Abu Shuhada Husayn Ibn Ali
أبو الشهداء الحسين بن علي
Géneros
مقدمة
1 - مزاجان تاريخيان
2 - الخصومة
3 - الخصمان
4 - أعوان الفريقين
5 - خروج الحسين
6 - هل أصاب؟
7 - كربلاء
8 - جريرة كربلاء
9 - نهاية المطاف
Página desconocida
10 - في عالم الجمال
مقدمة
1 - مزاجان تاريخيان
2 - الخصومة
3 - الخصمان
4 - أعوان الفريقين
5 - خروج الحسين
6 - هل أصاب؟
7 - كربلاء
8 - جريرة كربلاء
Página desconocida
9 - نهاية المطاف
10 - في عالم الجمال
أبو الشهداء الحسين بن علي
أبو الشهداء الحسين بن علي
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
يسرني أن أقدم إلى حضرات القراء هذه الطبعة من كتاب «أبي الشهداء» ويعظم رجائي أن يصل إلى أيد كثيرة غير التي وصل إليها في طبعاته السابقة، وأن يتحقق له من عموم الرسالة بهذه المثابة ما يتمناه كل مؤلف لكل كتاب يريد به رسالة من الرسالات.
ليس من عادتي أن أطلع في كتبي بعد الفراغ من طبعها، ويتفق أن تمضي السنوات دون أن ألقي عليها نظرة لغير مراجعة عاجلة، فإذا حدث بعد ذلك أن أنظر فيها لتقديمها إلى طبعة جديدة، أمكنني أن أشعر بها شعور القارئ الذي يطلع عليها لأول مرة، بعد أن شعرت بها شعور المؤلف الذي امتلأ بها، وأدارها في نفسه عدة مرات. وقد أستغرب منها أمورا كالتي يستغربها القراء الذين يحكمون على موضوعاتها حكم «الأجانب الغرباء».
عجبا! إن مشكلة الحياة الكبرى لم تتغير منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولم تزل الحرب على أشدها بين خدام أنفسهم وخدام العقائد والأمثلة العليا، ولم يزل الشهداء يصلونها نارا حامية من عبيد البطون والأكباد، ولم يزل «داؤنا العياء» كما قال أبو العلاء!
Página desconocida
كان هذا شعوري بكتاب أبي الشهداء حين قرأته من جديد؛ لتقديمه إلى هذه الطبعة. مسكينة هذه الإنسانية! لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشهداء؛ بل لعل العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية ونسيان المصلحة الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة، أو لعل العطش الشديد إلى دماء الشهداء يزداد في هذا الزمن خاصة دون سائر الأزمنة الغابرة؛ لأنه الزمن الذي وجدت فيه الوحدة الإنسانية وجودا ماديا فعليا، وأصبح لزاما لها أن توجد في الضمير وفي الروح كما وجدت في الخريطة الجغرافية وفي برامج السفن والطيارات.
الوحدة الإنسانية اليوم حقيقة واقعية عملية، ولكنها حقيقة واقعية عملية في كل شيء إلا في ضمير الإنسان وروح الإنسان.
حقيقة واقعية في اشتباك المصالح التجارية، وفي اتصال الأخبار بين كل ناحية من الكرة الأرضية وناحية أخرى.
حقيقة واقعية في أعصاب الكرة الأرضية - إذا صح هذا التعبير - فلا يضطرب عصب من أعصابها في أقصى المشرق حتى تتداعى له سائر الأعصاب في أقصى المغرب وفي أقصى الشمال والجنوب.
حقيقة واقعية في كل شيء إلا في ضمير الإنسان وفي روح الإنسان، وهذا هو المهم والأهم إذا أريدت للإنسانية وحدة صحيحة صالحة جديرة بالدوام.
ولن توجد هذه الوحدة إلا إذا وجد الشهداء في سبيلها، فأنعم بمقدم «أبي الشهداء» من جديد إلى ضمائر فريق كبير من بني الإنسان، لعلهم يقدمون رسالته خطوة واحدة أو خطوات في سبيل اليقين والعمل الخالص لوجه الحق والكمال.
نتفاءل أو لا نتفاءل.
نتشاءم أو لا نتشاءم.
ليست هذه هي المسألة؛ وإنما المسألة هي أن طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا تتحقق مصلحة الإنسانية إلا إذا عمل لها كل فرد من أفرادها، وهانت الشهادة من أجلها على خدامها، وتقدم الصفوف من يقدم على الاستشهاد، ومن ورائه من يؤمن بالشهادة والشهداء.
لا عظة ولا نصيحة، ولكنها حقيقة تقرر كما تقرر الحقائق الرياضية، فلا بقاء للإنسانية بغير العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينس الفرد مصلحته؛ بل حياته في سبيلها.
Página desconocida
لا بقاء للإنسانية بغير الاستشهاد.
وفي هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كل زاوية من زوايا الأرض نلتفت نحن أبناء العربية إلى ذكرى شهيدها الأكبر فنحني الرءوس إجلالا لأبي الشهداء.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
مزاجان تاريخيان
طبائع الناس
يتناوب طبائع الناس مزاجان متقابلان؛ مزاج يعمل أعماله للأريحية والنخوة، ومزاج يعمل أعماله للمنفعة والغنيمة.
والمزاجان لا ينفصلان كل الانفصال.
فقد تقترن الأريحية بالمنفعة، وتقترن المنفعة بالأريحية، ولكنهما إذا اصطدما - ولا سيما في الأعمال الكبيرة - لم يعسر عليك أن تفصل المزاجين وتعزل المعسكرين. فهذا للأريحية حتى يجب المنفعة ويخفيها، وهذا للمنفعة حتى يجب الأريحية ويخفيها، أو كذلك يتراءيان.
وأصحاب المطالب الكبرى في التاريخ يعتمدون على هذا المزاج كما يعتمدون على ذاك؛ فمنهم من يتوسل إلى الناس بما فيهم من الجشع والخسة وقرب المأخذ وسهولة المسعى، ومنهم من يتوسل إلى الناس بما فيهم من طموح إلى النبل والنجدة وركوب المخاطر ونسيان الصغائر في سبيل العظائم.
