[
أبو هريرة راوية الإسلام
]</span>
المؤلف: الدكتور محمد عجاج خطيب
الناشر: مكتبة وهبة
الطبعة: الثالثة، 1402 ه - 1982
عدد الأجزاء: 1
أعده للشاملة ودققه/ توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Página 1
الطبعة الثالثة:
شعبان 1403 ه - يونية سنة 1982 م
Página 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثالثة:
الحمد لله حمدا كثيرا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الذي بنعمته تتم الصالحات، وتعم الخيرات، سبحانك ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، خير من اصطفى من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد .. فهذه هي الطبعة الثالثة لكتاب «أبو هريرة .. راوية الإسلام» أقدمها إلى أعزائي قراء العربية من العلماء والباحثين والطلاب والعاملين في رحاب العلم عامة، وميدان السنة خاصة. وكنت قد أقدمت على الكتابة في الصحابي الجليل أبي هريرة - رضي الله عنه - إثر الحملة المغرضة التي أثارها حوله وحول مروياته بعض أهل الأهواء، وبعض المغرضين من أعداء الإسلام، الذين قلبوا الحق باطلا والصدق كذبا، ولم أخض لجج هذا الخصم إلا إنصافا لهذا الصحابي، ودفاعا عن السنة، وانتصارا للحق، وما أن ظهرت تلك الطبعة في القاهرة - حماها الله وسائر بلاد الإسلام - سنة 1383 ه - 1963 م حتى تداول القراء الكتاب، وعم انتشاره بين أهل العلم وطلابه، في مصر وخارجها من بلاد العرب والمسلمين، ونفدت تلك الطبعة بعد فترة قصيرة، ثم أعاد بعض الأفاضل طبعه ثانية في لبنان سدا لحاجة القراء، ولم أتمكن آنذاك من زيادة ما عندي على الطبعة الأولى، لكثرة واجباتي، ونفدت الطبعة الثانية، وكثر طلب الكتاب، فكان لزاما على أن أسد حاجة القراء بإعادة طبعه، بعد أن أضفت عليه
Página 4
في بعض أبحاثه ما رأيته هاما ومتمما للفائدة. سائلا الله - عز وجل - أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يحقق الغاية المرجوة من هذا الكتاب، وينفع به، إنه خير مسؤول، وبالإجابة جدير، وهو ولي التوفيق والسداد.
مدينة العين
13 ربيع الأول سنة 1402 ه - 9 يناير 1982 م
محمد عجاج الخطيب الحسني الدمشقي
***
Página 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه، الذين اتبعوه، فوفقوا أعظم التوفيق في حفظ الرسالة، وأداء الأمانة، ونشر الدعوة، التي خلصت العرب من قيود الوثنية، ومدتهم بقوة الإيمان، وحملتهم مسؤولية هداية العالم، فما أن فتح العرب الأوائل عيونهم على نور الإسلام، وفهموا القرآن، وأبصروا طريق الحق بعد الضلال، وسعدوا بالمعرفة بعد الجهل - حتى انطلقوا يحملون لواء الحرية، ومشعل النور والعرفان، يضيئون للإنسانية سبيلا، ويوجهون نحو المجد والعزة ركبها، وينقلون العالم إلى السعادة والخير، فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.
وبعد .. فإنه لم يرق لأعداء الإسلام أن يروا هذا الدين، قد صلب عوده، واستوى ساقه، وأثمرت أزهاره، وأينعت ثماره، مما حال بينهم وبين استغلال المسلمين، واستنزاف خيرات بلادهم، وقضى على مصالحهم الاستغلالية، ولم تعد تجدهم وسائل القوة لتحقيق مآربهم والوصول إلى غايتهم، فرأوا أن تدسوا السم في عقائد المسلمين، ليسلخوهم عنه، فعملوا على تغيير وجه الإسلام وتشويهه بمختلف طرق الدعاية الجذابة، وافتنوا في وسائل التبشير المغرية، فشككوا بعض ضعاف القلوب - ممن يحسبون على الإسلام - في تعاليمه وأحكامه، وكان من الصعب عليهم أن يعبثوا بالقرآن الكريم الأصل التشريعي الأول، عليهم فحاولوا أن يطرقوا باب السنة، فاتهموا كبار نقلتها، وأئمة حفاظها، لإضعاف جانب عظيم من الحديث النبوي، قاصدين من وراء هذا تشكيك المسلمين
Página 5
في السنة الطاهرة، ليطرحوها - وهي المفسرة المبينة للقرآن الكريم - فتبعد الشقة بين المسلمين وفهم قرآنهم، ويبدو القرآن غريبا عنهم مع مر الزمن، وبهذا يتم لأعداء الإسلام ما يريدون.
