وفي محطة من المحطات الصغيرة وقف لنكولن بعد أن قرت حماسة المستقبلين، فقال إنه يذكر أن كتابا جاءه من فتاة هذه بلدتها تسأله فيه أن يطلق لحيته، ولقد فعل كما أشارت فهو ذو لحية اليوم كما يراه الناس، ثم عبر عن رغبته في رؤية تلك الفتاة إن كانت حاضرة، فبرزت من بين الجموع تلك الفتاة ومشت على استحياء حتى وصلت إلى الرئيس، فقبلها قبلة على جبينها والناس بذلك معجبون فرحون.
وفي ألبني عاصمة ولاية نيويورك العظيمة كانت حفاوة الناس به شديدة، وكذلك كان شأنه في مدينة نيويورك التي سبق أن زارها لأول مرة من قبل ليخطب الناس، فأصاب من النجاح ما سلفت الإشارة إليه.
ووقف في ترنتن على مقربة من ميادين القتال التي سالت فيها دماء الثورة غداة حرب الاستقلال، فأخذه جلال الموقف، وهزته روعة الذكرى، فجرى لسانه بما اختلج في نفسه، قال: «إني لأرجو أن تسامحوني إذا ذكرت في هذه المناسبة أني في أيام طفولتي وفي مستهل عهدي بالقراءة قد تناولت كتابا صغيرا يدعى حياة وشنطون، تأليف ويمز، وإني أتذكر كل ما جاء فيه عن ميادين القتال وعن مواقف النضال من أجل الحريات في هذه البلاد، ولكن ما من حادثة تركت في نفسي من أثر مثل ما تركه موقف النضال هنا في ترنتن ونيوجيرسي.» وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث قال: «وإني لأذكر الآن أني فكرت يومئذ ولما أزال غلاما صغيرا، أنه لا بد أن يكون أمرا غير عادي ذلك الذي كافح من أجله هؤلاء الناس، وإني لأحس رغبة ملحة قوية أن أرى هذا الذي كافحوا من أجله، وأرى شيئا آخر هو أعظم من الاستقلال القومي، شيئا ينطوي على وعد للناس جميعا في هذا العالم في كل ما هو آت من العصور ... أقول إني شديد التطلع أن أرى الوحدة والدستور وحرية الناس؛ بحيث تصبح أبدية مقترنة بتلك الفكرة الأصلية التي من أجلها قام الكفاح، ولسوف أكون جد سعيد إذا أصبحت الأداة المتواضعة في يد القوي العلي وأيدي هؤلاء الذين يكادون أن يكونوا شعبه المصطفى، للعمل على أن يدوم ذلك الذي انبعث من أجله ذلكم النضال العظيم.»
وكان الكتاب الذي يشير إليه لنكولن في هذه الذكرى هو بعينه ذلك الكتاب الذي أعاره إياه أحد معارفه، والذي بللته قطرات المطر فأصابته ببعض العطب، وتركت الصبي الفقير في حال شديدة من الغم، حتى لقد سار يحمله إلى صاحبه وهو شديد الحيرة، فلما جاءه عرض عليه أن يأجره عنده بما يساوي ثمن الكتاب، ذلك هو الكتاب الذي قرأ فيه الغلام النجار في الغابة حياة وشنطون العظيم، ولم يك يدور بخلده أنه سيجلس يوما حيث كان يجلس وشنطون، ويسدي إلى بني قومه وإلى الإنسانية جميعا من صنيعه ما لو شهده ذلك البطل العظيم لتمنى لو كان مما قدمت يداه فوق ما قدمتا.
واستأنف الرئيس لنكولن ومن معه سيرهم إلى العاصمة حتى وصلوا فيلادلفيا، وهناك علم أن فريقا من بني جنسه يأتمرون به ليقتلوه! سمع أبراهام أن أمامه الخطر يوشك أن يحدق به، وما كان أبراهام بدعا من العظماء، فكم من أماثل خلوا من قبله لاقوا مثلما يلاقي اليوم من عنت ودبر لهم مثلما يدبر له، فما وهنوا ولا انصرفوا عن وجهتهم حتى أدركوا الغاية أو أدركهم الموت.