Página desconocida
ولكل منهما سبيله إلى النفوس وأمله في النجاح على حسب الأوقات والبيئات.
إلا أن الأريحية أخلد من المنفعة بسنة من سنن الخلق التي لا تتبدل مع الأوقات والبيئات؛ لأن منفعة الإنسان وجدت لفرد من الأفراد.
أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان منفعته: فقد وجدت للأمة كلها أو للنوع الإنساني كله؛ ومن ثم يكتب لها الدوام إذا اصطدمت بمنافع هذا الفرد أو ذاك.
ولقد يبدو من ظواهر الأمور أن الأمر على خلاف ما نقول؛ لأن الحريص على منفعته يبلغها، ويمضي قدما إليها، فينال المنفعة التي لا ينالها صاحب الأريحية؛ لأنه يتركها إذا اصطدمت بما هو أجل منها.
وهذا صحيح مشهود لا مراء فيه.
ولكن النجاح في الحركات التاريخية لن يسمى نجاحا إذا هو لم يتجاوز حياة فرد أو طائفة من الأفراد، فإذا قيل: إن حركة من الحركات التاريخية قد نجحت، فمغزى ذلك بداهة أن الأفراد القائمين بها يذهبون وهي الباقية بعد ذهابهم. ومن هنا يصح أن يقال: إن الأريحية أبقى وأنجح إذا هي اصطدمت بالمنفعة الفردية؛ لأن ذهاب الفرد هنا أمر مفروغ منه بعد كل حساب، سواء أكان حساب الأريحيين أم حساب النفعيين.
وأصحاب الأريحية إذن أبعد نظرا من دهاة الطامعين والنهازين للفرص والمغانم العاجلة؛ لأنهم خلقوا بفطرتهم على حساب أعمال تتجاوز حساب عمرهم القصير. فهم - شعروا أو لم يشعروا - بعيدو النظر إلى عواقب الأمور، وإن خيل إلى الناس أنهم طائشون متهجمون.
أما موقف المؤرخين في العطف على حركات التاريخ؛ فهو على ما نرى موقف مزاج من هذين المزاجين، وليس بموقف سبيل من سبل البحث أو مذهب من مذاهب التفكير.
فالذين يجنحون بمزاجهم إلى المنفعة يفهمون أعذار المنتفعين ، وينكرون ملامتهم على ناقديهم.
والذين يجنحون بمزاجهم إلى الأريحية يفهمون دوافع النخوة، ويحسبونها عذرا لأصحابها أقوى من غواية المنافع والأرزاق.
Página desconocida
إلا أن الصواب هنا ظاهر جد الظهور لمن يريد أن يراه.
الصواب أن العطف على جانب المنفعة عبث لا معنى له ولا حكمة فيه.
وأن العطف على جانب الأريحية واجب يخشى على الناس من تركه وإهماله؛ إذ كان تركه مناقضا لصميم الفطرة التي من أجلها فطر الناس على الإعجاب بكل ما يستحق الإعجاب.
فليس يخشى على الناس يوما أن ينسوا منافعهم ويقصروا في خدمة أنفسهم، سواء عطف عليها المؤرخون أو أعرضوا عنها ساخرين منكرين.
ولكنهم يخسرون الأريحية إذا فقدوها وفقدوا الإعجاب بها والتطلع إليها، وهي التي خلقت ليعجب بها الناس؛ لأن حرص الإنسان على منفعته لا يغنيهم في حياتهم العامة أو في حياتهم الباقية، أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان نفسه في سبيل معنى من المعاني أو مثل عال من الأمثلة العليا، فهي الخليقة النافعة للنوع الإنساني بأسره، وإن جاز اختلافهم في كل معنى وفي كل مثل عال.
صراع بين الأريحية والمنفعة
في ماضي الشرق وحاضره كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الأريحية والمنفعة على أكثر من غرض واحد.
ولكننا لا نحسبنا مهتدين إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادئ، وأهدى إلى النتائج، وأبين عن خصائص المزاجين معا من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيين والأمويين، ولا سيما النزاع بينهما على عهد الحسين بن علي، ويزيد بن معاوية.
قلنا في كتابنا «عبقرية الإمام» ما فحواه أن الكفاح بين علي ومعاوية، لم يكن كفاحا بين رجلين أو بين عقلين وحيلتين. ولكنه كان على الحقيقة كفاحا بين الإمامة الدينية والدولة الدنيوية، وأن الأيام كانت أيام دولة دنيوية؛ فغلب الداعون إلى هذه الدولة من حزب معاوية، ولم يغلب الداعون إلى الإمام من حزب الإمام.
ولو حاول معاوية ما حاوله علي لأخفق وما أفلح، ولو أراد علي أن يسلك غير مسلكه لما أفاده ذلك شيئا عند محبيه ولا عند مبغضيه.
Página desconocida
فإذا جاز لأحد أن يشك في هذا الرأي، وأن يرجع بنجاح معاوية إلى شيء من مزاياه الشخصية، فذلك غير جائز في الخلاف بين الحسين ويزيد، وكل ما يجوز هنا أن يقال: إن أنصار الدولة الدنيوية غلبوا أنصار الإمامة على سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن مطالب الإمامة غير مطالب الزمان.
ما من أحد قط يزعم أن الصراع هنا كان صراعا بين رجلين أو بين عقلين وحيلتين، وإنما هو الصراع بين الإمامة والملك الدنيوي، أو بين الأريحية والمنفعة في جولتهما الأولى، ولم يكن ليزيد قط فضل كبير أو صغير بما قد بلغه من الفوز والغلبة.
