مقدمة
1 - الأماكن الطيبة والفاسدة
2 - التطبيق العملي لليوتوبيا
3 - اليوتوبية الأصلية والكولونيالية وما بعد الكولونيالية
4 - اليوتوبية في الثقافات الأخرى
5 - اليوتوبية في التقليد المسيحي
6 - اليوتوبية والنظرية السياسية
7 - اليوتوبيا والأيديولوجية
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
مقدمة
1 - الأماكن الطيبة والفاسدة
2 - التطبيق العملي لليوتوبيا
3 - اليوتوبية الأصلية والكولونيالية وما بعد الكولونيالية
4 - اليوتوبية في الثقافات الأخرى
5 - اليوتوبية في التقليد المسيحي
6 - اليوتوبية والنظرية السياسية
7 - اليوتوبيا والأيديولوجية
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
اليوتوبية
اليوتوبية
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
لايمان تاور سارجنت
ترجمة
ضياء وراد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى إيفان، وجنيفر، وإيان، وكيران.
مقدمة
الأحلام هي النار التي تستعر بداخلنا.
مارج بيرسي
أي خريطة للعالم لا تضم «يوتوبيا» لا تستحق مجرد التطلع إليها؛ إذ إنها تغفل البلد الوحيد الذي تستقر فيه الإنسانية دائما. وعندما تستقر الإنسانية هناك، فإنها تنظر خارجا، وعندما تجد بلدا أفضل، تنطلق إليه؛ فالتقدم هو تحقيق اليوتوبيات على أرض الواقع.
أوسكار وايلد
آخر ما نحتاجه بالفعل المزيد من الرؤى اليوتوبية.
إيمانويل فالرشتاين
إذن هذه هي اليوتوبيا!
أليس كذلك؟ حسنا ...
أستميحك عذرا؛
اعتقدت أنها الجحيم.
ماكس بيربوم
فدان في ميدلسكس أفضل من إمارة في اليوتوبيا؛ فأقل القليل من الخير الواقعي أفضل من أكثر الوعود روعة بالمستحيلات.
توماس بابنجتون ماكولي
اليوتوبيات كثيرا ما تكون حقائق لم تنضج بعد.
ألفونس ماري لوي دي برا دي لامارتين
صاغ توماس مور (1478-1535) كلمة «يوتوبيا» لتكون اسم البلد الخيالي الذي وصفه في كتابه القصير الذي ظهر في عام 1516، والمنشور باللاتينية تحت اسم «كتاب مفيد وممتع حقا عن الحكومة المثلى للجمهورية والجزيرة الجديدة المسماة يوتوبيا»، والمعروف الآن باسم «يوتوبيا». والمقابل الإنجليزي لكلمة يوتوبيا
utopia
مأخوذ من الكلمة الإغريقية
topos
التي تعني مكانا أو موقعا، والحرف
u
مأخوذ من البادئة
ou
التي تعني لا أو بدون. وفي كتاب مور «ستة أسطر عن جزيرة يوتوبيا»، قدم للقارئ قصيدة تطلق على يوتوبيا كلمة
Eutopia (أي الأرض السعيدة أو المكان الطيب). نتيجة لذلك، أصبحت كلمة يوتوبيا، التي تعني لامكان أو ليس في أي مكان، تشير إلى مكان طيب غير موجود.
مع أن أغلب المثقفين في القرن السادس عشر كانوا يقرءون باللغتين الإغريقية واللاتينية، فإنه سريعا ما دخلت كلمة
utopia
اللغات الأوروبية الأخرى مع نشر كتاب مور بالألمانية في عام 1524، والإيطالية في عام 1548، والفرنسية في عام 1550. ونظرا لأن مور قد عارض ترجمة كتابه إلى الإنجليزية، فلم يتح الكتاب بالإنجليزية حتى عام 1551 عندما ترجمه صهره.
وفي كتابه «يوتوبيا»، صور مور سفينة تكتشف جزيرة غير معروفة تأسس عليها مجتمع قائم على مساواة واسعة النطاق، لكنه كان يحكمه رجال حكماء كبار السن. إنه مجتمع هرمي أبوي، له قوانين صارمة جدا وعقوبات قاسية، لكنه كان يوفر حياة لمواطنيه أفضل كثيرا من الحياة المتوفرة لمواطني إنجلترا حينها. تلك هي خصائص اليوتوبيا. إنها تتحدث عن أماكن طيبة (تصبح فيما بعد سيئة)، وتمثلها كما لو كانت حقيقية، فتستعرض أناسا يعيشون حياتهم اليومية، وتصور الزواج والأسرة والتربية والوجبات والعمل وما شابه ذلك، إضافة إلى النظم السياسية والاقتصادية. إن هذا التصوير للتحول الحادث في الحياة اليومية هو ما يميز اليوتوبيا، وما اليوتوبية إلا هذا التحول في مجريات الحياة اليومية.
شكل 1: كان توماس مور (1478-1535) محاميا وسياسيا وكاتبا إنجليزيا معروفا بأنه ذو توجه إنساني ينتمي لعصر النهضة، ومناهض لحركة الإصلاح البروتستانتي. أنعم عليه هنري الثامن برتبة فارس نظير خدماته التي قدمها له، وأعدم بسبب رفضه التوقيع على قسم يعترف فيه بهنري الثامن رئيسا للكنيسة في إنجلترا، وأعلنته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قديسا في عام 1935. وأشهر كتبه كان «يوتوبيا» (1516). وقد رسم هانز هولباين الصغير (1498 تقريبا-1543) هذه اللوحة الشهيرة لمور في عام 1527.
رغم أن توماس مور هو من صك كلمة «يوتوبيا»، فللفكرة نفسها فعليا تاريخ طويل ومعقد؛ فقد ظهرت الفكرة قبل ابتكار مور للكلمة بوقت طويل، وأضيفت إلى اللغة كلمات أخرى لوصف أنواع مختلفة من اليوتوبيات، مثل «ديستوبيا» التي تعني المكان السيئ، والتي استخدمها لأول مرة، على قدر علمنا، هنري لويس يونج (المولود في عام 1694) وذلك في عام 1747 في عمله «يوتوبيا: أو أيام أبوللو الذهبية»، وأصبح استخدامها شائعا الآن. وأمسى - منذ وقت مبكر جدا - وصف شيء ما بأنه «يوتوبي» طريقة لصرف النظر عنه؛ لكونه غير واقعي.
دائما ما يستاء الناس من ظروف معيشتهم، ويكونون رؤى لحياة أفضل وأطول، ويتطلعون لحياة أحسن وأبدية تستمر بعد الموت. وفي بعض الأحيان، ساور البعض القلق من احتمال أن يعيشوا حياة أسوأ بعد الممات، واعتقدوا أنه مهما كان سوء هذه الحياة، فيمكن أن تصبح أسوأ؛ ومن ثم ظهر أول انقسام كبير في اليوتوبية بين الأفضل والأسوأ في وقت مبكر جدا.
لا يمكننا معرفة متى حلم أحدهم لأول مرة بحياة أفضل، لكن يجب أن نعتمد على أولى الرؤى التي وصلت إلينا، أيا كان أصحابها وثقافاتهم، وهذه الرؤى موجودة في أقدم السجلات المكتوبة التي وصلت إلينا، مثل أحد الألواح السومرية الطينية الذي يعود تاريخه لعام 2000 قبل الميلاد. كانت الرؤى الأولى لليوتوبيا أشبه كثيرا بالأحلام، التي لم يكن للبشر فيها دخل نهائيا؛ أي شيئا يحدث على نحو طبيعي أو بسبب مشيئة أحد الآلهة.
كل أشكال اليوتوبيا تطرح أسئلة؛ فهي تسأل إن كان يمكن تحسين الطريقة التي نحيا بها، وتجيب بأنه يمكن ذلك، ويقارن أغلبها بين الحياة الحالية والحياة في اليوتوبيا، وتوضح أوجه الخطأ في الطريقة التي نحيا بها الآن؛ وبذلك تقترح ما ينبغي القيام به لتحسين الأوضاع.
كما هو الحال مع أغلب الموضوعات، ثمة اختلافات على التعريف. إحدى المسائل التي تحير الناس دائما تنشأ من عدم التمييز بين اليوتوبية باعتبارها فكرة عامة، والأدب اليوتوبي باعتباره فرعا من فروع الأدب؛ فاليوتوبية تشير إلى الأحلام والكوابيس المتعلقة بالسبل التي تنظم بها الجماعات البشرية حيواتها، التي عادة ما تضع تصورا لمجتمع مختلف كليا عن المجتمع الذي يعيش فيه الحالمون. واليوتوبية، على العكس من معظم النظريات الاجتماعية، تركز على الحياة اليومية، إضافة إلى المشكلات المتعلقة بالأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ويمكن التعرف على نطاق الكلمة في وصف الفيلسوف البولندي ليشك كولاكفسكي (1927-2009) للعملية التي بموجبها برزت الكلمة:
كاسم مصاغ اصطناعيا، واكتسبت، في القرنين الماضيين، معنى واسعا لدرجة أنه لا يشير إلى جنس أدبي وحسب، وإنما أيضا طريقة في التفكير، إلى عقلية، إلى موقف فلسفي، وتستخدم في تصوير ظواهر ثقافية تعود إلى الماضي البعيد.
يعرض كولاكفسكي التعقيد الذي تنطوي عليه اليوتوبية. إنني أطلق على اليوتوبية: «الحلم الاجتماعي»، في حين تطلق عليها عالمة الاجتماع روث ليفيتاس (المولودة في عام 1949): «الرغبة في طريقة أفضل للوجود»؛ بحيث تكون اليوتوبيا جانبا في «تثقيف هذه الرغبة». وفي إطار هذا النطاق العريض للكلمة، يكمن ما أطلق عليه «أوجه اليوتوبية الثلاثة»: الأدب اليوتوبي، والتطبيق العملي لليوتوبيا، والنظرية الاجتماعية اليوتوبية. وكما توضح الاقتباسات المعروضة في صدر هذه المقدمة، أصبحت الكلمة تحمل معاني مختلفة لأشخاص مختلفين.
يستخدم الباحثون اليوم - على نحو عام - تعريفين متشابهين جدا للأدب اليوتوبي: الأول وضعه المنظر الأدبي داركو سوفين (المولود عام 1930)، أما الثاني فأنا الذي وضعته:
البناء اللفظي لمجتمع شبه بشري خاص تنظم فيه المؤسسات الاجتماعية السياسية، والأعراف، والعلاقات بين الأفراد حسب أسس أكثر مثالية من تلك الموجودة في مجتمع المؤلف؛ وهذا البناء يقوم على انفصال ناشئ عن فرضية تاريخية بديلة.
مجتمع غير موجود معروض بتفصيل كبير، عادة ما يشغل زمانا ومكانا. وفي الاستخدام القياسي، تستخدم اليوتوبيا كما هي معرفة هنا، وأيضا باعتبارها مرادفا للمجتمع السعيد الطيب؛ أي المجتمع غير الموجود المعروض بتفصيل كبير، الذي عادة ما يشغل زمانا ومكانا، والذي يقصد المؤلف أن يراه القارئ المعاصر أفضل كثيرا من المجتمع الذي يعيش فيه.
وحيث إن الكتاب الذين يؤلفون أعمالا عن اليوتوبيا يبتكرون باستمرار أشكالا جديدة من اليوتوبيا لعرض أفكارهم، فيجب أن يكون لأي تعريف لليوتوبيا حدود مرنة نوعا ما. واليوتوبيات المعاصرة لا تشبه على الإطلاق ما كنا نطلق عليه في السابق يوتوبيا؛ فهي على وجه الخصوص أكثر تعقيدا، وأقل تحديدا في مقاصدها، وتسعى لتوضيح عيوب البشرية.
