فلما رأى أبو مسلم مصرع الكرماني تظاهر بالأسف، وتوقع فشل اليمنية، وإذا بعلي بن الكرماني قد هجم يطالب بثأر أبيه، فهجم أبو مسلم معه، ونادى رجاله فهجموا جميعا على نصر ورجاله فأرجعوهم عن مواقفهم، ثم تراجع الجيشان.
رجع أبو مسلم من المعركة وقد سره مقتل الكرماني، وأخذ في أثناء رجوعه يعمل فكرته في تدبير الحيلة لمقتل ابنه علي، ولكنه رأى أن يستعين به على نصر أولا ثم يقتله ويقتل شيبان الخارجي، فوصل معسكره واجتمع إليه النقباء، فنظر إليهم وهو يقول: «ألم يكن رأينا صوابا؟ قتلنا الكرماني ولم نسفك نقطة من دماء رجالنا. والرأي فوق شجاعة الشجعان.»
فأعجبوا بدهائه، وعظم إيمانهم بفوزه في سياسته، فازدادوا تفانيا في طاعته وقالوا: «مر بما تشاء؛ فإنك صاحب الرأي النافذ والقول الفصل.» واشتغلوا في مهامهم.
الفصل التاسع والعشرون
العروس في بيت حميها
أما جلنار فقد تركناها في القبة ذاهبة إلى معسكر الكرماني، وقبل وصولها جاءها وفد من رجال الكرماني استقبلوها وأنزلوها في خباء خاص نصبوه في مؤخر المعسكر، وأنزلوا فيه أحمال الآنية والفرش، وأدخلوا جلنار غرفة من غرفه ليس فيها من النساء سواها، ومعها بعض الجواري وريحانة. وقد زادت تعلقا بها في هذه الغربة، وأصبحت لا تصبر على فراقها لحظة. وكانت ريحانة أكثر تعلقا بها للسبب نفسه، وأحست بأنها مسئولة عنها وحدها. وقد علمت بما يهددها من الأخطار الجسام. فوطنت النفس على بذل كل ما في وسعها لراحتها وسلامتها.
فلما وصلت جلنار إلى الخباء سبقتها الجواري إلى تهيئة ما يلزم من أسباب الراحة، واشتغل الضحاك في إنزال الأحمال ومعه العبيد والخدم. ثم جاءت ريحانة إلى جلنار فأدخلتها غرفتها، وأخذت تنزع ما عليها من ثياب السفر وتلبسها ثوب البيت وهي صامتة لا تتكلم، ثم لاحت منها التفاتة إلى جلنار فرأت عينيها تدمع، فانقبضت نفسها وابتدرتها قائلة: «ما الذي يبكيك يا مولاتي؟» ولم تكد تلفظ هذه العبارة حتى اختنق صوتها وغصت بريقها، فاكتفت جلنار بما شاهدته من ريحانة ولم تجبها، فتشاغلت ريحانة بتصفيف شعر سيدتها وتجلدت وأعادت السؤال وهي تحذر أن يختنق صوتها وقالت: «ما بالك - يا مولاتي - لا تجيبين عن سؤالي؟»
فالتفتت جلنار إلى ريحانة والدمع يتلألأ في عينيها، وقالت بالفارسية: «أتسألينني عن السبب وأنت أعلم به مني؟ أين نحن الآن؟ كيف خرجت من دار أبي وقد كنت فيها في حصن حصين، وجئت إلى دار الحرب، والنبال تتساقط على فسطاطي، ثم إني لا أعرف إلى من أنا صائرة.»
فأحبت ريحانة أن تخفف عنها فقالت وهي تتظاهر بالابتسام: «أنت صائرة إلى الأمير علي بن الكرماني، وكل هذا المعسكر رهن إشارتك.»
قالت: «وأين هو علي هذا؟ إني لم أره، ولو رأيته ما عرفته. سامحك الله يا أبتاه! لقد فرطت في. بل اللوم علي؛ كيف أسلم نفسي لرجل لا أعرفه ولم أره؟ وقد وصلت إلى منزله ولم أجده.»
Página desconocida