لم تفارقني صورتها بعد أيها الصديق العزيز، ومع ذلك فقد مضت أيام وأيام منذ انصرف بها القطار إلى قريتها في الريف، وحدثت بعد ذلك أحداث واختلفت شئون، فلقيت من لقيت وتحدثت إلى من تحدثت إليه، وأقدمت من الأمر على اليسير والخطير، ثم كان محرجة وهبط بي القطار إلى البحر ومضت بي السفينة إلى ما وراء البحر، وهأنذا أكتب إليك في غرفة من غرفاتها، وشهد الله ما فارقتني صورتها أثناء هذا كله في يقظة ولا في نوم.
ولقد سألت نفسي منذ عهد بعيد عن خير ما يستطيع الصديق أن يتمناه للصديق، وسألت نفسي حين عرفتك فأحببتك، وحين فارقتك فجزعت لفراقك، عن خير ما أستطيع أن أتمناه لك، وعرضت علي نفسي أجوبة مختلفة لهذا السؤال كنت أطمئن إلى بعضها حينا ثم أدعه، وكنت أنصرف عن بعضها الآخر حينا ثم أعود إليه، ولكن الحياة نفسها قد أجابت عن هذا السؤال جوابا ما أحسب أني سأتحول عنه. فخير ما أتمناه لك وخير ما أتمناه للصديق وخير ما أتمناه للعدو إن طابت نفسي وأحببت للعدو خيرا، هو أن يجنبك الله أسباب الندم، ويعصمك من الاضطرار إليه والإيغال فيه. فلست أعرف ألما أشد ولا حزنا ألذع ولا عذابا أمض ولا شقاء مفسدا للحياة كهذا الذي يثيره الندم في نفس الرجل الذي يقدر من الأمر ما يأتي وما يدع.
وإني لأقول لك هذا عن علم، وأتحدث به إليك عن تجربة. وأي تجربة! تجربة وددت لو أني تحملت كل ما ذقت من الألم منذ عرفت الألم مرة واحدة ولم أدفع إليها، فيا لها من منغص ماكر قادر يعرف كيف يلقاك جهرة فيقطع عليك كل أمل، ويأخذ عليك كل طريق ويردك إلى حزن مظلم متكاثف الظلمة لا منفذ للنور منه، فإذا ألح عليك بالهم والحزن وبالتنغيص المتصل والكدر المتقطع حتى انتهى بك أو كاد ينتهي بك إلى اليأس المهلك، جلا عنك غمراته، ونفس عن قلبك وعقلك بعض الشيء، وخيل إليك أنك قد رددت إلى الفضاء الواسع والهواء الطلق والضوء المشرق. ولكنك لا تكاد تذوق الراحة وتطمئن إلى بعض الأمن، حتى يمسك هذا الشيطان الخفي مسا رفيقا ولكنه عنيف، لينا ولكنه يبلغ غاية القسوة. يخز نفسك بين حين وحين وخزا يسيرا ضئيلا خفيفا لا يكاد يحس، ولكنه يذكرك بمكانه وينبهك إلى أن في هذا الهواء الطلق راحة لجسمك إن تنسمته مطمئنا فارغ البال. ولكن يجب عليك ألا تطمئن وألا يفرغ بالك، فهو هنا قريب وإن ظننته بعيدا، وإنه دان منك كل الدنو وإن حسبته نائبا عنك كل النأي، فإن كنت في شك من ذلك فانظر واشعر وسل نفسك عن هذا الوخز الخفيف الذي تجده، ما هو أو من أين يأتيك؟ فستعلم أنه مس هذا الشيطان وألم هذا الندم الذي إن رفه عليك فإنه لم ينسك، ولا ينبغي له ولا ينبغي لك أن تظن أنه سينساك.
نعم، وينبهك إلى أنك قد تجد اللذة في الحديث مع من يحسن معه الحديث، وفي التفكير فيما يحسن فيه التفكير، ولكنه كفيل أن ينغص عليك لذة الحديث والتفكير بوخزة من هذه الوخزات الرفيقة الضئيلة التي يمسك بها في ناحية من نفسك، فإذا أنت تقطع الحديث فجأة وتنصرف عن التفكير فجأة، كأنما ذكرت شيئا كنت تنساه.
نعم، وينبهك إلى أنك قد تجد اللذة والمتاع في قراءة الكتاب القيم الذي يغذى عقلك وحسك وشعورك بما شئت من علم وأدب وفن، والذي تود لو تفنى فيه فناء وتمتزج به امتزاجا وتنسى لقراءته الزمان والمكان وما يشتمل عليه الزمان والمكان، ولكنه خليق أن يحول بينك وبين ما تريد من هذا، وأن يفسد ما تجد من لذة ومتاع بوخزة من هذه الوخزات التي يمس بها نفسك في ناحية من نواحيها، فإذا يدك تتحرك حركة آلية تتضع الكتاب، وإذا رأسك يتحرك حركة آلية فيرتفع إلى السماء، وإذا أنت واجم قد أنسيت ما كنت فيه، واشتمل عليك ذهول غامض واضح معا، فيه انصراف عن كل شيء، وفيه شعور بهذا الشيطان الذي يفسد عليك كل شيء، وقد يكون هذا الشيطان أخفى من ذلك مكرا وأدق حيلة؛ فهو لا يصرفك عن الكتاب ولا يلقيه من يدك ولا يحول عنه عينيك، ولكنه يسايرك في القراءة كأنه الرفيق، ويلقي أثناء ذلك كلمات وخواطر لا صلة بينها وبين ما تقرأ، فإذا هي تختلط بما تقرأ، وإذا هي تحول نفسك عما في الكتاب، وإذا أنت تقرأ بعينيك دون أن يصل شيء مما تقرؤه إلى نفسك.
