وإنا أيها السادة نعتقد أن خير ضمانة لمصالح إنكلترا ومصالح جميع الدول الأجانب على السواء، هو حرص مصر نفسها على حسن سمعتها كدولة متمدنة راقية، ومصلحتها في حفظ عهودها. فلقد أخذنا بأسباب الرقي من عهد بعيد، وأدخلنا إلى بلادنا الأنظمة الحديثة، ونشرنا فيها راية العرفان، وأوفدنا البعثات العلمية إلى البلاد الغربية، وبالإجمال نهضنا من عهد محمد علي نهضة عظمى حتى صح أن يقال إن مصر قطعة من أوروبا، ومع هذا، فإن الأمة المصرية لأجل إثبات حسن قصدها وشديد رغبتها في الاتفاق مع بريطانيا العظمى وتبديد مخاوفها، سلمت مبدئيا بفكرة الضمانات، وإنما بشرط أساسي لا محيص عنه، وهو أن لا تتعارض هذه الضمانات مع الاستقلال، وعلى أمل أن لا تلبث الحال قليلا حتى ترى إنكلترا ذاتها أن لا حاجة بها إلى هذه الضمانات.
تشكلت الوزارة العدلية لتتولى المفاوضة في القضية المصرية بعد أن أعلنت الحكومة الإنجليزية رأيها، ولا يمكنني أن أترك ذكر هذا الحادث يمر دون أن أقوم بواجب أشعر به نحو ذلك الذي كان مثلا في الوطنية ونكران الذات، وأعني به دولة رشدي باشا؛ لقد تولى دولته رياسة الوزارة قبل ذلك مرات عدة، وبلغ أسمى مقام يمكن أن يطمح إليه إنسان، ومع ذلك فإنه قبل أن يدخل عضوا في الوزارة الجديدة - لأن البلاد كانت في تلك الساعة في حاجة إلى مواهبه وعلمه - فما تردد في إجابة نداء الواجب ولم يقعده عن ذلك اعتبار من الاعتبارات.
سافر الوفد الرسمي إلى إنكلترا وعلى رأسه ذلك الرجل الكبير القلب الكبير النفس عدلي يكن باشا للمفاوضة في عقد اتفاق، وقد أخذ على نفسه أن يعمل على تحقيق الاستقلال، وعاهد أمته - بل عاهد قبل ذلك ضميره وربه - على أن لا يقبل اتفاقا يخل بهذا الاستقلال بأي وجه من الوجوه.
طالت المفاوضات شهورا بين الرجاء واليأس إلى أن تكشفت عن المشروع الذي قدمته بريطانيا العظمى إلى الوفد في 10 نوفمبر من العام الماضي، وهو المشروع الذي عرف بين الناس باسم مشروع كرزون.
نظر عدلي باشا إلى المشروع فرأى أن بريطانيا العظمى غالت فيما طلبته من الضمانات، وأن هذه الضمانات لا تتفق وما عاهد به أمته من استقلال لا تحوطه ريبة، فما تردد لحظة في رفض برد اقترنت فيه الحكمة بالشمم، والبراعة السياسية بعزة النفس. كان في وسعه أن يعرض المشروع على أمته، وأن يلقي على عاتقها مسئولية قبوله أو رفضه، ولكن عدلي عرض المشروع على ضميره أولا فكان نصيبه الرفض.
أيها السادة: سينشر يوما من الأيام ما طوي من الصحائف، وما خفي من أسرار المفاوضات حينئذ يعلم بنو مصر جميعا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نيل استقلالها، والتي تأبى أن توقع على صك يضعف هذه الشخصية. إنما الوطنية الصحيحة، الوطنية الصادقة تعمل ولا تتكلم، وكل همهما موجه إلى جلب النفع للوطن. فلزم عدلي باشا الصمت. كان خصومه يرمونه بأشنع ما يرمى به إنسان من نقص في الوطنية وضعف في العقيدة القومية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيا عظيما في صمته كما كان وطنيا عظيما في حسن دفاعه، ولقد أعلنا تضامننا مع الوفد في رفضه للمشروع وفي رده عليه. نعم أيها السادة، كنا وما زلنا ولن نزال نقر الوفد على ما فعل في هذا الرفض؛ لأننا نأبى كل الإباء أن نقر أي اتفاق أو تعاقد ينقض استقلال بلادنا.
ولكن بريطانيا العظمى أمسكت بالمشروع في يدها، ولوحت بالاستقلال التام أمام عيوننا، وقالت: ها أنا ذا على استعداد للاعتراف لكم بالاستقلال، ولإلغاء الحماية المفروضة عليكم، ولكن بشرط أن أتقاضى منكم ثمنه. قلنا: وما هو الثمن؟ قالت: أن تعطوني ما أطلبه من الضمانات المبينة في المشروع، فإن فعلتم كان لكم ما تريدون، وإن أبيتم فالحماية باقية في أعناقكم.
قال الوفد الرسمي كلا، وقلنا نحن كلا، وقالت البلاد كلها بصوت واحد كلا؛ لأننا نريد استقلالا صحيحا، ولأن ما تعترف به إنكلترا في المشروع تهدمه هاتيك الضمانات.
أما اليوم فقد تغيرت الحال؛ فإن بريطانيا العظمى قد ألغت الحماية على مصر، ألغتها ولم تتقاض ذلك الثمن الذي جعلت تقاضيه منا شرطا لإلغائها، ونادى جلالة ملكنا المعظم بأن بلادنا دولة مستقلة تامة السيادة، وأبلغنا هذا النطق الملكي من وزارة خارجيتنا إلى وكلاء الدول الأجنبية في مصر، كما أبلغهم إياه جناب المارشال اللنبي، فجاءنا رد هؤلاء الوكلاء بوصول البلاغ إلى دولهم، وبادرت الوزارات الأجنبية بتقديم تهانئها إلى حكومتنا على هذا العهد الجديد، وأرسل الملوك ورؤساء الجمهوريات إلى جلالة الملك فؤاد الأول تهانيهم بالاستقلال.
أيها السادة: لقد كنا لغاية سنة 1914 مستقلين استقلالا داخليا تحت سيادة الدولة العثمانية، فلما نشبت الحرب العامة، وسقطت سيادة تركيا عنا أصبحنا مستقلين حكما، ولكن تمسك بريطانيا العظمى بانتقال حقوق تركيا إليها بحكم إعلان الحماية حال بيننا وبين استقلالنا.
Página desconocida