على الأرجح لن يصمد الحجر اللين لمباني أكسفورد لأكثر من قرنين. وبالفعل تناقش الجامعة إذا ما كان ثمة جدوى من ترميم واجهة مسرح شيلدونيان المتداعية. لكني أحب تصور أن تلك الكائنات الخرافية ستهبط في ميدان سانت بيتر وتدخل إلى الكاتدرائية العظيمة، التي يسودها الصمت ويتردد فيها صدى وقع أقدامهم تحت الغبار الذي خلفته القرون. هل سيدركون أنها كانت يوما أعظم المعابد التي بناها البشر لواحد من آلهتهم الكثيرة؟ هل سينتابهم الفضول تجاه طبيعته، ذلك الإله الذي عبد بذلك القدر من الإجلال والتعظيم، وهل سيحير ألبابهم معنى شعاره الغامض الذي كان يوما بسيطا للغاية، مجرد عصوين متقاطعتين موجود مثلهما في كل مكان في الطبيعة، ومع ذلك ثقلا بالذهب، وزينا ببهاء بالجواهر؟ أم ستكون قيمهم وطرق تفكيرهم غريبة عنا لدرجة أنهم لن يتأثروا بأي مما كان يثير انبهارنا أو يأسر ألبابنا؟ لكن على الرغم من اكتشاف كوكب - كان ذلك في عام 1997 حسبما أذكر - أخبرنا رواد الفضاء أنه قد يكون صالحا للحياة، لم يصدق حقا أنهم قادمون إلا قلة منا؛ هم حتما موجودون. فلا يعقل أن يمنح هذا النجم الصغير وحده وسط هذا الكون الفسيح القدرة على دعم نمو وتطور كائنات ذكية. لكننا لن نصل قط إليهم ولن يأتوا هم إلينا قط.
منذ عشرين عاما، عندما صار العالم شبه مقتنع بالفعل أن جنسنا قد فقد للأبد القدرة على التناسل، صار البحث عن آخر ولادة بشرية هوسا عالميا، وارتفع لمرتبة الفخر القومي، وصار منافسة عالمية كانت في النهاية عديمة الجدوى بقدر ما كانت حادة وشرسة. كي تتأهل ولادة لها، كان يجب أن يوجد إخطار رسمي بها، وأن يسجل تاريخها ووقتها بدقة. استبعد ذلك عمليا نسبة كبيرة من أبناء الجنس البشري الذين عرف تاريخ مولدهم لكن لم تعرف ساعته، وأصبح من المقبول، ولكن من غير المشدد عليه، أن النتيجة لن تكون قط حاسمة. فأنا أكاد أجزم أن في إحدى الغابات النائية، وداخل كوخ بدائي، خرج إلى ذلك العالم اللامبالي آخر بشري دون أن يلاحظه أحد. ولكن بعد شهور من التدقيق والتمحيص، اعترف رسميا، بجوزيف ريكاردو، ذي العرق المختلط، الذي ولد بصفة غير شرعية في مستشفى بيونس آيريس في الساعة الثالثة ودقيقتين، بتوقيت غرب أوروبا الصيفي، يوم 19 أكتوبر 1995. فور إعلان النتيجة، ترك كي يستغل شهرته تلك بأفضل طريقة ممكنة، بينما وجه العالم اهتمامه صوب شيء آخر وكأنما أدرك فجأة عبثية ما كان يفعله. وها قد مات، وأشك في أن أي دولة ستتحمس لإيقاظ مرشحيها الآخرين من غفلتهم.