بل لا يمكن أن يتعلل أحد هنا بما يتعلل به أنصار المنافع عامة من «تقريره للنظام وحفظه للأمن العام»؛ فإن يزيد لم يكن له فضل قط في قيام الدولة كما قامت على عهده وبعد عهده؛ وإنما كانت الدولة تتماسك برغبة الراغبين في بقائها لا بقدرة الأمير المشرف عليها، وقد حدث بعد موت يزيد أن بويع ابنه معاوية الثاني بالشام - وكان من الزاهدين في الحكم - فنادى الناس إلى صلاة جامعة، وقال لهم: «أما بعد، فإني قد ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم.» ثم أوى إلى بيته، ومضت شئون الدولة على حالها حتى مات بعد ثلاثة أشهر، وله مع هذا منافس قوي كعبد الله بن الزبير بالحجاز. •••
فلا وجه للمفاضة بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، ورأي معاوية وأعوانه في هذا أسبق من رأي الطالبيين وخصوم الأمويين. فقد ترددوا كثيرا قبل الجهر باختيار يزيد لولاية العهد وبيعة الخلافة بعد أبيه، ولم يستحسنوا ذلك قبل إزجائهم النصح إلى يزيد غير مرة بالإقلاع عن عيوبه وملاهيه، ولما أنكر بعض أولياء معاوية جرأة الحسين عليه في الخطاب، وأشاروا عليه أن يكتب له كتابا «يصغر إليه نفسه»، قال: «وما عسيت أن أعيب حسينا؟ والله ما أرى للعيب فيه موضعا.» •••
وثم تعلة أخرى يتعلل بها المفاضلون بين علي ومعاوية، ولا موضع لها في المفاضلة بين ولديهما الحسين ويزيد، وتلك ما يزعمونه من غلبة معاوية على «علي» بحجته في الإقناع ونشاطه أو نشاط أصحابه في الدعوة السياسية.
فهذه التعلة إن صلحت لتعليل نجاح معاوية، فما هي بصالحة لتعليل نجاح يزيد؛ لأن الذين انخدعوا أو تخادعوا للصيحة التي صاح بها معاوية في المطالبة بدم عثمان، كانوا يرددون هذه الصيحة، ويساعدهم على ترديدها حقد الثأر المزعوم، وسورة العصبية المهتاجة، ثم يساعدهم على ترديدها في مبدأ الأمر أن معاوية لم يكن مجاهرا بطلب الخلافة ولا متعرضا لمزاحمة أحد على البيعة، وإنما كان يتشبث بمقتل عثمان والمطالبة بدمه، ولا يزيد في دعواه على ادعاء ولاية الدم وصلة القرابة.
ولكن الصائحين بهذه الصيحة مع معاوية قد عاشوا حتى رأوا بأعينهم مبلغ الغيرة على تراث عثمان، وعلموا أن الملك هو الغرض المقصود من وراء تلك الفتن والأرزاء، وأن معاوية لا يقنع بأن يملك لنفسه حتى يورث الملك ولده من بعده، وليس هو من أهل الرأي، ولا هو من أهل الصلاح، ولا هو ممن تتفق عليه آراء هؤلاء، ولكنه فتى عربيد يقضي ليله ونهاره بين الخمور والطنابير، ولا يفرغ من مجالس النساء والندمان إلا ليهرع إلى الصيد فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بين الأديرة والبوادي والآجام، لا يبالي خلال ذلك تمهيدا لملك ولا تدريبا على حكم ولا استطلاعا لأحول الرعية الذين سيتولاهم بعد أبيه؛ ثقة بما صار إليه من التمهيد والتوطيد وما سوف يصير.
فكل خلاف جاز في المفاضلة بين علي ومعاوية غير جائز في المفاضلة بين الحسين ويزيد، وإنما الموقف الحاسم بينهما، موقف الأريحية الصراح في مواجهة المنفعة الصراح، وقد بلغ كلاهما من موقفه أقصى طرفيه وأبعد غايتيه، فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق وكراهة للنفاق والمداراة، وانتصر يزيد بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع ومراء وخنوع لصغار المتع والأهواء.
أقام الحسين ليلته الأخيرة بكربلاء، وهو لا ينتظر من عاقبته غير الموت العاجل بعد سويعات، فأذن لأصحابه أن يتفرقوا عنه تحت الليل إن كانوا يستحيون أن يفارقوه في ضوء النهار، فأبوا إلا أن يموتوا دونه، وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي: «أنحن نتخلى عنك، ولم نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما بقي قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.» وقد بر بقسمه وبقي ومات، ودنا منه حبيب بن مظاهر وهو يجود بنفسه، فقال له: «لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل.» فقال وكان آخر ما قال: «أوصيك بهذا - رحمك الله - أن تموت دونه.» وأومأ بيده نحو الحسين.
وقتل الحسين، وذهب الأمل في دولته ودولة الطالبيين من بعده إلى أجل بعيد، ولكنه كان يشتم بالكلمة العوراء فيهون على الرجل من أصحاب الأريحية أن يموت ولا يصبر على سماع تلك الكلمة، أو يترك الجواب عليها.
Página desconocida
فلما نعي الحسين في الكوفة نادى واليها ابن زياد إلى الصلاة الجامعة، وصعد إلى المنبر، وخطب القوم فقال: «الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.»
فما أتمها حتى وثب له من جانب المسجد شيخ ضرير هو عبد الله بن عفيف الأزدي الذي ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل، وذهبت عينه الأخرى يوم صفين، فصاح بالوالي غداة يوم انتصاره وزهوه: «يابن مرجانة! أتقتل أبناء النبيين، وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟ وإنما الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه.»
فما طلع عليه الصباح إلا وهو مصلوب.
إلى هذا الأفق الأعلى من الأريحية والنخوة ارتفعت بالنفس الإنسانية نصرة الحسين.
وإلى الأغوار المرذولة من الخسة والأثرة هبطت بالنفس الإنسانية نصرة يزيد. وحسبك من خسة ناصريه، أنهم كانوا يجزون بالحطام وهتك الأعراض على غزو «المدينة» النبوية واستباحة ذمارها فيسرعون إلى الجزاء، يسرعون إليه وليسوا هم بكافرين بالنبي الدفين في تلك المدينة، فيكون لهم عذر الإقدام على أمر لا يعتقدون فيه التحريم!
بل حسبك من خسة ناصريه أنهم كانوا يرعدون من مواجهة الحسين بالضرب في كربلاء؛ لاعتقادهم بكرامته وحقه، ثم ينتزعون لباسه ولباس نسائه فيما انتزعوه من أسلاب! ولو أنهم كانوا يكفرون بدينه وبرسالة جده، لكانوا في شرعة المروءة أقل خسة من ذاك. •••
وتتقابل وسائل النجاح في المزاجين كما تتقابل المقاصد والغايات.
