A Part of the Discourse on the Hadith of Shaddad bin Aws 'When People Hoard Gold and Silver'
جزء من الكلام على حديث شداد بن أوس «إذا كنز الناس الذهب والفضة»
Investigador
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Editorial
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Número de edición
الثانية
Año de publicación
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Géneros
جزء من الكلام على حديث شداد بن أوس "إذا كنز الناس الذهب والفضة"
1 / 333
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، رحمه الله تعالى:
خرَّج الإمام أحمد (١) من حديث شداد بن أوس ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ».
وخرجه الترمذي (٢) مختصرًا، وابن حبان في "صحيحه" (٣)، والحاكم (٤) وصححه.
وله طرق متعددة عن شداد.
وفي بعض طرقه "أن النبي ﷺ علمهم أن يدعوا بهذه الكلمات في الصلاة، أو في دبر الصلاة" (٥).
فقوله ﷺ: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ": إشارة إِلَى أن كنز هذه الكلمات، أنفع من كنز الذهب والفضة.
فإن هذه الكلمات نفعها يبقى، والذهب والفضة يفنى، قال الله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا
_________
(١) (٤/ ١٢٣).
(٢) برقم (٣٤٠٧).
(٣) كما في "الإحسان" (٩٣٥).
(٤) (١/ ٥٠٨).
(٥) أخرجه أحمد (٤/ ١٢٥).
1 / 335
وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (١) وقال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (٢).
وقد رُوي أن سليمان بن داود ﵉ مرَّ في موكبه، ومعه الإنس والجن بحرَّاث، فَقَالَ الحراث: لقد أوتي ابن داود ملكًا عظيمًا! فأتاه سليمان فَقَالَ له: تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان؛ لأنّ التسبيحة تبقى، وملك سليمان يفنى (٣).
وفي الحديث المشهور عن ثوبان أنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ (٤) فَقَالَ النبي ﷺ: "تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا نَتَّخِذُ؟ قَالَ: «لِيَتَّخِذَ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً صَالِحَةً، تُعِينُ أَحَدُكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ» (٥).
قال بعضهم: إِنَّمَا سمي الذهب ذهبًا لأنّه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض: يعني تنفض بسرعة، فلا بقاء لهما. فمن كنزهما فقد أراد بقاء ما لا بقاء له، فإنَّ نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه البر وسبل الخير.
قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار! لا ينفعانك حتى يفارقانكَ فما داما مكنوزين فما يضران ولا ينفعان، وإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات.
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلًا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ الآية (٦).
والآية ذم ووعيد لمن يمنع حقوق ماله الواجبة من الزكاة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والإنفاق في النوائب.
_________
(١) الكهف: ٤٦.
(٢) النحل: ٩٦.
(٣) أخرجه أبو نعيم في "زياداته عَلَى زهد ابن المبارك" (٢١٠).
(٤) التوبة: ٣٤.
(٥) أخرجه أحمد (٥/ ٢٧٨، ٢٨٢)، والترمذي (٣٠٩٤)، وابن ماجه (١٨٥٦).
(٦) التوبة: ٣٤، ٣٥.
1 / 336
وفي "صحيح مسلم" (١) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلًا فِضَّةٍ، لًا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ».
وفي "صحيح البخاري" (٢) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ"، ثُمَّ تَلاَ: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (٣).
وفيه أيضًا (٤) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ فَلاَ يَزَالَ يَطْلُبُهُ، حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ".
وفي "صحيح مسلم" (٥) عن جابر عن النبي ﷺ قال: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٌ، لَاَ يُفْعَلُ فِيهِ حَقُّهُ، إِلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيَهُ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ، فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لًا بُدَّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمَهَا قَضْمَ الْفَحْلِ".
والشجاع: الحية الذكر، والأقرع: الَّذِي قد تمعط شعر فروة رأسه لكثرة سمه.
فلهذا ورد الشرع بالأمر باكتناز ما يبقى نفعه بعد الموت، من الإيمان والأعمال الصالحة والكلمات الطيبة، فإن نفع ذلك يبقى، وبه يحصل الغنى الأكبر.
_________
(١) برقم (٩٨٧).
