تحت أقدامي تقبع مدينة عظيمة. أميال من الشوارع العريضة، تظلها الأشجار، وتصطف على جانبيها مبان أنيقة، ولم تكن المباني في أغلبها في مربعات سكنية متصلة، بل تكونت من مناطق مسيجة أكبر أو أصغر حجما تمتد في كل اتجاه. ضم كل حي ميادين مفتوحة كبيرة تعج بالأشجار، تتلألأ بينها التماثيل وتلمع النافورات في ضوء شمس الأصيل. والمباني العمومية ذات الحجم الضخم والأبهة المعمارية التي لا مثيل لها في أيامي تقف شامخة على كل جانب.
إدوارد بيلامي، «نظرة إلى الماضي»
رأت ... نهرا ومباني ضئيلة غير ذات أهمية، وهياكل غريبة تشبه الطيور الطويلة السيقان التي لها أشرعة تتحرك مع حركة الريح، وبضعة مبان كبيرة ذات لونين أصفر وبني محمر، وقبة واحدة زرقاء غير ذات شكل منتظم، لا تزيد في حجمها عن حجم السوبر ماركت في أيامها؛ أي سوبر ماركت عادي في أي مركز تسوق كبير. كانت الأشياء التي على شكل طيور هي الأطول في الأنحاء، وكانت بالكاد أطول من بعض أشجار الصنوبر التي أمكنها رؤيتها. كما شاهدت بضع هيئات لا شكل محدد لها عليها بعض النباتات المعرشة الخضراء.
مارج بيرسي، «امرأة على حافة الزمن»
على النقيض من كثير من التعليقات التي نزعت للنظر لليوتوبيا حتى منتصف القرن العشرين باعتبارها شكلا من أشكال الملكية المشتركة، فقد كتب عن اليوتوبيا من كل مشرب يمكن تخيله؛ فهناك يوتوبيات اشتراكية ورأسمالية وملكية وديمقراطية ولا سلطوية وبيئية ونسوية وأبوية ومساواتية وتراتبية وعرقية ويسارية ويمينية وإصلاحية، وثمة يوتوبيات تركز على الحرية الجنسية، والأسرة النووية، والأسرة الكبيرة، والمثليين والمثليات، وغيرها الكثير من اليوتوبيات. ونشرت كل هذه الأنواع فيما بين عام 1516 ومنتصف القرن العشرين، قبل أن يهيمن التنوع فعليا وتكون له الغلبة. ونتيجة لوجود تقليد قوي مناهض لليوتوبية، يمكن مضاعفة العدد بمجرد وضع كلمة «مناهض» قبل أي من الأنواع السابقة. وبعد بداية القرن العشرين، كتبت ديستوبيات تعبر عن هذه المواقف كافة.
كانت كل هذه الأعمال المختلفة استجابة لقضايا رأى أصحاب تلك الأعمال أنها مهمة للوصول لمجتمع أفضل. وأغلب هذه القضايا قضايا دائمة الحضور؛ مثل: القانون والنظام، والدين اعتقادا وممارسة، والعلاقات الاقتصادية، ونظام الحكم، وتربية الأطفال والتعليم. لكن تتغير أهمية القضايا تبعا للزمن الذي كتبت فيه اليوتوبيا؛ فاليوتوبيات تأملات في القضايا التي كانت مهمة بالنسبة للفترة التي عاش فيها أصحاب تلك الأعمال.
