بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله ذي القدرة والجلال، والرفعة والكمال، الذي عم عباده بالفضل والإحسان، وميزهم بالعقول والأذهان، وشرفهم بالعلوم ومكن لهم الدليل والبرهان، وهداهم إلى معرفة الحق والصواب، بما نزل من الوحي والكتاب، الذي جاء به أفضل أولي العزم الكرام، مولانا وسيدنا محمد بن عبد الله خاتم النبيين وأشرف العالمين صلى الله عليه وعلى الأطايب من عترته، ذوي الفضائل والمناقب، حجج الله على كافة المسلمين، الهادين المهديين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه (الحسن بن أبي الحسن الديلمي) أعانه الله على طاعته، وتغمده برأفته ورحمته: إنني حيث بليت بدار الغربة، وفقدت الأنيس الصالح في الوحشة، وحملتني معرفة الناس على الوحدة، خفت على ما عساه حفظته من الآداب الدينية والعلوم العلوية - وهو قليل من كثير، ويسير من كبير - أن يشذ عن خاطري، ويزول عن ناظري - لعدم المذاكر - أثبت ما سنح لي إيراده، وسهل علي إسناده، ليكون لي تذكرة وعدة، ولمن يقف عليه بعدي تبصرة وعبرة وفق الله المراعاة له والعمل به، وجعله خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لثوابه الجزيل العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فأول ما أبدأ به ذكر المعارف بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وآله وحججه من بعده، وما يجوز عليه وعليهم وما لا يجوز.

Página 33

ثم اثني بذكر فضل العالم والعلوم، وما يتبع ذلك من العلوم الدينية والآداب الدنيائية، ولم ألتزم ذكر سندها، لشهرتها عند العلماء في كتبها المصنفة المروية عن مشايخنا - رحمهم الله تعالى - وأحلت في ذلك على كتبهم وأسانيدهم، إلا ما شذ عني من ذلك فلم أذكر إلا فص (1) القول.

وسميت هذا الكتاب كتاب (أعلام الدين في صفات المؤمنين وكنز علوم العارفين) فحق على من وقف عليه، واستفاد به، أن يدعو لمصنفه، ويترحم عليه، ويدع الهوى والميل في إعابة شئ منه، فإنه يشتمل على ترك الدنيا والرغبة في الآخرة، حسب ما يأتي ذكره وتفصيله.

Página 34

فصل " في الدليل على حدث الإنسان وإثبات محدثه " أقرب ما يستدل به الإنسان على حدثه وإثبات محدثه، ما يراه من حاله وتغيره الواقع بغير اختياره وقصده، كالزيادة والنقص المعترضين في جسمه وحسه، و [ما] (1) يتعاقب عليه من صحته وسقمه، وينتقل إليه من شيبته وهرمه، وأنه لا يدفع فيه من ذلك طارئا موجودا ولا يعيد ماضيا مفقودا، لو نقصت منه جارحة لم يقدر على التعويض منها، ولا يستطيع الاستغناء في الإدراك بغيرها عنها، لا يعلم غيب أمره، ولا يتحقق مبلغ عمره، وقدر (2) متناهية، وبنية ضعيفة واهية.

فيعلم بذلك أن له مصورا صوره، ومدبرا دبره لأن التصوير والتدبير فعلان لم يحدثهما الإنسان لنفسه، ولا كانا بقدرته، والفعل فلا بد له من فاعل، كما أن الكتابة لا غنى بها عن كاتب.

ثم يعلم أن مصوره صانعه ومحدثه، وأن مدبره خالقه وموجده، لأنه لا يصح وجوده إلا مصورا مدبرا.

ثم يعلم أيضا أن محدثه قادر، إذ كان لا يصح الفعل من عاجز.

ويعلم أنه حكيم عالم، لأن الأفعال المحكمة لا تقع إلا من عالم.

ثم يعلم أنه واحد، إذ لو كان اثنين لجاز اختلاف مراديهما فيه، بأن يريد أحدهما أن يميته، ويريد الآخر أن يحييه، فيؤدي ذلك إلى وجود المحال، وكونه ميتا حيا في حال، أو إلى انتفاء الحالين وتمانع المرادين، فيبطل ذلك أيضا ويستحيل، وهذا يبين أن صانعه واحد ليس باثنين.