وارتاب لنكولن أول الأمر، فما كان يظن أن أحدا تحدثه نفسه بإتيان هذا العمل، ولكن جاءه رسول من صديقه سيوارد ينبئه أن قائد الجيش حدثه أن مكيدة تدبر له، وأن عليه أن يحذر حتى لا يكون ضحية للغادرين، فلما سمع لنكولن هذا لم يعد يرتاب وبات على حذر وإن لم تأخذه خيفة.
وكانت لفيلادلفيا، وهي المدينة التي كتب الثوار فيها وثيقة الاستقلال وصاحوا صيحة الحرية، منزلة عظيمة في نفسه وفي نفس كل أمريكي من أنصار الحرية، وكان أبراهام قد رضي أن يخطب الناس في تلك القاعة التاريخية التي ولدت في ساحتها الحرية، وكأنما توافقت الذكريات لتزيد من جلال الموقف، فقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو يوم ميلاد الزعيم وشنطون، ورغب الناس أن يرفع العلم على القاعة الزعيم لنكولن، وقبل لنكولن مغتطبا فرحا، كما قبل أن يخطب الناس مساء ذلك اليوم في مدينة هرمسبرج، وكانت تقع غير بعيد من فيلادلفيا.
وخشى أصحاب أبراهام أن يفتك به المجرمون في زحمة الناس في ذلك اليوم المشهود في أي من المدينتين، وأشاروا عليه أن يقتصد في الاتصال بالناس، فيفوت على الغادرين مقصدهم، ولكنه أبى إلا أن يفي بوعده ولو كان في ذلك هلاكه.
ورفع أبراهام العلم في فيلادلفيا وكان موفقا في ذلك، فقد صعد في ثبات إلى حيث يقوم العمود الذي يثبت فيه العلم، فشد الحبل فانبسط العلم ورفرف، وصفق الناس واستبشروا وهم ساعتئذ جموع خلفها جموع إلى غاية ما يذهب فيهم البصر، وكلهم يحيون الرئيس في حماسة وغبطة.
وخطب في القاعة التاريخية فأفصح عن شيء من سياسته على غير ما جرى عليه في خطبه السالفة، قال : «كثيرا ما سألت نفسي ما ذلك المبدأ أو ما تلك الفكرة التي حفظت الاتحاد هذا الزمن الطويل؟ إنها لم تك مجرد انفصال المستعمرات عن الأرض الأصلية، ولكنها كانت تلك العاطفة التي ولدت الحرية، لا لهذه الأمة فحسب، ولكن للناس جميعا في كل عصر مقبل كما أرجو، إنها كانت تلك العاطفة التي بشرت أنه متى حان الوقت المناسب رفع العبء عن كواهل الناس جميعا، ومنح كل امرئ فرصة بقدر ما يمنح أخوه ... تلك هي العاطفة التي انطوى عليها إعلان الاستقلال. والآن إني أسائلكم يا أصدقائي هل يتسنى خلاص هذه البلاد على هذا الأساس؟ إذا أمكن ذلك فإني أعد نفسي، إن استطعت أن أساعد على خلاصها، من أسعد الناس في هذا العالم. أما إن كان من المستحيل إلا أن يضحى بهذا المبدأ، فإني أفضل أن أقتل هنا على أن أضحي به ... والآن أرى أنه ليس ثمة من ضرورة إلى سفك الدماء والحرب، ليس ثمة ضرورة إليها، وإني لا أميل إلى اتجاه كهذا، وأضيف إلى ذلك أنه لن تقوم حرب إلا إذا أجبرت الحكومة عليها، ولن تلجأ الحكومة إلى القوة إلا إذا شهر في وجهها سلاح القوة ... أي أصدقائي! هذه كلمات جاءت على غير ترتيب سابق ألبتة، فأنا لم أك أتوقع قبل وصولي أني سوف أدعى إلى الكلام هنا، لم أك أحسب إلا أني سأرفع العلم فحسب، وعلى ذلك فربما كانت كلمتي هذه ينقصها الحرص، ولكني لم أقل إلا ما أريد أن أعيش عليه وما أريد - إذا كانت هذه مشئية الله - أن أموت عليه.»
Página desconocida