(٢) برقم (١٤٠٣، ٤٥٦٥).
(٣) آل عمران: ١٨٠.
(٤) برقم (٦٩٥٧).
(٥) برقم (٩٨٨).
1 / 337
قال ابن مسعود (١): نعم كنز الصعلوك [البقرة وآل عمران، يقوم بهما] (*) في آخر الليل.
وآخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، أعطيته هذه الأمة مع سورة الفاتحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
وفي بعض الآثار الإسرائيلية: كنز المؤمن ربه.
يعني أنه لا يكنز سوى طاعته وخشيته، ومحبته والتقرب إِلَيْهِ، فمن كان كنزه ربه، وجده وقت حاجته إِلَيْهِ.
كما في وصية النبي ﷺ لابن عباس: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" (٢).
أنت كنزي أنت ذخري ... أنت عزِّي أنت فخري
كيف أخشى الفقرَ إذا ... كنتَ أمني عند فقرِي
من كانَ اللَّهُ كنزَه فقد ظفرَ بالغنِى الأكبرِ
قال بعض العارفين: من استغنى بالله أمن من العدم، ومن لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم.
تنقضي الدُّنْيَا وتفنى ... والفتى فيها معنّى
ليس في الدُّنْيَا نعيم ... لا ولا عيش مهنّا
يا غنيًّا بالدنانير ... محب الله أغنى
_________
(١) أخرجه الدارمي في "سننه" (٣٣٩٨) بذكر آل عمران دون البقرة.
(*) سورة آل عمران يقوم بها: "نسخة".
(٢) أخرجه أحمد (١/ ٢٩٣، ٣٠٧)، والترمذي (٢٥١٦). وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من "جامع العلوم والحكم" (١/ ٤٦٠ - ٤٦١).
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه عليَّ، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة وغيرهم.
وأصح الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي. كذا قاله ابن منده وغيره.
1 / 338
والمقصود هنا شرح الكلمات التي أمر النبي ﷺ بكنزها، وأشار إِلَى أن نفعها خير من الذهب والفضة، وهي تتضمن طلب العبد من ربه لأهم الأمور الدينية.
فقوله ﷺ: "أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ" المراد بالأمر: الدين والطاعة.
فسأل الثبات عَلَى الدين إِلَى الممات ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (١) الذين قالوا: ربنا الله كثير، ولكن أهل الاستقامة قليل.
كان عمر يقول في خطبته: "اللهم اعصمنا بحفظك، وثبتنا عَلَى أمرك".
فالاستقامة والثبات، لا قدرة للعبد عليه بنفسه، فلذلك يحتاج أن يسأل ربه.
كان الحسن إذا قرأ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (١) يقول: اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة.
كان النبي ﷺ كثيرًا ما يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».
فقِيلَ لَهُ في ذلك، فَقَالَ: "إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمُهُ أَقَامَهُ وإِنَّ شَاءَ أَنْ يُزِيغُهُ أَزَاغَهُ" (٢).
وفي رواية الترمذي (٣): قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ" ثم ذكر الحديث.
كيف يأمن من قلبه بين أصبعين؟
كيف يطيب عيش من لا يدري بما يختم له؟
_________
(١) فصلت: ٣٠.
(٢) أخرجه أحمد (٦/ ٩١، ٢٥٠)، والنسائي وفي "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (١١/ ٦٠٥٩) من حديث عائشة.
وأخرجه أحمد (٣/ ١١٢، ٢٥٧)، والترمذي (٢١٤٠)، وابن ماجه (٣٨٣٤)، من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
وأخرجه الترمذي (٣٥٨٧) من حديث عاصم بن كليب الجَرْمِي عن أبيه عن جده. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
(٣) برقم (٢١٤٠)، وحسنه.
1 / 339
كم من عامل خاشع وقع عَلَى قصة عمله؟ ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ (١) «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَقَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (٢).
كان بعض الصالحين يسرد الصيام، فَإِذَا أفطر بكى، ويقول: أخشى أن يكون حظي منه الجوع والعطش.
في "الصحيح" (٣): "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ثُمَّ َيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ".