فكان شعار معاوية وأشياعه: «إن لله جنودا من العسل.» وهو يعني العسل الذي يداف بالسم؛ ليخلي طريق النجاح من كل معترض فيها ولو كان من الأصدقاء، فكثرت روايات المؤرخين عن مقتل الحسن بن علي والأشتر النخعي بهؤلاء الجنود! وأعجب منها ما قيل عن مقتل عبد الرحمن بن خالد، وقد كان نصيرا لمعاوية في حروب الشام؛ فإنه قد مات مسموما على ما اشتهر من الروايات لأنه رشح للخلافة بعد معاوية دون يزيد، وعلم ذلك أقرباء عبد الرحمن بن خالد، فقتلوا طبيب معاوية «ابن أثال» الذي اتهموه بسمه في الدواء.
ولو استباح الحسين وشيعته هذه الوسائل مرة واحدة، لكانوا وشيكين أن يبلغوا مقصدهم من قريب، فقد كان هانئ بن عروة شيخ كندة من أنصار الحسين وأبيه، وكانت كندة كلها تطيعه وتلبيه حتى قيل إنه «إذا صرخ لباه منهم ألف سيف». فزاره عبيد الله بن زياد - والي يزيد على الكوفة - ليعوده في بعض مرضه ويتألفه ويستميله إليه، وقيل: إن هانئا عرض على مسلم بن عقيل بن أبي طالب أن يقتل عبيد الله بن زياد وهو عنده، وقيل: إن الذي عرض ذلك رجل من صحبة هانئ المقربين، فأبى مسلم ما عرضه هذا وذاك، وهو يومئذ طلبة ذلك الوالي، وجنوده قد تعقبوه وأهدروا دمه وأجزلوا الوعود لمن يسلمه أو يدل عليه، وقال: «إنا أهل بيت نكره الغدر.» ولو أنه بطش بابن زياد، لقد بطش يومئذ بأكبر أنصار يزيد.
وليقل من شاء: إن قتل ابن زياد كان صوابا راجحا.
Página desconocida
وإن التحرج من قتله كان خطأ فادحا من وجهة السياسة أو من وجهة الأخلاق، فالذي لا يشك فيه أنه إن كان صوابا فهو صواب سهل يستطيعه كثيرون، وإن كان خطأ فهو الخطأ الصعب الذي لا يستطيعه إلا القليلون. •••
كذلك يقول من يقول: إن الأريحية التي سمت إليها طبائع أنصار الحسين، إنما هي أريحية الإيمان الذي يعتقد صاحبه أنه يموت في نصرة الحسين، فيذهب لساعته إلى جنات النعيم. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون المنفعة وحدها باعث الإنسان إلى جميع أعماله، حتى ما صدر منها عن عقيدة وإيمان، وينسون أن المنفعة وحدها لن تفسر لنا حتى الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرائها الفرد طوعا أو كرها في خدمة نوعه، بل ينسون أن أنصار يزيد لا يكرهون جنات النعيم ولا يكفرون بها، فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحسين؟ إنهم لم يطلبوها لأنهم منقادون لغواية أخرى، ولأنهم لا يملكون عزيمة الإيمان ونخوة العقيدة، ولا تلك القوة الخلقية التي يتغلبون بها على رهبة الموت؛ ويقدعون بها وساوس التعلق بالعيش والخنوع للمتعة القريبة، فلولا اختلاف الطبائع لظهر شغف الناس جميعا بجنات النعيم على نحو واحد، ومضى الناس على سنة واحدة في الأريحية والفداء، ومرجع الأمر إذن في آخر المطاف إلى فرق واضح بين طبائع الأريحيين وطبائع النفعيين.
وكذلك يقول من يقول: إن الأريحية في نفوس أنصار الحسين كانت أريحية أفراد معدودين ثبتوا معه، ولم يخذلوه إلى يومه الأخير. وينسى هؤلاء أن الارتفاع ليقاس بالقمة الواحدة كما يقاس بالقمم الكثيرة، وأن الغور ليسبر في مكان واحد كما يسبر في كل مكان، وإنما تكون الندرة هنا أدل على جلالة المرتقى الذي تطيقه النفس الواحدة أو الأنفس المعدودات، ولا تطيقه نفوس الأكثرين.
فمدار الخلاف إذن في هذه الجولة التاريخية إنما هو الفارق الخالد بين مزاجين بارزين كائنا ما كان تفسير المفسرين للعقائد الروحية والمطامع السياسية، ولم يتلاق هذان المزاجان على تناحر وتناجز كما تلاقيا عامة في النزاع بين الطالبيين والأمويين، وخاصة في النزاع بين الحسين ويزيد.
فحياة الحسين - رضي الله عنه - صفحة لا صفحة تماثلها في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين، وبيان ما لكل منهما من عدة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على الأمد القريب.
الفصل الثاني
الخصومة
أسباب التنافس والخصومة
قبل أن يقف الحسين ويزيد متناجزين، كانت الحوادث قد جمعت لهما أسباب التنافس والخصومة منذ أجيال، وكان هذا التنافس بينهما يرجع إلى كل سبب يوجب النفرة بين رجلين: من العصبية، إلى الترات الموروثة، إلى السياسة، إلى العاطفة الشخصية، إلى اختلاف الخليقة والنشأة والتفكير.
تنافس هاشم وأمية على الزعامة قبل أن يولد معاوية؛ فخرج أمية ناقما إلى الشام وبقي هاشم منفردا بزعامة بني عبد مناف في مكة، فكان هذا أول انقسام وتقسيم بين الأمويين والهاشميين: هؤلاء يعتصمون بالشام، وهؤلاء يعتصمون بالحجاز.