ينطوي التطبيق العملي لليوتوبيا على ما نطلق عليه - في أغلب الأحيان - الآن المجتمعات المقصودة أو الكوميونات، إلا أنه كان يطلق عليها في السابق أسماء أخرى كثيرة، بما في ذلك المجتمعات اليوتوبية، والتجارب اليوتوبية، واليوتوبيا العملية. هنا، لا يوجد أي تعريف متفق عليه، لكن يستخدم كثير من الباحثين تعريفي كثيرا مع تغييرات طفيفة، والذي ينص على ما يلي:
المجتمع المقصود هو مجموعة من خمسة أفراد بالغين أو أكثر وأطفالهم، إن وجدوا، قادمين من أكثر من أسرة نووية، واختاروا أن يعيشوا معا لتعزيز قيمهم المشتركة، أو لغرض ما آخر اتفقوا عليه فيما بينهم.
كان التطبيق العملي لليوتوبيا في وقت من الأوقات مقصورا - بوجه عام - على تلك المجتمعات، ولكن نظرا لاستخدام كلمة «يوتوبيا» الآن باعتبارها وصفا لكثير من أنواع النشاط الاجتماعي والسياسي التي تسعى لإقامة مجتمع أفضل، وفي بعض الحالات تحولا شخصيا؛ فهي فئة أوسع مما كانت عليه في السابق. وكل عمليات التطبيق العملي لليوتوبيا تتناول التحول الفعلي لا الخيالي للمجريات اليومية؛ فالمنضمون إلى المجتمعات المقصودة يختارون محاولة تغيير حياتهم، كما يفعل المشاركون في أشكال أخرى من التطبيق العملي لليوتوبيا، لكن بطرق مختلفة.
تتضمن النظرية الاجتماعية اليوتوبية: اليوتوبيا باعتبارها طريقة في التحليل؛ والعلاقة بين اليوتوبيا والأيديولوجية، التي كان المنظر الاجتماعي كارل مانهايم (1893-1947) أول من أشار إليها في عام 1929، والتي استخدمها آخرون بطرق مختلفة منذ ذاك الحين؛ والطرق التي استخدم بها مفكرون مثل الفيلسوف الماركسي الألماني إرنست بلوخ (1885-1977)، وعالم الاجتماع الهولندي فريدريك إل بولاك (1907-1985) اليوتوبية لتفسير التغير الاجتماعي؛ ودور اليوتوبية في الدين، لا سيما في علم اللاهوت المسيحي؛ حيث رأى البعض أنها نوع من الهرطقة، في حين رأى آخرون أنها مفهوم أساسي؛ ودور اليوتوبيا في نظريتي الكولونيالية وما بعد الكولونيالية؛ والمناظرات بين المؤيدين للعولمة والمناهضين لها. وسنتناول هذه المداخل كلها بين دفتي هذا الكتاب.
اليوتوبية والمجتمعات المقصودة ظاهرتان معقدتان لهما تاريخان طويلان حدثتا في أطر عديدة ومختلفة؛ نتيجة لذلك، فهما تختلفان اختلافا كبيرا من زمان لآخر، ومن مكان لآخر؛ لذا فإن التعريف على مستوى من التعميم يجمع كل شيء قد يكون نقطة بداية مفيدة، لكنه لن يخبرنا إلا بالقليل عن الظواهر الفعلية وهي تحدث؛ ومن ثم ينبغي علينا تحديد مواصفات مختلف الفئات الفرعية على نحو مناسب، بحيث نصل لأوجه التشابه، ونتعرف على أوجه الاختلاف فيما بينها. وعلى وجه الخصوص، يجب أن يكون أي نقاش حول المجتمعات المقصودة مدركا أن لكل مجتمع دورة حياته الخاصة، التي تبدأ بالرؤى والتخطيط المسبق إلى الميلاد والنمو والنضج، وغالبا الموت؛ ويكون الموت ممكنا في أي مرحلة من مراحل حياة المجتمع.
ومن الممكن أن توجد اختلافات جوهرية حول العناصر المشكلة للمكان الطيب. والحالة الكلاسيكية التي تعود إلى القرن العشرين هي رواية «والدن تو» (1948)، لصاحبها عالم النفس بي إف سكينر (1904-1990)؛ وهي رواية تصف مجتمعا صغيرا - أنشأه عالم نفس سلوكي - رآه كثيرون على نحو واضح باعتباره مكانا طيبا، بل وحتى دليلا للمجتمع المقصود المثالي. أقيمت بعض المجتمعات على هذا النموذج، ولا يزال بعضها قائما، في حين رأى آخرون الرواية باعتبارها صورة لمجتمع شمولي. تختلف النظرة للمجتمعات من قبل من يلاحظونها من الخارج مقارنة بمن يعيشون فيها، وتتغير تلك النظرات مع تغير المجتمعات والناس. على سبيل المثال، كثيرا ما ينظر إلى المجتمعات المقصودة على أنها أماكن رائعة إن كنت طفلا تعيش فيها، وأماكن بغيضة إن كنت مراهقا.
للأدب اليوتوبي ستة أهداف على الأقل، رغم أنه لا يمكن الفصل بينها بالضرورة. يمكن أن تكون اليوتوبيا مجرد فانتازيا، أو يمكن أن تكون وصفا لمجتمع مرغوب أو غير مرغوب فيه، أو استقراء أو تحذيرا أو بديلا للواقع، أو نموذجا يجب أن يتم الاقتداء به. والمجتمع المقصود المقدم على هيئة يوتوبيا يضيف غرضا سابعا؛ ألا وهو إثبات أنه من الممكن عيش حياة أفضل في الوقت الحاضر. ينظر المؤيد لليوتوبية إلى البشرية ومستقبلها نظرة أمل أو نظرة خوف. إن كانت النظرة نظرة أمل، فعادة ما تكون النتيجة يوتوبيا. أما إن كانت نظرة خوف، فتكون النتيجة في العادة ديستوبيا. لكن اليوتوبية هي في الأساس فلسفة أمل، وتتسم بتحويل أمل عام إلى وصف لمجتمع غير موجود. وبالطبع، كثيرا ما لا يزيد الأمل على كونه تلبية لرغبة ساذجة نوعا ما، كما في بعض الحكايات الخرافية (وإن كانت معظم الحكايات الخرافية تتحول إلى ديستوبيات إن جرى تحليلها بدقة). على الجانب الآخر، فإن الأمل ضروري لأي محاولة لتغيير المجتمع إلى الأفضل. لكن هذا يطرح احتمال أن يحاول أحدهم فرض فكرته عن المستقبل المرغوب على الآخرين الذين يرفضونها. ودائما ما يواجه اليوتوبيون هذه المعضلة عندما يحاولون نقل حلمهم إلى أرض الواقع؛ هل حلمهم متوافق مع فكرة فرضه على الآخرين؟ وهل يمكن أن تتحقق الحرية من خلال اللاحرية؟ أو المساواة من خلال اللامساواة؟
ثمة أسباب وجيهة لكل من التقييمات السلبية والإيجابية لليوتوبية منعكسة في الاقتباسات المعروضة في صدر هذه المقدمة، وسيجري تناول تلك الأسباب عبر صفحات الكتاب. كانت التقييمات السلبية قوية في القرن العشرين نتيجة لمحاولة فرض نسخ بعينها من الحياة الطيبة، لا سيما الشيوعية في الاتحاد السوفييتي والصين وفي أماكن أخرى، وكذلك الاشتراكية القومية في ألمانيا ونسخة طالبان من حركة الإسلام السياسي في أفغانستان. كانت نظرة آخرين إلى اليوتوبية إيجابية بوصفها الوسيلة الرئيسية لمواجهة مثل هذه المحاولات.
على الرغم من أنني أهدف إلى تقديم عرض شامل ومتوازن في هذا الكتاب، فإن لي طرحا معينا أود تناوله؛ في المجمل العام، طرحي هو أن اليوتوبية ضرورية لتحسين وضع البشر. وبهذا المضمون، فالمناهضون لليوتوبية مخطئون ويمكن أن يشكلوا خطرا. لكني أدفع أيضا بأنه إن استخدمت اليوتوبية بشكل خاطئ - وقد حدث هذا بالفعل - فهي خطيرة. وبهذا المضمون، فالمؤيدون لليوتوبية مخطئون ويمكن أن يشكلوا أيضا خطرا؛ لذا تستكشف الخاتمة الطبيعة المتناقضة لليوتوبية، وتسعى إلى تداركها.
الفصل الأول
الأماكن الطيبة والفاسدة
(1) تقليدا اليوتوبيا
بداية، كان السلام مكفولا للجميع كماء الشرب. لم تنبت الأرض خوفا ولا مرضا؛ فكل ما احتاجوه ظهر تلقائيا، فكان النبيذ ينساب بالجداول، وكعكات الشعير تزاحم أرغفة الخبز أمام أفواه الناس، متوسلة إليهم كي يتناولوا أكثرها بياضا، إن سمحوا بذلك.
تليكليديس، «أمفيكتينيز»
لم يتزوجوا من زوجات، بل كانت نساؤهم مشتركة بينهم، والأطفال الناتجون عن هذا الوضع تربوا على نحو مشترك فيما بينهم، وعاملهم الجميع بالقدر نفسه من الحب. وعندما كانوا أطفالا رضعا، كانت النساء اللائي يرضعنهم عادة ما يتبادلن إرضاعهم؛ بحيث لا تستطيع الأمهات التعرف على أطفالهن؛ ومن ثم لم تكن هناك غيرة بينهن، وعاشوا دائما دون أي مشاحنات ، معتبرين الوفاق رأس كل النعم.
إيامبولوس، «هليوبوليس»
شكل 1-1: الصورة المواجهة لصفحة عنوان كتاب توماس مور «يوتوبيا» في طبعته التي ظهرت في عام 1518، والتي تصور جزيرة يوتوبيا. والصورة لرسم منحوت على الخشب من صنع أمبروسيوس هولبيان (1494 تقريبا-1519 تقريبا).
شكل 1-2: لوحة بيتر بروجل الأكبر (1525 تقريبا-1569) «أرض كوكين» (1567) تصور الوفرة الشديدة في الشراب والطعام في كوكين، وهي أرض الوفرة التي تروي كثير من القصص أنه لا يمكن أن يصل إليها سوى الفقراء.
رغم أن توماس مور صك كلمة «يوتوبيا» في عام 1516، ونشأ فرع من فروع الأدب من رحم كتابه؛ ففكرة اليوتوبيا أقدم من ذلك بكثير، والاقتباسان أعلاه والشكلان
1-1
و
1-2
يعكسان نسختين مختلفتين تماما من الحياة الطيبة. تركز إحداهما على المتعة، لا سيما المتعة الجسدية، ومحورها وفرة الطعام والشراب، مع إتاحة الكثير من الممارسات الجنسية في بعض النسخ؛ في حين تركز الأخرى على التنظيم الاجتماعي. الأولى فانتازيا تحققها الطبيعة أو الرب أو الآلهة، أما الثانية فمقدمة على نحو واقعي، ويحدثها بشر باستخدام ذكائهم. كلتا النسختين عتيقتان، ولا تزالان موجودتين حتى اليوم. بالنسبة للبعض، لا ترقى سوى الثانية لتكون يوتوبيا، لكن يرى آخرون الأولى باعتبارها رافدا مهما في النهر المعروف باليوتوبيا.