وقد شاعت هذه الأفكار في أبحاث بعض المستشرقين، وحملها عنهم بعض من ينسب إلى أهل العلم، وروجها أشياعهم من أهل الأهواء.
ولكنا نعلم وجميع المنصفين يعلمون أن السنة انتقلت إلينا جيلا بعد جيل، على أسلم طرق التثبت العلمي، فقد بذل العلماء قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على السنة، فرحلوا في طلب الحديث، وتحملوا مشاق السفر، وتركوا الأهل والأوطان، وحفظوا الأحاديث بأسانيدها، وذكروا طرق كل حديث، وبينوا نقلته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومازوا الضعيف من الصحيح، ونقدوا الرواة، نقدا علميا دقيقا، ولم يقبلوا الحديث إلا عن الثقات.
وقد أجمعت الأمة على عدالة الصحابة، الذين سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتخرجوا في حلقاته، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل الدعوة إلى الله، وإرساء قواعد الإسلام وحفظ الشريعة الحنيفة.
وكان الصحابي الجليل أبو هريرة أحد كبار الصحابة الذين رووا عن الرسول الأمين - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - الكثير الطيب، وروى عنه كثير من التابعين، فكان أكثر صحابي روي عنه الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لذلك وجه إليه أعداء الإسلام، وبعض أهل الأهواء سهام طعونهم فأعلنوها عليه حربا شعواء لا هوادة فيها، وتحاملوا عليه، واتهموه في بعض ما روى عنه، واستهزأوا ببعض مروياته، حتى أن بعضهم جعله في مصاف الوضاعين والكذابين، وفي زمرة أهل الجحيم.
وقد هالني أن أجد راوية الإسلام تلوكه الألسن المغرضة، وتتناوله أقلام الباطل، فرأيت من واجبي كمسلم أولا، وكمشتغل في السنة وعلومها
Página 6
ثانيا، أن أكشف عن الحقيقة مهما تكن نتائجها، غير منحاز ولا متحامل، قاصدا في هذا وجه الله العلي القدير، لأنصف راوية الإسلام أبا هريرة، وأضع الحق في نصابه، فأقدمت على هذا البحث، تحف به الصعاب من كل جانب، وتناولت أمهات المراجع: المخطوط منها والمطبوع، فإذا بصورة أبي هريرة تبدو واضحة صافية، لا شية فيها، تشرق بماض مجيد، وبروح سامية وبنفس طيبة لتكون شخصيته العلمية القوية، فيتجلى بطلان تلك الطعون التي وجهت إليه من خلال نظرات خاصة، أو أهواء متبعة، أو غايات هدامة، وتتضح مخالفتها للواقع التاريخي، وللحقيقة العلمية، لهذا رأيت أن أستكمل دراسة أبي هريرة بتفنيد تلك الشبهات التي أثيرت حوله على ضوء دراستي إياه، ولما كان الطعن في أبي هريرة ذريعة للطعن في غيره من الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين - لتوهين السنة ورفض العمل بها رأيت من الواجب أن أمهد للبحث بما يقتضيه فكان الموضوع في تمهيد وبابين:
التمهيد:
تناولت فيه العرب ورسالة الإسلام، ثم تكلمت عن السنة والمقصود بها لغة وشرعا، ثم بينت مكانة السنة من القرآن الكريم، وتماسك الأمة بها والمحافظة عليها، والعمل بها، ثم بينت منزلة الصحابة وعدالتهم.
وبعد ذلك تكلمت عن حفظ السنة وصيانتها وانتشارها، وأهم ما صنف فيها. لأن في هذا ما يرحض عن السنة الطاهرة أدران أعدائها.
الباب الأول: وفيه فصلان:
الفصل الأول: تناولت فيه حياة أبي هريرة في مختلف مظاهرها، الخاصة والعامة.