كم من عامل يعمل الخير، إذا بقي يينه وبين الجنة ذراع، وشارف مركبه ساحل النجاة، ضربه موج الهوى فغرق؟!
المحنة العظمى أن أمرك كله بد من لا يبالي بوجودك ولا عدمك، كم أهلك قبلك مثلك؟
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (٤).
كان الحسن يبكي ويطيل البكاء ويقول: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي.
قال أبو الدرداء: ما أهون العباد عَلَى الله إذا عصوه (٥)!
_________
(١) الغاشية: ٣، ٤.
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ٣٧٣، ٤٤١)، والنسائي في "الكبرى" (٢/ ٢٣٩)، وابن ماجه (١٦٩٠) من حديث أبي هريرة.
(٣) أخرجه البخاري (٣٢٠٨)، ومسلم (٢٦٤٣) من حديث ابن مسعود.
(٤) المائدة: ١٧.
(٥) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (١٤/ ٣٨٩/١).
1 / 340
يا قلب إِلَى ما تطالبني ... بلقاء الأحباب وقد رحلوا
أرسلتك في طلبي لهم ... لتعود فضعت وما حصلوا
سلم واصبر واخضع لهم ... كم مثلك قبلك قد قتلوا
ما أحسن ما علقت به ... آمالك منهم لو فعلوا
العبد يحتاج إِلَى الثبات في طول حياته، وأحوج ما يحتاج إِلَيْهِ عند مماته.
في الطبراني (١): ﷺ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لًا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقُولُوا: الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ، وَلًا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
ويحتاج إِلَى الثبات أيضًا بعد الموت، قال الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ (٢).
وفي "الصحيح" (٣) أنها نزلت في سؤال القبر يُسأل المؤمن في قبره فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
وفي "سنن أبي داود" (٤) أنه ﷺ كان إذا دفن الميت يقول: "سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ".
من دخل في الطاعة فهو يحتاج إِلَى الثبات عليها.
يا معشر التائبين، أنتم تقاتلون جنود الهوى بجنود التقوى، فاصبروا وصابروا ورابطوا، لا تقولوا جنود الهوى لا طاقة لنا بها، ولكن اصبروا إِنَّ الله مع الصابرين.
يا جنود العزائم اثبتوا واحذروا هتيكة (٥) الهزيمة ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (٦).
_________
(١) في "المعجم الصغير" (٢/ ١٢٥). وقال: لم يروه عن صفوان بن سليم إلا عمر بن محمد.
(٢) إبراهيم: ٢٧.
(٣) أخرجه البخاري (١٣٦٩)، ومسلم (٢٨٧١) من حديث البراء.
(٤) برقم (٣٢٢١).
(٥) الهتيكة: الفضيحة "لسان العرب" مادة: (هتك).
(٦) الأنفال: ٦٥.
1 / 341
لا تجزعن من كل خطب عرى ... ولا تُري الأعداء ما يشمتوا
يا قوم بالصبر ينال المنى ... إذا لقيتم فئة فاثبتوا
يا قوم الثبات الثبات، والمدوامة المداومة إِلَى الممات.
"أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ" (١).
قال الحسن: إِنَّ الله لم يجعل لعلم المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (٢).
وفي "الصحيح" (٣) عن النبي ﷺ قال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ (٤)، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا".
يا معشر التائبين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمد باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
وما إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (٥).
﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ (٦).
من سار في طريق العبودية إِلَى لقاء الحبيب، فلا بد من مواصلة السير حتى يصل، فإن وقف في الطريق أو رجع هلك، فإن اشتد عليه ألم السير، فليذكر راحة الوصول وقد زال التعب.
_________
(١) أخرجه أحمد (٦/ ١٦٥)، ومسلم (٧٨٢) من حديث عائشة.
(٢) الحجر: ٩٩.
(٣) أخرجه البخاري: (٦٤٦٣).
(٤) الدُّلجة: سير السحر أو سير الليل كله. "اللسان" مادة: (دلج).
(٥) الانشقاق: ٦.
(٦) العنكبوت: ٥.
1 / 342
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير وفي أعقابها حادي
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعادي
قوله ﷺ: "وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ".
