وانعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهد من رجال السياسة المبرزين، وأدلى إليهم برأيه وإن كان لا يزال من الهوجز، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول عنها، والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار الرق، والمحافظة على كيان الاتحاد.
وانضم هرندن إلى الحزب الجديد وتحمس له، ودعا أنصار الحزب إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة بلومنجتن لاختيار ممثلي الحزب في الولاية، وكان لنكولن في جولة من الجولات القضائية، فوضع صديقه هرندن اسمه في قائمة الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه، ثم أرسل إليه ينبئه بذلك فجاءته برقية منه قال فيها: «لا ضير. امض قدما.» وبذلك وافق أبراهام على الانضمام إلى الحزب الجديد وأصبح عضوا من أعضائه.
واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا في أمرهم، وأدلى أبراهام برأيه فقال لمن حوله: «دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد هو قرار إعلان استقلال أمريكا.» وهو يريد بإعلان الاستقلال ذلك الحادث التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة أمة مستقلة في هذا العالم، وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم، وأصدر المؤتمرون قرارهم بعد أن اختاروا ممثلي الحزب في الولاية فقالوا: «أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد، وفق تجارب وآراء رجال السياسة المبرزين جميعا من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى لحكومة الاتحاد، أن المؤتمر يملك في ظل الدستور السلطة التامة لمقاومة انتشار الرق في الولايات، وأنه كما يحرص على جميع الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، يعتقد كذلك أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية - كما نص عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من بقاء ودوام - تستدعي أن يكون تنفيذ السلطة بصورة تمنع انتشار الرق في الولايات التي تعد حرة حتى الآن.»
وإنا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون، وفي ذلك يتضح الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب، ويتحرك باسمه كل لسان، ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في الولايات جميعا نجدها لا تختلف كثيرا عما جاء في قرار رجال إلينوى، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيرا عن مبادئ لنكولن، وفي ذلك دليل جديد على عبقرية الرجل وصدق نظرته وأصالته.
ونظر أبراهام فإذا رجال المؤتمر، على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي يصلون بها إلى غايتهم، وإذا هم باعتبار ما سلف من أمرهم فئات متباينة الآراء، وإنه ليخشى أن يؤدي الاختلاف على الوسيلة إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس معالم الطريق وركوب الظلام، وفي ذلك سوء المنقلب، وإنه ليتحرق شوقا أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت على الغاية، إنهم إذن لفائزون وإن لهم لبأسا يهون عنده كل عسير، ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالرق من أهل الجنوب.
وتجاوبت أرجاء المؤتمر باسم لنكولن، وراح المؤتمرون يتصايحون: «لنكولن! لنكولن! نريد أن نسمع لنكولن!» وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف، وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات، وكأنما أحس لنكولن أن هذه ساعته، وأنه يوشك أن يخطو خطوة واسعة نحو غايته الكبرى؛ لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري أول الأمر ماذا يقول، وسكتت الأصوات بعد جلبة، واستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط الحماسة والتطلع يموج في بعض.
وقف الخطيب أول الأمر صامتا كأنما أغلقت من دونه مسالك القول، والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره بما في نفسه، فبدت في مظهر يقصر عن وصفه معنى الجمال، وصفه أحد الحاضرين فقال: «كان في تلك اللحظة أوجه من رأت عيناي أبدا.»
وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا جدال، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر، وسرى إليهم منه تيار شديد من الحماسة، وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس. وكانت تشتد العاطفة حينا فتفيض عيون، ويلتمع البرهان آونة فتصفق الأكف حتى تكاد تدمى، وتنطلق بالهتاف الحناجر حتى توشك أن تبح، ويروق المثال أو تلمح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات، والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر، ويتدفق لا يكل منطقه ولا تفتر حماسته ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول، حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. وصفه أحد المستعمين فقال: «لم أعلم قبل ذلك قط أن مستمعين لخطيب فعلت فيهم الفصاحة الإنسانية فعل الكهرباء كما فعلت فصاحة لنكولن بهؤلاء، لقد كانوا يثبون من أمكانهم نهوضا على أقدامهم أو فوق المقاعد بين حين وحين، وكانوا يعبرون عن مبلغ ما أثرت كلماته في عقولهم وقلوبهم بصيحات طويلة وبالتلويح بقبعاتهم في أيديهم.»
ذلك أن الغاب قاطع الأخشاب، ذلك هو النجار هدية الأحراج إلى عالم المدنية، قد هيأته الأقدار لرسالته؛ فبعثته من موطنه قويا قوة الطبيعية لا يعتريها ضعف، واضحا وضوح الشمس لا يحجبها غيم، ولكنها أودعت في نفسه سر العظمة رهيبا عميقا خافيا عن الأبصار، تحس النفوس تلقاءه بمثل ما يحس به من يقف في مدخل الغابة.
أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالا للبس أو شك، وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني، حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد، فإنه ليحس أن في الجو مثلما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب ريحهم وتضيع أصواتهم بددا، وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما يكون الوضوح.
Página desconocida