أطلق على النسخة الأولى «يوتوبيا الهروب» أو «يوتوبيا الجسد»، ولا توجد ثقافة لا تضم مثل هذه اليوتوبيات. في التراث الذي يشكل تاريخها في الغرب، توجد في جنة عدن، والقصص الإغريقية والرومانية عن جنة الأرض، وفكرة الجنس أو العصر الذهبي الذي كان موجودا في الماضي، و«رؤية ماكونجلين» الأيرلندية. وتنتقل إلى تراث «العالم المقلوب رأسا على عقب» لتظهر في عيد الإله الروماني ساتورن، وعيد البلهاء، وأرض كوكين، والصور المبكرة من الكرنفال (وهو موسم الاحتفالات المسيحي السابق على «الصوم الكبير»)؛ جميعها تضع الفقراء والمقهورين على نحو مؤقت في مراكز قوة، في حين تضع سادتهم المفترضين في مراكز أدنى منهم ليوم أو أسبوع. وعادة ما يعاد ابتداع تلك النسخة من جديد، وتعاود الظهور في المجموعات المقهورة، وفي أوقات الأزمات الاقتصادية. (2) الأساطير الكلاسيكية
على الرغم من وجود اختلافات بين هذه الأساطير، فإنها اشتركت في الكثير؛ فبعض الأجزاء كانت مقدمة على نحو إيجابي، فكان الناس والآلهة قريبين بعضهم من بعض، وكانت الأرض تنتج تلقائيا وفرة من الطعام وأي شيء آخر كان يحتاجه الناس. لكن أغلب الأجزاء عرض على نحو سلبي، وكان معنيا بحل مشكلات الحاضر؛ فلم يكن هناك خوف من الحيوانات البرية، ولم يكن هناك صراع بين البشر، ولم تكن هناك حاجة للعمل، ولم تكن هناك تجارة أو حكومة؛ لأنه لم تكن هناك حاجة لهما. كانت بداية الحياة ونهايتها سلستين؛ كانت النساء يضعن أطفالهن دون ألم، أو لا يضعن على الإطلاق؛ فلم تكن هناك وفيات؛ ومن ثم لم تكن هناك حاجة للمواليد، ولا لموت مريح. فسر بعضها أيضا كيف أننا انتقلنا من الحياة الطيبة إلى الحياة الصعبة التي نعيشها في الوقت الراهن. على سبيل المثال، معصية الرب في جنة عدن أفضت إلى الخوف والعناء والموت وآلام الوضع بالنسبة للنساء.
أكثر تلك الأساطير المبكرة تأثيرا هي الأساطير الخاصة بعملية الخلق، مثل العصر الذهبي، وجنة الأرض، وأساطير الحياة الآخرة، مثل «جزر المباركين» - حيث يذهب الأبطال بعد الموت - وأسطورة إله العالم السفلي هاديس. كانت تلك الأساطير التي تعود للحضارة اليونانية والرومانية والسومرية والديانة اليهودية في بداياتها مهمة لتطور اليوتوبية الغربية. كما توجد أساطير مشابهة، مثل أسطورة «أرض أزهار الخوخ» الصينية، في أغلب الحضارات القديمة. والنسخة الغربية الكلاسيكية من العصر الذهبي هي نسخة هيسيود الشاعر الإغريقي (التي ظهرت في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد)، الذي كتب يقول:
كان الجنس البشري الذي أنعم عليه بالكلام، والذي أوجده الخالدون - أولئك الذين يسكنون في قصور على جبل الأوليمب - جنسا ذهبيا. عاش هؤلاء في زمن كرونوس عندما كان ملك السماء؛ وتماما مثل الآلهة، أمضوا حياتهم، بروح تخلو من الهم، بعيدا عن التعب والبلاء. لم تطلهم يد الشيخوخة العقيمة، وكانوا دوما متساوين في كل شيء، وتمتعوا بالأعياد والاحتفالات، وسلموا من كافة الشرور، وماتوا كما لو كان غلبهم النعاس. كانت لهم كل الأشياء الطيبة؛ فحقول الحبوب كانت تنبت محاصيل من تلقاء نفسها، كانت تنبت الكثير منها وبوفرة. أما هم، فتشاركوا ثمار العمل معا - طواعية، وبنبل كبير - إضافة إلى أشياء طيبة أخرى كثيرة، وكان لهم من الغنم الكثير، وكانوا مقربين من الآلهة.
لكن نسخة العصر الذهبي التي ورثتها العصور الوسطى كانت نسخة الكاتب الروماني أوفيد (43-17 / 18 قبل الميلاد)، في حين أكد هيسيود على الوفرة التي تشاركها الجميع بالتساوي، والحياة السعيدة، والموت المريح. أضاف أوفيد، في استجابة منه لقضايا عصره، التحرر من القوانين والمحاكم، وتجنب نشوب الحروب، ووجود مجتمع محلي، قائلا:
في الماضي، كان الناس يعيشون في عصر ذهبي، حين كان الناس يتصرفون وفق إرادتهم، دون خوف من عقاب، دون قوانين، وكانوا يتمتعون بإيمان سليم، ويقدمون على فعل كل ما هو صحيح. لم تكن هناك عقوبات يخشونها، ولم تكن هناك لوحات برونزية منصوبة محفور عليها القوانين تحمل تهديدات باتخاذ إجراء قانوني، ولم تكن هناك حشود من المذنبين المتطلعين للرحمة، والمرتعشين أمام قاضيهم. في الواقع لم يكن هناك قضاة؛ إذ عاش الناس في أمان دونهم. وإذ لم تكن هناك أشجار صنوبر يتم قطعها من موطنها على الجبال لصنع سفن تسير عبر أمواج المحيطات ليبحروا إلى أراض أجنبية، فلم يعرفوا سوى شواطئهم، ولم تكن مدنهم محاطة بعد بخنادق مائية عميقة، ولم تكن لديهم أبواق نحاسية طويلة، أو خوذ نحاسية ملتفة، أو سيوف. تمتعت شعوب العالم، التي لم يعكر صفوها أي مخاوف، بحياة الدعة والسلام، ولم تكن هناك حاجة لجنود.
تبدي التغييرات التي أدخلها أوفيد كيف أن تلك الروايات عكست قضايا معاصرة في الوقت الذي بدت فيه خارج إطار الزمان تماما.
الاقتباس الذي أخذناه من تليكليديس، في بداية هذا الفصل، مثال آخر على الحياة في عصر كرونوس، وكتب الشاعر الروماني لوقيان السميساطي (125 تقريبا-ما بعد 180 ميلاديا) يقول على لسان كرونوس:
خلال الأسبوع غير مسموح بأي أمر جاد، غير مسموح بالقيام بأي عمل. الشرب والسكر، والصخب والألعاب والنرد، وتعيين الملوك، وإقامة احتفالات العبيد، والغناء عريانا، والتصفيق الشديد، وغمر الوجوه الثملة في الماء المثلج من آن لآخر : هذه هي المهام التي أقوم بها.
كان احتفال الرومان بعيد الإله ساتورن مهرجانا فعليا يستعيدون فيه العصر الذهبي لفترة وجيزة؛ حيث كان يعمل السادة على خدمة الخدم، ويطعم الأغنياء الفقراء. وفي بعض النسخ من المهرجان، كانوا يعفون عن ديونهم. بالنسبة للجميع، كان هناك إسراف شديد في الطعام والشراب ودرجة من الحرية الجنسية. وبدون الإسراف في المأكل والمشرب والحرية الجنسية، فإن فكرة وجود فترة يتم فيها الإعفاء من الديون، ومن ثم منح المدين فرصة جديدة، مذكورة في العهد القديم: «يبرئ كل صاحب دين يده مما أقرض صاحبه. لا يطالب صاحبه ولا أخاه؛ لأنه قد نودي بإبراء للرب» (سفر التثنية، 15 : 2).
في العصور الوسطى، تسببت الاحتفالات التي انحدرت من عيد الإله ساتورن - مثل الكرنفال السابقة الإشارة إليه حين كان الفقراء يحكمون لبعض الوقت، وعيد البلهاء، والذي كان فيه يجري عكس التراتب الكنسي لفترة وجيزة، وكان له شعبية على نحو خاص في فرنسا - في مشاكل خطيرة؛ فمن وقت لآخر، كان احتفال الكرنفال يخرج عن السيطرة، على الأقل من وجهة نظر المتقلدين للسلطة؛ لأن المغلوبين على أمرهم ظنوا أن قلب الأوضاع يجب أن يستمر لفترة أطول من بضعة أيام. أما عيد البلهاء، فقد وقفت ضده الكنيسة بقوة حتى ألغته. لا يزال احتفال الكرنفال يقام ببعض الأماكن، مثل نيو أورليانز وريو دي جانيرو، لكنه لم يعد يعتبر تهديدا.
في العصور الوسطى، كان يجري إسقاط الآلهة الإغريقية والرومانية، ونشأت قصة مشابهة معروفة باسم «أرض كوكين»، التي أطلق عليها «جنة الفقير»، في عدد من البلدان الأوروبية. وجاء بإحدى نسخ تلك القصة التي ترجع للقرون الوسطى ما يلي:
توجد أنهار تجري في نعومة وسعة
أنهار من الدهن واللبن والعسل والخمر،
تنساب المياه هناك دون هدف
سوى أن تسر من ينظر إليها ومن أراد أن يغتسل بها.
تنبت ثمار كثيرة في هذا المكان
تحمل البهجة وتسلي حلاوتها الجميع.
تتكرر تلك الصورة الخيالية مرارا تحت أسماء مختلفة عبر التاريخ؛ فعندما يفقد الأمل في كل شيء، تكتسب الفانتازيا قوة خاصة.
أدخل الكاتب الروماني فرجيل (70-19 قبل الميلاد) تغييرات كبيرة على تلك الأساطير؛ أولا، وفوق كل شيء: في أنشودته الرابعة الشهيرة، المعروفة بأنشودة المخلص التي تبشر بقدوم المسيح، من عمله «أناشيد الرعاة»، انتقل بالعصر الذهبي من الماضي إلى المستقبل. ثانيا: أصبح العالم الأفضل قائما على النشاط البشري لا على مجرد أن يكون هبة من الآلهة؛ فالناس يعملون، لا سيما في الزراعة، ويستمر هذا باعتباره أسطورة الفلاح أو المزارع السعيد؛ لتصبح نسخة أكثر واقعية، وإن كانت لا تزال مثالية. لم تمت الأسطورة أبدا، وهي توجد اليوم باعتبارها جزءا جوهريا من اليوتوبية الحديثة.
الصور التي ساقها فرجيل للحياة البسيطة في «أركاديا» تمثل نقلة بين فانتازيا التقليد الأول لليوتوبيا، ويوتوبيا التقليد الثاني التي صنعها الإنسان. إن المجتمعات التي صنعها البشر وصورها الكتاب الإغريق والرومان هي الأكثر شبها ب «يوتوبيا» توماس مور والأعمال التي تلتها. وهذا الفرع من التقليد اليوتوبي يمنح الناس الأمل؛ لأنه أكثر واقعية، ولأنه يركز على بشر يحلون مشاكل البشر، مثل كفاية الطعام والمسكن والملبس والأمن، لا الاعتماد على الطبيعة أو الآلهة.
وفي الغرب، يبدو أن اليوتوبيا الرسمية نشأت في العصر الكلاسيكي لليونان القديمة، وطغت أوصاف أسبرطة، الدولة-المدينة الإغريقية، عليها. فصور الكاتب الإغريقي بلوتارك (46-120 ميلاديا) دافع ليكرجوس، المؤسس المفترض لأسبرطة - ويمكن أن يناسب تصويره آخرين - قائلا:
كان مقتنعا أن إدخال تغيير جزئي في القوانين لن يكون له أي فائدة تذكر، بل ينبغي له أن يمضي كالطبيب الذي يعالج مريضا أعياه المرض وهو مصاب بكافة أنواع الأسقام؛ فيجب أن يغير وضع الحالة التي أمامه باستخدام العقاقير والمطهرات، ويوصي له بنظام علاج جديد ومختلف.