العزيمة عَلَى الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم، فَإِذَا عزم عَلَى فعله أفلح.
"والعزيمة: هي القصد الجازم المتصل بالفعل.
وقيل: استجماع قوى الإرادة عَلَى الفعل.
ولا قدرة للعبد عَلَى ذلك إلا بالله، فلهذا كان من أهم الأمور سؤال الله العزيمة عَلَى الرشد.
وفي "المسند" (١) عن عمران بن حصين قال لرجل: قل اللهم قني شر نفسي، واعزم لي عَلَى أرشد أمري.
فالعبد يحتاج إِلَى الاستعانة بالله، والتوكل عليه في تحصيل العزم، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم.
قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (٢).
"والرشد: هو طاعة الله ورسوله.
قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ (٣).
وكان النبي ﷺ يقول في خطبته: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى" (٤).
_________
(١) (٤/ ٤٤٤).
(٢) آل عمران: ١٥٩.
(٣) الحجرات: ٧.
(٤) أخرجه مسلم (٧٨٠).
1 / 343
والرشد ضد الغي.
قال الله تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (١).
فمن لم يكن رشيدًا، فهو إما غاوٍ، وإما ضال.
كما قال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ (٢).
فالغاوي من تعمد خلاف الحق، والضال من لم يتعمد.
والعزم نوعان:
أحدهما: عزم المريد عَلَى الدخول في الطريق، وهو من البدايات.
والثاني: العزم عَلَى الاستمرار عَلَى الطاعات بعد الدخول فيها، وعلى الانتقال من حال كامل، إِلَى حال أكمل منه، وهو من النهايات.
ولهذا سمى الله تعالى خواص الرسل أولوا العزم -وهم خمسة- وهم أفضل الرسل.
فالعزم الأول يحصل للعبد [به] (*) الدخول في كل خير، والتباعد من كل شر؛ إذ به يحصل للكافر الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، وبه يحصل للعاصي الخروج من المعصية والدخول في الطاعة، فَإِذَا كانت العزيمة صادقة، وصمم عليها صاحبها، وحمل عَلَى هوى نفسه وعلى الشيطان حملة صادقة، ودخل فيما أمر به من الطاعات فقد فاز.
وعون الله للعبد عَلَى قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم عَلَى إرادة الخير أعانه وثبته، كما قيل:
عَلَى قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي عَلَى قدر الكرام المكارم
_________
(١) البقرة: ٢٥٦.
(٢) النجم: ٢.
(*) زيادة يقتضيها السياق.
1 / 344
لما أفضت الخلافة إِلَى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، بعد سليمان بن عبد الملك، فأول ما اشتغل به دفن سليمان، فلما رجع من دفنه، وصفت له مراكب الخلافة فوقف وأنشد:
ولولا النُّهَى ثم التقى خشية الردى ... لعصيت في حب الصّبا كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له عودة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، قربوا لي بغلي.
فركب دابته التي كان يركبها أولًا، وسار مستصحبًا لتلك العزيمة، فعلم الله صدقه فيها فأعانه عليها.
فأول ما بدأ به أنه سار لن يديه أهل الموكب، فنحاهم وقال: إِنَّمَا أنا رجل من المسلمين ثم نزل فقعد، فقام الناس بين يديه، فأقعدوا، وقال: إِنَّمَا يقوم الناس لرب العالمين.
ثم عزم عَلَى رد المظالم، فأدركته القائلة، وكان قد تعب وسهر تلك الليلة لموت سليمان بن عبد الملك، فدخل ليقيل ثم يخرج فيرد المظالم وقت صلاة الظهر.
فجاء ابنه عبد الملك فَقَالَ له: أتنام وما رددت المظالم؟
فَقَالَ: إذا صليت الظهر رددتها.
فَقَالَ عبد الملك: ومن لك أن تعيش إِلَى الظهر؟! وإن عشت فمن لك أن تبقى لك نيتك؟!
فقام وخرج ونادى: الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس فرد المظالم، وجاء بكتب القرى والأملاك -التي كانت في يده من إقطاع بني أمية- فمزقها كلها، ورد تلك القرى إِلَى بيت مال المسلمين.
