ولسنا نعني أن كل ما يكتب عن التطور الحاضر من المدنية ستزول قيمته الفنية عندما يتبدل هذا التطور، وإنما نعني أن شيئا كثيرا من قصص «ولز» ودراساته قد اصطبغ بالصبغة الوقتية «الصحفية»؛ ولذلك ستنقد فيه الأجيال الآتية ما نجده نحن من لذعة الحقائق ومرارة الواقع.
ولكن إذا كانت هذه الكتب «الصحفية» لن تعيش فذلك لأنها أدت مهمتها في الإصلاح الذي نشده مؤلفها، فإذا ماتت هذه الكتب فإن موتها برهان نجاحها.
وقد سبق أن رأينا مثل ذلك في درامات «إبسن»، فإن «بيت عروس» مثلا كانت تعد من الدرامات الثائرة؛ لأنها تطلب للمرأة شخصية مستقلة عن الزوج والأولاد. ولكن ثورتها ضعفت؛ لأن الناس قد آمنوا بهذه الأفكار للمرأة وصرنا نحن لذلك لا نستطرفها ولا نستهول آراءها. وهذا برهان على نجاحها لا على فشلها؛ إذ إن نفوسنا نحن المتمدنين قد أشبعت بها حتى لا نجد فيها جديدا.
وأغلب الظن أن ما سيعيش للأجيال الآتية من «ولز» هو القصص المسلية مثل «كبس» أو «بيلبي» التي لم يؤلفها إلا ليرفه عن نفسه سأم الدرس لهذه الفوضى التجارية والصناعية والمالية التي تجتاز بها إنجلترا، بل الدنيا، الآن. وذلك لأن هذه الفوضى ستزول، فلا يعود يباليها جمهور القراء أو يقرءون عنها تفاصيلها المؤلمة في كتب «ولز». ولكنهم سيحتاجون إلى الضحك بقراءة «الفقير كبس» الذي أثرى فجأة، فلا يعرف كيف يعيش عيشة الأغنياء. أو بقراءة «بيلبي» الصبي الهارب من أمه الذي يشرد في الحقول ويشارك رجلا قد احترف التشرد والسرقة، فيتعلم منه حرفته، ويسرقه هو نفسه، ثم يعود إلى أمه وقد تعب من قلق العيش في التشريد، ينشد أمن الحياة بين ذراعي الأم.
دراسات ولز الاجتماعية
إذا تحدث الإنسان عن الأدب الإنجليزي خطرت «القصة» بالبال. ولكن ليس معنى هذا أن القصة هي أحسن ما في الأدب الإنجليزي، وإنما معناه أنها تغمره بكثرتها، ففي كل عام يطبع في إنجلترا نحو ثلاثة آلاف قصة: 999 في الألف منها هو مجموعة من الهراء والسخف والعواطف المبهرجة. والأدب الإنجليزي الآن أوسع من أن ينحصر في القصة أو «الدرامة»؛ لأن الأديب يعالج ألوانا وصيغا أخرى تتناول الترجمة - أي السيرة التحليلية - بل تتناول أحيانا التاريخ. وفي إنجلترا لون من ألوان الأدب قلما يتقنه غيرهم، هو «المقالة» التي ترجع في تقاليدها إلى «ستيل» و«أديسون» و«ماكولي». وللمقالة مقام في إنجلترا الآن يزيد على مقام القصة. وقد عالجها جميع المجددين والرجعيين مثل «شو» و«ولز» و«شسترتون» و«بيلوك».
وقد وجد «برنارد شو» أن الدرامة تعجز عن التحليل الكافي الذي يفي بتفاصيل الموضوع؛ وهو لذلك يزود الدرامة التي لا تزيد صفحاتها على خمسين بمقالة قد تبلغ مائة صفحة. ومقالات «ولز» لا تنقص في القيمة الفنية عن قصصه. ثم هل هناك من القصص الحديثة ما يسمو على ما كتبه «أندريه موروا» أو «ليتون سنراتشي» من السير التحليلية؟
ويبدو أن الأدب الإنجليزي سيمعن في الاتجاه إلى هذه النواحي؛ وذلك لأنه يغزو ميادين جديدة في الثقافة، فالأديب يكتب الآن في الاقتصاديات والاجتماعيات، وكثيرا ما يجد أن القصة أو الدرامة أداة ناقصة لا تفي بغرضه فيعمد إلى المقالة يؤلف أجزاءها حتى تستوي جسما فنيا كما يروق الذوق بشكله، يحرك الذهن بموضوعه.
بدأ «ولز» يؤلف القصص، وانتهى بتأليف المقالات والكتب. ولم يكن في ذلك منحدرا، وإنما كان صاعدا؛ لأنه وجد أنه كلما ازداد ثقافة تناول ذهنه من الموضوعات ما تعجز القصة عن إيفائه حقه. وقد راجت مؤلفاته - غير القصص - رواجا عظيما جدا، فإن مؤلفه في التاريخ العام بيع بمئات الألوف، وترجم إلى جميع اللغات الحية تقريبا. وتعددت طبعاته، فمنها الأنيق المزخرف الذي يباع بالجنيهات، ومنها ما يباع بخمسة قروش فقط.
ول «ولز» كتب عدة في الاشتراكية أو التفكير الاشتراكي الذي يصبغ قصصه أيضا. وقد عالج الاقتصاديات في كتاب ضخم لا يصدق من يقرؤه أن مؤلفه من أبرع القصاصين في إنجلترا الآن. ثم هو قد امتد نشاطه إلى العلم؛ ولذلك حرر كتابا في المعارف العلمية بمساعدة ابن «جوليان هكسلي» تناول فيه تلك المعارف التي تؤثر في سعادة الإنسان. بل لقد ألف كتابا عن التعليم، وصف فيه مدرسة جديدة هي مدرسة «أوندن» التي ابتكر مديرها «ساندرسون» نظرا جديدا للتعليم هو أن يكون عالمي الغاية. هذا النظر هو الذي حدا ب «ولز» إلى تأليف التاريخ العام للعالم.
Página desconocida