وأما باعتبار مندوبي الولايات المتحدة، وهم الذين ينتخبهم الناس في كل ولاية لينتخبوا بدورهم الرئيس حسب قواعد الدستور، فقد ظفر لنكولن منهم - وكان عددهم ثلاثمائة رجل وثلاثة - بمائة وثمانين هم الذين اجتمع فيهم المليونان، وظفر دوجلاس باثني عشر رجلا فحسب، وهم الذين اجتمع فيهم المليون ونصف المليون، وظفر بركنردج باثنتين وسبعين، وبل بتسع وثلاثين.
ومما هو جدير بالملاحظة أن لنكولن لم يظفر بمندوب واحد من خمس عشر ولاية، وفي عشر ولايات لم ينل صوتا واحدا، ولقد ظفر بأغلبية المندوبين في ولايات الشمال الثماني عشرة ما عدا نيوجيرسي؛ حيث تعادلت الأصوات فيها بينه وبين دوجلاس، ولم ينل إجماع المندوبين إلا في ولاية مسوري.
وراح خصوم أبراهام يعيرونه بهذا الفوز؛ إذ كانوا لا يعدونه فوزا إلا إذا نظر إليه باعتبار ما ظفر به من أصوات المندوبين، فإذا نظر إليه باعتبار أصوات الشعب، فإن لنكولن لم يفز إلا بأقل من النصف.
ولكن أصحابه لا يعبئون بهذا الكلام، وعندهم أن العبرة بعدد أصوات المندوبين لا بما يكون وراء هذه الأصوات من أعداد تقل أو تكثر حسب إقبال الناس على الانتخاب، ولقد ناله لنكولن من أصوات المندوبين ما قلما ظفر بمثله رئيس قبله إذا قيس ذلك إلى ما ناله كل من منافسيه، وبخاصة دوجلاس ذو الخطر والمكانة.
دوي العاصفة!
كان على أبراهام أن يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمة الحكم، فقضاها في سبرنجفيلد، بينما كان الرئيس بوكانون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في وشنطون.
ولبث أبراهام في سبرنجفليد يلقى زائريه كل يوم، ويمشي كعادته في الطرقات بين الناس لا يجعل بينه وبينهم كلفة، ولا يتخذ من دونهم حجابا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه بأحب أسمائه إليه؛ فمنهم من يناديه أيب العجوز، ومنهم من يقولها مجردة من النعوت، وتبدو «أيب» يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به؛ فإن على محياه لكآبة شديدة هي من أثر ما يهجس في نفسه، وإنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون.
أما امرأته فمرحة طروب لا تملك نفسها من الزهو إذ تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما يطلان على الجماهير الهاتفة، وإن كانت لتكره منه وتتبرم بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت لتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس، وبخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها أخرى جديدة فلا يطيع.
وحق له أن يبتئس وأن يرتاع؛ فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات؛ فهذه صحيفة من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان «أخبار خارجية»، وهذا حاكم كارولينا الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد، فقد استقال أعضاء مجلس الشيوخ من هذه الولاية وانسحبوا من وشنطون، وأخذ ذلك الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وتذيع صحفه في صراحة أن قد صار الاتحاد أثرا بعد عين، وإنه ليسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية على الانسحاب من الاتحاد، بعد أن أعلن بلسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة اليوم لهذه الولاية بالاتحاد، وأخذ يقيم لولايته حكومة مستقلة.
وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة باحا عمن عسى أن يشد أزره من الرجال، فيرى والأسى يرمض فؤاده أن كثيرا من رجال حزبه لا يرون رأيه، فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب، وكان على رأس القائلين بذلك سيوارد نفسه.
Página desconocida