والحلول المقترحة تكون أكثر محدودية من القضايا من حيث النوع، إن لم يكن من حيث التفصيل؛ فمن بين الحلول الأكثر شيوعا صورة إصلاحية من الدين يتبعها معتنقوه فعليا، وقوانين ونظم قانونية جديدة مطبقة بإنصاف، وأنظمة اقتصادية أفضل، وأنظمة سياسية محسنة، وتعليم متطور، والاستخدام الذكي للعلم والتكنولوجيا. والكثير من اليوتوبيات تحن إلى الماضي؛ إذ تنظر إلى الخلف، إلى ماض مثالي، ثم تنقله إلى المستقبل. وتكون اليوتوبيا في العيش في النسخة المنقحة لا على الطريقة التي كان يعيش بها الناس في الماضي بالفعل. ومن بين الموضوعات النموذجية الأخرى عيش حياة أبسط، وتحقيق توازن أفضل بين المدينة والريف. لكن هذه الموضوعات كافة قدمت أيضا بوصفها نفذت على نحو سيئ، أو أنها كانت في مصلحة أفراد أو مجموعات بعينها (سواء اقتصادية أو جنسية أو سياسية أو غير ذلك)، ويتمخض عنها ديستوبيات. بالنسبة للمؤيدين لليوتوبية، لا توجد حدود للذكاء والإبداع الإنساني. أما بالنسبة للمناهضين لليوتوبية، فلا حدود للغباء والجشع الإنساني. ويبدو أن كليهما على حق.
وكما هو الحال مع أي فرع من فروع الأدب، يوجد كتاب أو نصوص معينة ذائعة الصيت يبدو أنها تحدد ملامح الأدب اليوتوبي. وبينما قد تكون النصوص الأقل شهرة أكثر تمثيلا في الواقع لفترتها، فإن الأعمال الأشهر هي التي تدفع بقاطرة هذا الفرع من فروع الأدب للأمام. (4) «يوتوبيا» مور
إن عمل توماس مور «يوتوبيا» كتاب صغير معقد تناوله الشراح من مواقف مختلفة اختلافا جذريا؛ من الكاثوليكية الرومانية التقليدية إلى الإمبريالية البريطانية إلى الماركسية، وأحيانا بمجرد إهمال التعقيد الذي يكتنفه، وفي أحيان أخرى بإضفاء المزيد من التعقيد عليه. تنشأ مجموعة من المشاكل من حقيقة أن هذا الكتاب يبدو في الظاهر أنه مباشر، في حين أنه هزلي وساخر تماما. وقد ضلل أجيال من المترجمين قراءهم بتجاهلهم التلاعب بالألفاظ الذي سيكون واضحا لمن يقرءون النص اللاتيني الأصلي. صحيح أنه لا يحتوي على الكثير من تلك الأساليب، لكن عندما تكتشف أن أنيدروس - اسم النهر الرئيسي - يعني «لا ماء»، ولقب الشخص الذي يصف اليوتوبيا «هيثلوديوس» يعني «اللاغي»، يجب أن تبدأ في التساؤل. لكن رفائيل، اسم هيثلوديوس الأول، يعني «الشافي بمشيئة الرب»، فلا يمكنك أن تخلص إلى استنتاج واضح. وفي خطاب أرسله مور إلى بيتر جايلس، منشور في طبعة 1517 من الكتاب، يعلق مور ساخرا على التلاعب بالألفاظ. وفي نقاش بين مور وأحد النقاد الذي لم يستطع تحديد إن كانت «يوتوبيا» حقيقية أم من وحي الخيال، رد مور بأنه لو كان الكتاب من وحي الخيال لكان أشار إلى ذلك، وكتب يقول:
لذا، لو لم أكن قد فعلت شيئا سوى إطلاق الأسماء على الحاكم والنهر والمدينة والجزيرة التي توحي للمثقفين أن الجزيرة لا توجد في أي مكان، والمدينة عبارة عن سراب، والنهر لا يجري به ماء، والحاكم لا يحكم شعبا؛ لكان ذلك سيصبح أكثر ذكاء مما فعلت في واقع الأمر. وإذا لم تكبلني أمانة المؤرخ، فأنا لست من الغباء كي أفضل استخدام أسماء فظة عديمة المعنى؛ مثل: يوتوبيا، وأنيدروس، وأموروتوم، وأديموس.
Unknown page