ولكن الأدب في مصر يجب أن يضطلع بضع سنوات بمحاربة القرون المظلمة وهدم الأسوار التي تعوق حرية الفكر وبناء الشخصية، هذه الأسوار التي كانت الحكومات الماضية، بل كذلك المجتمعات الماضية، تحرص على استبقائها وحمايتها؛ لأنها تؤيد ألوانا من الرجعية تحتاج إليها لاستبقاء نظمها الإقطاعية، أي يجب على الأديب أن يهدم دون أن ينسى البناء.
الأدب الملوكي والأدب الشعبي
أثار الدكتور طه حسين هذه الأيام الأخيرة (1954) غبارا بشأن الأدب كما يكتبه الكتاب وكما يقبل عليه القراء، فتنقصه وأزرى به، واتهم الكتاب بأنهم يهدفون إلى الرخيص السهل؛ إيثارا للكثرة غير المثقفة من القراء، ثم دعا إلى الأدب العالي أو الغالي على ما فيه من صعوبة؛ لأنه هو الأدب الحق، وما عداه مزيف.
وفي هذا الكلام كثير من الغبار والضباب يستحق أن نجلوه.
وأول ما نجلو هنا أن نميز بين الأدب الملوكي أو الفاروقي، وبين أدب الشعب أو الدهماء؛ لأن هذا التمييز هو بؤرة النقاش من حيث لا يدري بعض المناقشين.
وإذن ليست المشكلة هي مشكلة الصعوبة أو السهولة، وإنما هي مشكلة الأدب الملوكي والأدب الديمقراطي، وهل يجب أن يكتب الكتاب للخاصة أو للكافة؟ وهل يجب أن يعالج الأدب بهارج الخاصة وامتيازاتها في الغرام والسلطة واللؤلؤ، أم يعالج مشكلات العامة في الحب والسياسة وحكمة العيش وشرف الإنسان وحرية الضمير؟
لقد كان الأدباء القدماء، في الغرب والشرق، يؤلفون القصة أو الدرامة أو يرسمون الرسوم أو ينحتون التماثيل فيكون موضوع الفن الذي يمارسونه ملكا أو أميرا أو بطلا يقعقع بالسيف على المسرح، وهذا هو ما نرى في أدب شكسبير، أو قصص «الأغاني» العربية، أو تماثيل أو قصص الإغريق وأشعارهم وتماثيلهم.
هذا هو ما نرى في الأغلب، وقل أن نجد للعامة من يمثلهم في هذه التماثيل أو القصص أو الأشعار، إلا إذا كان الكاتب من العامة التي لم تتعلم مثل مؤلفي «ألف ليلة وليلة».
وكانت هذه الحال طبيعية؛ لأن الشعب، عند الرومان والعرب القدماء، بل كذلك إلى حد ما عند الإغريق، لم يكن موجودا، ونعني أنه لم يكن في وجدان الأدباء والفنانين؛ لأن النظام الاجتماعي كان نظام السادة الإقطاعيين تقريبا، وكان الشعب بمثابة العبيد، بل إني أشك في أن كلمة «الشعب» قد ذكرت في أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم بمعناها العصري؛ ذلك لأن كتب الأدب العربي هي كتب الملوك والأمراء، وهذه الأجزاء العشرون أو أكثر من الأغاني هي قصص السادة ملوكا وأمراء، ومن كان يرتفع إلى مستواهم من رجال الدين والحرب والسياسة، ولست هنا أنسى قيس ولبنى وأمثالهما، ولكن هذه القصص لا تبلغ جزءا من مائة من صفحات الأغاني.
ونستطيع أن نقول لهذا السبب إن الأدب القديم كان ملوكيا، يحافظ على التقاليد، ويؤيد مذهب الدولة، ويكره الثورة، بل لا يعرفها؛ ولذلك يحدثنا مؤلف الأغاني عن القصور والخمور والمغنيات والموائد المطهمة والفروسية الحربية، أما الشعب فلا وجود له عنده.
Página desconocida