كان المجتمع الذي أسسه ليكرجوس في أسبرطة قائما على أعلى درجات المساواة بين المواطنين، لكن بين المواطنين فحسب (كان هناك عبيد، ولم تكن النساء من المواطنين). كان نظام الحكم في أسبرطة عسكريا. وفي أسبرطة، في ظل حكم ليكرجوس، كان على كل شخص أن يهب نفسه تماما لخدمة البلد. كان عليهم أن يفقدوا ذواتهم من أجل الكل؛ «فقد عود مواطنيه على ألا تكون لديهم الرغبة أو القدرة على العيش من أجل أنفسهم.»
يربط كثير من المعلقين بين أسبرطة و«الجمهورية»، يوتوبيا الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (428 / 427-348 / 347 قبل الميلاد) الذائعة الصيت، والتي تعتبر معين اليوتوبية الغربية. وجمهورية أفلاطون معنية في المقام الأول بالوصول لفهم لمفهوم العدالة، وهي حوار أفلاطوني نموذجي يمتد من بداية إلى منتصف الفترة التي يطرح فيها سقراط (469-399 قبل الميلاد) سؤالا، وتستمر عملية السؤال والجواب حتى يتم الوصول لعدد من المواقف، التي يرفضها سقراط كلها، ثم يقدم إجابته، وبالتدريج يهيمن على النقاش محولا إياه إلى حوار أحادي، ولا يصدر عن الآخرين المشاركين في الحوار سوى تعليقات روتينية تعوزها الحماسة.
إن المجتمع الذي يصفه أفلاطون في «الجمهورية» هو الأقرب إلى المجتمع المثالي. يضم هذا المجتمع ثلاث طبقات، تقابل العناصر الأساسية الثلاثة للروح أو الذات. والطبقات الثلاث هي طبقة الملوك الفلاسفة (أو العقل)، وطبقة الحراس (الذين يمثلون عنصر العاطفة)، وطبقة الحرفيين والتجار (الذين يمثلون ضبط النفس والاعتدال). يعنى أغلب الحوار في عمل «الجمهورية» بأول طبقتين، وهما المعروفتان إجمالا باسم ولاة الأمر. ولا يتحدث أفلاطون كثيرا عن الأغلبية العظمى من أهل الجمهورية، باستثناء التلميح إلى أن كل فرد في تلك الدولة المدينة المنظمة بشدة، سيعمل في المكان الذي يناسبه تماما؛ ونتيجة لذلك، سيغدو الجميع سعداء.
إلا أن أي مجتمع من صنع البشر لا يمكن أن يعدو كونه انعكاسا ضعيفا للمجتمع المثالي، ويجب أن يفشل. يتناول أفلاطون عملية الفشل بإسهاب كبير. وفي إسهابه، يضع نظرية للفساد ويطبقها على الأفراد والمجتمعات. والمهم هنا ليس النظرية، بل النقطة الأساسية المتمثلة في أنه لا يمكن أن يوجد مجتمع أو إنسان مثالي على هذه الأرض. وأفضل ما يمكننا تحقيقه هو الاقتراب من هذه الصورة المثالية، وهذا التقريب سينهار حتما في نهاية الأمر.
بينما تتطابق المقومات الأساسية (التناغم، والمعرفة، والحياة الطيبة للشخص الصالح) في يوتوبيا أفلاطون الكبيرة الأخرى، محاورة «القوانين»، مع المقومات الأساسية لتلك الخاصة بمحاورة «الجمهورية»، فإن الطريقة التي تتحقق بها هذه المقومات مختلفة؛ فهناك الاختلاف الواضح المتمثل في أن الدولة في محاورة «القوانين» تقوم على القانون، في حين أن الدولة في محاورة «الجمهورية» تقوم على حكمة البشر المتجسدة في الملوك الفلاسفة. ويبدو أن أفلاطون إذ فقد الأمل في إيجاد أو خلق الظروف المثالية لتنشئة الملوك الفلاسفة، كان عازما على تقديم أفضل ثاني خيار: النظام القانوني الذي سيفرضه الملوك الفلاسفة للدولة، التي لا ترقى إلى الوصول لمستوى الدولة في «الجمهورية»، بل وقدم بديلا للملوك الفلاسفة في مجلس ليلي بإمكانه إسقاط القوانين إن اختار ذلك.
كان اليوتوبيون الإغريق، بمن فيهم أفلاطون، يعتبرون ما نطلق عليه المجتمع الصغير أو المتفاعل افتراضا أساسيا. لم يمكنهم تصور أن مجتمعا طيبا يمكن أن يكون كبيرا بحيث يعجز فيه جميع المواطنين عن الالتقاء والتحاور بانتظام، ولم تظهر فكرة إمكانية وجود شيء أكبر إلا مع سقوط الدولة الإغريقية وصعود الدولة الرومانية.
كان أول مناهض عظيم لليوتوبيا، المؤلف المسرحي الكوميدي الإغريقي أرسطوفانيس (448-380 قبل الميلاد)، يكتب وفي الوقت نفسه يناقش الكثير من الموضوعات التي كان يناقشها الكتاب المؤمنون باليوتوبية. من المنظور اليوتوبي، كانت أهم مسرحياته «برلمان النساء»، وفيها نجحت مجموعة من النساء في الاستحواذ على المجلس التشريعي وسن شكل من أشكال الشيوعية، وفشلت تشريعاتهن ليس لأنها كانت سيئة، ولكن لأن الجنس البشري لم يكن قادرا على قدر الإيثار المطلوب. وهذا سبب نموذجي يساق لرفض اليوتوبيات. ساق أرسطوفانيس نقطة مماثلة في مسرحيته «بلوتوس»، وفيها يرد البصر إلى إله الثروة الكفيف، وعندئذ يعيد توزيع الثروة على مستحقيها، ثم ما يلبث الجشع البشري أن يعيد توزيعها مرة أخرى على نحو غير عادل.
ولما كان الفيلسوف الإغريقي أرسطو (384-322 قبل الميلاد) قد رفض يوتوبيا أفلاطون، وتهكم بشدة على الدول المثالية الأخرى التي ناقشها، فعادة لا يعتبر من المؤمنين باليوتوبية، لكنه في الباب السابع من كتابه «السياسة» عرض بنوع من التفصيل للخصائص الأساسية للدولة المثالية.
رأى أرسطو أن أفضل دولة هي دولة تكون قريبة من الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان في إطار الحدود التي يفرضها عدد قليل من السكان وإقليم صغير المساحة، وقامت اليوتوبيا التي تصورها على إمكانية معرفة المواطنين بعضهم لبعض. كما وفرت يوتوبيا أرسطو أفضل حياة لمواطنيها: حياة العقل، أو الحياة التأملية، التي ليست حياة انعزالية متقوقعة، بل حياة التواصل الفكري. رأى أرسطو أن من شأن هذا أن يستلزم وجود فئة من الناس لا تتمتع بحق المواطنة لتقوم بالعمل الحقير؛ مما يحرر المواطنين ويجعلهم يعيشون حياة كاملة ورائعة. وناقش في مواضع أخرى - بعبارات أعم - خصائص ما قد يطلق عليه أفضل دولة ممكنة. (3) الأساطير والأدب بعد توماس مور
بعد أن كتب مور كتابه «يوتوبيا»، فقدت معظم الأساطير قوتها تدريجيا، لكن استمر جوهرها في القصص الأمريكية الأفريقية التي على غرار قصة أرض كوكين، التي وجدت بالتوازي مع الأناشيد الدينية الزنجية التي تحدثت عن مباهج الحياة الآخرة، والأغاني المرتبطة بحالة الكساد التي سادت في ثلاثينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، مثل «ذا سويت بوتيتو ماونتينز» و«ذا بيج روك كاندي ماونتينز».
وتطلعنا قصة أحد العبيد على اقتناعه بما يلي:
في أركانساس ترقد الخنازير حولنا مطهية، والشوك والسكاكين مغروسة بها تدعوك لتناولها، والفطير في كل مكان يقلى في برك من الدهن، والأشجار تثمر بالمال، وكل ما كان عليك فعله هو التقاط المال من عليها كما تلتقط القطن من منبته ...
وتضم أغنية «ذا سويت بوتيتو ماونتينز» ما يلي:
أوه، تنمو السجائر على النباتات المعرشة، وينبت البيض ولحم الخنزير على الأشجار، والأرض تثمر الخبز، وتنضح الينابيع بالخمر حتى ركبتيك، والخير حولك كثير ووفير.
يمكن إيجاد صورة مختلفة من الأسطورة اليوتوبية التقليدية في رواية «الأفق المفقود» (1933)، التي أنتجت في فيلم من إخراج فرانك كابرا (1937)، المستندة في جوانب منها إلى أسطورة شامبالا، الأسطورة البوذية التبتية التي تدور حول مملكة أسطورية مخفية في مكان ما داخل قارة آسيا حيث يعيش بعض من البوذاسفيين؛ وهم أكثر البوذيين استنارة. تتحول المملكة في الرواية إلى شانجري-لا؛ وهو مجتمع مفقود في هضبة التبت يعيش الناس فيه لأعمار مديدة للغاية.
ليس هذا الموضع الملائم لسرد تاريخ الأدب اليوتوبي، لكن من الضروري ذكر نبذة عنه وعن كيفية استخدامه. غالبا ما اتسمت اليوتوبيات التي ظهرت بعد يوتوبيا مور بالتركيز على المدينة. زعم - على وجه الخصوص - المؤرخ والناقد المعماري لويس مامفورد (1895-1990) أن المدينة واليوتوبيا مرتبطتان ارتباطا وثيقا، والاقتباسات التالية من يوتوبيات تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين تصور رؤى للعمارة اليوتوبية.
تحت أقدامي تقبع مدينة عظيمة. أميال من الشوارع العريضة، تظلها الأشجار، وتصطف على جانبيها مبان أنيقة، ولم تكن المباني في أغلبها في مربعات سكنية متصلة، بل تكونت من مناطق مسيجة أكبر أو أصغر حجما تمتد في كل اتجاه. ضم كل حي ميادين مفتوحة كبيرة تعج بالأشجار، تتلألأ بينها التماثيل وتلمع النافورات في ضوء شمس الأصيل. والمباني العمومية ذات الحجم الضخم والأبهة المعمارية التي لا مثيل لها في أيامي تقف شامخة على كل جانب.
إدوارد بيلامي، «نظرة إلى الماضي»
رأت ... نهرا ومباني ضئيلة غير ذات أهمية، وهياكل غريبة تشبه الطيور الطويلة السيقان التي لها أشرعة تتحرك مع حركة الريح، وبضعة مبان كبيرة ذات لونين أصفر وبني محمر، وقبة واحدة زرقاء غير ذات شكل منتظم، لا تزيد في حجمها عن حجم السوبر ماركت في أيامها؛ أي سوبر ماركت عادي في أي مركز تسوق كبير. كانت الأشياء التي على شكل طيور هي الأطول في الأنحاء، وكانت بالكاد أطول من بعض أشجار الصنوبر التي أمكنها رؤيتها. كما شاهدت بضع هيئات لا شكل محدد لها عليها بعض النباتات المعرشة الخضراء.
