بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحسين بن علي: اللهم أنا نستوهبك التأمل، وما فيه من شفاء الجهل، ونستعيذ بك من التقليد وما فيه من إضاعة العقل، ونسألك ان تجعل لنا منك سلطانًا، وتصل بين أفعالنا وبين رضوانك سببًا، ولا يؤثر عنا قولنا إلاّ وله إلى أوامرك منزع ولطف، ولا ينفذ لنا عمل إلاّ وله في طاعتك نسب ولو ضعف، وأن تجعل بمفازة من الضلال والفساد، وعلى متن سبيل من الرشاد والصلاح، وأن تعيننا على مجاهدة العدو الخاص، ومكافحة القِرن اللاصق، من نفس إلى السوء نزوع، ومن لسان بالقول طموح، ومن قول مجذوذ، فليس له فعل يصله، ومن نيةٍ غفل فليس لها موضع تظهر فيه، ومن التجاهل بفضيلة الصمت، والاحتجاج للغو المنطق بغريزة الطبع.
وقد عجب المتأملون من عقل لا يمضي سلطانه على نفسه، وهو يريغ نفاذ أمر من غيره، والإنسان يسفه القاصب له، ويثرب على المولع بسبه، ويزنه بالكذب، ويعزوه إلى قول ما لم يعلم وإلى المؤاخذة على الظنن، وإلى إرسال اليد واللسان قبل اليقين والثَّلج، ولا يحس أنَّ الداء الذي أضرع خصمه للملامة، والحج عدوه في التغليظ والمذمة هو وهي سلطان العقل، وانتقاص الجلد عن صرف اللسان وقد اشرب للقول، وعن حبسه قد تهيأ للبثِّ، وأنه هو قد كان يجب أن يكون من ذلك على أبعد البعد وفي المعرفة بعيبه على أبصر الرأي وأوضح الأمر، لا أن يتعقبه بمثله، ويصل إمداده من فعله، ويستمله من فاعله المذموم عنده، ويصير صدى فيه لخصمه المشنإ إليه، ويروون عن عبد الله بن العباس انه قال: من لم يملك نفسه فليس بأهل أن يملك غيره. وقال بعض الحكماء: العاجز من عجز عن سياسة نفسه. وقال الشاعر:
أبدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
1 / 61
فهناك تسمع إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك، ويقبل التعليم
ويحكون عن عبد الله بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله أبن العباس أنه لما شاع في الفساد في عامة رعيته، شاور نصحاءه، فقال بعضهم: الرأي أن تجمع قومًا فتصلبهم، وقال آخرون: بل تعمر بهم السجون. واختلفوا في القول، فقال: ليس الرأي شيئًا مما قلتم، ولكن الرأي أن أبدأ فأصلح نفسي، فإذا صلحت نفسي صلحت باطني، وإذا صلحت باطني دب الصلاح، وتفشا في رعيتي. قالوا: وفقك الله، وعمل بذلك الرأي فرأى الخير عليه، وقد قال البحتري:
ولست أعجب من عصيان قلبك لي ... يومًا إذا كان قلبي فيك يعصيني
وقريب من قول البحتري شعر انشدنيه أبو مسلم عن هارون بن عبد العزيز بن المعتمد عن تغلب، أو المبردالشك مني:
يهم بحران الجزيرة قلبه ... وفيها غزال فاتن الطرف فاتره
يوازره قلبي عليّ وليس لي ... يدان بمن قلبي علي يوازره
واللسان جارحة يكمل بها النطق والمذاق، فما على من تكلم بما لا يعنيه وفي غير موقعه أن يتذوق ما لم يحصل في قرارة فمه، وأن يتمطق بالهواء طول دهره، وأن يعاتب ماضغه ويصرف بأنيابه في غير ساعة اغتدائه، على أنه لو استحسن ذلك لما وجب أن يستحسن إدامة الكلام لغير حينه، واللهج من القول بما لا ينفعه في شيء من أمره لأن الأول قبيح وغير ضار، والثاني قبيح وضار وفاحش قتال، وهو أصل المضرة بالأذى، كما هو أصل المضرة بالأذى، وكما هو أصل المضرة بالعيب فهو موجه بالمعرة، ومعهم مخول في المساءة واللسان عضو مثل اليد والرجل، فما على من تكلم عاجزًا عن ملك لسانه، وملقيًا إلى التهلكة الخرق والجهل بيده، أن يبعث بأنامله دائمًا
1 / 62
