251

Huracanes de la tarde

أعاصير مغرب

Géneros

ففي كل مكان في البيت يراني مستعدا لملاعبته واستجابة نظراته، والتفرج على فنونه وألاعيبه وقفزاته. أو يراني مستعدا للإشارة إليه واستدعائه، فإذا هو واثب وثبة واحدة إلى حيث يستوي على مكانه بجانبي، ويغريني بملاطفته ومجاملته أن أبذل له الملاطفة والمجاملة، وأحييه بعبارات التودد والمساجلة ... ينتظر مني ذلك في كل مكان إلا كرسي المكتب، فإذا جلست إليه لأكتب أو لأقرأ فهو حائر لا يدري ما يصنع: يدنو من الكرسي إلى مسافة قصيرة ثم يرفع رأسه وينظر، ثم يعيد النظر كرة أخرى، ولعله يسائل نفسه: ما بال صاحبي لا يناديني ولا يجيبني؟ وما بال عينيه تتجهان أمامه وقلما تتجهان ناحيتي؟ فإذا طال عليه التساؤل والترقب رجع أدراجه، وغاب هنيهة، ثم عاد إلى المكتب يترقب كلمة النداء أو نظرة الاستدعاء، أو لمسة التربيت والاحتفاء، ولا يزال كذلك حتى ييأس ويسأم فيولي وجهه شطر ألعوبة يتلهى بها، أو شغلة أخرى من الشواغل البديعة التي يفرضها على نفسه، ولا يفرضها أحد عليه، وأولها حراسة الباب والعواء على من يصعدون السلم أو يهبطونه.

وقد تبعني اليوم إلى المكتب ونظر إلي قليلا، ثم غادر المكان الملعون يائسا عابسا دون أن يلح في الانتظار والمناورة؛ لأنه تعلم بالمرانة الطويلة أن الانتظار في هذا المكان لا يفيد، وأن الكلب العاقل الرشيد هو الذي يغادر مكان الكتب والأوراق بغير تدبر ولا تأمل ولا إطالة، والحق معه حتى في آراء الأناسي العقلاء الراشدين.

وقد أردت اليوم أن أدهشه وأخلف عادته، فرفعت رأسي من الورق في بعض جيئاته وصحت به مناديا: بيجو بيجو تعال! إن كتابتي اليوم تعنيك، ألا تريد أن تقرأ ما كتبت؟ فوجم ولم يكد يصدق أذنيه. وتردد لحظة ثم قفز إلى الكرسي فالمكتب حيث الورق الذي أخط عليه هذا المقال، كأنه يريد حقا أن يقرأه ويستطلع ما فيه، وكأنه لا يفضل بالعقل والرشد أولئك الآدميين الذي يعنيهم ما يكتب عنهم الكاتبون، كما ظننته لأول وهلة.

ولكنه ما لبث أن أخافني من أسلوبه في القراءة والمطالعة؛ لأنه هو والتمزيق في عرفه شيء واحد، وهل هو بدع في أسلوبه وهذا شأن كثير من الآدميين الذين أكتب عنهم؟ فنحيته برفق وحملته إلى الباب، وأرسلته في الدهليز وعدت إلى المكتب فأقفلته، ولا أزال أسمع نباحه يلاحقني بلهجات تتراوح بين الاستغراب والشكاية والسباب.

ويجب أن أعترف للقراء بأن كلبي «بيجو» ليس بكلبي على التحقيق، ولكنه كلبي في شريعة الدعوى والاغتصاب، أو كلب صديقي العزيز «فيفي» الذي لا يجاوز السنتين إلا منذ شهرين. ولا إخاله إلا مطالبي به قريبا بعد أن زال الموجب لإقصائه، وهو انحراف صحته في موعد التسنين، وفيما أصابه على أثر ذلك من مصاب أنقذه الله من خطره الشديد.

والأصل في المصائب أن تجمع بين الأصدقاء لا أن تفرق بينهما، كما افترق فيفي وصديقه بيجو. ولكن اللوم في هذا الافتراق على صداقة بيجو دون غيرها - أي على إفراطه في الصداقة لا على تقصيره فيها - فمعاذ الله أن يتهم كلب بخيانة الأصدقاء.

كان بيجو يرى «فيفي» على سريره ساكنا من التعب والإعياء، فلا يحسب أن شيئا تغير بينه وبين مولاه. ويقفز إلى السرير ليعرض خدماته التي لا يكل عنها ولا يتوانى فيها، وهي المواثبة والملاعبة واصطناع العض والمصارعة ومولاه في شاغل عن ذلك، ولكنه هو لن يقبل العذر ولن يعرف شاغلا أهم من تلك الخدمات المرفوضات.

وإذا أقبل الطبيب وصرخ «فيفي» من مقاربته وجسه وفحصه، كما يصرخ جميع الأطفال من جميع الأطباء، فما هي إلا لمحة كأسرع ما يكون لمح البصر، وإذا بأنياب «بيجو» توشك أن تنغرس في ساق الطبيب الذي يعتدي على مولاه بما يبكيه، أما إذا ربطوه اتقاء لهذه المفاجآت فلا راحة ولا قرار في البيت كله، لا لمولاه العزيز ولا للنائمين حوله أو الساهرين عليه.

لهذا عوقب «بيجو» على إفراط صداقته بالنفي من جوار مولاه أثناء توعكه وانحراف مزاجه، ورضيت أنا أن أتولى مؤاساته وحراسته أيام منفاه حتى تنجلي الغاشية فيعود إلى مأواه.

وما انقضت فترة وجيزة حتى أصبح «بيجو» شخصية من شخصيات البيت المعدودة، وحتى فرض على نفسه واجبات وأعمالا لم يفرضها عليه أحد، ولكنه يغضب ويتذمر إذا قاطعته فيها أو عوقته عنها، كأنك تحسبه مخلوقا عاطلا لا يصلح لعمل، ولا يؤمن على واجب ... عرف عرف الفرق بين جرس التليفون وجرس الباب، فلا يدق هذا أو ذاك إلا أسرع إلى الإجابة، وغضب من الخادم كلما سبقه إلى غرضه، فتظاهر بعضه والوثوب عليه.

Página desconocida