Página desconocida
ثم علا نجم «أبي سفيان بن حرب بن أمية» في الحجاز، فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية، فلما ظهرت الدعوة المحمدية أخذته الغيرة على زعامته، فكان في طليعة المحاربين للدعوة الجديدة، وندرت غزوة من الغزوات لم تكن فيها لأبي سفيان إصبع ظاهرة في تأليب القبائل وجمع الأموال، وشاءت المصادفات زمنا من الأزمان أن يظل وحده على زعامة قريش في حربها للنبي
صلى الله عليه وسلم ، فمات الوليد بن المغيرة زعيم مخزوم، ودان زعماء تيم وبني عدي وغيرهم من البطون القرشية الصغيرة بالإسلام، وبقي أبو سفيان وحده على رأس الزعامة الجاهلية والزعامة الأموية في منازلة النبي ومن معه من المهاجرين والأنصار، وبلغ من تغلغل العداء في هذه الأسرة للنبي
صلى الله عليه وسلم
أن أبا لهب عمه كان أوحد أعمامه في الكيد له والتأليب عليه؛ وإنما جاءه هذا من بنائه بأم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان التي وصفها القرآن بأنها «حمالة الحطب»؛ كناية عن السعي في الشر وتأريث نار البغضاء.
ثم فتحت مكة، فوقف أبو سفيان ينظر إلى جيش المسلمين، ويقول للعباس بن عبد المطلب: «والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما.» فلما قال العباس: «إنها النبوة.» قال: «نعم إذن!»
وقد أسلم أبو سفيان وابنه معاوية عند فتح مكة، وكان إسلام بيته أعسر إسلام عرف بعد فتحها، فكانت زوجه هند بنت عتبة تصيح في القوم بعد إسلامه: «اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم!» •••
وظل أبو سفيان إلى ما بعد إسلامه زمنا يحسب غلبة الإسلام غلبة عليه، فنظر إلى النبي مرة، وهو بالمسجد نظرة الحائر المتعجب وهو يقول لنفسه: «ليت شعري بأي شيء غلبني!» فلم يخف عن النبي
صلى الله عليه وسلم
معنى هذه النظرة، وأقبل عليه حتى ضرب يده بين كتفيه، وقال له: «بالله غلبتك يا أبا سفيان!»
وكان في غزوة حنين يشهد المسلمين هزيمة الأولى فيقول: «ما أراهم يقفون دون البحر!» وقيل إنه كان في حروب الشام يهتف كلما تقدم الروم: «إيه بني الأصفر!» فإذا تراجعوا عاد فقال: «ويل لبني الأصفر!» •••
Página desconocida
وقد تألفه النبي
صلى الله عليه وسلم
ما استطاع قبل فتح مكة وبعد فتحها، فتزوج بنته أم حبيبة قبل الفتح، وجعل بيته بعد الفتح حرما «من دخله فهو آمن ومن أغلق عليه داره فهو آمن.» وأقامه على رأس المؤلفة قلوبهم الذين يزاد لهم في العطاء عسى أن يذهب ما في نفوسهم من الكراهة لغلبة الإسلام.
ومع هذا كان المسلمون يوجسون منه فلا ينظرون إليه ولا يقاعدونه، حتى برم بذلك، وأحب أن يمسح ما بصدورهم من قبله؛ فتوسل إلى النبي أن يجعل معاوية كاتبا بين يديه، وأن يأمره ليقاتل الكفار كما كان يقاتل المسلمين.
ثم قبض النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونجم الخلاف على مبايعة الخليفة بعده بين المهاجرين والأنصار وبين بعض الصحابة من جهة أخرى. فاشرأب أبو سفيان إلى هذه الفتنة، وخيل إليه أنه مصيب بين فتوقها ثغرة ينفذ منها إلى السيادة على قريش، ثم السيادة من هذا الطريق على الأمة الإسلامية بأسرها. فدخل على «علي» والعباس، يثيرهما ويعرض عليهما المعونة بما في وسعه من خيل ورجل، فنادى بهما: «يا علي! وأنت يا عباس! ... ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟ والله لو شئت لأملأنها عليه - على أبي بكر - خيلا ورجلا، وآخذنها عليه من أقطارها.»
وهو لا ريب لم يغضب لأن الخلافة قد فاتت بني هاشم، ولا كان يسره أن تصير الخلافة إليهم فتستقر فيهم قرارا لا طاقة له بتحويله، ولكنه أراد خلافا يفتح الباب لزعامة أموية يملك بها زمام قريش والدولة العربية جمعاء.
فلم يخف مقصده هذا على «علي» رضي الله عنه، وقال له: «لا والله لا أريد أن تملأها عليه خيلا ورجلا، ولولا أننا رأينا أبا بكر لذلك أهلا ما خليناه وإياها.»
ثم أنبه قائلا: «يا أبا سفيان! إن المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض، وإن المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم.»
وانقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر، والأمور تجري في مجراها الذي يأخذ على المطامع سبيلها، ويخيف أصحاب الفتن أن يبرزوا بها من جحورها.
Página desconocida
حتى قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الأمويون أيما انتصار؛ لأنه رأس من رءوسهم وابن عم قريب لزعماء بيوتهم، وأصبحت الدولة الإسلامية أموية لا يطمع في خيراتها ولا ولاياتها إلا من كان من أمية أو من حزبها، فمروان بن الحكم وزير الخليفة الأكبر يغدق العطاء على الأقرباء ويحبسه عن سائر الناس، ومعاوية بن بي سفيان والي الشام يجتذب إليه الأقرباء والأولياء ومن يرجى منهم العون ويخشى منهم الخلاف.
فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - كان المنتفعون بمناصب الدولة وأموالها جميعا من الأمويين أو من صنائعهم المقربين، ومال السلطان إلى جانب أمية على كل جانب آخر من القرشيين وغير القرشيين. •••
لا جرم كان الصراع بعد ذلك صراعا معروف النهاية من مطلع البداية، فقتل علي بن أبي طالب غيلة، وخلصت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.
ثم بايع أناس من أهل العراق وفارس الحسن بن علي، فلم يستقم له أمرهم، وضاق صدره بجدالهم ومحالهم، وكان رجلا سكيتا يكره المنازعة ويجنح إلى العزلة، فصالح معاوية على شروط وفى له معاوية بالمعجل منها والتوى عليه بمؤجلها، وزاد على ذلك كما تواتر في شتى الروايات أنه أغرى امرأته «جعدة بنت الأشعث» بسمه، ووعدها أن يزوجها يزيد ويعطيها مائة ألف درهم، فوفى بوعد المال ولم يف بوعد الزواج.