الفصل الثاني: حياة أبي هريرة العلمية، بينت فيه نشاط أبي هريرة العلمي، وطرق تحمله الحديث ونشره السنة، ومنزلته العلمية، ورأي العلماء فيه.
Página 7
الباب الثاني: عرضت فيه ما أثاره بعض أهل الأهواء، وبعض الكاتبين والمستشرقين من طعون حوله، وناقشتها وبينت وجه الحق فيها.
وإني لأرجو الله أن أكون قد وفقت بهذه الطريقة، لعرض الموضوع بشكل يحقق الغاية منه. وأخيرا لا بد لي من أن أتوجه بشكري العميق إلى أستاذي الجليل فضيلة الشيخ علي حسب الله، أستاذ الشريعة الإسلامية والدراسات العليا في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، فقد تفضل علي بقراءته هذا البحث، قراءة دقيقة فأفدت من ملاحظاته، مما شجعني على التفكير في طبعه ونشره، دفاعا عن السنة الطاهرة، وعن رواتها الأمناء؛ فجزاه الله خير الجزاء.
وختاما .. أرجو كل من يطلع على هذ الكتاب، فيجد فيه ما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، أن يفيدني بما عنده ..
والله الموفق إلى الصواب
محمد عجاج الخطيب
القاهرة: 10 رمضان سنة 1381 ه - 15 فبراير سنة 1962 م.
***
Página 8
تمهيد:
- العرب ورسالة الإسلام.
- حول السنة.
- السنة ومكانتها من القرآن الكريم.
- عدالة الصحابة.
- حفظ السنة وانتشارها.
Página 9
العرب ورسالة الإسلام:
منذ أربعة عشر قرنا، بينما كان يعيش العالم كله في ظلام فكري، وتأخر علمي، وظلم اجتماعي، أشرقت في أرض الجزيرة العربية شمس الهداية، وعلت في الأفق تطارد ذاك الظلام، تنير للعالم سبيله، وترسم له طريق التقدم والرقي والنجاح.
تلك الشمس شمس النبوة التي حملها محمدا - صلى الله عليه وسلم -، إذ بعثه الله - عز وجل -. {بالحق بشيرا ونذيرا} (1) {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (2).
وشرفه بالرسالة السامية الخالدة، إلى الناس كافة ..
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (3).
وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (4)، {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} (5). [سبأ: 28]
وأمره أن يبلغ أحكام الإسلام وتعاليمه فقال:
{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} (6).
ومن فضل الله على الأمة العربية أن بعث فيهم: {رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (7).
Página 11
فأمره أن يدعو أهله وعشيرته، فقال:
{وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (1).
وقال عز من قائل:
{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير} (2).
أمره أن يدعو قومه إلى سبيل الرشاد، ليحملوا عبء تبليغ الرسالة إلى الأمم الأخرى، فيكون لهم شرف المبلغ الهادي، ويخلد اسمهم أبد الدهر، كما أراد الله للرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام -، وللأمة العربية التي تلقت الرسالة، وانطلقت تحرر العالم من الظلم والطغيان، وتوجه مركب الإنسانية إلى شاطئ السلام، وتخرجه من الظلمات إلى النور، سالكة سبيل الهداية والحق، حاملة لواء التحرير ... بعد أن تنكب الناس الصراط المستقيم، وتخبطوا في غياهب الجهالة والضلال.
إلا أن هداية العرب لم تكن سهلة، بل تحمل الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - في سبيلها المشاق الكثيرة، وأوذي في جسمه وماله، وأهله وأصحابه ووطنه، وكان يدعو ليلا ونهارا وسرا وإعلانا، ويسأل الله السداد والرشاد، متطلعا إلى هداية قومه ليحملوا الرسالة ويؤدوا الأمانة.
لقد أوحى الله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقومه على دين آبائهم، وثنية وأصنام، يسودهم النظام القبلي، وتربط بينهم صلة القرابة والدم، لا يحكمهم نظام عام، بل يخضعون للعادات والأعراف، يدفعهم الشرف والمفاخرة بالأنساب إلى المنافسة في المكارم والمروءات، يعيشون في حلقة الأسرة والقبيلة، في إطار الجزيرة العربية.
وكان لحياته تلك أثر بعيد في صفاء نفوسهم، ومحافظتهم على أمجادهم وعاداتهم، وتفانيهم في سبيل مثلهم الأعلى، حتى كانوا يسرفون في ذلك كله، فهم كرام يبذلون ما يستطيعون للضيف، فيبلغون في ذلك حد الإسراف.
