والشاب والفتاة لا يريدان التألم وإنما يريدان التمتع. ولكن المبالغة في التمتع تعود انغماسا أو تهالكا، لا يقتل الشهوات فقط، بل يتلف على المرء اللذة نفسها. والمبالغة في الحرية كالمبالغة في التقييد سواء. ولذلك يرى «ألدوس هكسلي» أن الزي الحاضر للحب سوف يزول؛ لأن الحب الذي سهل تحقيقه ليس عظيم القمة. وفي التاريخ ما يدل على أن الناس حين ترخصوا في الحب وأباحوه، واستهتروا، عادوا وقد أنفوا واستنكفوا إلى ما يشبه الزهد والانكفاف عن الشهوات. ولكنه يرى هنا الحاجة إلى إيجاد الزواجر النفسية التي تعمل للقمع وتحول دون الإباحة. وهو لا يؤمن بالزواجر الدينية التقليدية، فهو لذلك يخترع زواجر جديدة ويقول إننا يجب أن نؤمن بما يسميه «الشخصية الإنسانية» وأن ننشأ على احترامها، ونربي أبناءنا على أن يجدوا منها وفيها تلك القيود التي كان آباؤنا يجدونها في الأخلاق التي ورثوها عن المسيحية والقصص الخيالية.
وأنت إذن ترى أن العقدة التي تشغل بال «ألدوس هكسلي» هي العقدة الدينية، وأنه من هذه الناحية بشري مثل «ت. س. إليوت» زعيم البشرية في إنجلترا والولايات المتحدة. ولكن «إليوت» مع بشريته هذه رجعي تقليدي، يكتب كأنه من أبناء القرن الثامن عشر ويعمى عن أضواء القرن العشرين.
والحق الذي لا يمكن إنكاره أنه ليس في إنجلترا أديب يؤبه به إلا وللدين أكبر مكانة في ذهنه، سواء في ذلك المجدد أو الثائر والشاب أو الشيخ. وقد يعد القارئ بعض هؤلاء الأدباء كفارا أو ملحدين لأنهم يعارضون المذهب السني للدين، ولكنه لا يتمالك مع ذلك من الاعتراف بأنهم يجاهدون، ويستنبطون الأفكار والآراء كي يقنعوا أنفسهم وغيرهم بأنهم يقفون من الكون موقف الإخلاص والاجتهاد للخير العام.
الشاعر ت. س. إليوت
أكتب هذا الفصل في سنة 1948 عن هذا الشاعر الذي لم يكن بارزا في وجداني في 1933 حين خرجت الطبعة الأولى من هذا الكتاب.
و«إليوت» أمريكي المولد والنشأة. ينتمي إلى إحدى الأسر الأمريكية التي تعتز بأصلها من حيث أن لها فضل السبق في الهجرة من إنجلترا إلى أمريكا قبل نحو 300 سنة. وهذه الأسر تقطن الأقاليم الشرقية من الولايات المتحدة، وتتوارث تقاليد المحافظين من حيث السياسة أو الاجتماع، كأنها تقاليد النبالة والشرف.
وقد تعلم «إليوت» في إحدى الجامعات الأمريكية ثم رحل إلى باريس المدينة الفنانة، بل عاصمة الفن الأوروبي. وهناك عرف النزعات الجديدة من الشعراء: «بودلير» و«فرلين» و«رامبو» كما عرف أيضا النزعات الأوروبية الأخرى التي لا يمكن لأحد في أية عاصمة أن يقف عليها ما لم يكن في باريس.
وفي الفترة التي تقع بين الحربين - أي بين 1919 و1930 - عم القلق أوروبا. وخاصة عندما خاض «موسوليني» في دم الديمقراطية بقتل «ماتيوتي» وغيره من الديمقراطيين الاشتراكيين. وزاد هذا القلق عقب الثورة السوداء التي قام بها «فرانكو» في إسبانيا واستعدى فيها الطائرات الإيطالية والألمانية لضرب المدن الإسبانية. وحاول الديمقراطيون والاشتراكيون أن يعقدوا جبهة في أوروبا ضد هذه الثورات السود في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، ولكنهم فشلوا. وأخذت كل من اليابان وإيطاليا وألمانيا تعربد في عصبة الأمم.
ووجد الأدباء أن المثليات والآمال والأهداف التي كانوا يتجهون إليها ويدافعون عنها قد انهارت، حتى قالت «فرجينيا وولف» الأديبة الإنجليزية أن البرج العاجي الذي كان رمز أدباء القرون الماضية الكلاسيين قد استحال إلى «البرج المائل» الذي يعيش فيه أبناء القرن الحاضر، والذي يوشك أن يسقط بهم كما يوشك أن يسقط برج بيزا في إيطاليا.
وعم التشاؤم جميع الأدباء. وكان أول المتشائمين، أو أكثرهم نعيبا، هو هذا الشاعر الأمريكي «إليوت» الذي استقر في لندن. وقد أخرج في 1925 «الأرض الخراب». وهي أحاديث النفس، نفس الشاعر الذي انكشف عنه الوهم؛ وهم الحضارة والثقافة والدين والإنسانية والشرف. وألفى نفسه، ليس في حيرة قد تسفر عن يقين، بل في يأس مظلم لا يرى في خلاله أي بصيص للرجاء. ذلك أن القيم الأخلاقية قد فسدت، بل تعفنت، ولم يعد الإنسان الإنساني قادرا على أن يعيش في شرف أو ينصب نفسه لمجد، فالناس يتمتعون برخاء المادة، ولكنهم يتمرغون في فقر الروح. وقد عمد «إليوت» بهذا اليأس إلى الهروب من الواقع المؤلم، فانطرح على أبواب الكنيسة الكاثوليكية ينشد السلام والطمأنينة لنفسه القلقة، كما فعل من قبل «بيلوك» و«تشسترتون»، فهو نافر من العصر الحاضر يحن، بل يوحم، إلى القديم. ولكنه في هذا الحنين أو الوحام يخرج من القفر إلى البلقع.
Página desconocida