وقد يغلو هذا الشيطان في المكر والكيد لك، فلا يسايرك في القراءة، ولا يلقي في نفسك كلمات ولا خواطر، ولا يصرفك عن الكتاب وإنما يصرف الكتاب عنك صرفا، يثير بين الحروف والكلمات والسطور صورا ومظاهر وألوانا من الخيال، تراها وأنت كاره لرؤيتها، وتحاول أن تخلص منها إلى هذه الحروف والكلمات والسطور فلا تجد إلى ذلك سبيلا. فالكتاب بين يديك ولكنه بعيد عنك، والكلمات أمام عينيك ولكنها تفر منك، هي تفر وأنت تطلبها، وهذا الشيطان يلقي بينها وبينك غبارا من هذه الصور والمظاهر والخيالات، وقد يزدريك هذا الشيطان فلا يتكلف في تعذيبك جهدا ولا عناء، وإنما يداعبك في رفق ويلاعبك في استهزاء، فأنت في حديثك أو في تفكيرك أو في قراءتك، وإذا صورة ضئيلة يسيرة رقيقة تتراءى لك، فتمر بين نفسك وبين ما تريد أن تقول أو تفكر أو تقرأ، ثم لا تلبث أن تنجلي عنك في سرعة البرق الخاطف، فإذا أنت تعود إلى ما كنت تقول وما كنت تفكر وما كنت تقرأ، ثم ما تزال بك مقبلة مدبرة، وسانحة بارحة، وملمة منصرفة، حتى يجهدك الشيطان ولم يصبه الجهد، ويشق عليك ولم تدركه المشقة، ويوئسك من الحديث والتفكير والقراءة وهو جالس غير بعيد، ينظر إليك في احتقار وازدراء، وفي سخرية واستهزاء.
كل هذا وجدته أيها الصديق العزيز منذ مضى بها القطار إلى قريتها في الريف، وما زلت أجده الآن والسفينة تمضي بي إلى فرنسا متكلفة مع البحر فنونا من التفكير، تجاهده جهادا عنيفا حين يهيج وتضطرب به أمواجه وتعصف به الريح، وتداعبه دعابة حلوة حين يهدأ ويستقر ويعبث على سطحه النسيم، وكم منيت نفسي منذ أخذت أتهيأ لهذه الرحلة أن أجد هذه اللذات المتباينة التي يجدها المسافرون فيما يكون بين السفينة والبحر من جد وهزل، ومن خصام ووئام. ولكن هذا الشيطان قد حال بيني وبين ما كنت أتمنى من ذلك، فأفسده علي إفسادا ونغصه علي تنغيصا، ولو أنه قد ألقى بيني وبين ما أريد من ذلك حجبا صفاقا وأستارا كثافا لهان الأمر ولكان اليأس منه مريحا، ولكنه يشرف بي على اللذة إشرافا ويمعن بي فيها إمعانا، ثم يقطع أسبابها قطعا، ويصدني عنها أو يصدها عني أشد ما أكون كلفا بها واندفاعا إليها واستعدادا لاجتناب ما هيأت لي من ثمرات.
جنبك الله الندم أيها الصديق، وعصمك من أثقاله فإنها لا تحتمل، ومن آلامه فإنها لا تطاق.
ولست مع هذا كله مبغضا لشيطان الندم، هذا الذي يعذبني، ولا منكرا عليه، فأنا أعطي الحق من نفسي وأقبل راضيا أو كارها ما ليس من قبوله بد، فأنا قد اقترفت الإثم، ولا بد من أن أحتمل أثقاله وأتجرع آلامه، والإثم عندي شجرة لا بد من أن تؤتي ثمرها إذا صادفت من الخصب ما يمكنها من النمو والإثمار، وإنما تصادف الخصب وأسباب النمو والإثمار حين تصادف نفسا كريمة حرة دقيقة الحس قوية الشعور. والندم عندي آية من آيات الكرم، وعلامة من علامات السمو، ومظهر من مظاهر الارتفاع عن الدنيات، ودليل من أدلة خصب النفس وجودة أصلها واستعدادها للخير وحسن البلاء فيه، وإني لأبغض النفوس المجدبة التي لا تعرف ألما ولا ندما، والتي تموت فيها أشجار الآثام والخطايا، كما يموت النبات في الصحراء المحرقة المهلكة.
وإني لأبغض هذه النفوس ذات الخصب السيئ الرديء، التي تغرس فيها أشجار الخطيئة والإثم، فلا تموت ولا تجف أعوادها، وإنما تثمر خطايا وآثاما.
Página desconocida