Página 12
ويأبون العار ولو أدى بأعز ما لديهم إلى الردى، ولهذا وأدوا بناتهم خشية الفقر والزلل. ويحبون الأمجاد والبطولات فتغنوا بها ولكنهم ضلوا الطريق، وحرموا العقيدة الموصلة إلى ذلك، ترى العفة والكرامة من أخلاقهم، والكرم والشجاعة من سجاياهم، والحمية والثأر تسير في عروقهم، رضعوا هذا مع لبنهم، وفطروا ونشأوا عليه، فهم لا ينامون على ضيم، ولا يرضون ذلا أو هوانا، وويل لمن غضب عليه العرب، إذ كانوا يثورون لأتفه الأسباب، يكفي أن يستفز القبيلة فرد أهينت كرامته، فتنطلق جميعها كبارا وصغارا تدفع عنه ما أصابه، لأن كرامة الفرد من كرامة القبيلة، وإلى هذا يمكننا أن نرد أكثر الغزوات والغارات التي كانت بين القبائل قبل الإسلام.
وقد حفظت ذاكرتهم القوية أشعارهم وأنسابهم التي كانت بمثابة سجل تاريخي لهم، وكان كل ذلك من المؤهلات التي أعدتهم لحمل الرسالة الإسلامية فيما بعد.
وإذا كان العرب قد عبدوا الأوثان آنذاك، فإنهم لم يعبدوها على أنها هي الخالقة المدبرة لأمور الكون وشؤونه، بل رأوا فيها التقرب إلى الله:
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (1)
ولم تكن عقائدهم معقدة مركبة، كما كانت عليه عقائد سكان البلاد المجاورة من الفرس والهند والروم، بل كانوا أصفياء النفوس، ويمكننا أن نقول: إن عندهم فراغا عقديا - إذا صح هذا التعبير - تستره تلك العبادات والمعتقدات الأولية، التي لم تقف على قدميها أمام عقيدة الإسلام المتماسكة الكاملة، ولهذا كان العرب يمتازون عن غيرهم من الأمم بتلك الصفات التي أهلتهم فيما بعد لأن يكونوا رجال الإسلام، وحملة لوائه إلى العالم.
ومع هذا لم يكن من السهل أن يستجيب العرب جميعا إلى دعوة الرسول الكريم بادئ ذي بدء، إذ كان من الصعب أن يتركوا دين
Página 13
آبائهم وأجدادهم، فإذا ما دعاهم إلى الله قال له أقرب الناس إليه: تبا لك!! إلهذا دعوتنا؟ وأوذي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل دعوته كثيرا، وقاسى الصعاب، ولم يؤمن به إلا نفر قليل: زوجه، وبعض ذويه، وقليل من أهله. وكان لا يفتر عن دعوتهم، ويسخرون منه فيزداد نشاطا وحيوية وراء أمله، ويصورهم الله في قوله:
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (1)، {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} (2).
إلا أن الباطل لا يقوى أمام الحق، فسرعان ما يتقوض، ويظهر ضعفه، كما يتلاشى الظلام حين يكون وراءه النور الساطع.
ومضى الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - في دعوته، وصبر الصبر الجميل مضطهدا حينا، مستهزءا به أحيانا، ومع هذا كان يتمنى لقومه الهداية والرشاد، فيطيب الله خاطره، ويخفف عنه، مبينا أن هدايتهم بيده - عز وجل -، فيقول:
{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (3).
ويصور الله تعالى ضيقه - صلى الله عليه وسلم - في سبيل هداية قومه، فيقول:
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} (4).
ويؤكد له أنه على حق، ولا بد من أن ينتصر، فيشحذ عزيمته بقوله - عز وجل -:
{فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} (5).
Página 14
وهكذا بدأ الإسلام يستولي على القلوب في مكة رويدا رويدا، ثم انتشر بين بعض سكان يثرب (المدينة المنورة)، وازدياد إيذاء المشركين للمسلمين واضطروهم إلى هجر وطنهم فرارا بدينهم.