وقد أوصى الحسن - رضي الله عنه - أن يدفن عند قبر جده إلا أن تخاف فتنة، فلما توفي أرادوا دفنه حيث أوصى، فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وزمرتهم ومنعوا مشيعيه. فأنكر الحسين عليهم منع سبط النبي أن يدفن إلى جوار جده، فقيل له: «إن أخاك قال إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين سعة. وهذه فتنة.» فسكت على مضض.
أهداف معاوية
وقد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته من بعده، منذ تصدى للخلافة، وخلا له المجال من أقوى منافسيه، إلا أنه كان يتردد ويتكتم ولا يفضي بنيته إلى أقرب المقربين إليه، ثم كبرت سنه وخاف أن يعجل عن قصده، فمهد لبيعة ابنه يزيد بعض التمهيد، وتوسل إلى ذلك بما طاب له من وسيلة؛ فلباه أهل الشام وكتب بيعته إلى الآفاق، ثم همه أمر الحجاز فكتب إلى مروان بن الحكم عامله أن يجمع من قبله لأخذ البيعة منهم ليزيد، فأبى مروان وأغرى رءوس قريش بالإباء لأنه كان يتطلع إلى الخلافة بعد معاوية ويحسبه أقدر عليها من يزيد؛ لما اشتهر به من نقص وعبث ... فعزله معاوية وولى سعيد بن العاص مكانه، فلم يجبه أحد إلى ما أراد، فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، وأمر عامله سعيدا أن يوصل كتبه إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وقال لسعيد: «فهمت ما ذكرت من إبطاء الناس، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا فسلمها إليهم، ولتشد عزيمتك وتحسن نيتك، وعليك بالرفق، وانظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك إن ساورته ألا تقوى عليه.» •••
فأعيت سعيد بن العاص كل حيلة في إقناع وجهاء الناس وعامتهم بهذه البيعة البغيضة، وخف معاوية إلى مكة ومعه الجند وحقائب الأموال، ودعا بأولئك النفر ، فقال لهم: «قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم، يزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدموا يزيد باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون، وتجبون المال وتقسمونه.»
فأجاب عبد الله بن الزبير، وخيره بين أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف أحدا، أو كما صنع أبو بكر إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه، أو كما صنع عمر إذ جعل الأمر شورى في سته نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.
فقال معاوية مغضبا: «هل عندك غير هذا؟»
Página desconocida
قال: «لا!»
والتفت إلى الآخرين يسألهم قائلا: «فأنتم؟» فوافقوا ابن الزبير.
فقال متوعدا: «أعذر من أنذر! إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة، فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه!»
ثم أمر صاحب حرسه أن يقيم على رأس كل منهم رجلين مع كل واحد منهما سيف، وقال له: «إن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفيهما.»
ثم خرج بهم إلى المسجد ورقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبرم أمر دونهم ولا يقضى إلا على مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوه على اسم الله.» فبايع الناس.
وهكذا كانت البيعة ليزيد في الحجاز. •••
ومات معاوية وهو يعلم أن بيعة كهذه لا تجوز ولا تؤمن عقباها؛ فأوصى ابنه «أنه لا يخاف إلا هؤلاء من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير». قال: «فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فلا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما، أما ابن الزبير فإنه خب ضب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فإن هو فعلها فقدرت عليه، فقطعه إربا إربا إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت.»
خلافة يزيد
وآل الأمر على هذا النحو إلى يزيد في سنة ستين للهجرة، وهو بين الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين، ولكنه دون أنداده في تجارب الأيام، وليس حوله من المشيرين والنصحاء أمثال المغيرة وزياد وعمرو بن العاص، وغيرهم من القروم الذين كانوا حول أبيه؛ فتهيب ما هو مقدم عليه، وكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: أن «خذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام».
فبعث الوليد إلى مروان بن الحكم يستشيره، وكان مروان يريد الخلافة لنفسه، ولكنه علم بعد موت معاوية وقيام يزيد أن الأمر اليوم أمر بني أمية، فإن خرج منهم فقد خرج منهم أجمعين، فنصح للوليد نصيحة ذات وجهين: ظاهرها الشدة في الدعوة ليزيد، وباطنها السعي إلى الخلاص من يزيد ومنافسيه. فقال: «أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة، أما ابن عمر فلا أراه يرى القتال، ولكن عليك بالحسين وعبد الله بن الزبير، فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما.»
Página desconocida
وضرب عنق الحسين وابن الزبير معناه الخلاص من أعظم المنافسين ليزيد، ثم الخلاص من زيد نفسه بإثارة النفوس وإيغار الصدور عليه! •••
وقد ذهب رسول الوليد إلى الحسين وابن الزبير، فوجدهما في المسجد؛ فعلم الحسين ما يراد منه، وجمع طائفة من مواليه يحملون السلاح، وقال لهم وهو يدخل بيت الوليد: «إن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج عليكم.»
فلما عرضوا عليه البيعة ليزيد قال: «أما البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تقنع بها مني سرا.»
قال الوليد: «أجل!»
قال الحسين: «فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحدا.»
ثم انصرف ومروان غاضب صامت لا يتكلم، وما هو إلا أن توارى الحسين حتى صاح بالوليد: «عصيتني والله! لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه.»
فأنكر الوليد لجاجته وقال له: «أتشير علي بقتل الحسين! والله إن الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله.» •••
وهكذا انتهت المنافسة بين بني أمية وبني هاشم إلى مفترق طريق لا سبيل فيه إلى توفيق، ولم تنقطع قط سلسلة هذه المنافسة منذ أجيال، وإن غلبها الإسلام في عهد النبوة، وفي عهد الصديق والفاروق.
وكفى بالإسلام فضلا في هذا المجال أنه غلب العصبية بالعقيدة، فجعلها تابعة لها غير قادرة على الجهر بمخالفتها! ولكن العصبية المكبوحة عصبية موجودة غير معدومة. •••
وكثيرا ما يفلت المكبوح من عنانه، وإن طالت به الرياضة والانقياد.
