، ومن يدري! أين فرنند بعد ما مضى من الزمن، وبعد ما اضطربت شئون فرنسا وشئون الأرض كلها هذا الاضطراب، وماذا كنت تريد إلى فرنند؟ وعم كنت تريد أن تسألها؟ لقد أنبأتك بما وسعني أن أنبئك به من أنبائها، فهل كنت تريد أن تمتحن ذوقي، أو هل كنت تريد أن تعرض نفسك لمثل ما عرضت نفسي له من المحنة؟ إنك لست في حاجة إلى فرنند إن كنت تريد أن تبلو مثل ما بلوت، فأمثال فرنند كثيرات في كل فندق وفي كل مدينة وفي كل بيئة، فاحذر أن تتعرض لمكرهن، وارفع نفسك عن هذا الشيء الذي غمست نفسي فيه، والذي لا أستطيع أن أخلص منه مهما أبذل من جهد وأتكلف من عناء.
لقد صدق «موسيه» حين شبه قلب الرجل النقي بالإناء العميق، إذا استقر الدنس في قاعه فليس إلى تطهيره من سبيل، ولو مر به ماء البحر كله، إن قلبي هو هذا الإناء، وقد استقر في قاعه الدنس، ولقد حاولت تطهيره ما استطعت إلى ذلك سبيلا: بالتفكير والتدبر، بالقراءة والدرس، بالجد والنشاط، بهذه المثل العليا التي كنت اتخذتها وأجد في السعي إليها، وأوفق أحيانا في هذا السعي بما حاولت من إرضاء الأساتذة، وبما حاولت من إرضاء مراقب البعثة، وبما حاولت من إرضاء الجامعة، وبما بلغت من هذا كله، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أمحو من قرارة نفسي هذا الدنس الذي استقر فيها فلزمها لزوما، واتصل بها اتصالا لا انقطاع له.
لقد خيل إلي في بعض الأوقات أني قد خلصت من الشر وبرئت من الإثم، وارتفعت عن النقيصة، وأني قد كفرت بالمرض الطويل الثقيل المهلك عما اقترفت من السيئات، وأني قد طهرت نفسي بالعلم تطهيرا، وكرمتها بالدرس عن كل ما يفسدها ويشينها، وأخذت أكبر نفسي وأغالي بها، ولكني تبينت بعد ذلك أن الحياة غرور كلها، وأن القضاء نافذ بالغ أجله مهما نفعل ومهما نحاول، وقد عرفت قضاء الله في أمري، فأنا رجل موكل بالجد واللهو معا، أبلو اللذة حتى أصل إلى أقصاها، وأبلو الألم حتى أنتهي إلى غايته، أقبل على العلم حتى كأني لم أخلق إلا للعلم، ثم أقبل على اللهو حتى كأني لم أخلق إلا للهو، أقبل على العلم فلا يصرفني عنه صارف مهما يكن، وأقبل على اللهو فلا يشغلني عنه شاغل مهما يكن. يتاح لي الغنى ويلم بي الفقر، فلا يمنعني هذا ولا ذاك من المضي في العلم إن كنت مقبلا عليه، ولا من المضي في اللهو إنت كنت منصرفا إليه، وقد عرفت إلين - إن كنت تذكر إلين - من أمري هذا كله، فقبلته مني وجارتني فيه، وأخذت إن رأتني مقبلا على العلم تهملني حتى كأنها لم تعرفني قط، وإن رأتني مقبلا على اللهو تعنى بي حتى كأنها لم تعرف غيري قط. وأنا يا سيدي كما ترى لعبة تتقاذفها معاهد العلم ومنازل اللهو، وقد بقي لي شيء من إرادة، فأنا أنفقه في تنظيم أمري على وجه ما، وأود لو استطعت أن ألائم بين هذين اللذين يختصمان في اختصاما، وأود لو استطعت أن أقسم وقتي وجهدي بينهما قسمة عادلة، فللعلم شطر منهما وللهو شطر آخر. فمن يدري! لعلي إن وفقت لهذه القسمة أن أصلح مزاجي بعض الإصلاح، وأن أنظم أمري بعض التنظيم، وأن أنتهي إلى نتيجة أرضاها وأرضي بها من لا بد من أن أرضيهم من الناس. وقد أخذت في هذه التجربة منذ أسابيع، وأنا أبذل فيها جهدا عنيفا وألقى فيها شططا شديدا، وأخشى كل الخشية ألا أوفق لشيء، لقد أخذت أدرس اللاتينية، ورتبت نظام الدرس مع الأستاذ ترتيبا رضيه وأقره، فلما أخذنا في تنفيذ ما اتفقنا عليه لم نجد إلى ذلك سبيلا، ولو أنك سألته عني لأنبأك في يأس وحزن بأني أكسل الناس وأنشط الناس، وبأني أقدر الناس على العمل وأعظمهم حظا من التوفيق، وبأني أعجز الناس عن الجد وأعظمهم نصيبا من الخيبة. أما في أول أمرنا فقد كان لا يزورني إلا وجدني مستعدا للقائه متهيئا لدروسه، وكان يزعم لي أني سأتقدم للامتحان في وقت قريب وسأفوز فيه فوزا مبينا، ثم تمضي أسابيع، وإذا أنا قد صرفت عن العلم ودفعت إلى اللذة، وأفلت من السوربون ولزمت ذراعي إلين، ويزورني الأستاذ للدرس مع الظهر فيجدني مغرقا في النوم لأني أفنيت الليل ووجه النهار في اللهو والعبث والمجون، فيستيئس إذ تكررت زيارته في غير جدوى.
