أكتوبر في ...
ليست الحياة لعبا أيها الصديق، أو قل ليست الحياة كلها لعبا، والجنون مباح على أن يكون قليلا، فإن طال فمصير صاحبه إلى مستشفى المجانين، وقد أشفقت أن يطول جنوني، وقد أشفقت أن أدفع إلى هذا المستشفى، ولكني أفقت بعد لأي ورشدت بعد غي، وكان أول ما لقيته في فرنسا شرا، ولكني أرجو ألا أستقبل فيها منذ اليوم إلا خيرا متصلا.
أنا أكتب إليك من باريس بعد أن أقمت فيها إقامة المستقر لا إقامة الزائر الملم. فستبدأ الحياة الجامعية بعد أيام، ولا بد من الانتساب إلى الجامعة والاختلاف إلى الدروس، وإلا رددت إلى القاهرة أشنع رد، وكيف ألقاك! وكيف ألقى أصحابنا! وكيف ألقى أهلي وأصحابي في الريف! وماذا أقول للناس! وماذا أقول لصورة حميدة إن عرضت لي فسألتني ماذا أفدت من المكث في باريس أو في غير باريس من مدن فرنسا! وماذا أقول لصورة حميدة إن سألتني ماذا جنيت من هذا الطلاق الذي أقدمت عليه في غير أناة ولا رشد ولا تفكير!
نعم، لا بد من الانتساب إلى الجامعة والاختلاف إلى الدروس وإرضاء الأساتذة الذين لا أعرفهم، وإرضاء مراقب البعثة الذي أعرفه وأحبه أصدق الحب وأقواه، وإرضاء نفسي التي لا أدري أأوفق إلى إرضائها أم أعجز عنه! فإنها بعيدة الطمع شديدة السخط علي منذ عبرت البحر.
لا بد من الانتساب إلى الجامعة، والاختلاف إلى الدروس، وإرضاء مراقب البعثة لأظفر بثقته واحترامه! فأنا في حاجة شديدة إليهما، وأنا لم أظفر منه إلى الآن إلا بالعطف والبر والإشفاق بعد السخط الذي ليس فوقه سخط والغضب الذي لا يشبهه غضب، فقد كلفته من المشقة ما لم يكلفه أحد من قبلي، وقد حملته من الجهد ما لم أحمله أحدا من قبله، فلم تكن هذه الأسابيع التي أنفقتها في فرنسا ناعمة ولا راضية، ولم يكن يملؤها الهدوء والاطمئنان، وإنما كانت أسابيع بؤس وجنون وشقاء ومرض أيضا، واكتم علي! فإن أحدا من المصريين في باريس لم يعرف مما أصابني شيئا، وأنت أول من يعرف قليلا من أمري بعد مراقب البعثة، هذا الصديق الفرنسي الذي يعرف من أمري كل شيء، ويكتم من أمري كل شيء، ويعنى بأمري عناية الأخ المحب الرفيق، والذي استطاع أن ينقلني من فساد لا حد له إلى صلاح أرجو ألا يكون له حد.
أنا أكتب لك من باريس بعد أن أقمت فيها إقامة الساكن المستقر لا إقامة الزائر الملم، فقد زرت باريس في الصيف، ولكني لم أقم فيها إلا يومين اثنين لقيت فيهما مراقب البعثة وعرفته بنفسي، وقلت له وسمعت منه، ثم استأذنته في أن أترك باريس حتى ينقضي الصيف، ولم ير بذلك بأسا، ولعله رأى فيه خيرا! فقد كان يحب ألا ألقى المصريين لأول عهدي بفرنسا ليصح تمريني على اللغة ويحسن حديثي إلى أهلها وفهمي عنهم، وقد زعمت له أني أحب أن أعود إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط لأن جوه قريب من جو مصر، فلم ينكر ذلك ولم ير به بأسا، ولكنه نهاني عن مرسيليا وزين لي مدينة قريبة منها على ساحل البحر أيضا هي مدينة «كان»، فأظهرت الطاعة له والقبول لرأيه. والغريب أنه منحني أجر السفر على حساب الجامعة للذهاب والإياب، وتركته وتركت باريس، ولكني لم أذهب إلى «كان» ولم أنزل في الفندق الذي سماه لي من فنادقها إلا بعد أن مررت بمرسيليا ... وأقمت في فندق جنيف أياما، واستوثقت من أني لن أكون وحيدا في «كان».
ولم لا ؟ إن لفرنند وإن كانت خادما الحق في أن تستريح وتصطاف كما يستريح السادة ويصطافون، وما يمنعها أن تستريح وتصطاف أسبوعين حيث أستريح أنا وأصطاف!
وكذلك لم أسافر من مرسيليا إلا بعد أن قدمتها بين يدي إلى «كان» في قطار الصباح، ولحقت بها في قطار من قطارات المساء، ولا تسل بعد ذلك عن هذه الأيام الحلوة المرة، المشرقة المظلمة، التي قضيتها في هذه المدينة مع فرنند في أول الأمر، ثم وحيدا بعد أن آن لفرنند أن تعود، ولا تسل عما جنته علي هذه الوحدة من السيئات والآثام! فأنت أكرم علي وأحب إلي من أن أقص عليك تفصيلها المنكر البشع، وأنت لا تقرأ كتبي بنفسك، وإنما يقرؤها عليك غلامك الأسود الصغير. وحسبك أن تعلم أني رجعت إلى باريس متعبا مكدودا، أستغفر الله! بل مريضا مشرفا على أعظم الخطر وأشده نكرا، ولولا مراقب البعثة لما برئت، وإن له عندي ليدا ما أعرف أني أستطيع مكافأتها إلا بالجد الذي يرضيه، ولأبلغن من هذا الجد ما أريد وأكثر مما أريد.
لا تغضب إن انقطعت عنك كتبي! فما أظن أني سأفرغ للكتابة إليك قبل أن يمضي وقت طويل.
14
Página desconocida