أما بعد: يا أمير المؤمنين! فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائن قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر وإن أذاقك تعجيل مرارته، فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، واعلم يا أمير المؤمنين أن الفائز من حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأدخل الجنة.
وقيل: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: اكتب إلي يا أبا سعيد بذم الدنيا، فكتب إليه:
أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن الدنيا دار ظعن وانتقال، وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها؛ فإن الراغب فيها تارك لها، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها؛ إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق، وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، ويرغب فيه من يجهله، وفيه -والله- حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه، يحتمي قليلا؛ مخافة ما يكره طويلا، الصبر على لأوائها أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها ولم يغتر بها؛ فإنها غدارة حمالة خداعة، قد تعرضت بآمالها، وتزينت لخطابها، فهي كالعروس، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، وهي -والذي بعث محمدا بالحق- لأزواجها قاتلة، فاتق أيها الأمير صرعتها، واحذر غيرها؛ فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والفناء.
واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله، وحذر ما حذره، وقدم من دار الفناء إلى دار البقاء، فعند الموت يأتيه اليقين.
Página 111