Página desconocida
فاتفق كثيرا في مساجلات شتى بين كبار الصحابة، أن بدرت إلى اللسان بوادر العصبية والنبي
صلى الله عليه وسلم
حاضر، فلما أشار عمر بقتل أبي سفيان - على خلاف رأي العباس في استبقائه وتألفه - قال العباس: «مهلا يا عمر! فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال عبد مناف.»
ولما توثب أسيد بن حضير لضرب أعناق المفترين على السيدة عائشة، ثار به سعد بن عبادة وصاح به: «كذبت لعمر الله! ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذا المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك - الأوس - ما قلت هذا.»
وقد مات الفاروق وهو يوصي عليا فيقول: «اتق الله يا علي، إن وليت شيئا فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين.» ثم يلتفت إلى عثمان فيقول له: «اتق الله، إن وليت شيئا فلا تحملن بني أمية على رقاب المسلمين.» •••
ومن عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الإنسانية أن تبقي وجودها وتمضي لطيتها، أن بني أمية انتفعوا من حرب الإسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجة على بني هاشم أن النبوة لا تحصر الأمر فيهم، وأن الأنبياء لا يورثون. وإذا نهضت هذه الحجة على بني هاشم، فبنو أمية أقوى المنتفعين بها من بطون عبد مناف!
وقد أوجبت الضرورة قبول المجاملة في هذه المنافسات فترة من الزمن على عهد معاوية بن أبي سفيان، فكان يلطف القول إلى أبناء علي ويواليهم بالهدايا والمجاملات، ولكنه كان مضطرا إلى مجاملة آل علي ومضطرا إلى تنقص علي والغض من دعواه، فكان بذلك مضطرا إلى النقيضين في آن.
إنه ملك وبايع بالملك ليزيد وهو يعلم أنه غالب بالسلاح والمال، مغلوب بالسمعة والشعور، فكان الناس يفضلون عليا عليه، وهو لا يملك أن يفاضله بقرابة النبي، ولا بالسابقة إلى الإسلام، ولا بالعراقة في قريش، فتجنب النسب والسابقة، وعمد إلى شخص علي في منازعات الخلافة؛ فاتهمه بتفرقة الكلمة بين المسلمين، وأمر بلعنه على المنابر عسى أن يضعف من تلك المكانة التي هو مغلوب بها، ويستبقي الدولة التي هو بها غالب، ولج في ذلك حتى قتل أناسا لم يطيعوه في لعن علي واتهامه، وأبى أن يجيب الحسن بن علي إلى شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه. وكان معاوية على حصافته يجهل أنه قد أضاع سمعة وشعورا من حيث حارب عليا في مقام السمعة والشعور.
وإن مجاملة كهذه التي تحيي الرجل وتغض من قدر أبيه لهي أضعف مجاملة بين متلاقيين، فضلا عن خصمين متنافسين قد آل بهما التنافس بعد أجيال إلى مفترق الطريق.
زواج الحسين
Página desconocida
وكأنما كانت هذه المنافسة المؤصلة الجذور لا تكفي قصاص التاريخ، فأضاف إليها أناس من ثقاتهم قصة منافسة أخرى هي وحدها كافية للنفرة بين قلبين متآلفين، وهي قصة زواج الحسين - رضي الله عنه - بزينب بنت إسحاق التي كان يهواها يزيد هوى أدنفه وأعياه.
وكانت زينب هذه على ما قيل أشهر فتيات زمانها بالجمال، وكانت زوجة لعبد الله بن سلام القرشي والي العراق من قبل معاوية.
فمرض يزيد بحبها وأخفى سره عن أهله، حتى استخرجه منه بعض خصيان القصر الذين يعينونه على شهواته، فلما علم أبوه سر مرضه أرسل في طلب عبد الله بن سلام، واستدعى إليه أبا هريرة وأبا الدرداء، فقال لهما: إن له ابنة يريد زواجها ولم يرض لها حليلا غير ابن سلام ؛ ولدينه وفضله وشرفه ورغبة معاوية في تكريمه وتقريبه، فخدع ابن سلام بما بلغه وفاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكل معاوية الأمر إلى أبي هريرة ليبلغها ويستمع جوابها، فكان جوابها المتفق عليه بينها وبين أبيها أنها لا تكره ما اختاروه، ولكنها تخشى الضر وتشفق أن يسوقها إلى ما يغضب الله، فطلق ابن سلام زوجته واستنجز معاوية وعده، فإذا هو يلويه به، ويقول بلسان ابنته إنها توجس من رجل يطلق زوجته وهي ابنة عمه وأجمل نساء عصره.
وقيل إن الحسين سمع بهذه المكيدة، فسأل أبا هريرة أن يذكره عند زينب خاطبا، فصدع أبو هريرة بأمره، وقال لزينب: «إنك لا تعدمين طلابا خيرا من عبد الله بن سلام.»
قالت: «من؟» قال: «يزيد بن معاوية والحسين بن علي، وهما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال.»
واستشارته في اختيار أيهما، فقال: «لا أختار فم أحد على فم قبله رسول الله، تضعين شفتيك في موضع شفتيه.»
فقالت: «لا أختار على الحسين بن علي أحدا، وهو ريحانة النبي، وسيد شباب أهل الجنة.»
فقال معاوية متغيظا:
أنعمي أم خالد
رب ساع لقاعد
Página desconocida
ولم يلبث الحسين أن ردها إلى زوجها قائلا: «ما أدخلتها في بيتي وتحت نكاحي رغبة في مالها ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها.»
فإن صحت هذه القصة وهي متواترة في تواريخ الثقات، فقد تم بها ما نقص من النفرة والخصومة بين الرجلين، وكان قيام يزيد على الخلافة يوم فصل في هذه الخصومة لا يقبل الإرجاء، وكان بينهما كما أسلفنا مفترق طريق.