لغير بطش، وأن يلبط بقدمه سرمدًا لغير سعي، ثم يطرد المقياس عليه بأن ينغض برأسه في جميع أوقاته، وأن يواقح به كل صفات تبدو لعينه. قد علم الله وعلم العالمون أن الآفة ليست شيئًا غير لعجز والتعاجز، وغير أن يعود الخاطر الوكال، ويحل عنه رباط النهضة والاعتزام، وغير الانسياح مع جريه الماء قبل جهد النفس في الخلاص، والميل مع هبّة الريح من غير أعذار بالاستمساك ونعوذ بالله أن نخرق بنعمه فنعيدها نقمًا، وأن نفسد مثابته فنجعلها عقابًا، فإن اللسان نعمة من الله على عبده، فإن احسن أيالته ولملك تدبيره وذلل بالرياضة جامحه، وركزه وراء قلبه، وأوطأه اعقاب تمييزه وتدبره، ولم يرسله إلا لخير في الدنيا أو لخير في الآخرة من إحراز نفع، وأنفع العز وإزاحة مضرة، وأقتل الضر الذل، فذاك هو الذي يطب به إحسان بطبه، ويستديم الأنعام بحسن سياسته، وإن أرسله وشأنه، وأعفاه من ولاية العقل عليه، وأجراه في الوعث والخبار، وأنطقه بالصواب والمحال، أكتبه حصائده في النار على وجهه، بعد أن تكسوه في الدنيا ليط عار لا ينسل منه، وتحوش له من العداوات منزعجا لا قرار معه، كما قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة وكان بليغًا شاعرًا وفقيهًا ناسكًا، وصاحب نظر وتأمل، وبيان وتبحر:
اكثر من الصديق ... لكل يوم ضيق
من أكثر العدوا ... لم يستطع هدوا
وقال آخر:
وما أودعت أحشاء الليالي ... أضر عليك من حقد الرجال
وقال طريح بن إسماعيل الثقفي:
لا تأمنن إمرأً أسكنت مهجته ... غيضًا وإن قيل: إن الجرح يندمل
1 / 63
وأقبل جميل الذي يبدي وجار به ... وليحرسنك من أفعاله الرجل
وقال حريث بن جابر الخنفي:
لا تأمنن الدهر حرًا ظلمته ... وإن نمت فأعلم أنه غير نائم
إذا كان ذا عودٍ صليب ومرةٍ ... ركوبًا لإحناء الأمور العظائم
وقال آخر محدث:
نم عن معاداة الرجا ... ل فإنها حسك المضاجع
وإذا أذيت فحام عند ... الضيم مجتهدًا، ومانع
وقال آخر في المعنى الأول:
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوتٍ مرةً ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
كأنه منظم من قول بعض الأوائل: الندم على السكوت خير من الندم على القول. وقال أكثم: رب قولٍ أشد من صول. وقال أيضًا: وأحسن الصمت يكسب المحبة ويروى أن لقمان قال: الصمت حكم وقليل فاعله.
وقال الحسن بن علي ﵇ وقد ليم على كثرة الصمت: إني وجدت لساني سبعًا إن أرسلته أكلني. وقيل لعبد العزيز بن مروان: أنت من أطول الناس لسانًا فإذا
1 / 64
رقيت المنبر تكلمت بكلام نزر، فقال: إني لأستحيي من ربي ﷿ إن آمرهم بما لا أفعل فلا جرم أن هذا القول من عبد العزيز صيره إلى أن يقول فيه المادح وهو نصيب مولاهم:
يقول فيحسن القول أبن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول
فتى لا يرزأ الخلان إلاَّ ... مودتهم، ويرزؤه الخليل
وقال بعض الحكماء: من أطلق أمله فلا قنوع له، ومن أطلق لسانه أهدر دمه. وقال آخر منهم. من ضاق قلبه أتسع لسانه، وسب رجل عابدًا فقال العابد: لولا أن الله يسمعك لأجبتك. وهذا قول حسن. وقال المجشر بن النعام أحد بني كعب بن مالك بن غياث بن تغلب:
أليس هبلتما ثلبًا وزورًا ... يعد عليكما لو تعقلان؟!
من الرفث الذي لا خير فيه ... يحش بكل آنسة حصان
وقال شداد بن أوسٍ بن ثابت وهو ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر: ما تكلمت بكلمةٍ منذ كذا وكذا حتى أخطمها وأزمها.
وفي ارتهان القائل بقوله، ومحاذرته لعقبى الطغيان منطقه قال الشاعر العنقسي وأحسن:
ألم تر كعبًا كعب غورين قد قلا ... معالي هذا الدهر غير ثمان
فمنهن تقوى الله بالغيب إنها ... رهينة ما تجني يدي ولساني
هذا البيت الذي يليق باستشهادنا:
ومنهن جري جحفلا لجب الوغا ... إلى جحفل يومًا فيلتقيان
ومنهن تجريد الأوانس كالدمى ... للذاتها من كاعب وعوان
1 / 65
ومنهن شربي الكأس وهي لذيذة ... من الخمر لم يمزج بماء شنان
ومنهن تقواد الجياد لعازبٍ ... من الوحش في دكداكة ومتان
في أبيات أكثر من ذلك استوفى فيها عدد الثمان الخصال التي قدم في صدر قوله، ولم نكتبها.