مارج بيرسي، «امرأة على حافة الزمن»
على النقيض من كثير من التعليقات التي نزعت للنظر لليوتوبيا حتى منتصف القرن العشرين باعتبارها شكلا من أشكال الملكية المشتركة، فقد كتب عن اليوتوبيا من كل مشرب يمكن تخيله؛ فهناك يوتوبيات اشتراكية ورأسمالية وملكية وديمقراطية ولا سلطوية وبيئية ونسوية وأبوية ومساواتية وتراتبية وعرقية ويسارية ويمينية وإصلاحية، وثمة يوتوبيات تركز على الحرية الجنسية، والأسرة النووية، والأسرة الكبيرة، والمثليين والمثليات، وغيرها الكثير من اليوتوبيات. ونشرت كل هذه الأنواع فيما بين عام 1516 ومنتصف القرن العشرين، قبل أن يهيمن التنوع فعليا وتكون له الغلبة. ونتيجة لوجود تقليد قوي مناهض لليوتوبية، يمكن مضاعفة العدد بمجرد وضع كلمة «مناهض» قبل أي من الأنواع السابقة. وبعد بداية القرن العشرين، كتبت ديستوبيات تعبر عن هذه المواقف كافة.
كانت كل هذه الأعمال المختلفة استجابة لقضايا رأى أصحاب تلك الأعمال أنها مهمة للوصول لمجتمع أفضل. وأغلب هذه القضايا قضايا دائمة الحضور؛ مثل: القانون والنظام، والدين اعتقادا وممارسة، والعلاقات الاقتصادية، ونظام الحكم، وتربية الأطفال والتعليم. لكن تتغير أهمية القضايا تبعا للزمن الذي كتبت فيه اليوتوبيا؛ فاليوتوبيات تأملات في القضايا التي كانت مهمة بالنسبة للفترة التي عاش فيها أصحاب تلك الأعمال.
والحلول المقترحة تكون أكثر محدودية من القضايا من حيث النوع، إن لم يكن من حيث التفصيل؛ فمن بين الحلول الأكثر شيوعا صورة إصلاحية من الدين يتبعها معتنقوه فعليا، وقوانين ونظم قانونية جديدة مطبقة بإنصاف، وأنظمة اقتصادية أفضل، وأنظمة سياسية محسنة، وتعليم متطور، والاستخدام الذكي للعلم والتكنولوجيا. والكثير من اليوتوبيات تحن إلى الماضي؛ إذ تنظر إلى الخلف، إلى ماض مثالي، ثم تنقله إلى المستقبل. وتكون اليوتوبيا في العيش في النسخة المنقحة لا على الطريقة التي كان يعيش بها الناس في الماضي بالفعل. ومن بين الموضوعات النموذجية الأخرى عيش حياة أبسط، وتحقيق توازن أفضل بين المدينة والريف. لكن هذه الموضوعات كافة قدمت أيضا بوصفها نفذت على نحو سيئ، أو أنها كانت في مصلحة أفراد أو مجموعات بعينها (سواء اقتصادية أو جنسية أو سياسية أو غير ذلك)، ويتمخض عنها ديستوبيات. بالنسبة للمؤيدين لليوتوبية، لا توجد حدود للذكاء والإبداع الإنساني. أما بالنسبة للمناهضين لليوتوبية، فلا حدود للغباء والجشع الإنساني. ويبدو أن كليهما على حق.
وكما هو الحال مع أي فرع من فروع الأدب، يوجد كتاب أو نصوص معينة ذائعة الصيت يبدو أنها تحدد ملامح الأدب اليوتوبي. وبينما قد تكون النصوص الأقل شهرة أكثر تمثيلا في الواقع لفترتها، فإن الأعمال الأشهر هي التي تدفع بقاطرة هذا الفرع من فروع الأدب للأمام. (4) «يوتوبيا» مور
إن عمل توماس مور «يوتوبيا» كتاب صغير معقد تناوله الشراح من مواقف مختلفة اختلافا جذريا؛ من الكاثوليكية الرومانية التقليدية إلى الإمبريالية البريطانية إلى الماركسية، وأحيانا بمجرد إهمال التعقيد الذي يكتنفه، وفي أحيان أخرى بإضفاء المزيد من التعقيد عليه. تنشأ مجموعة من المشاكل من حقيقة أن هذا الكتاب يبدو في الظاهر أنه مباشر، في حين أنه هزلي وساخر تماما. وقد ضلل أجيال من المترجمين قراءهم بتجاهلهم التلاعب بالألفاظ الذي سيكون واضحا لمن يقرءون النص اللاتيني الأصلي. صحيح أنه لا يحتوي على الكثير من تلك الأساليب، لكن عندما تكتشف أن أنيدروس - اسم النهر الرئيسي - يعني «لا ماء»، ولقب الشخص الذي يصف اليوتوبيا «هيثلوديوس» يعني «اللاغي»، يجب أن تبدأ في التساؤل. لكن رفائيل، اسم هيثلوديوس الأول، يعني «الشافي بمشيئة الرب»، فلا يمكنك أن تخلص إلى استنتاج واضح. وفي خطاب أرسله مور إلى بيتر جايلس، منشور في طبعة 1517 من الكتاب، يعلق مور ساخرا على التلاعب بالألفاظ. وفي نقاش بين مور وأحد النقاد الذي لم يستطع تحديد إن كانت «يوتوبيا» حقيقية أم من وحي الخيال، رد مور بأنه لو كان الكتاب من وحي الخيال لكان أشار إلى ذلك، وكتب يقول:
لذا، لو لم أكن قد فعلت شيئا سوى إطلاق الأسماء على الحاكم والنهر والمدينة والجزيرة التي توحي للمثقفين أن الجزيرة لا توجد في أي مكان، والمدينة عبارة عن سراب، والنهر لا يجري به ماء، والحاكم لا يحكم شعبا؛ لكان ذلك سيصبح أكثر ذكاء مما فعلت في واقع الأمر. وإذا لم تكبلني أمانة المؤرخ، فأنا لست من الغباء كي أفضل استخدام أسماء فظة عديمة المعنى؛ مثل: يوتوبيا، وأنيدروس، وأموروتوم، وأديموس.
لكن يوتوبيا تعني الجزيرة الواقعة في لامكان، وأموروتوم تعني مدينة السراب، وأنيدروس تعني النهر الذي لا يجري به ماء، وأديموس تعني الحاكم الذي لا يحكم شعبا.
ثمة مشكلة أخرى تكمن في أن كتاب «يوتوبيا» ضم أعرافا قدمها مور على نحو إيجابي، وهي التي كانت مناهضة لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، مثل القتل الرحيم الاختياري، أو نبذها مور بعد ذلك في مرحلة متقدمة من حياته، مثل التسامح الديني. بالنسبة لبعض الشراح، يجب إيجاد طريقة لاستبعاد هذه الأعراف. بالتأكيد لم يفكر قط القديس توماس مور، الذي مات بسبب تمسكه بمبادئه، على نحو مختلف عن الطريقة التي ظن شراح عمله أنه ينبغي أن يكون قد فكر بها، أو - مثل صديقه المقرب إرازموس (1466 / 1469-1536) صاحب التوجه الإنساني وعالم اللاهوت الهولندي - يجرب على نحو هزلي أفكارا ثم ينبذها فيما بعد.
يرى المعاصرون أن المجتمع الموصوف في كتاب «يوتوبيا» ليس جذابا للغاية، بل هو مجتمع سلطوي، تراتبي، أبوي، ويطبق عقوبة العبودية على مرتكبي المخالفات البسيطة نسبيا. لكن القارئ في بداية القرن السادس عشر كان سيرى أن تلك الأشياء كانت هي العرف السائد، وأن العبودية في «يوتوبيا» كانت عقابا أكثر إنسانية من صور كثيرة للعقاب كان يمكن تطبيقها آنذاك، حين كانت بعض المخالفات البسيطة تعاقب بالموت. وفوق كل ذلك، لم يكن هناك أحد في «يوتوبيا» غنيا أو فقيرا. وقد تحقق ذلك من خلال تخفيض الطلب، وعمل الجميع، والمشاركة في كل شيء بالتساوي، والحياة البسيطة؛ وعليه، ستبدو «يوتوبيا» لكثيرين في القرن السادس عشر مثل الجنة. (5) السخرية
إن السخرية التي تحفل بها «يوتوبيا» مور جوهرية في تقليدي اليوتوبيا؛ لأن أحد أهداف أغلب اليوتوبيات هو السخرية من الحاضر، وبقيامها بذلك، تستخدم الكثير من اليوتوبيات أداة نموذجية من أدوات السخرية وهي المبالغة. في بعض اليوتوبيات، مثل رواية الروائي الإنجليزي صامويل بتلر (1835-1902) «إيروان أو اللامكان» (1872)، من المستحيل التأكد من الموقف الإيجابي، إن وجد، الذي تؤيده؛ ففي تلك الرواية، على سبيل المثال، يعامل المجرمون على أنهم مرضى ويرسلون إلى الأطباء، أما المرضى، فيزج بهم في السجون. ونشأ ضرب أدبي فرعي عن تلك الرواية يمكن أن نطلق عليه الأدب «الإيرواني».
والأكثر تمثيلا للسخرية هو رواية «رحلات إلى العديد من أمم العالم البعيدة» (1726)، المعروفة الآن باسم «رحلات جاليفر»، لصاحبها الروائي الساخر الأيرلندي جوناثان سويفت (1667-1745). والجزء الرابع في «رحلات جاليفر» يصور المكان الطيب بالرواية، لكن غالبية قاطنيه من الخيول وليس البشر؛ فالبشر - أو الياهو - همجيون، أما الخيول - الهوينم - فعقلانية، فما الذي يقوله سويفت عن الإنسان والعقل؟ تمخض عن رواية «رحلات جاليفر» ضرب فرعي مهم من الأدب يعرف باسم الأدب «الجاليفري»، القليل منه ببراعة الأصل، في حين أن أكثره يمنح ببساطة بعض الحيوانات صفات بشرية. ومؤخرا، كتب الكثير عن زوجة جاليفر التي كان يهجرها كثيرا.
في غضون الفترة نفسها تقريبا التي كان سويفت يكتب فيها، نشر الكاتب الإنجليزي دانيال ديفو (1660-1731) رواية «الحياة والمغامرات الغريبة المثيرة لروبنسون كروزو، البحار القادم من يورك» (1719)، المعروفة الآن باسم «روبنسون كروزو»، المستندة إلى أحداث واقعية، وفيها غرقت سفينة رجل، البحار الاسكتلندي ألكسندر سيلكيرك، وحط وحيدا على جزيرة منعزلة لمدة أربع سنوات. ولما كان كروزو وحيدا وغير قانع بالوضع أغلب الرواية، فمن الصعب تحديد إن كان إيجابيا أم سلبيا، ولا يتغير ذلك عندما ينضم فرايداي إلى كروزو، وهو أحد سكان إحدى الجزر القريبة الذي ينقذه كروزو من آكلي لحوم البشر. لكن تمخض عن رواية «روبنسون كروزو» ضرب فرعي كبير من ضروب الأدب، يطلق عليه الأدب الروبنسوني، اليوتوبي غالبا، والمشتمل عادة على مجموعة من البشر تتحطم سفينتهم، وأشهر أعماله «عائلة روبنسون السويسرية» (1812 / 1813)، للكاتب السويسري يوهان ديفيد فيس (1743-1818)، التي تحولت إلى فيلم شهير. (6) تأثير بيلامي
كانت اليوتوبيات العظيمة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي أعمال الكاتب الأمريكي إدوارد بيلامي (1850-1898)، والكاتبين الإنجليزيين ويليام موريس (1834-1896) وإتش جي ويلز (1866-1946). حققت رواية بيلامي «نظرة إلى الماضي: 2000-1887» (1888) مبيعات مرتفعة حول العالم، ونتج عنها زيادة كبيرة ومفاجئة في إنتاج اليوتوبيات التي امتدت حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. وقعت أحداث يوتوبيا بيلامي في بوسطن، ماساتشوستس، في المستقبل، والتي تطورت إلى مجتمع تم التغلب فيه على العداء بين الرأسماليين والعمال. وعندما أخذت الشركات تكبر وتكبر عن ذي قبل وتحولت إلى شركات احتكارية تتحكم في معظم الاقتصاد تم تأميمها، أو ببساطة استحوذت عليها الدولة، وتحول العمال بها إلى موظفين لدى الدولة، وتنوعت ساعات العمل على أساس ثقل العمل والخطر الذي يكتنفه، وتقاعد الجميع في سن الخامسة والأربعين.
