قال الأب لابنه بعد أن انتقل إلى منزله بأيام: هل جهزت للسفر؟ - إلى أين؟ - إلى أمريكا. - لماذا؟
ووقعت الكلمة على الأب كأنها خنجر سفاك قاتل. - ألا تدري لماذا؟ - لا، لا أدري. - لإجراء عملية. - أي عملية؟ - التي قال عنها الأطباء. - إنهم قالوا إن الأمل ضعيف. - ليكن واحدا في المليون. - أتنفق عشرات الألوف من أجل أمل واحد في المليون. - إنها أموالي. - إنها ليست أموالك ولا أموالي، إنها أموال رستم وفوزية، وأنا أمين عليها، أيرضيك أن أخون الأمانة؟ - إذن أموت؟ - كلنا سنموت.
كلنا سنموت. كلنا سنموت. كلنا سنموت. طنت الكلمة في رأسه وفي كيانه: كلنا سنموت. لقد سمعتها قبل اليوم، لا، بل قلتها، قلتها، نعم قلتها، وأذكر اللحظة والوقت والمناسبة: كلنا سنموت. •••
ترك راشد والده وعاد إلى بيته.
ومرت الأيام، ولكن عبد الشكور منذ سمع كلمة ابنه دخل إلى غرفته لا يريد أن يرى أحدا أو أن يراه أحد. يدخل إليه الطعام في موعده ويتلهى بالراديو حينا أو التليفزيون، وقليلا ما يتلهى، ثم يأمر فتغلق النوافذ إن كان في نهار، أو يطفئ المصابيح إن كان في ليل، ويخترق بعينيه الظلام فلا يرى إلا رسما واحدا يلح عليه إلحاحا لا يغلبه ويغمغم: نعم إنها حياتي. حياتي أنا. دائرة حيثما بدأت من نقطة منها فمن الحتم المؤكد أن تعود إلى نفس النقطة التي بدأت منها.
فمتى، متى تطمس الأيام هذه الدائرة؟! كلمة لم أقلها في حياتي، لا مهرب لي من أن أقولها اليوم، ولا أقول غيرها: الله يعلم. الله وحده يعلم. أعرفت الله اليوم؟ ليس أمامي إلا أن أعرفه. لم يبق في حياتي إلا آخرتي. فإن لم أعرف الله اليوم فماذا يبقى لي؟! والعجيب العجيب أنه في عزلته هذه كان يحافظ على مواقيت الصلاة، ولأول مرة في حياته يحس مع الألم العاصف والأسى المبيد في جوانحه أنه بالصلاة مطمئن النفس؛ فهو بذكر الله في سكينة وأمان لم يذق نعيمهما في كل ما تركه وراءه من أيام ومن أسرة ومن ثروة. (انتهت بحمد الله.)
فندق برزدنت، جنيف
الساعة 12:30 ظهرا، يوم الإثنين 25 سبتمبر، عام 1995
Página desconocida