1 / 345
وكان يقول: إِنَّ لي نفسًا تواقة! ما نالت شيئًا إلا تاقت إِلَى ما هو أفضل منه! فلما نالت الخلافة، وليس فوقها في الدُّنْيَا - منزلة، تاقت إِلَى الآخرة.
وإذا كانت النفوس كبارُا ... تعبت في مرادها الأجساد
لما ولي الخلافة، سمعوا في بيته صريخًا عاليًا من النساء.
فسئل عن ذلك فقيل: إِن خير امرأته وجواريه، فَقَالَ: من أرادت منكن أن تذهب فلتذهب، ومن أرادت أن تقيم فلتقم، وليس لها مني نصيب، فإني قد نزل بي أمرٌ شغلني عنكن، فبكين إياسًا منه.
ذاكروه مرة شيئًا مما كان فيه قبل الخلافة من النعيم فبكى، حتى بكى الدم!
وكان أكثر ما يقتات به حال خلافته، العدس والزيت، فَإِذَا عوتب عَلَى ذلك يقول: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدًا في النار.
ودخل مرة عَلَى بناته وقد كن تعشين بعدس فيه بصل، فكرهن أن يشم منهن رائحة ذلك، فلما رأينه هربن، فبكى وقال: يا بناتي إما تفعلن (أن) (١) تتعشين الألوان ويذهب بأبيكن إِلَى النار.
وكان يقول لأولاده: إِنَّ أباكم خير بين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وبين أن تستغنوا ويدخل النار، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أَحَبّ إِلَيْهِ.
كم أحمل في هواك ذلًاّ وعنا ... كم أصبر فيك تحت ضر وضنا
لا تطردني فليس لي عنك غنا ... خذ روحي إِن أردت روحي ثمنا
كان يقول لبعض أعوانه: إذا رأيتني ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني فقل: ما تصنع يا عمر؟!
من أجلك قد تركت خدي أرضا ... للشامت والحسود حتى ترضى
مولاي إِلَى متى بهذا أحظى ... عمري يفنى وحاجتي ما تقضى
_________
(١) بالأصول، ولعلها زائدة.
1 / 346
لا زال ينحل جسمه حتى ... كانت أضلاعه يعدهامن رآه عدًّا.
حبي والفراق أورثاني سقما ... هذا جسدي يعد عظمًا عظما
دعني فالشوق قد كفاني خصما ... يا سهم البين قد أصبت المرمى
أخفي شجني ولوعتي تبديه ... والدمع ينم بالذي أخفيه
قلبي قلق يحب من يضنيه ... لا أعذله فما به يكفيه
كم كان يُعذل عَلَى حاله ويُلام؟! والمحبة تنهاه أن يصغي إِلَى عذل أو ملام:
لو قطعني الغرام إربًا إربًا ... ما ازددت عَلَى الملام إلا حبا
لا زلت بكم أسير وجد وصبا ... حتى أقضي عَلَى هواكم نحبا
ما زالت به المحبة حتى رقته إِلَى درجة الرضى بمُرِّ القضاء، فكان يقول: أصبحت ومالي سرور في غير مواقع القضاء والقدر.
ومات أعوانه عَلَى الخير كلهم في أيام متوالية: ابنه عبد الملك، وأخوه سهل، ومولاه مزاحم.
فكان يقول بعد موتهم في مناجاته: أنت تعلم أني ما ازددت لك إلا حبًّا، ولا فيما عندك إلا رغبة.
ولما دفن ابنه عبد الملك -وكان أَحَبّ الخلق إِلَيْهِ- قال: ما زلت أرى فيه السرور وقرة العين من يوم ولد إلي يومي هذا، فما رأيت فيه أمرًا قط أقر لعيني من أمر رأيته فيه اليوم.
وكتب إِلَى الأمصار أن الله أَحَبّ قبضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي، وإحسانه إليَّ، ونعمته عليَّ.
1 / 347
إِنَّ كان سكان الغضا ... رضوا بقتلي فرضا
والله لا كنت لما ... يهوى الحبيب مبغضا
صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن يعترضا
إخواني، الخير كله منوط بالعزيمة الصادقة عَلَى الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق.
