وانهالت على الرئيس وسائل التهنئة وبرقيات الإعجاب يحملها البريد والبرق من أمريكا ومن خارج أمريكا؛ فلقد تلفتت أوروبا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن، وتضع اسم رجلها وهدية أحراجها لنكولن إلى جانب اسم بطلها ومحررها وشنطون، الذي انتزع لها استقلالها بحد السيف من الغاصبين من أعدائها.
والرئيس خافض الجناح لا يعرف إلا الزهو كما لا يعرف الخور، يتلقى تهاني المهنئين وإعجاب المعجبين في سكون وتواضع، وإنه ليحس أنه لا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد مظهرهما هذه الحرب التي ما فتئ يزداد سميرها.
السنديانة!
اضطر لي أن يعبر نهر بوتوماك متراجعا، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة، فيتعقب الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على الرغم من إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد!
وعادت شئون الحرب تكرب نفس الرئيس؛ فقد كان عليه وعلى رجال حكومته بعد قرار التحرير أن يبذلوا قصارى جهدهم ليضعوا حدا لتلك الحرب، فإنه لو أتيح النصر لأهل الجنوب كان معنى ذلك القضاء على كل شيء؛ إذ تصبح الحرية مجرد أمنية، وتصير الوحدة ضربا من الوهم.
وبات يكرب نفس الرئيس شيء آخر؛ فإن الحزب الديمقراطي في الشمال بعد أن فرغ الناس من حماستهم لقرار التحرير، أخذ يندد بسياسة الرئيس، وأخذت صحف الديمقراطيين تكرر القول أن الجند يبذلون دماءهم من أجل شيء واحد؛ هو حرمان الجنوبيين من ملك يبيحه لهم الدستور.
أما الجنوبيون فما برحت صحفهم تتهكم على قرار التحرير، وتعلن أن البيض لم ينصرف منهم واحد عن القتال، فإن السود يعملون في الحقول هادئين، وفي هذا أكبر دليل على أنهم ما كانوا في حاجة إلى أحد يحررهم.
على أن لنكولن لا يعبأ بقول الجنوبيين؛ فما يسكت العبيد إلا من الخوف، فها هم أولاء يفرون ألوفا من جيوش الجنوبيين حيث يلوذون بجيش الشمال ليعملوا تحت راية مسيحهم، كما كانوا يسمون الرئيس لنكولن الذي منحهم الحرية والذي جعلهم ناسا من الناس. ولكم كان من أقبح الظلم أن يساق هؤلاء العبيد إلى القتال ليقتلوا قوما يحاربون ليحرروهم، وكثيرا ما كان يوضع هؤلاء السود بحيث تحصدهم المدافع، فيكونون بذلك دريئة لسادتهم الجنوبيين!
وأخذ يتبين السر فيما يبدو من مسلك ماكليلان؛ فقد جاءه رسول من الديمقراطيين قبيل معركة أنتيتام يعرض عليه ترشيح الحزب إياه للرياسة في انتخاب سنة 1864! وكتب ماكليلان عقب المعركة يقبل هذا الترشيح.
وراح الجمهوريون يذيعون أن ماكليلان يسلك في الحرب مسلك الهوادة ليرضي الجنوبيين، وقالوا إن ذلك لا يبعد كثيرا عن تهمة الخيانة العظمى!
Página desconocida