وفتحت المدينة المنورة صدرها رحبا للمسلمين، وبدأت الدولة الإسلامية تنتظم أمورها برياسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتشر خبر الإسلام في أطراف الجزيرة، ولم تمنع أضاليل المشركين العرب من الدخول في دين الله، دين العدالة والمساواة، عقيدة سهلة سامية، إيمان بالله ، وطاعة لرسول الله، وعبادات تدخل السعادة والطمأنينة إلى النفوس، نظام يضبط الجماعة ويؤمن حقوق الأفراد ...
كل هذا جعل القبائل العربية تتهافت إلى المدينة من كل حدب وصوب، يعلنون إسلامهم، وعم الإسلام الجزيرة العربية بعد الفتح الأكبر، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانقلبت مكة والمدينة بل الجزيرة العربية إلى موطن إسلامي متماسك تنبع منه أشعة الهداية لتنير العالم.
وقد تم ذلك للرسول الكريم خلال اثنتين وعشرين سنة وبضعة أشهر.
وهكذا خرج العرب باعتناقهم هذا الدين الحنيف من نطاق القبيلة الضيق المغلق إلى صعيد الإنسانية الواسع، ومن إطار الصحراء إلى العالم الشاسع، وانقلبت رابطة الدم والقرابة إلى الأخوة في الدين، وانتهى نظام القبيلة وحل مكانه نظام الدولة الإسلامية في مختلف مرافق الحياة، وانتقلت حميتهم للقبيلة إلى نصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم وإنصافه، وأصبح اعتزازهم بالإسلام وبما يقدمونه من تضحيات وخدمات في سبيل ذلك بدلا من اعتزازهم بالأنساب، واتجه حبهم للأمجاد والبطولات صعدا إلى تحقيق ما يرضي الله ورسوله، وتحولت شجاعتهم وجرأتهم المحصورة في النطاق القبلي إلى شجاعة وجرأة في سبيل نشر الدين الجديد، وتحول كرمهم الذي بلغ حد السرف إلى إعانة الفقراء وإغاثة الملهوفين، وتزويد الجيوش للدفاع عن معتقداتهم وعن إخوانهم في الدين، وتحرير
Página 15
الأمم من نير العبودية إلى الحرية وعبادة إله واحد ... فكان الإسلام شرفا عظيما لهم، كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (1).
والذكر هو الشرف العظيم، وكان العرب بحق كما قال الله تعالى:
{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (2).
يتبين لنا مما ذكرت أن هؤلاء العرب الأشداء، الذين فرضت عليهم الطبيعة الصحراوية حياة خاصة، قد انطوت نفوسهم على خصال طيبة، وصفات كريمة، وميول سامية، وراءها دوافع قوية، وحيوية فائقة، ولكنه كان ينقصهم العقيدة الصالحة، التي توجههم في هذه الحياة، وتؤثر في جميع تصرفاتهم، كما كان ينقصهم النظام الحسن، فما أن وجدوهما في الإسلام دين الحنيفية السمحة، والفطرة الصافية، حتى كانوا خير حافظ لها، بعد أن آمنوا بها، وتجاوبوا معها، وأصبحوا أول داع إليها، ومن ثم فتحوا قلوبهم للرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام -، وأصغوا إليه، والتفوا حوله ينهلون من المعين الذي لا ينضب، ويتلقون تعاليم الإسلام من رائده، ليقوموا بدورهم في هداية الناس جميعا، وهكذا تضافر العامل الفطري الذي تميز به العرب مع العامل المكتسب الجديد (الروحي)، فظهر الرعيل الأول الذي حمل مشعل النور والحق إلى العالم، وساهم في تحرير الإنسان من عبودية الظلم والجهل والفقر، وأخذ بيده إلى سبيل السداد والرشاد، ظهر ذلك الرعيل العظيم الذي نقل القرآن الكريم والسنة الطاهرة بكل أمانة وإخلاص.
بعد هذا نتكلم عن السنة وتعريفها ومكانتها من القرآن الكريم، وعن الصحابة وعدالتهم بما يمهد لنا السبيل إلى البحث.
...
Página 16
حول السنة:
السنة في اللغة هي السيرة حسنة كانت أو قبيحة، وكل من ابتدأ أمرا به قوم بعده هو الذي سنه ...
قال خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها (1).
وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (2).
وإذا أطلقت السنة في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونهى عنه، وندب إليه قولا وفعلا، ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث، ويطلق علماء الحديث لفظ السنة على كل ما يتصل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من سيرة، وخلق، وشمائل، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكما شرعيا أم لا.
