وقرب يوم الرحيل ودوي العاصفة ملء نفسه، لكنه كلما أخطر بباله عظم ما هو بسبيل أن يضطلع به ازداد عزما ويقينا، وما أندر ما غاب عن باله هذا العبء الجسيم الذي قل مثله فيما تمتحن به بطولة الرجال.
الرجل القادم من الغرب
جال أبراهام جولة في البلاد التي قضى فيها صدر شبابه، وزار من لا يزالون أحياء من أهلها، وحج إلى قبر والده وأوصى بأن يعنى به، وكأنما كان يطوف بهاتيك الجهات طواف مودع لها لن تراها بعد عيناه أبدا، فهل كان يحدثه بذلك قلبه؟
وكان ممن رآهم في تلك الجهات زوج أبيه، وقد عانقته عناق الوداع وفي وجهها أمارات الخوف، وإنها لتدعو الله أن ينجيه من كيد أعدائه ، وكذلك فعلت زوج آرمسترونج، وقد قال لها ضاحكا: «إنهم إذا قتلوني فلن أذوق الموت مرة ثانية.»
وكان الشيوخ الذين رأوه في صدر شبابه يضحكون فيما بينهم فرحين برؤيته ذاكرين قصصه وأحاديثه ونكاته العذبة، يتحدثون عن ذلك الفتى القوي الطويل القامة، الذي كان يقطع الأشجار في مهارة ويسحب أزمة الثيران في قوة وخفة حركة، ويعجبون وهو اليوم في نحو الثانية والخمسين من عمره كيف تغير حاله كل هذا التغير حتى غدا الرئيس لنكولن، وهم لم يعرفوه إلا باسم أيب لنكولن.
ولما أزف يوم الرحيل لاحظ أهل المدينة على وجهه ما يبدو على وجه من يوشك أن يرحل عن وطن اشتد حبه له وعظم تعلقه به، ولقد زاده هذا نحولا على نحوله وهما على همه، وكذلك اشتد أسف الناس فهم لا يدرون كيف يصبرون على رحيله عنهم، ولقد كان لصغارهم الأب العطوف الرءوف ولكبارهم الصديق الوفي والناصح الأمين، ولكنهم يتأسون عن فراقه بما باتوا يأملونه من خير للبلاد جميعا على يديه.
ويعتكف أبراهام قبل رحيله ليكتب الخطبة التي يلقيها في وشنطون غداة تسلمه أزمة الحكم، ويطلع على خطب بعض الرؤساء الذين خلوا من قبله مثل جاكسون ووبستر، كما يضع أمامه دستور الولايات المتحدة، ويقول هرندن إن صاحبه هو الذي أعد تلك الخطبة وحده، وفي هذه الشهادة ما يقضي على ما ذكره بعض حاسديه من أن لزميله الفضل في صوغها، قال هرندن: «لم أكتب له قط سطرا واحدا، ولم يسألني مرة أن أفعل ذلك ... لقد كان يستشيرني فيما يتصل بالأسلوب أو باستعمال لفظ أو عبارة، وكنت إذا طلبت إليه أن يغير كلمة يحس أنها تعبر خير تعبير عن شعوره لا يطيعني ولا يتحول عن رأيه.»