فنحن ساخطون ومثبطو الهمة، ليس بسبب نهاية جنسنا الوشيكة ولا حتى عدم قدرتنا على منعها، وإنما لفشلنا في اكتشاف السبب؛ فالعلوم الغربية والطب الغربي لم يؤهلانا لمواجهة فداحة ذلك الفشل الذريع ولا للخزي الذي تسبب به لنا. كثيرا ما واجهتنا أمراض كان من الصعب تشخيصها أو علاجها، وكاد أحدها يفتك بسكان قارتين قبل أن ينقضي. لكننا كنا نتمكن دائما من اكتشاف السبب في نهاية المطاف. لشدة حسرتنا، منحنا أسماء للفيروسات والجراثيم، التي لا تزال تصيبنا حتى يومنا هذا؛ إذ يبدو إهانة شخصية لنا كونها لا تزال تجتاحنا، مثل الأعداء القدامى المستمرين في مناوشاتهم وإسقاطهم لضحية من حين لآخر كلما تأكد لعدوهم النصر. كانت العلوم الغربية بمثابة إلهنا؛ فقد استطاعت بسلطانها النافذ إلى كل جوانب حياتنا أن تطيل أعمارنا وأن تمنحنا الطمأنينة والشفاء والدفء والغذاء ووسائل الترفيه، وقد كنا ننتقدها بأريحية بل نكفر بها في بعض الأحيان كما كفر البشر بآلهتهم، مع أنهم يعرفون أنه، مع كفرهم به، سيظل ذلك الإله، الذي خلقوه واستعبدوه، يوفر لهم رزقه من مسكن لأوجاعهم وقلب بديل ورئة جديدة ومضاد حيوي، وعجلات متحركة، وصور متحركة. سيظل النور يضيء دائما عندما نضغط الزر، وإن لم يضئ فبإمكاننا اكتشاف السبب. لم أكن ماهرا في مادة العلوم قط. كنت لا أستوعب إلا القليل منها عندما كنت طالبا بالمدرسة والآن وقد بلغت الخمسين من عمري لم يزد استيعابي لها كثيرا. لكني مع ذلك اتخذتها إلهي أنا أيضا، حتى وإن لم أكن قادرا على سبر أغوار إنجازاتها؛ لذا انضممت إلى أولئك الذين تحرروا من الوهم واعتبروا أن إلههم قد مات. بوسعي أن أتذكر بوضوح الكلمات الواثقة التي قالها عالم أحياء عندما تبين أخيرا أنه لا يوجد على وجه الأرض امرأة حبلى: «قد نستغرق بعض الوقت لاكتشاف سبب ذلك العقم الذي من الواضح أنه أصاب جميع سكان العالم.» ها قد مرت خمس عشرة سنة ولم يعد لدينا أمل في أن ننجح في اكتشافه. كفحل شبق أصابه العجز فجأة، جرح كبرياؤنا بما كنا نعتبره جوهر ثقتنا بأنفسنا. فمع كل ما نملك من علم وذكاء وقوة، لم نعد قادرين على الإتيان بما تأتي به الحيوانات دون تفكير. لا عجب أننا صرنا نعبدهم ونمقتهم في آن واحد.
أصبح عام 1995 هو العام الذي سمي «العام أوميجا»، وقد أصبح ذلك الاسم متعارفا عليه عالميا. دار جدال عام كبير في أواخر تسعينيات القرن العشرين حول إذا ما كانت الدولة التي ستكتشف علاجا لذلك العقم العام ستشاركه مع باقي العالم، وإن فعلت فتحت أي شروط. واتفق على أن هذه كارثة عالمية وأن العالم كله يجب أن يتحد لمواجهتها. كنا لا نزال في أواخر تسعينيات القرن العشرين نتحدث عن أوميجا باعتباره مرضا، أو خللا سيشخص ويعالج بمرور الزمن كما وجد الإنسان علاجا للسل والخناق، وشلل الأطفال، وحتى للإيدز في نهاية المطاف، وإن كان بعد فوات الأوان. وبمرور الأعوام، وعندما لم تؤل الجهود المشتركة تحت رعاية الأمم المتحدة إلى شيء، انهار ذلك القرار بالانفتاح الكامل؛ فغلفت الأبحاث بالسرية، وصارت جهود الدول مدعاة للاهتمام المشوب بالريبة والشغف. ضافر المجتمع الأوروبي جهوده، وحشد مؤسسات البحث والقوى العاملة. كان المركز الأوروبي للخصوبة البشرية الواقع في ضواحي باريس أحد أكثر تلك المؤسسات وجاهة في العالم، وكان يتعاون - على الأقل علانية - مع الولايات المتحدة التي كانت تبذل جهودا أكبر. لكن لم يحدث تعاون مشترك بين الأعراق المختلفة؛ فقد كانت الغنيمة أكبر من أن يتشاركوها فيما بينهم. كانت الشروط التي يمكن مشاركة السر وفقها محل تخمين وجدل محتدم. اتفق على أنه بمجرد أن يكتشف العلاج يتعين مشاركته؛ فقد كان يعد معرفة علمية لا ينبغي، ولا يمكن، لعرق أن يحتكرها لأجل غير مسمى. لكن، عبر القارات والحدود الدولية والعرقية المختلفة، كان كل منا ينظر إلى الآخر بتوجس وريبة، معتمدين على الشائعات والتكهنات. وعاودت حرفة التجسس القديمة الظهور مرة أخرى. تسلل العملاء القدامى خارج جحور تقاعدهم في وايبريدج وتشيلتنهام ولقنوا غيرهم حرفتهم. بالطبع لم يكن التجسس قد توقف، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة رسميا عام 1991؛ فالبشر قد أدمنوا ذلك المزيج المسكر من مجازفة المراهقين وخيانة البالغين لدرجة تمنعهم من التخلي عنه بالكلية. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، ازدهرت مؤسسة التجسس الرسمية كما لم تزدهر منذ انتهاء الحرب الباردة، وخرج من رحمها أبطال جدد، وأشرار جدد، وأساطير جديدة. كانت أعيننا مسلطة على اليابان بالأخص، خشية أن يكون هذا الشعب، الذي يتمتع بعبقرية تقنية، في طريقه بالفعل لإيجاد الحل.
