واللعبة ببساطة هي محاولة الحصول على الشهادة الجامعية بأقل قدر من العلم والمعلومات! أي إن الطلبة يتنافسون أيهم يستطيع أن ينجح ويتخرج بأقل جهد، ودون أن تتسرب المعلومات إلى ذهنه خوفا من استقرارها هناك، وخوفا من تأثيرها على تفكيره أو تعكير صفوه، أو تسويد صفحاته البيضاء الناصعة! ولذلك فالطالب يبدأ في اكتساب مهارات اللعبة منذ السنة الأولى؛ إما بدراسة طرق الامتحان استنادا إلى الامتحانات السابقة، وأقوال الخبراء ممن سبقوه إلى الانتصار في هذه اللعبة، وإما بالتحايل الفردي استنادا إلى خبرته الشخصية!
وأهم قواعد هذه اللعبة المحافظة على الشكل الخارجي للملعب؛ مثل ركوب المواصلات أو التاكسي، وحضور المحاضرات، والتردد على المكتبة؛ (للتأكد من وجود الكتب بها) واستنساخ المذكرات، وشراء الكتب، بل والسهر للاستذكار مع الأصدقاء، ومشاهدة البرامج «العلمية» في التليفزيون! وأهم عنصر في هذا كله هو السهر حتى الصباح ليلة الامتحان؛ حتى يتوفر للطالب القدر الكافي من التوتر والارتجاف والارتعاش والرهبة؛ وإلا فما معنى الامتحان إذا لم يكن محنة؟
والقاعدة الثانية التي لا تقل أهمية عن الشكل الخارجي هي رفض أي معلومات «خارجة عن المقرر»؛ فالطالب يرفض رفضا باتا - فهي مسألة مبدأ - أن يقرأ كتابا أو فصلا في كتاب لا يقرره الأستاذ؛ حتى لا يزيد من أحمال وأعباء عقله! بل هو أحيانا يتفاوض مع الأستاذ تفاوضا جادا في تخفيض عدد الفصول المقررة من الكتاب وإلغاء بعضها؛ فهي مثل ديون العالم الثالث، لا بد من إسقاط بعضها رأفة بحال الطالب! ولذلك فالطالب يحب الأستاذ المتساهل الذي لا يقسو (يا حرام) على أبنائه الطلبة بأن يقرر عليهم كتابا كاملا، ويكره الأستاذ الصعب الذي يطالب الطالب بدراسة الكتاب كله، وأحيانا بدراسة كتب أخرى إلى جانبه (فهذا ظلم فادح).
والطالب الذي ينتصر في هذه اللعبة هو الذي يستطيع أن يحدس النقاط الهامة في المقرر حتى يستذكرها فحسب، أو أن «يتصرف » في الامتحان حتى يجتازه دون جهد استذكار؛ فالطالب الجديد ليس طالب علم - بل هو طالب شهادة - وهذه هي الفكرة التي تقوم عليها اللعبة!
أما الأساتذة الذين يعتبرون الفريق الآخر الذي يلاعبه الطلبة فبعضهم يلعب اللعبة حسب قواعدها، فيحاور الطلبة حتى يضطرهم إلى القراءة والاستذكار - معلنا انتصاره إذا نجح في إدخال بعض المعلومات «بالعافية» في أذهانهم، وبعضهم لا يعرف قواعد اللعبة جيدا؛ فهو يمارس العملية التعليمية على افتراض أنها عملية جادة لا بد أن تثمر على مر الزمن، كثيرا ما يصيبه الإحباط، بل واليأس أحيانا، وكثيرا ما يترك الجامعة لعمل مثمر يرضيه ويحس فيه بنتيجة جهده وكده!
