وأملت عليه مهارته حلا يرضي الجانبين المتنازعين؛ فلتكن كليفورنيا ولاية حرة كلها، وإن كان ما يقرب من نصفها يقع جنوبي خط اتفاق مسوري، وفي مقابل ذلك تفتح للرق أريزونا ومكسيكو الجديدة، وهما من البقاع التي لم تستعمر بعد استعمارا تاما، إذا شاءت حكومتاهما ذلك بعد تكونهما، وإنما يكتفى الآن بتقرير المبدأ. يبقى بعد ذلك أمران؛ أولهما: وجود الرق منذ القدم في منطقة كولومبيا التي تقع فيها مدينة وشنطون، بل ووجود مستودع كبير للرقيق على خطوات من مقر الحكم، وهذا مما اشمأزت منه قلوب الأحرار، وتأذت نفوسهم سنوات طويلة، وكان مصدر شقاق وشحناء بين أنصار التحرير والمتمسكين بالرق. أما الأمر الثاني: فهو قانون الرقيق الآبقين إلى ولايات غير التي كانوا فيها، وكان يقضي الدستور بإعادتهم إلى حيث كانوا، ولكن كثيرا من الولايات أصدرت تشريعات محلية تعطل حكم الدستور في هذا الأمر.
ورأى كليي في أول الأمرين أنه مع الاعتراف بأن كولومبيا منطقة من مناطق الرق، إلا أنه يجب أن يوقف بيع العبيد وشراؤهم في العاصمة، وفي ذلك ما ترتاح له نفوس الشماليين وأنصار التحرير على العموم، ورأى في ثاني الأمرين أن تنفذ الولايات حكم الدستور فيعاد الآبقون إلى ولاياتهم، ولا يحق للولاية التي لجئوا إليها أن تدافع عنهم، وفي هذا ما يرضي أنصار الرق الذين خافوا من تسرب الرقيق إلى الولايات الحرة فرارا من العبودية.
وهكذا يحاول كليي كما فعل في اتفاق مسوري سنة 1820 أن يرضي الجانبين في اتفاق كليفورنيا سنة 1850، وقد ارتاح الناس في الشمال والجنوب لهذا الاتفاق؛ حرصا على الاتحاد.
ولكن ارتياحهم - وا أسفاه! - لم يطل؛ فلم يلبثوا حتى دب بينهم الخلاف؛ إذ كان اتفاق كليفورنيا، على الرغم مما في ظاهره من عوامل التوفيق، ينطوي على أسباب قوية النزاع.
كره أهل الشمال تنفيذ حكم الدستور فيما يتعلق بالرقيق الآبقين، ورأوا في ذلك تمكينا للرق، وهم يعملون على استئصاله. وكان قد صدر قانون سنة 1793، بمقتضاه يتعقب مالك الرقيق أو من ينوب عنه طلبته، حتى إذا وقع عليها قدم حيث وجدت للسلطات ما يثبت ملكيته، وبذلك يحصل على أمر مكتوب، به يستطيع أن يرجع بالهاربين إلى مقرهم، ويحكم بغرامة قدرها خمسمائة ريال على من يضع العقبات في سبيله. ولم يكن للرقيق الفارين حق الدفاع عن أنفسهم، وقد احترف بعض الناس تصيد هؤلاء الآبقين نظير أجر معلوم. وكثيرا ما كان هؤلاء المحترفون يضعون أيديهم على أي فريق من السود ممن لا يتبعون أحدا، ويقسمون جهد إيمانهم أنهم هم المطلوبون؛ وعلى هذا فلن ينفع السود الفرار إلا أن يبلغوا كندا. وقد وصف القصصي العظيم شارلز دكنز تلك الحال عند زيارته أمريكا، فكان مما قاله: «باسم الرأي العام وضع ذلك القانون، كان لأي شرطي في وشنطون - تلك المدينة التي سميت باسم زعيم الحرية الأمريكية - أن يأخذ بناصية أي رجل من السود ويلقي به في السجن وإن لم يرتكب أية جريمة، وحسب الشرطي أن يقول إنه يظن ذلك الأسود من الآبقين، ويمكن الرأي العام لهذا الشرطي أن يعلن في الصحف عن هذا الأسود، فيدعو مالكه أن يأتي فيطلبه وإلا بيع ليدفع نفقات الحبس، ولنفرض أنه قد تبين أن هذا الأسود ليس يملكه أحد؛ أعني أنه حر، فالذي يتبادر إلى الذهن هو إطلاق سراحه، ولكن الحال لم يك كذلك، وإنما كان يباع ليكون ثمنه عوضا لسجانه، وكان يقع ذلك ثم يقع مثنى وثلاث ورباع، وليس للأسود ما يثبت به حريته، ولم يكن له ولي ولا ناصح ولا رسول ولا مساعد على أية صورة ولا من أي نمط، وربما كان هذا الأسود ممن خدموا سنين طويلة ثم اشترى حريته، ولكنه هكذا يلقى به في غيابة السجن في غير ما جريرة ولا تفكير في جريرة، ثم يباع ليدفع نفقات سجنه.»