زجر الحق فؤادي فارعوى ... وأفاق القلب مني وصحا
هزم العزم جيوشًا للهوى ... سادتي لا تعجبوا إِنَّ صلحا
قال أبو حازم: إذا عزم العبد عَلَى ترك الآثام، أتته الفتوح.
يشير إِلَى ما يُفتح عليه بتيسير الإنابة والطاعة، ومقامات العارفين.
سئل بعض السلف متى ترتحل الدُّنْيَا من القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحلت الدُّنْيَا من القلب، ودرج القلب في ملكوت السماء، وإذا لم تقع العزيمة اضطرب القلب ورجع إِلَى الدُّنْيَا.
من صدق العزيمة يئس منه الشيطان، ومتى كان العبد مترددًا طمع فيه الشيطان، وسوفه ومناه.
يا هذا كلما رآك الشيطان، قد خرجت من مجلس الذكر كما دخلت وأنت غير عازم عَلَى الرشد، فرح بك إبلس، وقال: قد فديت من لا يفلح! يا من شاب ولا تاب! ولا عزم عَلَى الرشد ولا أناب! لقد أفرحت الشيطان وأسخطت الرحمن!
وإذا تكامل للفتى من عمره ... خمسون وهو إلى التقى لا يجنح
عكفت عليه المخزيات فماله ... متأخر عنها ولا متزحزح
وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيَّا وقال فديت من لا يفلح
1 / 348
قوله ﷺ: "وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ" هذا كما وصى النبي ﷺ معاذًا أن يقول في دبر كل صلاة: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (١).
فهذا أمران:
أحدهما: شكر العم، وهو مأمور به، قال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (٢)، وقال: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (٣) والشكر بالقلب واللسان والعمل بالجوارح.
فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم للمنعم، وأنها منه وبفضله، وجاء من حديث عائشة مرفوعًا: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرُهَا" (٤).
ومن الشكر بالقلب محبة الله عَلَى نعمه، ومنه حديث ابن عباس المرفوع: "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ (*) بِهِ مِنْ (النِّعَمِ) (**) " (٥).
قال بعضهم: إذا كانت القلوب جبلت عَلَى حب من أحسن إليها، فواعجبًا لمن لا يرى محسنًا إلا الله، كيف لا يميل بكليته إِلَيْهِ؟!
وقال بعضهم:
إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لمؤتيكها حبًّا فلست بشاكر
إذا أنت لم تؤثر رضى الله وحده ... عَلَى كل ما تهوى فلست بصابر
والشكر باللسان: الثناء بالنعم وذكرها، وتعدادها وإظهارها.
_________
(١) أخرجه أحمد (٥/ ٢٤٥، ٢٤٧).
(٢) البقرة: ١٥٢.
(٣) النحل: ١١٤.
(٤) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر" (٤٧).
(*) يغذوكم: أي يرزقكم.
(**) نعمة: "نسخة" وهي موافقة لرواية الترمذي.
(٥) أخرجه الترمذي (٣٧٨٩) قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه ..
1 / 349
قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (١).
وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع (٢): «التَّحَدُّثُ بِالنَّعَمِ شُكْرٌ، وتركها كفر».
وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكرها.
وكان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرًا، وأن أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها.
قال فضيل: كان يقال من شكر النعمة أن تحدث بها.
وجلس ليلة هو وابن عيينة يتذاكران النعم إِلَى الصباح.
والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا عَلَى طاعة الله ﷿، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه.
قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ (٣) قال بعض السلف: لما قِيلَ لَهُم هذا، لم تأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصل.
وكان النبي ﷺ يقول حتى تتورم قدماه، ويقول: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (٤).
ومر ابن المنكدر بشاب يقاوم امرأة، فَقَالَ: يا بني، ما هذا جزاء نعمة الله عليك!
العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحيي من الاستعانة بها عَلَى ارتكاب ما نهاه!
_________
(١) الضحى: ١١.
(٢) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر" (٦٣).
(٣) سبأ: ١٣.
(٤) البخاري (١١٣٠)، ومسلم (٢٨١٩).