ومن بين من يجيد أداء اللعبة أساتذة فقدوا الحماس بعد سنوات من المحاولة، وآخرون لم يعودوا يحاولون أصلا، وفريق ثالث لا يعرف موعد انتهاء المباراة فهو مستمر في المحاولة (لعل وعسى)؛ معتمدا على أن في الجيل الجديد قلة جادة لا بد أن تحمل الشعلة من بعده! لقد أدى المناخ الثقافي العام والأوضاع الاجتماعية التي تغيرت بسرعة لم يتوقعها أحد إلى عدم نشدان العلم لذاته، بل إن من بيننا من يصر على ربط التعليم بالعمل؛ بحجة التنمية وخطة التنمية، مما جعل معظم أبناء الجيل الجديد يفقدون قيمة العلم والتعليم، وهي قيمة خالصة؛ فهم يرون من حولهم أن الجاهل قد يفوز في لعبة الحياة، وأن السعادة لا علاقة لها بالعلم، وأن النجاح أصبح لا يرتبط بتنمية الذهن!
رحيل إنسان عظيم
في خريف عام 1957م قيل لنا في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة إن أعضاء هيئة التدريس قد رحلوا إلى إنجلترا! وكان القول غريبا ومبالغا فيه، ولكنه لم يكن يخلو من الصدق؛ إذ إن عودة العلاقات مع بريطانيا عقب رحيل قوات الغزو في ديسمبر 1956م فتحت الطريق أمام استئناف البعثات الدراسية، فاتجه عدد كبير من المدرسين الذين لم يكونوا حصلوا على الدكتوراه إلى إنجلترا؛ للدراسة والحصول عليها. وكان عدد من بقي قليلا؛ ومن ثم ظللنا نتساءل عمن سيدرس لنا هذه المادة أو تلك من المواد الإنجليزية؛ فالمواد الأخرى ثابتة إذ كان يعلمنا اللاتينية أستاذ أيرلندي (مستر كروفورد) والحضارة أستاذ هولندي (فرهايدن) واللغة الفرنسية أستاذ فرنسي (مسيو باكو) والعربية والترجمة أستاذان كبيران من قسم اللغة العربية؛ هما الدكتور شكري عياد والدكتور عبد العزيز الأهواني. ولم تطل حيرتنا إذ دخل علينا قاعة المحاضرات ذات يوم أستاذ، ما إن بدأ يتكلم حتى أحسسنا بأننا نستمع إلى متحدث من نوع غير مألوف؛ فلغته الإنجليزية سلسة سيالة متدفقة، وهي من نوع السهل الممتنع، فأنت تحس أنك تفهم كل ما يقول دون أمل في مجاراته، وهو ينطقها بلهجة أبناء جامعة أكسفورد العريقة؛ لهجة تجمع بين دقة الصواب وجمال الجرس، تطرب لها الآذان ويهفو إليها القلب.
وتولى الدكتور مجدي وهبة تدريس عدد من المواد الإنجليزية لنا؛ كان أهمها الشعر والنقد، وشعرنا أننا قد انتقلنا معه نقلة مفاجئة من البدايات إلى صلب الأدب الإنجليزي (وكنا بعد في السنة الثالثة)، وأحسسنا بعد قليل بالألفة مع ما يقول، وسرعان ما أصبحت محاضراته ساعة نشتاق إليها ونحرص عليها، ولم تمض شهور حتى حدث ما لم نتوقع؛ إذ انكسر حاجز خوفنا من اللغة الإنجليزية، وشرع بعضنا يسأل أو يجيب بها، وهو يبدي من الصبر والحنان ما لم نشهده من أستاذ سابق (أو أستاذ لاحق)، حتى انتهت امتحانات الفصل الدراسي الأول، وحلت عطلة نصف العام.
كان بعضنا يحلم بأن ينقل بعض تراث الإنجليزية إلى العربية، وكان يترجم بعض القطع شعرا ونثرا إلى العربية، ولا أذكر كيف علم الدكتور مجدي وهبة بهذا، ولكنه عرض علينا في بداية الفصل الدراسي الثاني أن يعقد مسابقات في الترجمة الشعرية إلى العربية - وتحقق المشروع وأصبحت المسابقات أسبوعية، وكانت جوائزها كتبا من مكتبته الخاصة، ثم تنوعت المسابقات لتشمل كتابة القصة القصيرة بالعربية والشعر أيضا، وامتدت واتسع نطاقها لتشترك فيها أقسام الكلية الأخرى وعلى رأسها قسم اللغة العربية.
Página desconocida