103

أدب الخلاف - ياسر برهامي

أدب الخلاف - ياسر برهامي

Géneros

الحكم على الفرق المنشئة للبدع وقال أيضًا ﵀: وأما القدرية المقرون بالعلم، والروافض الذين ليسوا من الغالية، أي: الذين لا يقولون: إن عليًا هو الله، أو إنه النبي، أو بتحريف القرآن، فهؤلاء الغلاة من النوع الأول. يقول: والجهمية، والخوارج -قصده بالجهمية المعتزلة- فيذكر عنه -يعني: عن الإمام أحمد ﵀ في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه -يعني: الإمام أحمد - التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم والخوارج. ما الذي جعل الإمام أحمد يتوقف عن تكفير الخوارج، مع أن الأدلة في تكفيرهم فيها قوة؟ سبب ذلك: أن علي بن أبي طالب ﵁ لم يكن يكفرهم، وهم كفروه شخصيًا، حتى الصحابة الذين كانوا معه لم يكفروهم، وهو إنما قاتلهم عندما سفكوا الدم الحرام، فهم أظهروا البدعة أولًا، وكفروه، ومع هذا ما قاتلهم، ولما قاتلهم لم يقسم أموالهم، مع أن شيخ الإسلام يرجح أنه قسم أموالهم، وبالإجماع أنه لم يسب نساءهم، والذي بقي منهم أمر بتفريقه في البلاد، وهذه كلها معاملة تدل على عدم تكفيره لهم، ثم قد أتت الأحاديث بإثبات أنه شك في آخرهم، فهذا يدل على أن كثيرًا من الرؤساء خرجوا بالفعل، لكن لوجود شك في الأتباع المتأخرين العوام يمتنع التكفير بالعموم. يقول: والغالب على الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج مع قوله: ما أعلم قومًا شرًا من الخوارج. ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقًا روايتين، حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك وليس الأمر كذلك -أي المرجئة الذين ليسوا إباحية- وعنه في تكفير من لا يكَّفر روايتان: أصحهما لا يكَّفر، وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكَّفر مطلقًا وهو خطأ محض. والجهمية عند كثير من السلف مثل: عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، فالأصول الكفرية منشؤها من عند الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. يعني: أصول الفرق الضالة الاثنين والسبعين: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، ويخرجون الجهمية خارج الثنتين والسبعين فرقة، لكن قلنا: الراجح أن هؤلاء ضمن الثنتين والسبعين، وغلاة الجهمية هم الكفار الخارجون عن الثنتين والسبعين، وهم الحلولية الذين يصرحون بنقيض القرآن، ويقولون: لم يستو الله على العرش. ولا شك أن هذا هو الراجح. أما المعتزلة الذين خلاصة قولهم ولازمه هو قول الجهمية لكنهم لا يلتزمون به، فلا يقولون: لم يستو الله على العرش، لكن يقولون: استوى بمعنى: استولى، فهناك فرق بين الاثنين. فيقول: إن الإمام أحمد يتوقف في تكفير هؤلاء. يقول: وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين: أحدهما: أنه كفر ينقل عن الملة وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه كفر لا ينقل، ولذلك قال الخطابي: إن هذا قالوه على سبيل التغليظ. إلى أن قال: وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان - الأفراد- الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع معه أن يكون كافرًا. كرجل يحافظ على الصلاة والصيام وتعظيم الشرع، بل ربما يأمر بقتل المخالف تعظيمًا للشرع، وتجده يقرأ القرآن، فيقول: هذا يمنع أن يكون كافرًا. يقول: فتعارض عندهم الدليلان وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشرع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر -يعني: كلما رأوا أن الأئمة يقولون: من قال كذا فهو كافر- اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله -يعني: لا يوجد فرق بين النوع والعين- ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع. وهي الثمانية التي ذكرناها. يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه -أمثال الذين قالوا: القرآن مخلوق، في عصرهم- وتفوهوا بما وصفه الأئمة بأنه كفر، ومع ذلك امتنعوا عن التكفير للعين. قال: وأيضًا فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذب أصلًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت به الحجة بذلك. هذا من أهم الكلام الذي لا بد من فهمه من حيث الجملة والتفصيل، فعندما يقول مبتدع ضال من فرق التكفير: لم لا تعذرون اليهود والنصارى بالجهل، وكذلك الذي يطوف بالقبور، أو يذبح لها، أو يتحاكم لغير الشرع جاهلًا أو متأولًا؟ فنقول له: لأن هذا بلغه الإجمال فكذب به، أي: اليهودي والنصراني، بخلاف هذا فقد بلغه الإجمال وصدق به، لكن لم يبلغه التفصيل. وقال أيضًا: وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم فضلًا عن أن يكفر. قال: مع العلم بأن كثيرًا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين والزنادقة ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين -هؤلاء أصلًا الذين اخترعوا هذه البدعة تدثروا بالإسلام، ولأجل أن يخدعوا الناس ألفوا هذه البدعة- فهؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضًا. إلى أن قال: فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر -لكن الشخص القائل لها يبين له أولًا- وهذا كلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقوم عليه الحجة وتبين له، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. انتهى مختصرًا من الجزء الثاني عشر في الفتاوى (من ٤١٤ إلى ٥٠١). وينبغي أن يدخل في هذا النوع من الخلاف غير السائغ: الخلاف في حكم من يُلزم الناس بقول مخالف لشريعة الإسلام في التشريع العام، ويحتمه عليهم، فلا شك أن هذا من الكفر الأكبر. أما تكفير المعين فمبناه على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع. كقاضٍ يحكم بغير ما أنزل الله، مع أنه يصلي ويصوم ويخاف الله، ولكنه متأول، أو أن بعض المشايخ قال له: دافع عن الإسلام في هذا المكان، ولعلك تقلل من الشر، وهل هو سيدافع فعلًا أم أنه سيقع في الكفر؟! هذا كلام خطير جدًا، فهذا المفتي أجهل من القاضي؛ لأنه يفتيه بأن عمله هذا صحيح، وهذا بلا شك كلام عظيم النكارة، بل هو كلام كفر في الحقيقة.

8 / 4