وقوله: من الخمر لم تمزج بماء شنان يشبه أن يكون قد أغار عليه سلم الخاسر وهو سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر بن مولى عبد الله بن جدعان وكان هو يدعي ولاء محمد بن أبي جعفر وفي ذلك يقول من أبيات:
لقد أتتني عن المهدي متعبة ... تظل من خوفها الأحشاء تضطرب
مولاك مولاك لا تشمت أعديه ... فليس قبلك لي ذكر ولا نسب
وأما الجماز الشاعر وهو ابن أخي سلم وكان شاعرًا ظريفًا وهو الذي يقول في سنان الخصي:
ظبي سنان شريكي ... فيه وبئس الشريك
فلا سنان ي " ٠٠٠٠ " ... ولا يدعني " ٠٠٠٠٠ "
وهو أعني الجماز الذي أنشد إنسانًا مقطعات فقال: ما تزيدني على البيتين والثلاثة؟ فقال له الجماز: أردت أن أنشدك مذارعة؟! وكان يقول: انهم من موالي أبي بكر بن أبي قحافة، وأبو بكر من عبد الله جدعان قريب يجمعهما تيم بن مرة، والله أعلم.
قال سلم في معنى الشعر الأول الذي أوردناه:
أمزج الراح براح ... واسقني قبل الصباح
ليت لي خمرًا بماءٍ ... وفسادًا بصلاح
1 / 66
وقد قال غيره من المحدثين:
وبالحيرة لي يوم ... ويوم بالأكيراح
إذا ما عزنا الماء ... مزجنا الراحَ بالراحِ
وقد قال حماد عجرد لمحمد بن أبي العباس السفاح نحوًا من هذا القول، وكان استناده لما ولي الكوفة، وذاك أن أبا جعفر كان أنفذه واليًا عليها بعد قتل إبراهيم بن حسن ﵏ قالوا فوافاه في أشد القيظ، ولقد لط لحيته بالغالية حتى كأنه خضاب، وصعد المنبر فخطب، ولحيته تقطر على قبائه فسماه أهل البصرة لذلك أبا الدبس فلزمه هذا اللقب حتى هلك، وكان أبو جعفر لما ولاه أنفذ معه الزنادقة والمجان ليلهو ببعضهم، وليبغضه إلى الناس، وكان معه في جملتهم حماد عجرد وهو حماد بن عمر بن يونس أبن كليب مولي بني سواءة بن عامر بن صعصعصة وإنما سمي عجردًا لأنه نزع ثيابه فرآه بدوي فقال: تعجردت يا غلام، العجرد العريان، والعجرد الشديد الغليظ، والعجرد الذهب في غير هذا الموضع، وكان حماد يذكر بترسلٍ وبيان مع شعره، وقد أرتسم بالصناعة، وكتب لجماعة من رؤساء الدولة العباسية، وقد سمي بعجرد قبله، قال الخليل بن أحمد: كان في ربيعة رجل يقال له عجرد، نازع رجلًا في موازنة فوجأه بجمع كفه فقضى عليه، فأخذت عاقلته ديته، وقال شاعرهم:
يا قوم من يعذر من عجرد ... القاتل المرء على الدانق
لما رأى ميزانه شائلًا ... وجاه بين الأذن والعاتق
فخر من واجأته ميتًا ... كأنما دهده من حالق
فبعض هذا الوجء يا عجرد ... ماذا على قومك بالرافق؟
فقال محمد يومًا لحماد: أتحب من الأشربات الماء؟ قال: يشكرني فيه الحمار والبعير
1 / 67
قال: أفتحب اللبن؟ قال: لقت استحييت مما رضعت من ثدي أمي. فقال: أفتحب السويق؟ قال: شراب المسافر العجلان ولست منه. قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي قال: فضمه إليه، وقال: لا جرم وأنت صديق روحي. وقال له يومًا: أي المواضع أحب إليك أن تشرب عليه؟ قال فقال: إني لأجب ممن لم تحرقه الشمس ولم يؤذه المطر كيف يشرب على شيء غير وجه السماء.
