وكان إذا سمع أبراهام مغنيا يغني قطعة حزينة، يسأله أن يكتبها له فيترنم بها ويرددها، كأنما يجد فيها عزاء لنفسه أو شفاء لهمه.
وكثيرا ما يتأمل في الكون تأمل الشاعر تارة وتأمل الفيلسوف تارة أخرى، حدث عنه مضيف له في شيكاغو مرة أنه جلس ذات ليلة موزع البصر بين البحيرة العظيمة والسماء، ثم نظر نظرة طويلة في النجوم، وراح يحدث من حوله عما بينها من مسافات هائلة وعما توحيه إلى النفس من شعر وسحر، وعن العلم وما كشف من أبعادها وأحجامها، وعن المناظر المكبرة وما يرجى من فوائدها وما يتوقع من تقدمها، كل ذلك في حسن سياق ودقة وصف وصحة فهم.
وكان يبدو شديد المرح أحيانا فيرسل طائفة من النكات واحدة تلو الأخرى، ويقص بعض نوادره وحكاياته، فما يشك سامعه أنه من ذوي النفوس الراضية التي لا تعرف الهم، ولكن واعيته الباطنة في الواقع هي التي كانت تميل به إلى هذا تخلصا مما يساوره من هم، وكثيرا ما كان يتلمس السلوة في مثل هذه الأحاديث، وما كان ميله إلى الفكاهة إلا نوعا من الهرب مما يوسوس به الهم في صدره.
وكان يخيل إلى محدثه أنه مصيخ إليه مقبل عليه، إذ هو في الواقع في شغل عنه بما يهجس في خاطره من قلق أو يعتلج في نفسه من ضيق، فلا يلبث أن يقطع الكلام على محدثه في صوت عال مندفعا في كلام لا يمت إلى ما يقول بصلة! وكثيرا ما كان يبعث الضحكة العالية تصحبها هزات من رأسه وقد ساد الصمت بعد الصخب في مجلس من المجالس التي تحتويه، وليس الموضع موضح ضحك، فيعجب الجالسون من فعله إلا من يعرفه منهم، وقد يخرج دفترا صغيرا من جيبه فيدون فيه بعض كلمات أو يقلب صفحاته، ثم يسترسل في سرد قصة أو يبعث فكاهة في إثر فكاهة.
وهو منذ حداثته يأبى إلا أن يرسل نفسه على سجيتها لا يقيد نفسه بشيء، وما تزيده الأيام إلا حرصا على رغبته في التخلص من القيود، لا يعنى بمظهر، ولا يلتزم وضعا من الأوضاع في ملبس أو مأكل، وكان قوي البنية نشيط الحركة لا يركن إلى قعود، وذلك دأبه منذ كان في الغابة، وهو في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي، وتتمثل فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها، ويلمح الناس في سجاياه براءة الطفل، وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله.
وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه، وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء، فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العالية العريضة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم، ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال، ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل.
وكان يلوذ بالكتب إذا فرغ من قضاياه وخاف وساوس همه. وإن له في الكتب لغنية ومتعة، وقد ازداد شغفا بشكسبير؛ إذ يرى ومض عبقريته يمس النفس البشرية فينير أكثر نواحيها، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتابا من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه، عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها، فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصا ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء، كأنما أخذته عن نفسه حال.
وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة دون جوان، وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده، ويقرأ الفلسفة فيدرس كانت ولوك وفخت وإمرسون وغيرهم.
ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول كتب العلوم وأخذ يدرسها، وقد جعل لها ساعات من فراغه؛ فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظا ليس باليسير!
ولكن ما العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ هذا لنكولن ابن الغابة الذي علم نفسه، لو لم يكن المحامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته، لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. وهو في ذلك أكثر الناس شبها بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، الذي يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية.
Página desconocida