وذهب في مساء ليلته الأخيرة بالمدينة إلى مكتبه؛ حيث كان ينتظره صديقه هرندن، ولندع هرندن يقص علينا حديث تلك الليلة، قال: «حضر لنكولن إلى المكتب ليفحص بعض الأوراق وليشاورني في بعض المسائل القانونية التي كان لا يزال مهتما بها، وكان قد أشار إلي في بعض مناسبات سالفة أنه سوف يأتي إلى المكتب ليحدثني حديثا طويلا، على حد تعبيره، وقد نظرنا في السجلات، ورسمنا ما نعمله لإتمام ما لم يتم من المسائل ... وبعد أن فرغنا من هذه الأمور ذهب إلى حيث جلس على تلك الأريكة القديمة، أريكة مكتبنا التي اضطررنا أن نسندها إلى الحائط وقد تطاول عليها العهد، وقد رفع وجهه ونظر في السقف لحظات دون أن يتكلم أحدنا، ثم ما لبث أن قطع الصمت قائلا: «بلي - وإنه ليدعوني دائما بهذا الاسم - كم سنة قضيناها ها هنا معا؟» وأجبته قضينا ما يزيد عن ست عشرة سنة، فسألني هل كانت بيننا قط كلمة شديدة طوال هذه المدة؟ فأجبته في حماسة كلا، ثم أخذ يستعيد من الماضي بعض حوادث عهده الأول بالمحاماة ... ثم قال فجمع عددا من الكتب وبعض الأوراق التي أراد أن يأخذها معه وتهيأ ليخرج، ولكن قبل أن يبرح المكان طلب إلي طلبا غريبا؛ وذلك أن تبقى اللافتة التي تحمل اسمي واسمه حيث هي، قائلا: «دعها معلقة هنا لا تتحول عن موضعها، ودع أصحاب القضايا يفهمون أن انتخاب رئيس لا يغير شيئا من مكتب لنكولن وهرندن، وإذا قدر لي أن أعيش فسأعود ثانية، ويومئذ نزاول عملنا في المحاماة كأن لم يحدث شيء.» ثم تلكأ لنكولن قليلا كما لو كان ذلك ليلقي آخر نظرة على تلك الأشياء القديمة من حوله، ثم خرج من الباب إلى الدهليز الضيق، وصاحبته حتى قرار السلم، وقد تحدث في طريقه عن المكاره التي تحيط بمنصب الرئيس قائلا: «إني منذ الآن يحيط بي السأم من ولاية المنصب، وإني لأرتعد كلما ذكرت ما ينتظرني من عمل في غدي»، وقال إن ما يخالجه من أسى على فراقه ما ألف من الناس والأشياء أعمق مما يستطيع أن يتخيل بعض الناس، وكان هذا الأسى أكثر وضوحا في وقفه هذا لما كان يهجس في نفسه من شعور يلح عليه بأنه لن يعود حيا، وعارضته في هذه الفكرة التي لا تتفق وما يرسمه رئيس من مثل أعلى ذاع في الناس، ولكنه رد في سرعة قائلا: «ولكنها تتمشى مع فلسفتي ...» ثم شد على يدي في اهتمام وقال في حماسة: «إلى اللقاء»، واختفى شخصه في الشارع ولم يعد بعد ذلك إلى المكتب أبدا.»
وكان لنكولن قد أجر بيته، ووضع متاعه عند جار من جيرانه، وكان يقيم هذه الليلة في فندق المدينة، وهناك أخذ يعد حقائبه بنفسه ويحزم ما يريد أن يحمل معه من المتاع بيده حتى فرغ من ذلك، فكتب على تلك الحقائب بخطه «أبراهام لنكولن بالبيت الأبيض بوشنطون»، ثم أوى إلى مضجعه فنام.
وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة، وقد تلاقى هناك جمع كبير من أهل المدينة جاءوا يحيونه، فما رآهم حتى وقف في مؤخرة العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه وتبادر دمعه، فقال: «أي أصدقائي، لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك مبلغ ما يخالجني من حزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله، ولقد لبثت فيه من عمري ربع قرن، ودرجت فيه من شاب إلى رجل مسن ... هنا ولد أبنائي، وهنا دفن واحد منهم، وها أنا ذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائدا إليكم بعد اليوم ... أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك الذي ألقي على كاهل وشنطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبدا ... ولئن ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب، فلنأمل في حسن المنقلب، مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ومعكم، والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني إذ أكلكم إلى عنايته - كما آمل أن تكلوني إليها في صلواتكم - أقرئكم وداعا حارا.»
Página desconocida