فلا غرابة إذا أصبح لكل واحد من أصحاب مكاتب الفجالة اختصاص وزبائن معينون، وامتاز كل واحد منهم بدرجة معينة من العلم بفن الكتب وتجارتها.
فمنهم الجاهل الذي تضحك عليه، ومنهم الحريص الذي يكفيه نظرة واحدة إليك ليتبين درجة حاجتك إلى كتاب تقلبه بين يديك، ومنهم الخبير بالكتب النادرة والمطبوعات القديمة في مصر والشام والهند.
وكان شيخ هؤلاء التجار العلماء وأكبرهم سنا وأحذقهم وأدراهم المرحوم يوسف إليان سركيس الدمشقي، الذي توفي تاركا فراغا يعسر ملؤه ولو طال الزمن وكثر عدد المتوثبين على تجارة الكتب والنظر فيها.
ولد المرحوم سركيس في دمشق سنة 1856، واستوطن وأهله مدينة بيروت بعد حوادث سنة 1860.
وقضى 35 سنة في خدمة البنك السلطاني العثماني كاتبا ومديرا في بيروت ودمشق وقبرص وأنقرة والآستانة. ثم جاء إلى مصر سنة 1912، واشتغل بتجارة الكتب القديمة والتوصية على ما يطلبه تجار الجملة وغيرهم من مكاتب سوريا وتركيا.
وبدأ عمله بمصر في شقة بأحد منازل شارع الفجالة، ثم أنشأ المكتبة المعروفة باسمه وأولاده أمام قهوة الشانزليزيه.
ولكنك قل أن كنت تجده في مكتبته؛ لأنه لم يكن يفتر عن السعي و«الجري والرمح» وتحت إبطيه رزمة من الكتب القديمة، فإما «لقطة» ابتاعها بالثمن البخس أو «بيعة» لدار الكتب وغيرها من الهواة.
ولم تمنعه مشاغل الوظيفة في البنك العثماني وتجارة الكتب القديمة والحديثة عن العمل لخير الإنسانية، فتولى رياسة جمعيات خيرية عدة في بيروت ومصر، وأنشأ ملجأ في بيروت لإيواء أبناء الفقراء وتعليمهم، فتخرج فيه المئات مزودين بالعلم والأدب والصناعات اليدوية المختلفة.
ووضع في أيام شبابه وكهولته عدة كتب تأليفا وترجمة، منها: «أنفس الآثار في أشهر الأمصار» (وهي رحلته من الآستانة إلى روما في سنة 1903)، و«الرحلة الجوية في المركبة الهوائية» مترجمة عن جول فيرن، و«عاص وشجعان»، و«مائة حكاية وحكاية» بالفرنسوية والعربية، و«مختصر التاريخ المقدس» باللغتين. ووقف على طبع كتاب «الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب» لابن الشحنة، وكتاب «جامع الحجج الراهنة» للمطران يوسف داود مع تذييله بنقد علمي تاريخي.
على أن أهم ما كان يمتاز به الخواجا سركيس منذ حداثته النظر العميق في الآثار وجمع النقود القديمة والعناية بالكتب القديمة والمخطوطات ودراستها.
Página desconocida