ولم يزل حماد مع محمد، ومن شعره يمدحه، وغنى له فيه حكم الوادي المغني - وهو حكم بن يحيى بن ميمون، وميمون كان حجامًا للوليد بن عبد الملك فأعتقه وإنما قيل له حكم الوادي لأنه كان يخدم عمر الوادي، وهو عمر بن داود مولى عمر بن عثمان بن عفان، ويأخذ عنه الغناء، وكان عمر من أهل وادي القرى:
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا كرم الناس أعراقًا وعيدانا
فأنت أكرم من يمشي على قدمٍ ... وأنظر الناس عند المحل أغصانا
لو مج عودٌ على قوم غضارته ... لمج عودك فينا المسك وألبانا
فأظهر محمد أنه يعشق زينب بنت سلمان بن عبد الله بن العباس وكان يركب إلى المربد كثيرًا يتصدى لها ويطمع في النظر إليها. وقال لحماد فصنع على لسن محمد:
يا ساكن المربد هيجت لي ... شوقًا فما أنفك بالمربد
سوف أوافي جفرتي عاجلًا ... يا منيتي إن أنت لم تسعدي
وعما له أيضًا - وقد قيل: إنه لمحمد نفسه:
زينب ما ذنبي وما ... الذي غضبتم فيه، ولم تغضبوا؟
والله ما أعرف لي عندكم ... ذنبًا، ففيما العتب يا زينب؟
ومن شعر محمد بن العباس نفسه لم يعنه عليه أحد، أنشده المدائني:
1 / 68
قولًا لزينب: لو رأيت ... تشوفي لكي وأشترافي
وتلددي كما أرا ... ك وكان شخصك غير خاف
ووجدت ريحك ساطعًا ... كالبيت جمر للطواف
وتركتني وكأنما ... قلبي يوجأ بالأشافي
وكان محمد هذا قوي ضليعًا، ويحكى أنه كان يلوي العمود ويلقيه إلى أخته ريطة فترده، وعاتبه المهدي يومًا وهو أمير فغمز ركابه حتى ضاق وضغط رجله فلم يقدر على إخراجها حتى رده فأخرجها، فمثل الآن وقايس بين قوة حسه وبين وهن قوى نفسه، وإنخذال روحانية قلبه، وإسفافه لمطمع شائن إذا كان محصولًا، وتعرضه لحرام فاضح لو كان محللًا، وأجعل ذلك - إن شئت شكًا على الأطباء، واعتراضًا على روايتهم عن جالينوس إن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وهو في غير موضع من كتبه، يروم أن يبين أن مزاج البدن تابع لقوى النفس أيضًا.
ثم إن أبا جعفر سمى محمدًا على يد خصيب الطبيب، فمات، وكتبت أمه إلى أبي جعفر تشكوه، فأمر بحمله إليه فضربه ثلاثين سوطًا خفافًا، وحبسه أيامًا، ثم وهب له ثلاث مائة درهم وأطلقه. وقد قيل أنه استعفى من ولاية البصرة فأعفاه، ووردت "؟ " فمات ببغداد وكان خصيب هذا زنديقًا - فما قيل لا يعتقد شيًا ويتظاهر بالنصرانية، وحبسه أبو جعفر لحدث أحدثه، فمات في مطبقه، وكان يقول: لو أسامت كنت رافضيًا، وكان من العلماء المبرزين، وأخبرت عنه إنه كان يقول: حبس البول أمرن للمثانة. وقيل له: ما يذهب أكل الطين؟ فقال: لب المر، وفي القولين نظر على قانون الطب. وفي خصيب هذا يقول الحكم بن محمد بن قنبر المازني البصري:
ولقد قلت لأهلي ... إذ أتوني بخصيبٍ:
ليس والله خصيبٌ ... للذي بيّ بطبيبٍ
1 / 69
إنما يعلم طبي ... من به مثل الذي بي
ولما مات محمد بن أبي العباس وقد "؟ " الكوفة والبصرة محمد بن سلمان بن علي أخو زينب، طاب حمادًا طلبًا حثيثًا فاستجار حماد بقبر سلمان بن علي وقال:
إن أكن مذنبًا فأنت ابن من كا ... ن لمن كان مذنبًا غفارًا
يا ابن بنت النبي إني لا اجعل ... إلا إليك منك الفرارا
غير إني جعلت قبر أبي أيو ... ب لي من حوادث الدهر جارا
لم أجد لي من الأنام مجيرًا ... فاستجرت التراب والأحجارا
فلم ينفعه ذلك شيئًا عند محمد بن سلمان، فكتب إليه:
قل لوجه الخصي ذي العار إني ... سوف أهدي لزينب الأشعارا
قد لعمر فررت من شدة الخوف، وأنكرت صاحبي جهارا
وضننت القبور تمنع جارًا ... فاستجرت التراب والأحجارا
فإذا القبر ليس لي بمجيرٍ ... فحشى الله ذاك القبر نارا
وما أحسبه ظفر به. ونعود فنجدد من شأننا - بتوفيق الله -.