ولكني أفرغ له بعد حين، فأسعى إليه وألح عليه، وأعوض ما فسد، وأرضيه بعد سخط. وعلى هذا النحو تمضي حياتي منذ حين، ولم يزدها شبوب الحرب إلا مضيا في هذا النحو من الفساد والاضطراب، فقد محت الحرب من نفسي كل ثقة، وذادت عنها كل يقين، وأهدرت فيها كل قيمة للعمل والأمل والحياة، فأنا أحيا لغير شيء، أو قل إني لا أحيا، وإنما أنتظر شيئا مجهولا لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه، ولو قد أردت لما استطعت. وأنا أنتظر هذا الشيء المجهول كما أستطيع أن أنتظره، مستعينا عليه بالعلم والجد حين أفرغ للعلم والجد، وباللهو والعبث حين أنقطع للهو والعبث. وقد يتاح لي أن أفكر في ذلك، وأن أمتحنه وأحاول أن أتعرف أسبابه، فأشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلى هذا كله دفعا وفرضت هذا كله علي فرضا؛ لأني لم أنشأ نشأة منظمة، ولم تسيطر على تربيتي وتعليمي أصول مستقيمة مقررة، وإنما كانت حياتي مضطربة كلها أشد الاضطراب، تدفعني إلى يمين وتدفعني إلى شمال، وتقف بي أحيانا بين ذلك، ولو أني بقيت في مصر لأنفقت حياتي كلها كما بدأتها في هذا الاضطراب المتصل في غير نظام وإلى غير غاية، ولكني عبرت البحر إلى بيئة لا يصلح فيها الاضطراب، ولا تقوى على الحياة فيها نفوسنا الضعيفة المضطربة، فلم أحسن لقاءها ولم أحسن احتمال الأثقال فيها، ولم أحسن الخضوع لما تفرضه من نظام وإطراد.
ثم كانت الحرب واضطربت الدنيا، وأضيف في نفسي فساد إلى فساد واضطراب إلى اضطراب، ففقدت نفسي محورها - إن صح هذا التعبير - وأصبحت لعبة تتقاذفها الأهواء.
ما أشد حاجتي إلى قربك أيها الصديق، فقد تقدر على أن تنفعني، ولكني لا أستطيع أن أفر إليك من باريس، فالموت أهون علي من ترك باريس، ولا أستطيع أن أنقلك إلى حيث أنا، فالجامعة تحول بينك وبين هذا الانتقال، وإني مع ذلك لأخشى على نفسي كل شيء، وإني مع ذلك لأظن أني لن أعود إلى مصر - إن عدت إليها - سالما موفور العقل مستقيم الملكات قادرا على النفع والإنتاج.
فلينفذ القضاء إذا، ولتتم كلمته، فلئن ذهبت في غير نفع فما أكثر الشبان الذين يذهبون في غير نفع هذه الأيام!
17
يناير في ...
إن ظننت أيها الصديق أن في بقية من عقل أو فضلا من إرادة، فانف عن نفسك هذا الظن نفيا، فالبرهان يقول لي على أني أسعى إلى الجنون في سرعة تزداد بين حين وحين، كما تزداد سرعة السقوط بالجسم الذي يهوي إلى الأرض بين ثانية وثانية، فإن كنت في شك من ذلك فاعلم أني أنفقت في القراءة وفي القراءة وحدها إجازة عيد الميلاد ورأس السنة على حين كان الناس ينصرفون إلى ما ينصرفون إليه في هذه الأيام التي هي أيام بهجة وعيد عادة، والتي يشوبها الحزن والألم هذه المرة. كنت أنا عاكفا على «سيسيرون» و«تاسيت» قراءة وفهما وترجمة، وكنت أجد لذة في هذه الليالي التي أنفقها من وراء الباب مع الكتاب القدماء والشعراء القدماء، على حين يحيا الناس حياتهم ويجدون فيها ما يجدون من اللذات والآلام، وقد أنسيت كل شيء وأنسيت كل إنسان، ولولا أن الخادم كانت تحمل إلي الطعام أو تدعوني إليه لأنسيته أيضا، وقد انقطعت الصلة بيني وبين إلين في هذه الأيام التي كان يجب أن تقوى فيها الصلة وتكون بمأمن من الضعف والفتور.
Página desconocida