والصحف تهيب بالرئيس أن يأتي عملا، ولكنه صامت يفكر، والرأي العام يغلي كالمرجل، حتى لقد أطلق بعض الناس ألسنتهم فيه بالسوء من القول، فهو غر جبان متورط لا رأي له ولا بصيرة ولا حزم، إلى غير ذلك مما باتت تنوشه به الألسن.
وتفرق الناس في الشمال شيعا؛ فمنهم من يرى وجوب الحرب، ومنهم من لا يرضى إلا المسالمة والاتفاق، وأكثر هؤلاء من التجار والصناع الذين لا يستغنون عن الجنوب، ومنهم من يتذمر ويتبرم، ولكنه لا يرى شيئا ولا يحس غير القلق والخوف، والرئيس لا يجيب إلا بقوله: «إذا أخلى أندرسون حصن سمتر فسيكون علي أنا أن أخلي البيت الأبيض.»
ويهتدي ابن الأحراج بعد طول روية إلى رأي فيه دليل قوي على حنكته السياسية، حتى لكأنه مارس السياسة طول حياته، وذلك أنه يزمع أن يرسل القوت فحسب إلى الحصن، وحجته أن ذلك عمل إنساني لا عدوان فيه، فإذا قبل الثائرون هذا حلت المشكلة، أما إذا قابلوا ذلك بالقوة فعليهم إثم ما يفعلون؛ فهم بذلك يكونون بادئ العدوان ومشعلي نار الحرب. ولأهل الشمال بعد ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم العدوان إن كانت في نفوسهم حمية وفي رءوسهم نخوة الرجال.
وتسير السفن محملة بالقوت، بعد أن يرسل الرئيس نبأ عنها إلى قائد الثوار حول الحصن، ولكن القائد لا يكاد يبصر السفن من بعد، حتى يطلق النار على الحصن فيسقط علم الاتحاد، وتنسحب الحامية بعد دفاع مجيد.
ووثب أهل الشمال وثبة واحدة، فلا خلاف بينهم بعد ذلك ولا تنازع، وما فيهم إلا من يريد الدفاع عن الاتحاد، ورد الإهانة التي لحقت العلم الذي طالما خفق على رأس وشنطون وجنوده البواسل غداة حرب الاستقلال.
وما حدث في تاريخ أمريكا كله أن تحمس الشعب إلى الدعوة للجهاد كما تحمس أهل الشمال يومئذ، فلقد كان الشيوخ قبل الشباب يريدون خوض غمار الحرب، ولم يتخلف النساء ولم يقعدن عن شحذ العزائم واستنهاض الهمم، وإن لم تكن هناك حاجة إلى سعيهن. أما الشباب البواسل فقد استحبوا الموت على الحياة، فساروا مغتبطين يطرحون نفوسهم تحت المنايا، كأنما يسيرون إلى نزهة لا إلى مثل عذاب الجحيم.
وهكذا تقع الحرب بين نصفي شعب واحد، ولقد كان الرئيس أكثر الناس في الشعب جميعا تألما، وكان قلبه الإنساني يكاد يتفطر، ولكن ما الحيلة وهو يرى بناء الاتحاد أمام عينيه ينهار حجرا بعد حجر؟
وكان الموقف قبل وصول المتطوعين إلى العاصمة أشد ما يكون هولا وخطرا، فلم يكن لدى لنكولن سوى ثلاثة آلاف، ولن يستطيع هؤلاء الدفاع عن العاصمة مهما يكن من استماتتهم وشجاعتهم؛ لذلك سري الخوف في المدينة، وأيقن أهلها أنها واقعة في يد الأعداء لا محالة.
والرئيس يرتقب قدوم المتطوعين لإنقاذ المدينة من الخطر المحدق بها، وأخذ ذلك الخطر تشتد وطأته تبعا لمسلك الولايات المحايدة وبخاصة فرجينيا؛ إذ كانت تلك الولايات تقف من النزاع موقفا مبهما ظن من أجله أنها تلتزم الحيدة، وإن كانت في الواقع لتنزع إلى أهل الجنوب، وكانت فرجينيا أقربها موقعا من وشنطون لا يفصلها عنها إلا نهر ضيق، فإن هي أعلنت انضمامها إلى الاتحاد الجنوبي بات العدو بذلك على أبواب أهل الشمال، بل وأصبح البيت الأبيض على مرأى من الجند؛ لذلك شاع في الناس أن الجند عما قريب سيعبرون النهر فيستولون على مركز الحكومة ويسوقون لنكولن ومجلسه أسرى بين أيديهم.
وامتلأت العاصمة بالفزع حين تهامس الناس أن الانفصاليين، كما كان يسمى أهل الجنوب، يريدون إحداث فتنة فيها وإحراقها ليضعوا الرئيس بين نارين، ثم حين أخرجت الحكومة النساء والأطفال والمرضى والضعفاء من المدينة.
Página desconocida