1 / 350
هب البعث لم تأتنا رسله ... و(جاحمة) (١) النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق ... حياء العباد من المنعم
من كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت.
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم
ودخل خالد بن صفوان عَلَى عمر بن عبد العزيز فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ الله لم يرض أن يكون أحدٌ فوقك، فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر له منك. فبكى عمر حتى غشي عليه.
الأمر الثاني: حسن العبادة، وحسنها إتقانها والإتيان بها عَلَى أكمل وجوهها.
وإلى هذا أشار النبي ﷺ لما سأله جبريل عن الإحسان فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (٢).
فأشار إِلَى مقامين:
أحدهما: أن يعبد الله العبدُ مستحضرًا لرؤية الله إياه، ويستحضر قرب الله منه، واطلاعه عليه، فيخلص له العمل، ويجتهد في إتقانه وتحسينه.
والثاني: أن يعبده عَلَى مشاهدته إياه بقلبه، فيعامله معاملة حاضر لا معاملة غائب، وقد وصَّى ﷺ رجلًا أن يصلي صلاة مودع؛ يعني يستشعر أنه يصلي صلاة لا يصلي بعدها صلاة أخرى، فيحمله ذلك عَلَى إتقانها، وتكميلها، وإحسانها.
وقد وردت أحاديث فضائل الأعمال مقيدة بإحسان العمل، كما في
_________
(١) كل نار توقد عَلَى نار: جحيم، وهي جاحمة. "اللسان" مادة: (جحم).
(٢) أخرجه مسلم (٨) من حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه البخاري (٥٠)، ومسلم (٩) من حديث أبي هريرة.
1 / 351
حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ ﷿».
خرَّجه البخاري تعليقًا (١)، وفي رواية: "وقيل: ائتنف العمل".
وفي "صحيح مسلم" (٢) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا ﷿".
وفيه أيضًا (٣) عن عثمان ﵁، عن النبي ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».
وفيه أيضًا (٤) أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ».
وكان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان.
قال بعض السلف: إِنَّ الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
كم بين من تصعد صلاته لها نور وبرهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وبين من تُلَّفُ صلاته كما يُلَّفُ الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني؟!
ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه!
_________
(١) برقم (٤١).
(٢) البخاري (٤٢)، مسلم (١٢٩).
(٣) برقم (٢٣٥).
(٤) أخرجه (١٢٠)، وكذا البخاري (٦٩٢١).
1 / 352
قال بعض السلف: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟!
يشير إِلَى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (١).
ولهذا قال من قال من الصحابة: لو علمت أن الله قبل مني ركعتين، كان أَحَبّ إليّ من كذا وكذا.
فمن اتقى الله فى العمل قبله منه، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه.
والتقوى في العمل أن يأتي به عَلَى وجه إكمال واجباته الظاهرة والباطنة، وإن ارتقى إِلَى الإتيان بآدابه وفضائله كان أكمل.
والقبول هنا يراد به: الرضا بالعمل، والمدح لعامله، والثناء عليه في الملأ الأعلى، ومباهاة الملائكة.
وقد يراد بالقبول الثواب عَلَى العمل، وإن لم يرض به، ولم يمدح عامله، فيجازى عليه بأنواع من الجزاء، فضلًا من الله وإحسانًا، وإن لم يرض عن عامله.
كما رُئي بعض العُلَمَاء المفرطين في النوم، فسئل عن حاله فَقَالَ: غفر لي، وأعرض عني وعن جماعة من العُلَمَاء لم يعملوا بعلمهم.
ويطلق القبول عَلَى إسقاط الفرض بالعمل، وإن لم يثب عليه بثواب غير سقوط العقوبة، والمطالبة بأداء الفرض به.
والعارفون كلهم إِنَّمَا يطلبون القبول بالوجه الأول -وهو الرضا- ويخافون من فواته أشد الخوف.
قال مالك بن دينار: وددت أن الله إذا جمع الخلائق يقول لي: يا مالك.
فأقول: لبيك. فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنه قد رضي عني، ثم يقول لي: يا مالك كن اليوم ترابًا، فأكون ترابًا.
_________
(١) المائدة: ٢٧.
1 / 353