وها قد مرت عشر سنوات وما زلنا نراقبهم، لكن بقلق أقل وأمل منعدم. لا يزال التجسس مستمرا حتى اليوم، ولكن مع أن خمسا وعشرين سنة قد مرت على ولادة آخر بشري، فإن قليلين منا فقط هم من يوقنون في قرارة أنفسهم أن كوكبنا لن يسمع صرخة مولود مرة أخرى. أما اهتمامنا بالجنس فهو آخذ في التلاشي؛ فقد طغى الحب الرومانسي والمثالي على الإشباع الجسدي المجرد رغم جهود حاكم إنجلترا المتمثلة في إقامة محال وطنية إباحية تهدف لاستثارة رغباتنا الواهنة. لكن أصبح لدينا ملذات حسية بديلة؛ وهي متاحة لجميع المسجلين بخدمة الصحة الوطنية. نذهب كي تدلك وتمسد وترطب وتعطر أجسادنا الآخذة في الهرم، وتدرم أظافر أيدينا وأقدامنا وتقاس أطوالنا وأوزاننا. أصبح مبنى كلية «ليدي مارجريت هول» مركز التدليك الخاص بجامعة أكسفورد، وهناك أرقد عصر كل ثلاثاء على الأريكة متطلعا إلى الحدائق التي لا تزال تلقى العناية، متمتعا بساعة التدليل الحسي المحتسبة بدقة التي توفرها لي الدولة. ويا له من جهد دءوب واهتمام مهووس ذلك الذي نوجهه تلقاء التشبث بوهم حيوية منتصف العمر، إن لم يكن الشباب. أصبح الجولف هو الرياضة الوطنية الآن. لولا أوميجا لاعترض دعاة حماية التراث البيئي على تشويه وإعادة تصميم تلك المساحات الواسعة من الريف، التي يعد بعضها من أجمل ما لدينا، لبناء ملاعب جولف أكثر تحديا. جميعها مجانية؛ فذلك جزء من الرفاهية التي وعد بها الحاكم. لكن بعضها صار حصريا، بإبقاء الأعضاء غير المرحب بهم خارجها، ليس بمنعهم من الدخول، فذلك يعد غير قانوني، بل بتلميحات التمييز الطبقي المتوارية التي تعلم كل مواطن بريطاني، حتى أغلظهم، تفسيرها منذ نعومة أظافره. فنحن ما زلنا بحاجة إلى مظاهر الأبهة؛ فالمساواة ما هي إلا نظرية سياسية ولا تصلح سياسة تطبيقية، حتى في ظل حكم زان لبريطانيا القائم على المساواة. جربت مرة أن ألعب الجولف، لكني ما لبثت أن وجدتها لعبة غير جذابة بالمرة، ربما لأنني استطعت زحزحة جلفا من الأرض لكني لم أستطع مطلقا أن أزحزح الكرة عن موضعها. أنا الآن أمارس العدو. كل يوم تقريبا، أخرج للركض فوق التربة الناعمة لبورت ميدو أو في ممرات المشي المهجورة بغابة ويثام، وأعد الأميال التي أقطعها؛ ومن ثم أقيس معدل ضربات القلب وفقدان الوزن وقوة التحمل. فأنا، مثلي مثل الجميع، أتوق لأن أظل على قيد الحياة، وأشاركهم هوس الحفاظ على وظائف جسمي.
