وكذلك فإن الشاعر الصادق في حيرة دائمة بين ما يعرفه (عن طريق التجربة والعقل) وبين ما يحسه (عن طريق القلب الصافي أبدا)؛ فهو نهب لصراع محموم لا يفتر إلا ليشتد ولا يخمد إلا ليتقد بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن؛ ولذلك قال النقاد قديما إن للشاعر قلب طفل لا تلغيه حكمة الشيوخ، وهو ينظر إلى الدنيا كل يوم كأنما يراها لأول مرة، فلا تستطيع العادة ولا يستطيع التكرار أن يلقي بحجاب الألفة الغليظ على بصره! فهو ينظر إلى السماء كأنما يشاهدها أول مرة وتهتز نفسه لجمال الطبيعة كلما نظر إليها، حتى ولو كان يسكن الريف وحتى لو كانت صور الطبيعة تسكن روحه ومخيلته! ولذلك فهو مدفوع دائما بالرغبة في نقل هذه الانفعالات وهذه الرؤى إلى من حوله، راجيا منهم أن يشاركوه فرحته ودهشته بجمال الكون وجمال الإنسان!
لقد كان هذا دأب الشاعر الإنجليزي «شلي» ولقد قاله صراحة في مقاله الأشهر «دفاع عن الشعر»، كما أنه يفسر إلى حد ما انقطاع الموهبة عن الشاعر الإنجليزي الرومانسي «وردزورث» عندما بلغ مرحلة التجربة ولم يعد يدهش لما يرى! وهو يفسر استمرار كبار الكتاب في الكتابة مدفوعين بدهشة البراءة وعمق الإحساس بوجود الخير، مهما أنكروا ذلك. والدهشة لمرأى الشر لدى البريء تولد إحساسا بالحزن - لا بالغضب الذي يدفع إلى القيام بعمل ما - وهو حزن ما تفتأ دفقات البراءة أن تغسله وتزيله - حتى يراه مرة أخرى - فيخرج بين هذا وذاك عملا إبداعيا عظيما.
عن الكبير والصغير
كنا في ندوة نتحدث عن أدب الأمس واليوم، وكان المذيع الذي يتولى نقل الندوة مهذبا رقيقا، فجعل يقدم كل متحدث للمستمعين متبوعا بلقب «الكبير»؛ فهذا كاتب كبير وذاك ناقد كبير وما إلى ذلك، حين مال علي أستاذنا الدكتور أحمد هيكل وهمس قائلا: «لم يكن يقال الكاتب الكبير إلا للعقاد في أيامنا!» وصمت. ولكنني انثنيت أفكر في هذا الذي قاله: ما معنى «الكبير» وما معنى انشغالنا بالألقاب والأوصاف التي لا تنتهي أحيانا؟
وكنت في ذلك الوقت منهمكا في قراءة «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي الأتابكي فتوقفت عند فصل يفصل فيه القول عن ألقاب المماليك. وراعني أنه حين تتضاءل قوة المملوك تكثر ألقابه، وكذلك الحال عندما تضعف مؤسسة ما؛ فالألقاب - والله أعلم - تعوض من تلتصق أسماؤهم بها عن ضعفهم! وعندما قصصت ذلك على صديقي الأستاذ أحمد صليحة، الذي تخصص في تاريخ مصر القديمة، قال لي إنه من الثابت تاريخيا أن الألقاب تكثر وتكبر عندما تضعف هياكل البنيان، فتجد خادم المعبد يشار إليه بألقاب كثيرة لا تتناسب مع مكانته المتواضعة، لا يكاد يطلقها أحد على كبير الكهنة في عصور قوة الدولة! وعدت أتأمل أصناف الألقاب التي أضافها المؤلفون إلى أنفسهم في صدور كتبهم، وعلى بطاقاتهم فوجدت عجبا! وجدت أن أكبر الأساتذة يذكر اسمه مجردا من اللقب الوظيفي لا زهدا فيه وإنما إدراكا منه لانعدام العلاقة بين الوظيفة وبين الكتابة الإبداعية، بينما يعمد المتوسطون (ولا شك أن بين الكبار والصغار درجة وسطا) إلى إدراج بعض الألقاب من باب التعريف، وبعض الصفات أيضا من باب التأكيد، أما الناشئة والصغار فإنهم يصرون على إدراج كل شيء - من الدرجات العلمية والمناصب إلى الجوائز التي حصلوا عليها وما إلى ذلك - حتى لكأنهم يفرضون أسماءهم فرضا على القارئ!
وتأملت الحال في البلاد التي سبقتنا في مضمار التأليف والنشر، فوجدت أنه لا فرق على الإطلاق بين الكبير والصغير من ناحية الألقاب؛ فلا يذكر اسم الكاتب إلا مجردا من كل لقب، وكذلك نفعل بطبيعة الحال عندما نشير إلى أعمالهم في ثنايا أبحاثنا باللغات الأجنبية، بل إن ذكر اللقب العلمي لناقد شهير أو أديب كبير معناه الحط من قدره! وما زلت أذكر أنني وقعت في هذا الخطأ عام 1965م عندما كتبت في إحدى فقرات رسالتي التي تقدمت بها لدرجة الماجستير من جامعة لندن: «إن الدكتور ف. ر. ليفيز يقول كذا ...» فقال لي الأستاذ المشرف مؤنبا: «أعرف أنك لا تحترم آراء ليفيز كثيرا، ولكن لا داعي لهذه الإهانة!» وتساءلت عما يعنيه بهذا فاتضح أن ليفيز وهو ناقد من أكبر نقاد إنجلترا المحدثين لم يحصل في حياته على درجة الأستاذية مطلقا وإن كان قد تمناها وسعى لها سعيا، بل وتخطاها بكتاباته التي ملأت الدنيا وأثرت في الحركة النقدية الحديثة ... وهكذا فإن في الإشارة إلى درجة الدكتوراه التي يحملها تذكيرا بعدم ظفره بالأستاذية؛ ومن ثم إهانة ضمنية له! وقس على ذلك من يذكر اسم الشاعر والناقد ت. س. إليوت مسبوقا بدرجة الدكتوراه!
ولكن ما هو المقياس الذي نطبقه عند الفصل بين الكبير والصغير؟
إن أهم معيار في رأيي هو نطاق المادة الإنسانية التي يشكلها الأديب ومدى تأثيرها في الناس وفي الأدباء من معاصريه ومن أبناء الجيل التالي له، وقد قال بمثل هذا أستاذ كبير هو «دافيد ديتشيز» الذي تتلمذت عليه زوجتي نهاد صليحة في أواخر الستينيات؛ إذ كان يفرق بين الكاتب الكبير والكاتب الصغير استنادا إلى مدى اتساع نطاق تجربة الكاتب وتنوعها وشمولها، ولو كانت صنعته الفنية تفتقر إلى الإحكام الذي تتسم به كتابات غيره، فكان يقول إن د. ه. لورانس كاتب كبير
Major
بسبب ثراء تجربته (وينطبق هذا أيضا على ديكنز مثلا)، بينما تعتبر فرجينيا وولف أقل شأنا
Página desconocida