كتب ويليام موريس نقدا لتلك الرواية استنكر فيه «الحياة الآلية» التي تقدمها، وتأكيد الرواية على جعل العمال يطيقون العمل بتخفيض مقدار العمل بدلا من تخفيض «ألم العمل إلى الحد الأدنى». كتب موريس بعدها رواية «أخبار من لامكان، أو زمن للراحة» (1890)؛ لتصوير مجتمع يؤكد على الحرف والمجتمع المحلي. وبينما استخدم بيلامي نظاما سياسيا معقدا، استخدم موريس مقرات المجالس النيابية لتخزين السماد وقال: «لم يعد لدينا ما يمكن أن نطلق عليه سياسة.» كتب بيلامي نقدا مؤيدا بشكل عام لرواية موريس، مع أنه قال إنها تحتاج إلى مزيد من التفصيل.
إلا أن أغزر كتاب اليوتوبيا إنتاجا كان إتش جي ويلز، الذي كتب يوتوبيات إيجابية، وكذلك ديستوبيات. وعلى تنوعها الكبير، كانت لها موضوعات أساسية، أحدها كان الصراع بين الرأسماليين والعمال، وماذا يمكن أن يحدث إن لم يجر حل هذا الصراع، وكيف يمكن حله. وأحد الموضوعات الأخرى كان مدى مرغوبية فكرة الحكومة العالمية.
أفضل وصف أطلق على ويلز أنه يوتوبي متشائم؛ أي رجل يؤمن بإمكانية تحسين حياة البشر على نحو جذري، لكنه يشك في وجود الإرادة اللازمة للقيام بذلك. لم ييأس ويلز قط، لكنه لم يتوقف قط عن الشك أيضا. تدور أحداث رواية «آلة الزمن» (1895)، إحدى روايات ويلز الأولى وأكثرها نجاحا، في زمن بعيد بالمستقبل؛ حيث لا يزال الصراع دائرا بين أحفاد الرأسماليين والعمال. وتقع أحداث أغلب ما كتبه من يوتوبيات وديستوبيات في المستقبل الأقرب، وبعضها - لا سيما الديستوبيات - يمكن قراءته بوصفه مراحل نحو المستقبل المصور في «آلة الزمن»، ومع تصاعد الانقسام بين الرأسماليين والعمال أكثر فأكثر. تشير اليوتوبيات التي كتبها ويلز وكثير من كتاباته السياسية غير المتصلة باليوتوبيا إلى طرق يمكن بها تجنب احتمالات المستقبل المظلم. رأى ويلز أن الحل يكمن في استخدام الذكاء، لا سيما الذكاء العلمي، لمعالجة المشاكل الاجتماعية. وفي عمله «يوتوبيا حديثة» (1905) يصور جماعة من الرجال والنساء تعرف بالساموراي، يعيشون وفق ميثاق سلوكي صارم، ومكرسون للخدمة، وقد أسسوا مجتمعا أفضل كثيرا وصانوه، وهو المجتمع الذي كان يراه ويلز ممكنا.
دعا ويلز إلى تكوين مثل هذه الجماعة، التي كثيرا ما أطلق عليها «المؤامرة المفتوحة»، في كثير من أعماله، وأيد الكثير من صور الإصلاح، بداية من تحديد النسل إلى إنشاء موسوعة عالمية؛ لتكون خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح. كان واضحا إصابة ويلز بالإحباط بسبب عدم تبني أفكاره على نحو واسع، وعمل بجدية لاستمالة الناس لأفكاره ولتطوير التعليم، لا سيما التعليم العلمي، على أمل ظهور مجتمع أفضل تعليميا يكون أكثر تقبلا لمقترحاته. إلا أن ويلز معروف أكثر بأعمال الخيال العلمي غير اليوتوبية التي قدمها، وكذلك ديستوبياته وبعض رواياته الهزلية، لا بيوتوبياته وكتاباته السياسية. (7) صعود الديستوبيا
مع نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور وباء الأنفلونزا، وحدوث الكساد العظيم، ونشوب الحرب الكورية، والحرب في فيتنام، وغيرها من أحداث القرن العشرين؛ أصبحت الديستوبيا هي الشكل الغالب من الأدب اليوتوبي. ومع أن كلمة «ديستوبيا» استخدمت أول مرة في منتصف القرن الثامن عشر، واستخدمها الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل (1806-1873) في خطاب أمام البرلمان في عام 1868، لم يشع الشكل الأدبي واستخدام الكلمة لوصفه حتى وقت لاحق في القرن العشرين.
في عام 1883، صك فرانسيس جالتون (1822-1911) مصطلح «تحسين النسل» للإشارة إلى القدرة على إنتاج نسل أفضل، مع التركيز أكثر على البشر لا الحيوانات. نشأت حركة حملت فكرة تحسين الجنس البشري من خلال الانتخاب الوراثي من أجل اختيار سمات معينة (تحسين النسل الإيجابي)، أو الانتخاب الوراثي من أجل تجنب سمات محددة (تحسين النسل السلبي). كتب كثير من اليوتوبيات، بما فيها اثنتان لم تنشرا لجالتون («لا أعرف أين» و«آل دونوهيو من دانو فير»)، تعبر عن تلك الحركة. وكثير من اليوتوبيات، بما فيها عملا جالتون، التي كانت تؤمن بأن الانتخاب الوراثي وحده لن يكفي لتحقيق الغاية المنشودة؛ كانت معنية بالظروف الاجتماعية التي يولد الأطفال فيها، وكيفية تربيتهم بالقدر نفسه الذي كانت به معنية بالسمات البدنية والأخلاقية للآباء. أما الأعمال الأخرى، فكان شاغلها الأساسي الانتخاب الوراثي، مع التركيز على تنحية السمات غير المرغوبة؛ بمنع من ظهرت عليهم السمات من إنجاب أطفال، أو بإلزام حاملي السمات المرغوبة بالزواج وإنجاب أطفال. نتج عن كلا النهجين ديستوبيات؛ إما بسبب الخلافات على السمات المختارة، أو القلق من احتمال إساءة استخدام إمكانية انتقاء السمات.
شاعت دعوات الانتخاب الوراثي على أساس عرقي وعنصري، وطبقت حيث وجدت القدرة على القيام بذلك. كان أكثر البرامج شهرة هو برنامج ألمانيا تحت حكم النازيين، عندما لم يتم منع حاملي السمات المنشود إقصاؤها من الإنجاب وحسب، بل قتلهم أيضا. إلا أن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن ألمانيا طبقت أيضا تحسين النسل الإيجابي؛ إذ خططت لإنتاج أشخاص من حاملي الصفات المرغوبة. نشرت يوتوبيات في ألمانيا وغيرها من البلاد وصورت المجتمع الأفضل المزمع تكوينه باستخدام هذه البرامج.
نشر عدد من اليوتوبيات النازية، مثل عمل إرنست بيرجمان «ألمانيا الأرض الثقافية للإنسان الجديد» (1933)، لكن كان هناك أيضا عدد ضخم من الديستوبيات المناهضة لألمانيا وللنازية، من بين أهمها تأثيرا «ليلة الصليب المعقوف» (1937)، للكاتبة كاثرين بوردكين (1896-1963)، التي كانت تكتب تحت اسم موراي قسطنطين.
الفترة نفسها التي أفرزت الكثير من الديستوبيات المناهضة لألمانيا والمناهضة للاتحاد السوفييتي، شهدت أيضا نشر ثلاثة أعمال بارزة؛ وهي: رواية «نحن»، للكاتب الروسي يفجيني زامياتين (1884-1937)، المكتوبة بالروسية في عام 1920، لكنها نشرت بالإنجليزية لأول مرة في عام 1924، ورواية «عالم جديد رائع» (1932)، للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي (1894-1963)، ورواية الكاتب الإنجليزي جورج أورويل (1903-1950) - الذي ولد حاملا اسم إريك بلير - «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» (1949)، والتي أصر أورويل على كتابة عنوانها بالحروف لا بالأرقام. ومع أن الأعمال الثلاثة كانت تتحدث عن إساءة استخدام السلطة، فإن كلا منها عمل معقد، متعدد الجوانب، ذو شواغل متنوعة، وجميعها يهاجم الرأسمالية بالقدر الذي يهاجم به الشيوعية. وهي تصور المحاولات الفاشلة جزئيا للتحكم في قوة الرغبة الجنسية؛ فرواية «نحن» تسمح بالعلاقات الجنسية على نحو المقصود منه الوفاء بالاحتياجات الفردية، ورواية «عالم جديد رائع» تبيح العلاقات الجنسية دون قيود، أما رواية «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون» فتفرض قيودا صارمة على الجنس. وتتضمن الأعمال الثلاثة الإشارة إلى أن تلك المسألة قد لا يتمكن حتى أي نظام شمولي من التحكم بها.
كتب هكسلي في رواية «إعادة زيارة عالم جديد رائع» (1958) أنه ببساطة تخيل أشياء مستقبلية كان قد لاحظها في وقت كتابة الرواية، وأنها أثارت قلقه، وأنه بعد مضي 25 عاما بدا أن المستقبل الذي صوره في رواية «عالم جديد رائع» كان يقترب أسرع كثيرا مما توقع في ثلاثينيات القرن العشرين، كما كتب أنه لو قدر له إعادة كتابة «عالم جديد رائع»، لكان سيقدم بديلا أكثر إيجابية. وقد قام بذلك بالفعل في اليوتوبيا التي كتبها تحت عنوان «الجزيرة» (1962) التي تصور مجتمعا صالحا تتحول فيه الإباحية الجنسية إلى حرية جنسية، مع التأكيد على فكرة الحب، مع الاستعاضة عن عقار «سوما» المستخدم في رواية «عالم جديد رائع» للهروب من المشاكل، ب «دواء موكشا» (الشبيه بنبات البيوط المستخرج منه مادة الميسكالين المهلوسة، أو عقار الهلوسة) المفضي إلى التنوير، كما تحولت السلبيات الأخرى في رواية «عالم جديد رائع» إلى إيجابيات، على الأقل جزئيا من خلال قوة الدين. لكن في النهاية يدمر العالم الخارجي اليوتوبيا؛ لأنها تمتلك نفطا.
أصبح تصور هكسلي للاتجاهات المستقبلية التي رآها في زمانه أو استقراؤه لها المعيار للديستوبيات. ومع أن الديستوبيات تختلف عادة عن اليوتوبيات في عدم وصفها من قبل زائر خارجي، بل يتم وصفها من الداخل، فهي مرتبطة بوضوح بالحاضر الذي كتبت فيه. وهكذا، فإنها تقدم رسالة إيجابية على نحو واضح إلى جانب رسالتها السلبية. فهي تقول، كما كان يقول إتش جي ويلز على الدوام، إن هذا ما سيحدث إن لم نتخذ الإجراءات اللازمة، لكن إن اتخذنا الإجراءات اللازمة، يمكننا تجنب هذا المستقبل. توقف أغلب كاتبي الديستوبيات عند هذه النقطة، وهي تقديم جرس إنذار، لكن ويلز بذل مجهودا أكبر في توضيح ما رأى أنه من الضروري عمله وكيفية القيام به.