أتذكر أن الكثير من هذا بدأ في مطلع تسعينيات القرن العشرين؛ اللجوء إلى الطب البديل، والزيوت العطرية، وتدليك الأجساد وتمسيدها ودهنها بالزيوت، والإمساك بالأحجار الكريمة طلبا للاستشفاء، والجنس بلا إيلاج. ارتفعت معدلات المشاهد الإباحية والعنف الجنسي في الأفلام وعلى التلفاز وفي الكتب وحتى في الواقع، وأصبحت أكثر جرأة، بينما أخذت تقل في الغرب أعداد أولئك الذين يمارسون الحب وينجبون الأطفال. بدا ذلك حينها تطورا مستحسنا في ظل الزيادة السكانية المفرطة التي كان العالم يعاني منها. لكن كوني أستاذ تاريخ، كنت أراه بداية النهاية.
كان لا بد من تحذيرنا في مطلع التسعينيات؛ ففي عام 1991 أظهر تقرير الاتحاد الأوروبي انخفاضا في أعداد الأطفال المولودين في أوروبا، والتي بلغت 8,2 مليون عام 1990، وكان ذلك الانخفاض ملحوظا في البلدان التي يعتنق معظم سكانها مذهب الروم الكاثوليك. اعتقدنا أننا نعرف الأسباب، وأن ذلك الانخفاض جاء متعمدا نتيجة للمواقف التحررية تجاه تنظيم النسل، والإجهاض، وتأخير النساء العاملات للإنجاب سعيا وراء حياتهن المهنية، ورغبة الأسر في رفع مستوى معيشتها. وقد ساهم في انخفاض أعداد السكان أيضا انتشار الإيدز خصوصا في أفريقيا. أطلقت بعض الدول الأوروبية حملة قوية للتشجيع على الإنجاب، لكن معظمنا كان يرى أن ذلك الانخفاض محمود بل ضروري. فقد كنا بأعدادنا الضخمة نلوث الكوكب، وإن كنا سنتكاثر بأعداد أقل فإن ذلك أمر مرحب به. لم تكن المخاوف منصبة على انخفاض أعداد السكان بقدر ما كانت منصبة على رغبة الأمم في الحفاظ على شعوبها وهويتها الثقافية وعرقها، وفي أن ينجب أبناؤها عددا من الصغار يكفي لحفظ هياكلها الاقتصادية. لكن حسبما أذكر، لم يشر أحد إلى أن تغيرا كبيرا يطرأ في نسب الخصوبة لدى الجنس البشري. وعندما جاءت أوميجا، جاءت بغتة، وقوبلت باستنكار. فبين ليلة وضحاها، بدا الأمر وكأن الجنس البشري فقد قدرته على التناسل. في يوليو 1994 تسبب اكتشاف أن حتى الحيوانات المنوية المجمدة والمحفوظة المستخدمة في التجارب والتلقيح الصناعي فقدت فاعليتها، في ذعر غير معهود ألقي على أوميجا بستار من رهبة الخرافات والسحر والتدخل الإلهي. وعاودت الآلهة القديمة الظهور بسلطانها الرهيب.
لم يتخل العالم عن الأمل حتى وصل الجيل الذي ولد عام 1995 إلى سن البلوغ الجنسي. فبعد اكتمال الاختبارات التي أجريت عليهم، واكتشاف أنه لا يوجد من بينهم من يستطيع إنتاج حيوانات منوية خصبة، أدركنا أن تلك لا محالة هي نهاية جنس «الإنسان العاقل». كان ذلك العام، عام 2008، هو العام الذي ارتفعت فيه معدلات الانتحار. ليس بين كبار السن، بل بين أبناء جيلي من متوسطي العمر، ذلك الجيل الذي كان عليه أن يتحمل وطأة تلبية المتطلبات المهينة والملحة لمجتمع يشيخ ويتداعى. حاول زان، الذي كان حينها قد استولى على السلطة في إنجلترا، منع الانتحار الذي كان يتحول إلى وباء بفرض غرامات على أقرب أقرباء على قيد الحياة للمنتحرين، مثلما يصرف المجلس اليوم معاشات كبيرة لأقارب فاقدي الأهلية والعاجزين من كبار السن ممن يقررون إنهاء حياتهم. وقد أتى ذلك بثماره؛ فقد انخفض معدل الانتحار هنا مقارنة بمعدلاته المهولة في مناطق أخرى من العالم، بخاصة الدول التي تقوم ديانتها على عبادة الأسلاف، واستمرار العائلة. لكن أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة استسلموا