الفصل الثالث
الخصمان
موازنة
لخص المقريزي المنافسة التي بين الهاشميين والأمويين في بيتين فقال:
عبد شمس قد أضرمت لبني ها
شم حربا يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى، وابن هند
لعلي، وللحسين يزيد
Página desconocida
وسنعرض في ختام هذا الفصل عرضا موجزا لهذه المقابلة المتسلسلة بين أفراد الأسرتين لتحقيق الرأي فيها، ولكننا نجتزئ هنا بالمقابلة بين الخصمين المتصاولين من هاشم وعبد شمس في شخصي الحسين ويزيد؛ فأيا كان الميزان الذي يوزن به كل من الرجلين، فلا مراء البتة في خير الرجلين.
وما من رجل فاز حيث ينبغي أن يخيب، كما قد فاز يزيد بن معاوية في حربه للحسين، وما اختصم رجلان كان أحدهما أوضح حقا وأظهر فضلا من الحسين في خصومته ليزيد بن معاوية.
والموازنة بين هذين الخصمين هي في بعض وجوهها موازنة بين الهاشميين والأمويين من بداءة الخلاف بين الأسرتين، وهي موازنة حفظت كفتيها على وضعهما زهاء سبعة قرون، فلم يظهر في هذه القرون أموي قح، إلا ظهرت فيه الخصال الأموية المعهودة في القبيلة بأسرها، ولم يظهر في خلالها هاشمي قح، إلا رأيت فيه ملامح من تلك الخصال التي بلغت مثلها الأعلى في محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم .
والهاشميون والأمويون من أرومة واحدة ترتفع إلى عبد مناف، ثم إلى قريش في أصلها الأصيل.
ولكن الأسرتين تختلفان في الأخلاق والأمزجة وإن اتحدتا في الأرومة؛ فبنو هاشم في الأغلب الأعم مثاليون أريحيون ولا سيما أبناء فاطمة الزهراء، وبنو أمية في الأغلب الأعم عمليون نفعيون، ولا سيما الأصلاء منهم في عبد شمس من الآباء والأمهات.
وتفسير هذا الاختلاف مع اتحاد الأرومة غير عسير؛ فإن الأخوين في البيت الواحد قد يختلفان في الأخلاق والأعمال، كما يختلف الغريبان من أمتين بعيدتين، تبعا لاختلاف سلسلة الميراث في الأصول والفروع، على ذلك النحو الذي يأذن أحيانا باختلاف الألوان والملامح في نسل واحد، تأخذ كل شعبة منه بناحية من نواحي الوراثة. •••
ومن الثابت الذي لا نزاع فيه أن عبد المطلب وأمية كانا يختلفان حتى في الصورة والقامة والملامح.
وفي نسل أمية شبهة نشير إليها ولا نزيد، فهي محل الإشارة والمراجعة في هذا المقام.
دخل دغفل النسابة على معاوية فقال له: «من رأيت من عليه قريش؟» فقال: «رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس.» فقال: «صفهما لي.» فقال: «كان عبد المطلب أبيض، مديد القامة، حسن الوجه، في جبينه نور النبوة وعز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب.» قال: «فصف أمية.» قال: «رأيته شيخا قصيرا، نحيف الجسم ضريرا، يقوده عبده ذكوان.» فقال معاوية: «مه! ذاك ابنه أبو عمرو.» فقال دغفل: «ذلك شيء قلتموه بعد وأحدثتموه. وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به.»
Página desconocida
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب المثالب أن أبا عمرو بن أمية كان عبدا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه، ونقل أبو الفرج الأصفهاني - وهو من الأمويين - ما تقدم فلم يعرض له بتفنيد.
ووضح الفرق بين بني هاشم وبني أمية في الخلائق والمناقب في الجاهلية قبل الإسلام. فكان الهاشميون سراعا إلى النجدة ونصرة الحق والتعاون عليه. ولم يكن بنو أمية كذلك، فتخلفوا عن حلف الفضول الذي نهض به بنو هاشم وحلفاؤهم، وهو الحلف الذي اتفق فيه نخبة من رؤساء قريش «ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه، وليأخذن أنفسهم بالتآسي في المعاش والتساهم في المال، وليمنعن القوي من ظلم الضعيف والقاطن من عنف الغريب»، واتفقوا على هذا الحلف لأن العاص بن وائل اشترى بضاعة من رجل زبيدي ولواه بثمنها، فنصروا الرجل الغريب على القرشي وأعطوه حقه.
ولما تنافر عبد المطلب وحرب بن أمية إلى نفيل بن عدي، قضى لعبد المطلب وقال لحرب:
أبوك معاهر وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد الحرام
يشير إلى فيل أبرهة الذي أغار به على مكة، وقال عن أمية إنه «معاهر»؛ لأنه كان يتعرض للنساء، وقد ضرب بالسيف مرة لأنه تعرض لامرأة من بني زهرة، وكان له تصرف عجيب في علاقات الزواج والبنوة، فاستلحق عبده ذكوان وزوجه امرأته في حياته، ولم يعرف سيد من سادات الجاهلية قط صنع هذا الصنيع.
اختلاف النشأة
وندع اختلاف الطبائع ومغامز النسب، ثم ننظر في اختلاف النشأة والعادة - مع اختلاف الخلقة الجسدية - فنرى أنهما صالحتان لتفسير الفارق بين أبناء هاشم وأبناء عبد شمس بعد جيلين أو ثلاثة أجيال.
فقد كان بنو هاشم يعملون في الرئاسة الدينية، وبنو عبد شمس يعملون في التجارة أو الرئاسة السياسية، وهما ما هما في الجاهلية من الربا والمماكسة والغبن والتطفيف والتزييف، فلا عجب أن يختلفا هذا الاختلاف بين أخلاق الصراحة وأخلاق المساومة، وبين وسائل الإيمان ووسائل الحيلة على النجاح.
ويتفق كثيرا في الكهانات أن يتصف رؤساء الأديان بصفات الرياء والدهاء والعبث بأحلام الأغرار والجهلاء، ولكنهم يتصفون بهذه الصفة حين يعلمون الكذب فيما يمارسون من شعائر الكهانة ومظاهر العبادة، ويتخذونها صناعة يروجونها لمنفعتهم أو لما يقدرون فيها من منفعة أولئك الأغرار والجهلاء.
Página desconocida