رغم أن الديستوبيا أصبحت الشكل الأدبي المهيمن في القرن العشرين، فإنها لم تزحزح اليوتوبيا من موقعها، وفي الوقت الذي كانت تنشر فيه ديستوبيات النصف الأول من القرن العشرين العظيمة، كانت هناك يوتوبيات كثيرة منشورة، وازدهرت الحركات اليوتوبية لا سيما إبان كساد ثلاثينيات القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، جمع الروائي أبتون سنكلير (1878-1968) بين الاثنين فكتب عددا من اليوتوبيات، مثل «نحن، شعب أمريكا وكيف أنهينا الفقر » (1935)، وترشح لمنصب حاكم كاليفورنيا ببرنامج اسمه «إنهاء الفقر في كاليفورنيا». كما أن حركة التكنوقراط التي اقترحت إحلال المهندسين والعلماء محل الساسة تمخض عنها عدد من اليوتوبيات، لا سيما «الحياة في ظل تكنوقراط» (1933)، لصاحبها هارولد لوب (1891-1974). نشأت حركات مشابهة أخرى في أغلب البلدان التي كانت تواجهها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بذلك الوقت. ومع تنامي الخوف من إمكانية نشوب حرب أكثر وأكثر، هيمنت الديستوبيا على المشهد حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي بريطانيا، إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة، تنبأت أعمال مثل مسرحية «نزلوا مدينة» (1944)، للكاتب جيه بي بريستلي (1894-1984)، و«مغامرات الجندي الشاب بحثا عن العالم الأفضل» (1943)، لسي إي إم جود (1891-1953)، بالمجتمع الأفضل الذي يمكن خلقه بعد تحقيق النصر. وبعد فوز حزب العمال بانتخابات عام 1945، هاجمت كتب مثل «ما رآه فارر» (1946)، لجيمس هانلي (1901-1985)، و«دولة الممتنعين عن الشراب» (1947)، لسومرست دي تشير (1911-1995)، سياسات حزب العمال. (8) حقبة «الستينيات»
رغم أن هناك يوتوبيات نشرت خلال الفترة التي هيمنت فيها الديستوبيات، فلم يلاحظها أحد حتى الصعود المفاجئ لليوتوبية فيما يعرف بحقبة «الستينيات» (تتنوع التواريخ الفعلية من بلد لبلد). انتقل جانب كبير من الدافع اليوتوبي في تلك الفترة إلى الشوارع، وأدى - على سبيل المثال - إلى انتفاضة عام 1968 في تشيكوسلوفاكيا، واحتجاجات عام 1968 في باريس، التي حملت رسالة يوتوبية واضحة؛ وهي «كن واقعيا واطلب المستحيل»، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، تأسس الكثير من المجتمعات المقصودة المعروفة آنذاك عالميا باسم الكوميونات، ولا يزال الكثير منها موجودا بعد مضي أكثر من 40 عاما. ازدهر الأدب اليوتوبي، لكنه كان أدبا مختلفا؛ أدبا أدرك أن إقامة مجتمع أفضل لن تكون مهمة سهلة. والمجتمعات التي ظهرت في هذا الأدب سكنها رجال ونساء لديهم نقاط قوة وضعف بشرية حقيقية، بل إن المجتمعات الأفضل كثيرا كانت تعاني من مشاكل، بل ومشاكل خطيرة. وحملت رواية «المسلوب» (1974)، لأورسولا كيه لي جوين (المولودة في عام 1929)، العنوان الفرعي «يوتوبيا غامضة»؛ وهذا العنوان الفرعي يتناسب مع الكثير من الأعمال الأخرى المنشورة في تلك الفترة. أطلق الباحث الأدبي توم مويلان (المولود عام 1943) على هذه الأعمال «اليوتوبيات النقدية»، وأطلقت عليها المنظرة السياسية لوسي سارجيسون (المولودة في عام 1964)، مركزة على اليوتوبية النسوية، «اليوتوبيات المتجاوزة»، وأنا أطلق على بعضها «اليوتوبيات المعيبة» لتوضيح الطريقة التي يعرض بها بعض المؤلفين، مثل أورسولا كيه لي جوين في روايتها «الخارجون من أوميلاس» (1973)، ما يبدو أنه يوتوبيا، لكنه في الحقيقة قد يكون ديستوبيا.
كانت اليوتوبيا النسوية أهم الروافد التي خرجت من يوتوبية حقبة الستينيات، وتمخض عنها أغلب روايات تلك الحقبة التي لا تزال تقرأ حتى الآن. وفي عام 1972، نشرت جوانا روس (المولودة 1937) مقالة بعنوان «ماذا بوسع البطلة أن تفعل؟ أو لم لا تستطيع النساء الكتابة؟» تقول فيها إن المجتمعات المعاصرة تميز على أساس النوع لدرجة أنه لن يمكن إنتاج شخصيات نسائية ناضجة بالكامل إلا بخلق عوالم جديدة. وكانت اليوتوبية النسوية جزءا مهما من الحركة النسوية. ضمت أشهر اليوتوبيات النسوية رواية «الرجل الأنثوي» (1975) لجوانا روس، ورواية «امرأة على هامش الزمن» (1976) لمارج بيرسي (المولودة عام 1936)، وعددا من القصص القصيرة لأليس برادلي شيلدون (1915-1987)، التي كانت تكتب تحت اسم جيمس تيبتري الابن، مثل «هيوستن هيوستن، هل تتلقون بثي؟» (1976). (9) اليوتوبيا اليوم
كانت سمات اليوتوبية في حقبة الستينيات جزءا من التغييرات الطويلة الأمد التي حدثت في المجتمعات الغربية، لكن كانت هناك حركة رجعية ضد هذه التغييرات. ومع استمرار نشر اليوتوبيات، عاد الأدب اليوتوبي في الأغلب إلى الديستوبيات. وباستثناء يوتوبيات المثليات، اختفت اليوتوبيات النسوية تقريبا في تسعينيات القرن العشرين، رغم أنه حدث إحياء لها من جديد منذ عام 2000. كان الاستثناء الكبير للعودة إلى الديستوبيا هو ظهور اليوتوبيات البيئية، فبالتأكيد صور عدد كبير من الديستوبيات مخاوف حدوث انهيار بيئي بالمستقبل، إلا أن كيم ستانلي روبنسون (المولود عام 1952) وآخرين نشروا يوتوبيات بيئية مهمة؛ فقد نشر روبنسون ثلاثيتين تدوران حول موضوعات بيئية: ثلاثية «المريخ» (التي ظهرت أجزاؤها في أعوام 1992، و1993، و1996) وثلاثية تدور حول التغير المناخي/الاحترار العالمي يصور الكتاب الأول منها، «علامات المطر الأربعون» (2004)، ديستوبيا نتجت عن فشل الساسة في التعامل مع مشكلة الاحترار العالمي ، في حين يصور الكتابان الآخران، «خمسون درجة أقل» (2005) و«ستون يوما ويزيد» (2007)، حدوث تغيير في السياسة والنتائج الإيجابية التي ترتبت عليه في النهاية. واليوم، يعد النوع الأدبي الفرعي المسمى الإيكوتوبيا أو اليوتوبيا البيئية - والذي سمي بهذا الاسم على اسم رواية إرنست كالينباخ (المولود عام 1928)، الصادرة عام 1975 - أقوى تيار يوتوبي، والكثير من اليوتوبيات البيئية نسوية أيضا؛ ومن ثم فإن أقوى تيارين في الخمسين عاما الأخيرة كثيرا ما يجتمعان معا الآن. على سبيل المثال، روايات سالي ميلر جيرهارت (المولودة عام 1931) مثل «أرض الطواف: قصص نساء الجبل» (1978) و«القائدة» (2003) تجمع بين المنظورين النسوي والبيئي.
إن الأدب اليوتوبي يتغير باستمرار مكتسبا أشكالا جديدة. واليوم أغلبه معقد أو مبهم، يقدم مجتمعات أفضل لكنها معيبة، أو مجتمعات أسوأ لا تزال تحتفظ بشيء طيب فيها. هناك تغير حديث يتمثل في انتقال اليوتوبيات إلى الإنترنت والناشرين الذين يستخدمون أسلوب النشر عند الطلب (ظهر هذا التغير في الشكل السابق لطريقة النشر هذه، والمتمثل في نشر الأعمال على نفقة المؤلف). وأغلب الأعمال المنشورة على الإنترنت أو التي يتم الحصول عليها باستخدام أسلوب النشر عند الطلب يزيد احتمال قراءتها، مثل بعض اليوتوبيات القديمة، والتي تحمل إجابات موحدة بسيطة تناسب جميع الأسئلة المعقدة، لكن بعضها، مثل «الوعي باليوتوبيا» (2002) لميريت أبراش (المولود عام 1930)، معقد مثل الأعمال المعاصرة الأخرى. وقد أدت هذه الأشكال من النشر إلى نمو الأدب اليوتوبي في الوقت الحاضر، لكن كما هو الحال مع الكثير من اليوتوبيات في الماضي، فإن الكثير منها لا يقرأ مما يصيب كاتبيها بالإحباط.
الفصل الثاني
التطبيق العملي لليوتوبيا
على مدار قرون، حاول الكثير من الأفراد والمجموعات تطبيق رؤاهم على أرض الواقع. حاول البعض الحصول على السلطة السياسية للقيام بذلك (نجح القليلون)، وأنشأ آخرون حركات اجتماعية (محققين نجاحا أكبر في ذلك). واليوتوبيون الذين حازوا على السلطة السياسية خلقوا في الغالب ديستوبيات وليس يوتوبيات، مع كون بلدان في القرن العشرين مثل ألمانيا النازية تحت حكم أدولف هتلر (1889-1945)، وكمبوديا/كمبوتشيا في ظل حكم بول بوت (1928-1998)، أمثلة جديرة بالملاحظة في هذا الشأن .
لكن الشكل الأشيع لتطبيق رؤية بعينها على أرض الواقع كان خلق مجتمع صغير للانعزال عن المجتمع الأكبر؛ لتطبيق معتقدات أعضائه دون تدخل أو تطفل من أحد، أو لإثبات أن اليوتوبيا التي يؤمنون بها قابلة للتطبيق للمجتمع الأكبر. ورغم أن المؤرخ آرثر يوجين بستور الابن (1908-1994) أنكر علاقة النهج الأخير باليوتوبيا، فقد أطلق عليه «نماذج أصلية للمجتمع الطيب»، وهو لقب في الواقع يؤكد تلك العلاقة.
إضافة إلى ذلك، ينظر الآن إلى الإجراءات الصغيرة المؤقتة على أنها يوتوبية؛ لأنها توظف بشكل عام صورة يوتوبية في مقابل الديستوبيا التي تعارضها، كما يرى مؤيدوها. وتتخذ تلك الإجراءات عدة أشكال مختلفة من الأداء الفني إلى الاحتجاج. (1) المجتمعات المقصودة
ما نطلق عليها الآن في أغلب الأحيان المجتمعات المقصودة، المعروفة للعامة باسم كوميونات، كان لها أسماء كثيرة في الماضي، يرتبط عدد منها على نحو مباشر باليوتوبية؛ مثل: المجتمع اليوتوبي، والتجربة اليوتوبية، واليوتوبيا العملية، والمجتمع البديل، والمجتمع التجريبي. لم يجر القبول بهذه الأسماء وأشكالها المختلفة، أو تم التخلي عنها من أجل مصطلح أكثر حيادية، وكثير من الأفراد الذين يعيشون بتلك المجتمعات يرفضون أن يطلق عليها «مجتمعات يوتوبية»، ويفضلون «المجتمعات المقصودة». إلا أنه رغم هذا الرفض، ورغم أن أغلب تلك المجتمعات لم تكن يوتوبية بالمعاني التي يشيع استخدام الكلمة بها، فثمة علاقات وثيقة بين اليوتوبية وتلك المجتمعات.