قال صاحب اللواء:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
وقال أيضًا:
وجرح اللسان كجرح اليد
وتبعه الأخطل فقال:
1 / 70
أفحمت عنكم بني النجار وقد علمت ... عليا معد، وكانوا طال ما هدروا
حين إستكانوا وهم مني على مضضٍ ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الأبر
وقال غيره - وأحسبه طرفة -:
فإن القوافي يتلجن موالجًا ... تضايق عنها أن تولجها الأبره
قد ألم بهذا اللفظ دون المعنى أبو نصر بن نباتة، بقية شعراء العراق، وهو مادح أبي وجدي:
فلا تحتقرن عدوًا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يقد الرقاب ... ويعجز عما تنال الابر
وقال طرفة - واحسن -:
وتقصد عنك مخيلة الرجل ال ... عريض، موضحة عن العظم
بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلم الرصين كأغرب الكلم
وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم. وحدثنا أن يونس ﵇ قيل له من بعد خروجه من بطن الحوت، وقد أطال الصمت: لم لا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني إلى بطن الحوت. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " إن من الكلام عيالا " وأنا أرى أن هذه اللفظة من الكلم التي أعطي رسول الله صلى الله عليه وآله جوامعها لحسنها وبيانها وإيجازها. وقال بعض عامة بلدانا الحلبيين في قصة له: رب كلمه، أزلت نعمة، وقال الشاعر:
إن كان في العي آفات مقدرة ... ففي البلاغة آفات تساويها
وهذا كثير لا ينساه إلا الساهي، وباهر لا يذل عنه إلا المحين، وقد أنشدني منشد من
1 / 71
أبيات بيتًا صحيح القسمة، يعجبني، وهو:
هي الخطوب فمن ماضٍ ومنتظر ... وهو الأنام فمن ساهٍ ومعتبر
ولعلم الله اللسان سبع عقور، ورائد للمنية صدوق، جعله مزمومًا مخطومًا، وعن التصرف بذاته عاجزًا مقصورًا، فليس يجري ما لم يجره فارسه من العقل، ولا يفعل ما لم يأمره أميره من الرأي، ولم يجعله كالعين التي ترى ما نحاه اللاحظ بطرفة وما لم ينحه، وكالأذن التي ما قصد السامع لاستماعه وما لم يقصده. وكل ذلك لأنه صاحب الفتك والإمضاء، وينبوع الشر والبلاء، وكان إبراهيم بن أدهم الزاهد الناسك يطيل السكوت فليم في ذلك فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمنه كلام ترجوه منفعته وتخشى عاقبته، فالفضل فيه السلامة منه، وكلام لا نرجو منفعته ولا تخشى عاقبته فأقل ما في تركه خفة المؤونة على بدنك ولسانك، وكلام لا ترجو منفعته وتخشى عاقبته، وهذا هو الداء العضال، ومن الكلام كلام ترجو منفعته، ولا تخشى عاقبته، وهو الذي يجب عليك نشره، فإذا به قد بهرج ثلاثة أرباع الكلام، هذا على بلاغة إبراهيم بن أدهم وحكمته وكثرة معارضته أهل البيان، وهو الذي سأل عبد الله بن شبرمة بن طفيل الضبي قاضي أبي جعفر عن مسألة فأسرع الجواب فقال: تأن. فقال له ابن شبرمة: إذا سهل الطريق لم أحتشد وهذا نسيبه يروى لأياس بن معاوية مشهور، وفي إبراهيم بن أدهم يقول محمد بن كناسة، وكان إبراهيم من أخواله بني عجل:
رأيتك لا يكفيك ما دونه الغنى ... وقد كان يكفي دون ذلك أبن أدهما
وكان يرى الدنيا صغيرًا كبيرها ... وكان لحق الله فيها معظما
واكثر ما يلفى مع القوم صامتًا ... وإن قال بذّ القائلين وأحكما
1 / 72
ومحمد بن كناسة هذا شاعر محسن، وأهل النقد يستحسنون قوله:
على حين أن شابت لداتي ولم أشب ... فمنها لحى مبيضة وقرون
وناصيت رأس الأربعين وأقبلت ... قساوة جني الشباب تلين
وهو صاحب هذا الشعر والسائر:
في انقباض وحشمة فإذا ... رأيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت، غير محتشم
ومن قوله:
قعدت عن الإخوان عن غير ما قلى ... على غير نقصٍ في الإخاء ولا الود
ولكن أيامي تخرمن مرتي ... فما أبلغ الحاجات إلا على جهد
ومن قوله يرثى حمادًا الرواية - في أبيات معروفة:
فهكذا يفسد الزمان ويف ... نى العلم فيه، ويذهب الأثر
يرون أن ذلك منظور به قول عبد الله بن العباس وقد دلى زيد بن ثابت في قبره: من سره أن يرى كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه، وهو القائل لما أبغض زوجته ومر بجذع مصلوبٍ:
أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه ... ثلاثون حولا كاملًا هل تبادل؟
فما أنت بالحمل الذي قد حملته ... بأعرض مني بالذي أنا حامل
وكل هذا حسن، أو واقف بين الحسن والقبيح، فأما الذي يوافق هواي ويصنع في نفسي
1 / 73
صنيع الواعظ الحسن في قلوب المخلصين، وليس يستحق ذلك في حقيقة النقد إلا أني معجب به فقوله في نكبة أبي أيوب المورياني، ولعل استحساني إياه لموافقته شجنًا في نفسي في هذا الوقت:
لا ترى زاجرًا لهمِّ القلوب ... كالرضا بالموكَّل المكتوبِ
فاتق الله وارضَ بالقصد حظًا ... لا تسيلنَّ في سبيل الذنوبِ
لا يغرنَّك الذي غرَّ قومًا ... شربوا من حتوفهم بذنوببِ
طلعت شمسهم عليهم نهارًا ... وأتتهم نحوسهم بغروبِ
قد رأيت الذي أدالت ونالت ... وقعه الدهر من أبي أيوبِ
وعدنا إلى كلام ابن أدهم، وقوا ابن أدهم في تزييف المنطق والمشورة بالصمت نسيب لقولهم: أبلغ الصمت ما يكون الكلام شرًا منه، وكان حبيب بن أوس الطائي الشاعر يحكيعن أبي مسهر أحمد بن مروان الرملي النحوي قال: تكلم رجل في مجلس الهيثم بن صالح. فقال له الهيثم: يا هذا بكلام أمثالك رزق الصمت المحبه وقد أحسن الشاعر إذ قال:
سأهجر ما يخاف علي منه ... وأترك ما هويت لما خشيتُ
لسان المرء ينبي عن حجاه ... وعيُّ المرء يستره السكوتُ
ومثل البيت الأول قول جامع هذا التعليق:
أطعت العلى في هجر ليلى وإنني ... لأضمر فيها مثل ما يضمر الرندُ
صريمة عزم لم يكن من رجالها ... سوى من العشاق قبل ولا بعدُ
رأيت فراق النفس أهون ضيرةً ... عليَّ من الفعل الذي يكره المجدُ
وفي نحو من هذا الأقوال المخبرة عن التسلي قول المؤلف أيضًا:
1 / 74
حبيبٌ ملكت الصبر بعد فراقه ... على أنني علقتهُ والفتهُ
محا حسن يأسي شخصه من تذكري ... فلو أنني لاقيته ما عرفتهُ
وله أيضًا في نحو من ذلك، ولعله مُحَيَّنٌ بذكره، وناطق بالشهادة على تقصيره وعجزه:
ولاعبٍ بالهوى يؤمل أن يظ ... هر لي جفوة وأهواهُ
قلت لقلبي وقد تتبعه: ... يا قلبُ إما أنا وأما هو!!
وفي المعنى الأول قال قائل مصيب: عيُّ صامتٍ خيرٌ من عيِّ ناطق. ومن هاهنا قال بشار:
وعيُّ القيام كعبيِّ الكلام ... وفي الصمت عيِّ كعبيِّ القلم
وفي بعض الأحاديث إن ابن آدم إذا أصبح كفرت أعضاؤه للسان، وقالت: اتق الله فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا، وحدثني بعض شيوخنا بإسناد رفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: لأن يعثر الرجل حتى يخر لوجهه خير له من أن يعثر بلسانه، وأنشدني هذا الشيخ في منظوم هذا المعنى لبعضهم:
يموتُ الفتى من عَثرَة بلسانه ... وليس يموت المرءُ من عَثرة الرجلِ
فعثرته من فيه تُودي برأسهِ ... وعثرته بالرِّجل تُوسىَ على مهلِ
وقال أبو الفضل الريعي - من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - حدثني محمد بن ذياد مؤدب المعتز - قال: بينا أنا جالس مع المعتز والزَّبير بن بكار يقرأ عليه أخبار أبي السائب وكان المتوكل قال لي: إذا غضبت عليه فلا تضربه، وقل ليندون الخدم يضربه،
1 / 75
قال: فترك المعتز الزبير، وقام يلعب مع الخدم، وقد كنت ظننت أنه قام لحاجة، فقلت ليندون: أما ترى إلى الأمير ترك شيخًا من قريش جالسًا في سواده، وقام يلعب؟! لو كانت يدي مطلقةً عليه لأوجعته ضربًا، فقام إليه يندون ليضربه فهرب منه المعتز، فلم يزل يراوغه حتى سقط في عثرة، فدميت رجله، ففزعنا وبادرنا إليه وقال له الزبير: يا سيدي لو أعلمتني أنك قد ضجرت لقمت ولم أوذك فقال المعتز: لا بأس هوّن عليك وأنشد:
يُصابُ الفتىَ من عَثرةٍ بلسانه ... وليس يصابُ المرءُ من عثرة الرجلِ
قال أبو الفضل: فحدثت بهذا الحديث أبا عبد الله بن حمدون فقال لي: أنا أحدثك عن أبيه المتوكل بنحوٍ من هذا، كنا عنده في اليوم الذي قتل في ليلته، فقام لحاجة، فلما رجع قمنا، والمنتصر جالس، فلما قرب منه قام، فنظر إليه المتوكل وقال له: اجلس يا محمد، وأقبل علينا فقال:
هُم سَمَّنوا كَلبًا ليأكل بعضَهُم ... ولو أخذوا بالحزم ما سمَّنوا كلبًا
قال أبو عبد الله: فوالله ما صلينا عتمة من تلك الليلة والمتوكل من أهل الدنيا.
ونرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قد كان يجب أن نقدم بين يدي هذا القول الرغبة الى الله في المعافاة من سورة الغضب ومن غشية الأنف، ومن البلوغ في طاعة الحنق إلى ما يردي الحلم، وإلي ما يهزم الرأي، وإلى ما يزين إطلاق اليد واللسان بما يجنى منه الندم بعد ساعة فعله، ويوجد منه الأسف واللهف غب يوم كونه، وقد ينجد على اماتة الغيظ وقتله، وينفع في تَمصُّل الحقد وذوبه أن تكون النفس كاملة وقورًا، وبأمور الزمن عروفًا، وان يكن اللسان حديدًا والقلب شديدًا، فإن كمال الآلة يحبب الاقالة، وعلوَّ القدرة يزين التكرم والترفع عن المعاقبة، وقد قال قائل مجرب:
كُنْ حاقدًا ما دُمتَ ليتَ بقادر ... فإذا قَدِرْت فخلّ حقدكَ واغفر
واعذُرْ أخاك إذا أساءَ فَرُبَما ... لجّتْ إساءتهُ إذا لم تَعذُرِ
1 / 76
وكثيرًا ما يقطع بالمخاطب عيه فيفزع إلى السّفه، يتل الغبيّ البئ حصره فيطلب إخفاء أمره بالشغب، وذلك أخفض المواقف، والأم الهزائم وقال علقمة بن علاثة في نحو من هذا المعنى: أول العيّ الاختلاط، وأسوء القول الإفراط هاهنا الاضطراب لشدة الغضب، فأما إذا أيقن أنه التام الحسنى، والموفور للعلى فهو عند نفسه البحر الذي يلتهم كل ما ألقي فيه وهو ساج ساكن والطود الذي يحتمل كل ما نيط به وهو قار ثابت فيعود طريقه إلى الاحتمال دميثًا، وعذره في الأعضاء - عند نفسه - واضحًا جميلًا. جعلنا الله ممن يقيم لطبيعته المعاذير في الأقصار عن الرذائل، كما يقيم الحجيج عليها في القصور عن الفضائل، ولا جعلنا ممن يمهد لنفسه العلل في هجران الخير لصعوبة طريقه. ويخرج لها الأسباب في إتيان الشر لإعتنانه، واتفاق عروضه، وقد قال الشاعر:
فلا تعذريني في الإساءة إنه ... شرار الرجال من يسيء فيعذر
وتجزع نفس المرء من سب مرةٍ ... وتسمع ألفا مثلها ثم تصبر
وقال آخر:
وعذرك في القبائح مستتب ... وليس الناس كلهم يلام
وقال العبدي:
عذرك عندي لك مبسوط ... والذنب عن مثلك محطوط
ليس بمسخوط فعال امرئٍ ... كل الذي يأتيه مسخوط
وينشد أصحاب المعاني:
فخذ القليل من اللئيم وسبه ... إن اللئيم بما أتى معذور
قالوا: وليس هذا العذر في شيء، وإنما يريد أن اللئيم يسب بما يأتيه فيجعل وسما على وجهه كالعذار وقد يجوز أن يكون من العذر، وتأويله ذم اللئيم فإنه عند نفسه معذور، فذلك أوجب للوم عليه، لأنه لو استقصر فعله لدل على أنه أعطى قليلًا من نية مكثرة لو استطاعت.