ويعلم أنه لا يجوز على محدثه النقص والتغيير، وما هو جائز على المحدثين، لأن في جواز ذلك عليه مشابهة للمصنوعين، وهو يقتضي وجود صانع له أحدثه وصوره ودبره، إما محدث مثله أو قديم، وفي استحالة تنقل ذلك إلى ما لا يتناهى، دلالة على أن صانعه قديم.

Página 35

ويعلم بمشابهة حال غيره لحاله، أن حكمه كحكمه، وأنه لا بد من الإقرار بوجود صانع للجميع، لبطلان التثنية حسب ما شهد به الدليل.

فصل: وقد ورد في الحديث (1): أن أبا شاكر الديصاني وقف ذات يوم في مجلس الإمام الصادق - أبي عبد الله جعفر بن محمد صلى الله عليه - فقال له: أبا عبد الله، إنك لأحد النجوم الزواهر، وكان آباؤك بدورا بواهر، وأمهاتك عقيلات طواهر (2)، وعنصرك من أكرم العناصر، وإذا ذكر العلماء فبك (3) تثنى الخناصر، خبرنا أيها البحر الزاخر، ما الدليل على حدث (4) العالم؟

فقال أبو عبد الله صلى الله عليه وآله: " إن من أقرب الدليل على ذلك ما أذكره لك، ثم دعا ببيضة فوضعها في راحته وقال: هذا حصن ملموم، داخله غرقئ (5) رقيق، يطيف به كالفضة السائلة، والذهبة المائعة، أشك في ذلك؟ ".

قال أبو شاكر: لا شك فيه.

قال الإمام عليه السلام: " ثم إنه ينفلق عن صورة كالطاووس، أدخله شئ غير ما عرفت؟

قال: لا.

قال: " فهذا الدليل على حدث العالم ".

قال أبو شاكر: دللت - أبا عبد الله - فأوضحت، وقلت فأحسنت، وذكرت فأوجزت، وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركت أبصارنا، أو سمعناه بآذاننا، أو ذقناه بأفواهنا، أو شممناه بأنوفنا، أو لمسناه ببشرنا.

فقال الصادق عليه السلام: ذكرت الحواس (6) وهي لا تنفع في الاستنباط إلا بدليل، كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح ".

قال شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رضي الله عنه:

Página 36

إن الصادق عليه السلام أراد أن الحواس الخمس بغير عقل لا توصل إلى معرفة الغائبات، وأن الذي أراه من حدوث الصورة معقول، بني العلم به على محسوس (1) واعلم - أيدك الله - أن الأجسام إذا لم تخل من الصورة - التي قد ثبت حدثها - فهي محدثة مثلها.

دليل آخر على حدث العالم: الذي يدلنا على ذلك، أنا نرى أجسامنا لا تخلو من الحوادث المتعاقبة عليها، ولا يتصور في العقل أنها كانت خالية منها، وهذا يوضح أنها محدثة مثلها، لشهادة العقل بأن ما لم يوجد عاريا من المحدث فإنه يجب أن يكون مثله محدثا.

وهذه الحوادث هي: الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، والألوان والروائح والطعوم، ونحو ذلك من صفات الأجسام.

والذي يدل على أنها أشياء غير الجسم، ما نراه من تعاقبها عليه، وهو موجود مع كل واحد منها.

وهذا يبين أيضا حدثها، لأن الضدين المتعاقبين لا يجوز أن يكونا مجتمعين في الجسم، ولا يتصور اجتماعهما في العقل، وإنما وجد أحدهما وعدم الآخر، فالذي طرأ ووجد هو المحدث، لأنه كائن بعد أن لم يكن، والذي انعدم أيضا محدث، لأنه لو كان غير محدث لم يجز أن ينعدم، ولأن مثله أيضا نراه قد تجدد وحدث.

والذي يشهد بأن الأجسام لم تخل من هذه الحوادث بدائه العقول وأوائل العلوم، إذ كان لا يتصور فيها وجود الجسم مع عدم هذه الأمور، ولو جاز أن يخلو الجسم منها فيما مضى، لجاز أن يخلو منها الآن فيما يستقبل من الزمان.

فالذي يدل على أن حكم الجسم كحكمها في الحدوث، أن المحدث هو الذي لوجوده أول، والقديم هو المتقدم على كل محدث وليس لوجوده أول، فلو كان الجسم قديما لكان موجودا قبل الحوادث كلها خاليا منها، وفيما قدمناه من استحالة خلوه منها دلالة على أنه محدث مثلها، فالحمد لله.

* * *

Página 37