وأما علماء أصول الفقه فإنهم يطلقون لفظ السنة على أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وتقريراته التي تثبت حكما شرعيا.
وأما علماء الفقه فقد بحثوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الذي تدل أفعاله على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع في أفعال العباد وجوبا، أو حرمة، أو إباحة، أو غير ذلك. فالسنة عندهم كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب.
Página 17
فأوسع الإطلاقات إطلاق المحدثين، الذين يقصدون بالسنة كل أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية، أو سيرة سواء أكان ذلك قبل البعثة كتحنثه في غار حراء، أو بعدها، وسواء أثبت ذلك حكما شرعيا أم لا.
والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي.
أما القول فهو أحاديثه التي قالها في مختلف المناسبات، كقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى ... »، وقوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقوله: «لا ضرر ولا ضرار»، وقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
وأما الفعل فهو أفعاله التي نقلها إلينا الصحابة، مثل وضوئه، وأدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وأدائه - صلى الله عليه وسلم - مناسك الحج، وما إلى ذلك.
وأما التقرير فكل ما أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال، بسكوت منه وعدم إنكار، أو بموافقته وإظهار استحسانه وتأييده، فيعتبر ما صدر عنهم بهذا الإقرار والموافقه عليه صادرا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - أنه خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة». وقال للآخر: «لك الأجر مرتين».
وقد تطلق السنة في مقابلة البدعة، فيقال: «فلان على سنة» إذا عمل على وفق ما عمل عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء أكان ذلك مما نص عليه الكتاب أم لم يكن. ويقال: «فلان على بدعة» إذا عمل على خلاف ذلك.
والبدعة لغة هي الأمر المستحدث، ثم أطلقت في الشرع على كل ما أحدثه
Página 18
الناس من قول وعمل في الدين وشعائره مما لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1).
وتطلق السنة أحيانا عند المحدثين وعلماء أصول الفقه على ما عمل به الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد. ويحتج لذلك بقوله - عليه الصلاة والسلام -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (2).
ومن أبرز ما ثبت في السنة بهذا المعنى «سنة الصحابة» حد الخمر، فقد كان تعزير الشارب في عهده - صلى الله عليه وسلم - غير محدود، تارة يضربونه نحو أربعين جلدة، وتارة يبلغون ثمانين، وكذا في عهد أبي بكر، فلما كان آخر إمرة عمر - رضي الله عنه -، ورأى الناس في سعة العيش، وكاد الشرب يشيع بينهم - استشار الصحابة في حد زاجر، فقال علي: نرى أن تجلده ثمانين، لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري جلد ثمانين جلدة، وقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود يعني ثمانين، وأجمع الصحابة على هذا، فتحديد الثمانين هو السنة التي عمل عليها الصحابة باجتهاد منهم، حسبما اقتضاه النظر المصلحي.
ومن هذا تضمين الصناع، وجمع المصاحف في عهد أبي بكر برأي الفاروق، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين .. وما أشبه ذلك مما اقتضاه النظر المصلحي الذي أقره الصحابة - رضي الله عنهم - وأجمعوا عليه (3).
Página 19
وأعني بالسنة ما أراده المحدثون، وهي ما يرادف الحديث عند جمهورهم وإن كان بعضهم يفرق بين السنة والحديث، فيرى الحديث ما ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والسنة ما كان عليه العمل المأثور في الصدر الأول.
والحديث القدسي هو كل حديث يضيف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا إلى الله - عز وجل -، كحديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... » (1). وحديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (2).
والأحاديث القدسية أكثر من مائة حديث، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير (3). ونسبة الحديث إلى القدس (وهو الطهارة والتنزيه)، وإلى الإله أو الرب، لأنه صادر عن الله - تبارك وتعالى -، المتكلم به أولا،
Página 20
وأما كونه حديثا، فلأن الرسول هو المخبر به عن الله - عز وجل -، والحاكي له بلفظه - صلى الله عليه وسلم - ولغته.
بعد هذا أرى من الواجب أن أبين مكانة السنة من القرآن الكريم، لتظهر لنا أهميتها بالنسبة للشريعة الإسلامية ومصادرها التشريعية.
***
Página 21