1 / 77
وقال المكتفي أبو محمد علي بن أحمد - لما كان كاتبه معه بالري أحمد بن أبي الأصبغ يكاتب عبد الله بن سليمان بن وهب بأخباره، فينهيها إلى أبيه المعتضد، فلما اجتمعا عاتبه المعتضد، قال فلم أزل أقارب وأباعد حتى صدقني عن المخبر له، وزال ما في نفسه، فقالت:
ولما رأيت العذر يظلم وجهه ... ولم يبق إلا أن أقول فأكذبا
خلطت بحق باطلا فتشبها ... وجئت من الباب الذي كان أصوبا
ونحو من هذا قول علي بن الجهم بن بدر - مولى بني سامة بن لؤى وهو يدعا "؟ " فيهم صميمًا:
وفتى ضاقت مذاهبه ... ضاق ذرعًا بالذي صنعا
جعل الإقرار جنته ... حين رام العذر فامتنعا
وقال آخر في ذم المعاذير، ونسبها إلى الأكاذيب:
جد لي بغفرانك من قبل أن ... أخضع بالعذر وأن ارغبا
فالعذر لا يسلم من زخرف ال ... كذب، وما أنشط أن أكذبا
وكتب إلي بعض عمال السلطان معتذرًا من تأخر كتابه عني بأن قال: فإن رأيت أن تسامحني بما في غضون اعتذار المعتذر فعلت إن شاء الله تعالى. وقال قائل: زاد على هؤلاء كلهم في حسن القول وجودة المعنى:
إياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فلما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس من سائر الناس عاذر
وأشعر منه وأحكم كعب الغنوي إذ يقول:
1 / 78
لا تعذرن الدهر صاحب ريبةٍ ... فسان آتٍ أمر سوء، وعاذره
ومن هذا الجنس - وإن لم يكن من النوع نفسه - قول تميم بن أُبيَّ بن مقبل عوف بن حنيف بن العجلان بن عبد الله بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - وقد أحسن فيه ما شاء:
يا حر أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصفو بالكدر
يا حر من يعتذر من أن بلم به ... ريب الزمان فإني غير معتذر
فأما الكلام الذي يستحق قضية الحسن عندي، ولعله كذاك عند غيري فشعر أنشدنيه أبو مسلم عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي لبعض القيسيين:
يا سلم لا أقري التعذر نازلي ... والذم ينزل ساحة المعتذر
ولقد علمت إذا الرياح تناوحت ... أطناب بيتك في الزمان الأغبر
إني لأبسط للضيوف تحيتي ... وأشب ضوء النار للمتنور
وتنال بالمال القليل براعتي ... قحمًا تضيق بها ذراع المكثر
وهذا البيت الأخير عجب.
والمعاذير كما قال الله من الأدهان "؟ " ومن الرياء والنفاق وهي مع ذلك ربما أردت، وربما كان الصدق أنجى منها في العاجل، فأما في الآجل فكلما.
وعرض الحجاج قومًا من الخوارج للقتل فقال أحدهم: إن لي عليك حقًا أيها الأمير. قال وما هو؟ قال: آني حفظت غيبك، وذلك أنني كنت في مجلس أبن الأشعث فسبك وذكر أمك فقلت: مهلًا إن أبويه كانا كريمين سريين، ولكن ما شئت فيه فقل. واستشهد برجل من الأسرى، فشهد له، فقال الحجاج للشاهد: فما منعك أن تقول قوله؟ قال: قديم بغضي لك. قال: أطلقوا هذا لحقه، وهذا لصدقه.
1 / 79
فأما البدوي فإنه جعل المعاذير من أفعال المريب فقال:
وربت منطقٍ حسن أحيلت ... معايبه فعد من الذنوب
فلا عذري يرد علي شيئًا ... وكر العذر من فعل المريب
فبذنبي حاضر لا شك في فيه ... لسامعه، وعذري بالمغيب
وهذا البيت الأخير تمثل به عبد الحميد بن يحيى العامري صاحب البلاغة، ورئيس هذه الصناعة. ويكفيك من مذمة العذر أنهم أشقوا منه اسمًا لشكاسة الخلق، ولظهور البخل، فقالوا: رجل عذور إذا كان سيئ الخلق كثير الاعتذار عند المنع، قالت الشاعرة:
إذا نزل الأضياف كان عذورًا ... على الحي حتى تستقل مراجله
وحسبك من نقيصة العذر أنه والملامة مقترنان، وأنه لا يوجد إلا مع التثريب في مكان واللوم الذي هو رديفه ومتكلفه هو الموت عند العقلاء، ولا سيما إذا ورد من العقلاء، ويعجبنيس قول البدوي:
وإني أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم
ومثله قول الحادرة:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأحسابنا إن الثناء هو الخلد
والمعاذير صفو الكذب، كما أن الحجج صفو الحق وذاك أنه ليس يخلص في العذر من الأكاذيب إلا أشبهها بالحق، ولا يخلص في الحجة من الحق إلا أبعده شبهًا من الباطل، هذا إذا كانت حجة على الحقيقة، وكانت نتيجة عن مقدمات صادقة، فأما اللحن بإسكات الخصم واللدد يوم المقامة والحفل، فقد يكون بالحق والباطل كما قال الشاعر - وهو مليح ابن
1 / 80