لتلك النزعة السلبية التي سادت العالم كله تقريبا وأسماها الفرنسيون «الضجر العالمي». فتكت بنا كالمرض الخبيث؛ وقد كانت بالفعل مرضا، له أعراض ما لبثت أن أصبحت شائعة، تمثلت في الوهن الجسدي، والاكتئاب، وتوعك غير معروف السبب، والاستعداد للإصابة بالأمراض المعدية البسيطة، وصداع دائم يمنع من الحركة. حاربته كما فعل كثيرون غيري. بعض الناس، ومن ضمنهم زان، لم يصابوا به على الإطلاق، ربما وقاهم منه افتقارهم للخيال أو في حالته أنانية مفرطة شكلت درعا قوية تمنع أي كارثة خارجية من اختراقها. ما زلت أحيانا بحاجة لأن أصارعه، لكني صرت لا أهابه مثل ذي قبل. الأسلحة التي أحاربه بها هي تلك الأشياء التي أجد فيها سلوتي؛ الكتب والموسيقى والطعام والنبيذ والطبيعة. تلك المبهجات المسكنة هي بمثابة تذكارات حلوة مريرة على أن السعادة البشرية زائلة، لكن متى كانت السعادة دائمة؟ ما زال بوسعي أن أجد اللذة، لذة ذهنية أكثر منها حسية، في ازدهار الربيع في أكسفورد، في أزهار شارع بيلبيرتون رود التي تبدو وكأنها تزداد جمالا عاما بعد عام، في ضوء الشمس وهو يزحف على الجدران الحجرية، وفي أشجار كستناء الهند وهي تتمايل مع الريح في أوج ازدهارها، وفي رائحة حقل فاصوليا تفتحت أزهاره، وفي أول أزهار اللبن الثلجية، وفي رقة تضام أوراق زهرة خزامى. يجب ألا تخبو اللذة، فسيحل الربيع على مدى قرون عدة دون أن يتسنى للبشر التلذذ برؤية تفتح أزهاره، وستتداعى الجدران وتموت الأشجار وتتعفن، وتصبح الحدائق مجرد حشائش وأعشاب.
كل ذلك الجمال سيبقى بعد فناء الذكاء البشري الذي يلاحظه ويتمتع به ويحتفي به. أقول ذلك لنفسي، لكن هل أصدقه حقا بعدما أصبحت اللذة لا تأتي إلا نادرا، وعندما تأتي، يصعب التفريق بينها وبين الألم؟ أتفهم السبب وراء ترك الأرستقراطيين وكبار ملاك الأراضي أملاكهم دون عناية بعد أن فقدوا الأمل في ذرية تخلفهم. فليس بإمكاننا أن نحيا إلا في اللحظة الحالية، وليس بإمكاننا أن نعيش أي لحظة زمنية أخرى، وإدراكنا لذلك هو أبعد ما نستطيع أن نبلغه إلى الحياة الأبدية. لكن عقولنا تشرد إلى القرون الماضية بحثا عن الطمأنينة في وجود أسلافنا، دون أمل في ذرية، ليس لنا فحسب بل لجنسنا كله، ودون أن نجد الطمأنينة في أن جنسنا سيبقى بعد أن نموت نحن، وأشعر أحيانا أن جميع الملذات الذهنية والحسية ما هي إلا وسائل دفاعية متهالكة مثيرة للشفقة تكالبت لتمنعنا من تدمير حياتنا.
في خضم فجيعتنا العالمية، مثل أبوين مكلومين، أخفينا كل ما يذكرنا بما فقدناه. فقد فككت ساحات لعب الأطفال من متنزهاتنا. في الاثنتي عشرة سنة الأولى بعد حدوث أوميجا، رفعت الأراجيح وثبتت لأعلى، وتركت الزحاليق وأطر التسلق دون تجديد طلائها. ثم أزيلت تماما وفرشت أرضيات ساحات اللعب الإسفلتية بالعشب أو زرعت فوقها الأزهار كما لو كانت قبورا جماعية صغيرة. حرقت الألعاب، باستثناء الدمى التي اتخذتها بعض النسوة، اللاتي فقدن عقولهن، بديلا للأطفال. أما المدارس التي أغلقت أبوابها منذ مدة طويلة فقد أوصدت نوافذها بالألواح الخشبية أو أصبحت تستخدم مراكز تعليم للكبار. وأزيلت كتب الأطفال بمنهجية من مكتباتنا. وصرنا لا نسمع أصوات الأطفال إلا في الشرائط والتسجيلات، ولا نرى صورهم المتحركة البهية إلا في الأفلام أو برامج التلفاز التي لا يطيق بعضنا مشاهدتها لكن يدمنها معظمنا كما لو كانت مخدرا.
Página desconocida