وكان طويلا حقا هذا الوقت الذي انقطعت عني فيه رسائل صاحبي، وقد كنت أقدر أنه سيتركني شهرا أو شهرين، وكنت أظن أنه لن يستطيع أن يبلغ هذا الأمر دون أن تثور به خواطره هذه الغريبة فترده إلي يلتمس عندي شيئا من الأمن وراحة النفس واستقرار الضمير. ولكن الأسابيع مضت في إثر الأسابيع، وانقضت الأشهر في أعقاب الأشهر، دون أن أتلقى من صاحبي كتابا أو شيئا يشبه الكتاب، والغريب أنه لم يعرض عن الكتابة إلي وحدي، وإنما انقطعت عن أصحابنا هذه الجمل القصار التي كان يرسلها إليهم على بطاقات البريد، وانقطعت أخباره حتى عن أهله في الريف، فكثيرا ما كتب إلي أبوه الشيخ يسألني أوصل إلي من أنباء ابنه شيء، فكنت أرد عليه بأن ابنه في باريس على خير حال، يختلف إلى السربون، ويرضي أساتذته، ويرضي مراقب البعثة، ويرضي الجامعة عنه أحسن الرضا. ولم أكن أعلله بالأماني ولا أقول له غير الحق، وإنما كنت أسأل عن صاحبي في إدارة الجامعة، وأعرف منها أنه بخير وأنه يجد في الدرس جدا غير مألوف، ويظهر من التفوق ما لم يألفه الأساتذة الفرنسيون من الطلاب المصريين. ولم أكن أجد في هذا غرابة! فقد كنت أعرف من ذكاء صاحبي الشاذ واستعداده النادر ما لم يكن يعرف غيري من الذين اتصلوا به وخالطوه، وكانت هذه الأنباء تكفيني وترضيني، وتقوم له بالعذر عندي عن انقطاع رسائله عني، وتملأ نفسي حبا له وإعجابا به وشوقا إليه وحرصا على أن يتاح لي ما أتيح له من الحظ فأعبر البحر كما عبره، ولكني كنت أقسم لئن بلغت مرسيليا لأجتنبن المقام فيها إلا ريثما يحملني القطار إلى باريس، وكثيرا ما كنت أسخر من نفسي حين كان يخطر لي هذا الخاطر، لماذا أخاف من مرسيليا! وماذا أخاف من فندق جنيف! وماذا أخاف من فرنند وأمثال فرنند! وما أنا وهذه الفتن التي لم تصل الأيام بيني وبينها سببا، ولم تجعل الأيام لها على نفسي سبيلا، وما أنا وهذه الفتن وقد كنت غارقا في الدرس والتحصيل أتأهب لامتحان الأزهر الذي أخفقت فيه إخفاقا بشعا، وأتهيأ لامتحان الجامعة الذي نجحت فيه نجاحا حسنا! ثم ما أنا وهذه الفتن وقد كنت غارقا في أدب أبي العلاء وفلسفته، متمثلا لهذه الفلسفة، متكلفا لتشاؤم شيخ المعرة! وكثيرا ما كنت أخدع نفسي وأغرها، وأزعم لها أني سأذهب إلى باريس كما ذهب أبو العلاء إلى بغداد، ومن يدري! لعلي أعود من باريس، كما عاد أبو العلاء من بغداد، فألزم قرية من القرى وأقيم فيها لا أريم. ولم أكن في حاجة إلى أن أطلب إلى أهل هذه القرية كما طلب أبو العلاء إلى أهل المعرة ألا يكلفوه أن ينفر معهم من القرية إذا أغار عليها الروم! فلم أكن أخشى أن يغير الروم على قريتي في أدنى الصعيد أو أقصاه، وكذلك كنت مشغولا بجد الدرس وغرور الشباب عن هذه الفتن التي تعرض لها صاحبي، فأفسدت عليه خلقه ودينه وصحته، وكادت تنتهي به إلى الموت.
