تتميز مصر عن بلدان العالم بظواهر عجيبة، قد تحسب لها أو عليها، ولكنها دائما فريدة؛ منها مثلا وجود ما يسمى بجهاز الإعلام الفردي أو غير الرسمي؛ أي انتقال الأخبار (الصادقة أو الكاذبة) عن طريق الأحاديث الودية والمناقشات العابرة في المكاتب والمقاهي والمنازل فيما بين الأصدقاء والمعارف والأقارب؛ أي ما يسمى بالإنجليزية
On the grapevine ؛ أي على فروع تعريشة العنب، وهو مصطلح اكتسب احترام الدارسين لموضوع الاتصال الجماهيري بعد ما لاحظوه من تفشيه في البلدان النامية التي يترابط فيها البشر ترابطا شديدا ويستمدون من علاقاتهم الحميمة قوة تعينهم على مجالدة شظف العيش، وتعوضهم عما يفتقرون إليه من وسائل الرخاء المادي.
وقد اهتمت الأجهزة الحاكمة في البلدان النامية بهذا الجهاز غير الرسمي اهتماما بالغا وجعلت دراسته جزءا من دراسة الرأي العام، وأفردت لدراسة الشائعة (أي الخبر الكاذب الذي يشيع فيكتسب قوة الخبر الصادق) بابا خاصا، وانتهت إلى استخدام ذلك الجهاز نفسه للترويج للأخبار التي تريدها وتعتبر أنها مفيدة للشعب.
ولكن هذه الظاهرة التي نشترك فيها مع سوانا ذات مذاق خاص في مصر؛ لأننا شعب يعشق الكلام أكثر من غيره، ويتميز بخصب خياله الذي يولد فكاهات (نكت) لا يشاركنا فيها الكثيرون، فمعظم الأحاديث التي تتميز بالطرافة في المجتمعات الحميمة يستند إلى قدرة المتحدث على إمتاع السامعين بالأخبار الغريبة، وهي أخبار يؤلفها صاحبها تأليفا وقد يصدقها أثناء روايته إياها، وقد يصدقها فيما بعد، ولكنها بعد فترة تكتسب درجة من التصديق لا تتوفر للأخبار الصادقة.
وإذا كنا نشترك مع بلدان العالم كله في هذه الظاهرة أيضا؛ فإننا نتميز عنها بطرافة الشائعة ونوعها الفريد - كما قلت - لأن لنا خيالا خصبا نعيش فيه بقدر ما نعيش في الواقع! وقد حاولت تحليل هذه الظاهرة في المقدمة التي كتبتها للترجمة الإنجليزية لرواية «وقائع حارة الزعفراني» لجمال الغيطاني (التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986م، وكادت تنفد في أقل من ثلاث سنوات)، كما حاولت رصد جذور تغلغل الوهم في حياتنا.
وأذكر أن أول مرة اصطدمت فيها بهذه الظاهرة كانت في الستينيات عندما اجتمعنا في الإسكندرية مع لفيف من «المثقفين» لمناقشة إحدى روايات إحسان عبد القدوس، فبرز من الحاضرين من أكد لنا أن كل رواياته مترجمة، وأنه يعرف «كيف يكتب هؤلاء الناس»، ودهشت دهشة بالغة وناقشته مناقشة هادئة؛ احتراما لمكانته العلمية (إذ كان يشغل منصبا رفيعا في الجامعة)، فقال أولا إنه يستند إلى الثقات في هذا الموضوع الذين أخبروه بهذا، ولكنه اضطر إلى الاعتراف آخر الأمر أنه «سمع» ذلك من أحد الناس (ورفض بالطبع ذكر اسمه)، وقدم لي نوعا من السيناريو الخيالي عن كبار الكتاب الذين «يسرقون» قصص غيرهم، واليوم تعود الأوهام إلى حقل النقد الأدبي من باب جد خطر؛ ألا وهو التوصيف والتصنيف المذهبي أو العقائدي؛ إذ يطلق المتحدثون لخيالهم العنان فيرسمون صورا غريبة لعلاقات مريبة بين الكتاب وأرباب الاتجاهات السياسية، وعادة ما يبدأ الواحد منهم حديثه بالعبارة الشهيرة التي عانى منها تاريخ العربية طويلا؛ ألا وهي «حدثني محدث صدق» أو «سمعت من مصدر موثوق به»، ولا ثمة محدث ولا ثمة مصدر سوى خيال المتكلم!
ولذلك وجدتني أواجه موقفا مألوفا أثناء مناقشة في معهد التدريب التليفزيوني مع أحد الدارسين عن نجيب محفوظ، عندما لجأ إلى سيناريو مألوف عن معنى فوزه بجائزة نوبل، واسترسل في هذا السيناريو بصورة كادت تقنع الحاضرين به، فلم أجد أمامي إلا أن أسأله أسئلة محددة عن مصدر معلوماته، فلجأ إلى المحاورة والمداورة، وكنت أعلم أنه سيحاور ويداور، وفي النهاية أقر بأن هذا هو تفسيره الشخصي الذي انتهى إليه من قراءته للموقف، والأرجح عندي أنه أوحي به إليه من بعض الذي يعيشون في الأخيلة والأوهام من باب تزجية الوقت على المقهى أو في جلسات المنزل الطريفة التي تحتاج إلى «محدث» ماهر يلعب دور المؤلف الذي يسلي الحاضرين بحكاياته الغريبة التي يدسها في ثنايا أحاديث صدق حتى تكتسب منها رنة الصدق.
وما قيل عن نجيب محفوظ يقال عن كل من يعمل وينتج في حقل الأدب وفي النقد الأدبي، فما أيسر أن يزعم زاعم علمه بسر حتى تتطلع إليه العيون وتتعلق به العقول، فإذا أفضى بالسر المزعوم ولاقى استحسانا أردفه بسر آخر حتى يفرح السامعون ويطربوا، ولا غرو؛ فلقد أصبحت التمثيليات الخيالية التي يبثها التليفزيون جزءا من حياتنا الواقعية، وتلاشى الحاجز الذي يفصل بين الوهم والحقيقة، وأصبح الناس يستشهدون بما يحدث في المسلسلات والمسرحيات كأنما يستشهدون بالتاريخ الصادق. وقس على ذلك من يقول لي في قاعة الدرس في الجامعة - حيث لا مجال للأوهام - «لقد سمعت كذا وكذا»، وقد يكون قد سمع ذلك في أجهزة الإعلام، أو في الطريق العام! وقد كنت أثور عند سماع هذه العبارة فيما مضى، أما الآن فإنني اعتدتها، وكل ما أتمناه أن يسائل كل «سامع» نفسه عن مدى مصداقية المسموع، وأن يتريث قبل أن ينقل أوهامه إلى واهمين جدد!
لعبة الجامعة
هذه لعبة من نوع خاص؛ تبدأ في مرحلة الدراسة الثانوية بالتسخين عند نهاية تلك المرحلة وإعلان الطوارئ في معظم منازل مصر، وانتشار الذعر والفزع عند ذكر الامتحان الرهيب - الثانوية العامة - واهتمام أجهزة الإعلام على شتى مستوياتها وبمختلف أنواعها بأخبار الامتحان، فبعضها ينشر أسئلة وبعضها ينشر إجابات وبعضها ينشر تصريحات، وبعضها يذيع الدروس ويتلفز المعلومات! وبعد التسخين يأتي دور مكتب التنسيق وأخبار مراحل القبول وحيل القبول، والباب الخلفي والباب الأمامي، ثم تغلق الأبواب وتبدأ اللعبة في أوائل أكتوبر!
Página desconocida