ولذلك خير ما يؤلف الأديب هو نفسه، هو شخصيته.
وحين نطالبه بالاعتراف إنما نطالبه بأن يرسم لنا هذه الشخصية، كيف صاغها؟ كيف اختار؟ كيف نجح أو لماذا خاب؟
أعتقد أن حياة جان جاك روسو التي وصفها لنا في كتابه «اعترافات» هي خير ما كتب في طراز الأدب هذا؛ فإنه تجرد من جميع الستائر التي كانت تستره ووقف عريانا يقول في صراحة: هذه هي رذائلي وكوارثي وخيباتي، وهذه هي فضائلي وحظوظي وإنجازاتي، ونحن نقبل عليه، ونصد عنه، في كثير مما يروي، ولكننا في النهاية نحبه ؛ لأنه أخلص للحياة، وعاش وفق ضميره، وجرؤ على أن يختار دون خوف من المجتمع الفاسد الذي كان يعيش فيه.
وقصة الحياة ليست، عند الأديب، رواية ما وقع له من حوادث ومصادمات أو حظوظ فقط، وإنما هي وقع كل ذلك في نفسه، أي، بكلمة أخرى، هي الإحساسات والرجوع والاستجابات التي تلقاها بها.
ولأن روسو كان مخلصا في رواية حياته، فإننا نرى فيه سيرة شخص هي سيرة أمة كاملة بما فيها من أهواء ومفاسد واتجاهات ومفاخر، ومع أنه قد مضى على تأليفه لهذه السيرة قرابة مائتي سنة فإننا ما زلنا نقرؤها ونقف عند سطورها نتأمل ذكاءه وجراءته، ونعجب بالاستقلال الروحي الذي نقله هذا المسيحي من الإنجيل إلى الطبيعة، وحين أحب، وحين بغض، وحين تعلم، وحين علم، وحين قال: أؤمن، وحين قال: لا أؤمن ...
ألسنا هنا نجد إنسانا؟
وإنسان آخر كتب ترجمته الذاتية، هو مكسيم جوركي.
فقد نشأ هذا الإنسان العظيم في بيئة منتنة تكفي لتخريج مائة مجرم؛ إذ كان أعضاء أسرته، وأعني الأسرة لا العائلة، أعني الأعمام والأخوال والآباء والجدود، كان أعضاء الأسرة هؤلاء أدنياء أخساء، يتسولون ويسرقون ويقتلون، ولم يكن بينهم غير جدته التي رأى فيها الخير فأحبها، وأحب الخير، وعاش للخير.
وعاش في طفولته وصباه في الظلام والسواد اللذين عشنا في مثلهما تحت طغيان أسرة محمد علي، وكانت أسرة رومانوف في روسيا لا تختلف خسة ودناءة عن أسرة محمد علي في مصر.
وقد توج فسادها راسبوتين، وكانت روسيا تعرف الجوع والعري كما عرفناهما، وكانت تعرف الجهل والدعارة والفقر يستغلها جميعها الأقوياء الطغاة كي يتفوقوا.
Página desconocida