ثم ينقضي العام ويتقدم الصيف، وإذا الأنباء تأتي من باريس بأن صاحبي قد فعل الأعاجيب، فأتم في عام واحد ما لا يتمه غيره في أعوام، وتقدم إلى امتحان ذي بال ففاز فيه وفاز بتهنئة الأساتذة أيضا، وهو مع ذلك لا يكتب إلي ولا يفكر في، وقد كنت أظن أن فوزه في الامتحان وفراغه للراحة سيردانه إلى صديقه لحظات قصارا أو طوالا.
ولكن الصيف كله ينقضي وأنا ألح عليه بالكتب فلا أظفر منه بشيء، حتى إذا كان شهر أكتوبر تلقيت منه هذه الأسطر:
أكتوبر في ...
إنك تنتظر أن أكتب إليك لأصف لك حياتي في باريس، وما كان أحب إلي أن أفعل! ولكن حياة باريس لا توصف في الكتب والرسائل، ولا سبيل لك إلى أن تعرفها إلا إذا حييتها، على أني أحب أن أصور لك شعوري في باريس تصويرا مقاربا غير دقيق. ولن يكون هذا التصوير بكلام أكتبه إليك، فالكلام كما قلت لا يغني في باريس شيئا، ولكن اذهب إلى الأهرام، فما أظن أنك ذهبت إليها قط، وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير، فستضيق فيه بالحياة وستضيق بك الحياة، وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك عرقا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك، ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف، واعلم بعد ذلك أن الحية في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق، واجتهد في أن تتم ما بقي لك من درس في القاهرة، وتؤدي ما بقي لك من امتحان، واجتهد أيضا في أن تستبقي رضا الذين يحبونك ويشجعونك ويريدون أن تتم درسك في باريس، وأسرع إلى باريس متى استطعت فإني أنتظرك فيها، وما أكثر ما سيكون بينك وبيني من الأحاديث!
15
وتنقضي السنة الدراسية كلها لا يصل إلي فيها من صاحبي كتاب ولا نبأ، وإنما أسأل عنه في الجامعة كما كنت أسأل في العام الماضي، فأعرف من أنبائه كما كنت أعرف في العام الماضي أنه مقبل على الدرس في نشاط وتفوق، وقد أخذ يدرس اللاتينية بعد أن أحسن الفرنسية إحسانا لا بأس به. وأنا أكتب إلى أبيه الشيخ بما أعرف من أنبائه وأتحدث بها إلى أصحابنا، حتى أصبح اسمه بيننا رمزا للجد في العمل وللتوفيق في الحياة.
وقد تهيأت لي أسباب الرحلة إلى فرنسا على خير ما كنت أحب، وإني لأستعد للرحيل لذلك بين القاهرة والصعيد، وإذا الحرب الكبرى تعلن، وإذا كل شيء يتغير في حياة الأفراد والجماعات، وإذا رحلتي تؤجل، وإذا أنا مضطر إلى أن أقيم في القاهرة بائسا محزونا سيئ الحظ خائب الأمل وتأتي الأنباء بأن الطلاب المصريين قد هجروا باريس كما هجرها كثير من الفرنسيين، وكما هجرتها الحكومة الفرنسية نفسها حين دنت منها جيوش العدو، ولكني أتلقى من صاحبي هذا الكتاب:
أغسطس في ...
لقد زلزلت الأرض زلزالها، واضطرب فيها كل شيء وكل إنسان أيها الصديق، وما أحاول أن أصف لك من أمر الحرب شيئا، فأنت تقرأ من ذلك في الصحف المصرية والأجنبية ما لا أستطيع أن أبلغه ولا أن أقاربه، وإنما أكتب محزونا لأن الظروف لم تهيئ لك الرحلة التي كنت ترجوها وتعقد بها الآمال، والتي كنت أرجوها وأنتظر منها خيرا كثيرا، فليس لي بين المصريين المقيمين في باريس صديق آنس إليه إن سرتني الحياة، أو أستعين به إن ساءتني. وإنما نحن قوم متخاذلون متنافسون، يبغض بعضنا بعضا، ويمكر بعضنا ببعض، ويكيد بعضنا لبعض في كل شيء ولسبب ولغير سبب. قد طوى كل واحد منا نفسه على أصحابه، فجهل كل واحد منا من أمر أصحابه كل شيء إلا هذه الأمور الظاهرة التي ليس إلى جهلها من سبيل.
Página desconocida