تلك هي حال الفارين حتى سنة 1850، وكانت بعض الولايات الشمالية قد أرادت أن تشترط أن يثبت طالبو الفارين السود أن هؤلاء كانوا رقيقا لم يعتقوا قبل فرارهم، ولكن المحكمة العليا أصدرت وهي المرجع في تفسير لدستور سنة 1842 قرارا مؤداه أن تدخل الولايات في هذا الشأن عمل غير دستوري، وأراد أهل الجنوب أن يزيدوا سلطة ذلك القانون البغيض، وعلى ذلك أضافوا إلى مواده بعد اتفاق كليفورنيا ما زادوا به الغرامة على من يعوق تنفيذه إلى ألف ريال مع الحبس ستة أشهر، وفضلا عن ذلك يكون عرضة للعقاب من لا يلبي طلب المساعدة عند القبض على الفارين.
ولقد ترتب على ذلك أن ازداد الناس نفورا واشمئزازا من هذا القانون، وبسبب تنفيذه احتدمت المعارك بين الشرطة والناس في بعض الولايات الشمالية، ودخل السجن بعض ذوي المكانة من الأساتذة والأطباء ورجال الدين، وتنبه إلى دعوة التحرير من لم يكونوا يبالون بها من قبل، وطاف بالناس شعور عام أن الرق لم يعد يطاق، وأنه عمل تتبرأ منه الإنسانية، وخليق أن يخجل منه كل منصف، وألا يسكن أولوا النخوة حتى يقضوا عليه.
وفي سنة 1854 نجمت مشكلة جديدة عصفت باتفاق كليفورنيا، ولما يمض عليه إلا أربع سنوات، وزلزلته من أساسه؛ وتلك هي مشكلة كنساس نبراسكا، وكانت البلاد قد فقدت هنري كليي منذ سنتين وانطوت حياة الرجل الذي عمل مرتين على حفظ بناء الاتحاد.
وشهد الكونجرس رجالا جددا أبرزتهم السياسة؛ فمن الشماليين سيوارد، وهو من نيويورك وينتمي إلى وجر، وقد اشتهر بمعارضته قانون الرقيق الفارين، فهيأه ذلك لزعامة أنصار التحرير في الشمال، ومن الجنوبيين جفرسون ديفز، وكان خطيبا مفوها وجنديا أبلى بلاء حسنا في الحرب ضد المكسيك، ومن الجهات الغربية ستيفن دوجلاس الذي انتخب عن إلينوى لمجلس الشيوخ، وكان يلقب بالمارد الصغير.
ولقب دوجلاس بالمارد على صغر جرمه لعظم قوته وشدة حوله؛ فقد كان خطيبا يتدفق حيوية وبلاغة، وهبه الله صوتا يسمع الآلاف، كما وهبه جلدا على الكلام ساعات، يخرج من الخطبة الطويلة قد جرد لها عزمه وبذل فيها غاية جهده، وكأنه أكثر فتوة وأعظم حيوية منه حين بدأ الكلام! وكان له من قصره واستدارة وجهه وكبر رأسه وثاقب نظراته وشدة تأثيره فيمن هم دونه؛ ما يجعله قريب الشبه بنابليون، فلا عجب أن ينعته الناس بالمارد، فهم إنما يشيرون إلى قوة نفسه وشدة مراسه، وما لبثت الظروف أن جعلته في الكونجرس أعلى الرجال صوتا وأبعدهم صيتا .
Página desconocida