وقطعت عليه فوزية صمته المبيد الذي جعل أباها في عينيها في حال لم تره عليها حياتها كلها. - خير يا بابا. - بل شر يا بنتي. - ماذا؟
وقص عليها أبوها المصيبة التي تحيط بحياتهما، ثم ختم حديثه قائلا: كل ما كنت آمله من الحياة أن أتركك بين يدي زوج أطمئن إلى شرفه ورجولته وحفظه للأمانة، وهذا الكارثة الذي يفرض نفسه علينا بلا شرف ولا رجولة ولا أمانة، مستعد أن يلقي بك أول ورقة على مائدة القمار إن كنت الورقة التي ستعود عليه بأي كسب مهما كان حقيرا تافها.
واسودت الدنيا في ناظري فوزية، وغابت نظراتها، حتى لقد تلاشى أبوها في عينيها، وجمعت على شفتيها الباذختي الجمال كلمات غمغمتها. - المصيبة أعظم مما تظن يا أبي. - هل يمكن ذلك؟ - إذا عرفت أنني أحب حبا عميقا معيدا بالجامعة يبادلني مشاعري ربما بصورة أقوى وأعنف.
وكأن محيطا هائلا من الآلام غمر بأمواج كالجبال رستم المسكين. - ولماذا لم يتقدم إليك؟ - إنه عائد بعد سنة واحدة من لندن حيث يدرس ليحصل على الدكتوراه. - ولماذا لم تقولي لي؟ لقد كنت أظن أنك تركت الجامعة دون أن يكون لك صلة بأي طالب فيها أو أستاذ. - ولماذا أقول لك وأنا واثقة أنك كنت ستقبله؛ فهو فتى يعتبر من أمثلة الرجولة الكاملة، ومن أسرة عريقة، ليست وافرة الغنى، وإن كان لديها ما يستطيع أن يحفظ عليها كرامتها في عزة وإباء. أنا كنت واثقة أنك ستوافق؛ لأنك لن تجد فيه إلا ما يرضيك. - والآن ماذا نحن فاعلان؟ - واضح أن زواجي في كفة وفرض الحراسة علينا في الكفة الأخرى. - أنا لا أريد مالي لنفسي وإنما أحفظه لك درعا من حياة ليس لك فيها إلا هذا المال. ما مصيرك بدون هذا المال؟! - أتوظف. - هيهات؛ إنه يملك أن يفرض عليك الحراسة، يملك أن يمنع عنك أي وظيفة. - ليس من الضروري أن أتوظف في الحكومة أو القطاع العام. - وهل هناك قطاع خاص أو إنسان يستطيع أن يقاوم هذا السرطان؟! - ألا من سبيل؟ - واضح أننا إذا رفضناه سيجعل الانتقام منا شغله الشاغل، ومن المؤكد أن الوسائل كلها بيديه. - نسافر، نترك مصر. - لك الله يا بنتي الحبيبة! أتظنين أنني لم أفكر في هذا، ولكن كيف؟ إن مصر اليوم مغلقة على من فيها، لا تفلت من جدرانها نملة إلا بإذن من السلطان، والسلطان في يد هذا السرطان.
وأطرقت طويلا وقالت وكأنها شخص مذهوب العقل: إنك تحتفظ بمالك في المنزل وبالمجوهرات، ألا تستطيع أن تستأمن عليها أحدا من أصدقائك وترفض الزواج؛ حتى إذا استطاع أن يفرض عليك الحراسة لم يجد عندك ما يصادره. - لم يغب عني هذا، إنه قادر إذا لم تجد الحراسة عندي المال الذي يعرفه على الأقل فإنه سيستطيع أن يسعى بي إلى من يعتقلني، وليس يعنيني أن أعتقل ولكن ما مصيرك أنت إذا أنا اعتقلت؟! - إلى هذا الحد؟! - لست أخترع مصائب، إنما أروي لك ما رأيناه وقع فعلا للآخرين.
وأطرقت فوزية، وفرت من عينيها دمعتان حاولت بجهدها كله منعهما أن تسيلا فغلبتاها على أمرها، قالت: إنني أعلم أنك لو اعتقلت أستطيع أن أواجهه، ولكن فكرة أن تعتقل وأنت في سنك هذه، مجرد الفكرة مهما تكن غير مؤكدة أردها عنك لا بالزواج من هذا الشيطان فقط، ولكني أقدم حياتي وأنا سعيدة لأرد عنك هذا الاعتقال. - والله يا بنتي الذي لا إله إلا هو لو وثقت أن اعتقالي سيرد عنك هذا البلاء لرحبت به. - لتكن مشيئة الله نافذة. - إن الله أرحم بعباده من أن يقبل هذا الذي يحيط الناس من قهر وعذاب وتنكيل.
والعجيب أن فوزية قالت: إنه سبحانه يقول:
ولنبلونكم
ويقول:
وبشر الصابرين ، دعنا يا أبي نشتر الآخرة بالدنيا والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. - إذن؟ - من أجل سلامتك وحدها أتزوجه. - كان الله في عوننا يا بنتي، فإنني أيضا من أجل سلامتك وحدها سأقبل زواجك به، ولعنة الله على الظالمين.
Página desconocida