لا يوجد تعريف متفق عليه بالكلية للمجتمع المقصود، لكن سيوافق كثيرون على شيء قريب من تعريفي التالي:
مجموعة من خمسة أفراد بالغين أو أكثر وأطفالهم، إن وجدوا، قادمين من أكثر من أسرة نووية، اختاروا أن يعيشوا معا لتعزيز قيمهم المشتركة أو لغرض ما آخر اتفقوا عليه فيما بينهم.
الجزء الأهم من هذا التعريف، والجزء الذي يربط بين هذه المجتمعات واليوتوبية هو التأكيد على عيش حياة تقوم على «قيمهم المشتركة» أو «غرض اتفقوا عليه فيما بينهم».
كل تلك المجتمعات، حتى تلك التي تؤمن أنها تنتظر المجيء الثاني للمسيح في المستقبل القريب، لها دساتير و/أو قواعد ولوائح و/أو اتفاقات (رسمية أو غير رسمية ) حول الكيفية التي ينبغي على أفرادها أن يعيشوا حياتهم بها. فإن كانت تلك الوثائق والاتفاقات أعمالا أدبية، كنا سنطلق عليها يوتوبيات بلا شك، وغالبا ما تكون أعمالا أدبية من منطلق أنها لا تعكس بدقة الكيفية التي يعمل بها المجتمع في واقع الأمر.
أقيمت المجتمعات المقصودة حتى يستطيع أعضاؤها اتباع أسلوب حياة معين. وقد سعى بعضها إلى تغيير السلوك الجنسي تغييرا جذريا، وغير كثير منها الطريقة التي يتناول بها أعضاؤها طعامهم؛ فالمجتمعات النباتية غيرت ما يأكله أعضاؤها، وغير كثير منها كيفية تنظيم العمل، وعلى وجه الخصوص ألغت الفوارق بين الجنسين في الكيفية التي ينبغي بها تخصيص العمل، وعمدت أخرى - محرزة بعض النجاح - إلى إلغاء التمييز بين العمل العقلي والبدني.
الكثير من هذه المجتمعات كانت دينية، وحاولت أن تتبنى أسلوب حياة يؤمن أعضاؤها أن إيمانهم يقتضيه. وتبع الكثير منها قائدا ذا شخصية كاريزمية، وأخذت تبشر بنسختها من المعتقد الديني، واكتسبت أتباعا كثيرين، وأسست مجتمعات أخرى، في حين اتبع غيرها أفكار أحد المنظرين الاجتماعيين. وثمة أسباب أخرى كثيرة تجعل الناس ينسحبون من المجتمع ليعيشوا على نحو مختلف.
ربما كان أول هذه المجتمعات الدينية الأشرام الهندوسية، ومن بعدها الأديرة البوذية. من بين أولى تلك المجموعات التي انسحبت من أجل ممارسة معتقداتها فيما أصبح جزءا من التقاليد الغربية كانت الأسينيون، وهي جماعة دينية يهودية ظهرت في كثير من المدن، من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، وأسست مجتمع خربة قمران، وكتبت مخطوطات البحر الميت التي يعتقد أنها كانت مكتبتهم. كان أغلب الأسينيين متبتلين، وعاشوا على نحو جماعي. وفي وقت لاحق، بعض من المجتمعات المسيحية بالتحديد التي تكونت في زمان مبكر تشكلت حول رجال دين، عادة نساك، يعرفون جملة باسم «آباء الصحراء».
استند كثير من المجتمعات المنعزلة الدينية في طقوسها على تأويلها للكنيسة الأولى في القدس، لا سيما وصف مجتمع الخيرات في سفر أعمال الرسل (2: 44-45) - «وجميع الذين آمنوا كانوا معا، وكان عندهم كل شيء مشتركا، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج» - الذي كان يشار إليه باستمرار في وصف المجتمعات اللاحقة لنفسها. وآمن كثير من مؤسسي المجتمعات أن الطقوس الكوميونية التي مارستها الكنيسة الأولى عكست نية المسيح. وفيما بعد، ارتأت تلك المجتمعات أن الملكية المشتركة مناسبة لمن يكرسون أنفسهم للكنيسة وليس للناس العاديين. (2) أديرة الرهبان في المسيحية
كانت الخطوة الكبيرة الأولى نحو قيام تقليد الرهبنة المسيحية كتاب «مبادئ القديس بندكت»، وفيها عرض بندكت (480؟-543؟) تفاصيل نظام رهبنة مصمم ليوفر إطارا بنيويا من الممكن من خلاله أن يتم عيش حياة أفضل، تكون أقرب إلى الحياة المسيحية المثالية. تقتضي مبادئ بندكت ألا يحوز أي راهب أي ملكية، فيقول: «يجب استئصال رذيلة الملكية هذه تماما من الدير أكثر من أي شيء آخر.» وفصل مسألة الطعام الذي سيوزع (المبدأ رقم 39)، ومقدار النبيذ المسموح به، وهو نصف لتر في اليوم (المبدأ رقم 40). وثمة مبدأ يحدد مقدار العمل اليدوي ويعترض على الكسل (المبدأ رقم 48)، ويعرض تفاصيل الملابس التي سيجري توزيعها (المبدأ رقم 55)، وبالطبع التسلسل الكهنوتي في الدير، والطقوس الدينية، وإجراءات القبول بالدير. ساعدت تلك المبادئ على خلق مجتمعات مصممة من أجل جعل الحياة المستقيمة ممكنة. والمدافعون عن الرهبنة كانوا مقتنعين تماما بأن أغلب الناس لم يكونوا قادرين على مثل تلك الحياة، وأنه لن يمكن تحقيق هذا الهدف اليوتوبي على نحو واضح إلا داخل الدير.
مع ازدهار الأديرة وعدم تمسك الرهبان بأسلوب التقشف الموصى به من قبل القديس بندكت، أدخل القديس الفرنسي أودو الكلوني (878 تقريبا-942) إصلاحات أرسى من خلالها الشكل الكلوني للأديرة، بغرض تصحيح ما اعتبره إفراطا في رتب الرهبنة الأخرى. وشدد القديس فرانسيس الأسيزي (1181 / 1182-1226) أيضا على ضرورة الإصلاح، واقترح رتبة جوالة من الرهبان الذين يعتمدون في حياتهم على الاستجداء. أفسد المحافظون بالكنيسة منهج فرانسيس، وتأسست في النهاية رتبة فرانسيسكانية أكثر تقليدية.
تعتبر محاولة إعادة تحقيق مبادئ بندكت وأودو وفرانسيس وغيرهم موضوعا متكررا في تاريخ الرهبنة. توضع قواعد جديدة يطلقها أحدهم ويجري تطبيقها؛ فتصبح الأديرة ناجحة وتمر بفترات ازدهار تكون هي سبب انهيارها؛ حيث يصاب الرهبان بالكسل ، ويعتادون على الحياة الطيبة، ثم تدشن قواعد جديدة وتستأنف الدورة من جديد.
تمخضت عن حركة الإصلاح البروتستانتي مجموعات كثيرة أملت في تكوين حياة تستند إلى تأويلهم للعهد الجديد. على سبيل المثال، تأسست الأخوية الهوترية إبان حركة الإصلاح الراديكالي في القرن السادس عشر. سمي الهوتريتيون، كما كانوا يعرفون أيضا، بهذا الاسم على اسم مؤسسهم، وهو جاكوب هوتر (1500 تقريبا-1536)، الذي أصر على إقامة مجتمع يقوم على الملكية المشتركة واللاعنف.
شكل 2-1: تعد المجتمعات الرهبانية من ضمن أقدم المجتمعات المقصودة، وهي لا تزال تنمو وتتكيف مع التغيرات في المجتمعات التي توجد بها، بما في ذلك البنية المعمارية للأديرة، كما يتضح من هذا الدير التابع لجماعة البندكتيين في سانت لويس، ميزوري.
وللهرب من الاضطهاد، انتقل الهوتريتيون إلى بلدان عدة في أوروبا قبل أن يستقروا في أمريكا الشمالية في أواخر القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب العالمية الأولى، جرت ملاحقتهم بسبب اتباعهم مذهب اللاعنف، وانتقل الكثير من الجماعات إلى كندا. واليوم توجد حوالي 500 جماعة من الهوتريتيين، أغلبها في كندا.
لا تزال توجد جماعات أخرى قليلة من عصر حركة الإصلاح البروتستانتي، لكن كثيرا من الجماعات التي ظهرت بأوروبا إبان المائتي عام اللاحقة أسست مجتمعات في الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما «جماعة الوحي الحق»، المشهورة باسم «جماعات أمانا»، في آيوا، التي تعود أصولها إلى ألمانيا في عام 1714، وتعاليم إبرهارد لدوفيج جروبر (المتوفى في عام 1728)، ويوهان فريدريش روك (1678؟-1749)، اللذين اعتقدا أنهما كانا يتلقيان وحيا مباشرا من الرب.
نشأت جماعات دينية أخرى في بريطانيا والولايات المتحدة، واختارت إنشاء مجتمعات تمكنها من ممارسة معتقداتها. من أشهر تلك الجماعات «الشيكرز» (المعروفة رسميا باسم الجمعية المتحدة للمؤمنين بالظهور الثاني للمسيح) وجماعة أونيدا. لا تزال توجد جماعة شيكرز واحدة تمارس معتقداتها في ولاية مين، لكن اليوم أفراد جماعة الشيكرز معروفون بالأعمال الحرفية. لم تستمر جماعة أونيدا لنفس الأمد وتحولت إلى شركة مساهمة تنتج آنية أونيدا الفضية. لكن في أوج ازدهار تلك الجماعتين، عرف عنهما أنهما كانت لهما ممارسات جنسية خاصة بهما ؛ فأفراد جماعة الشيكرز كانوا متبتلين. أما جماعة أونيدا، فمارست ما أطلقت عليه «الزواج المعقد»؛ حيث يفترض أن جميع أعضاء الجماعة متزوجون بعضهم من بعض، مع أن العلاقات الجنسية لم تكن - بوجه عام - مباحة دون قيود. آمنت كلتا الجماعتين بالمساواة بين الجنسين وحاولت تطبيقها؛ إذ آمنت جماعة الشيكرز بأن المجيء الثاني للمسيح قد حدث متخذا شكلا أنثويا متمثلا في مؤسستها آن لي (1736-1784). وبدأت جماعة أونيدا إجراء تجربة تقوم على عملية تحسين النسل باختيار المسموح لهم بإنجاب أطفال معا. وتعتبر - بوجه عام - تلك التجربة ناجحة من منطلق أن أغلب الأطفال الذين نتجوا عنها كانوا أصحاء وأذكياء على حد سواء. وفي أغلب الأحوال استمر الحال هكذا في نسلهم.
شكل 2-2: ملتقى جماعة الشيكرز في كانتربيري، نيوهامبشير، ويظهر فيه بابان منفصلان أحدهما للرجال والآخر للسيدات.
تأسست مجتمعات أخرى بناء على أفكار إصلاحيين، مثل الرجال الذين حددهم فريدريش إنجلز (1820-1895) بوصفهم اشتراكيين يوتوبيين؛ لتمييزهم عن الاشتراكية العلمية الماركسية. حدد إنجلز ثلاثة منظرين بوصفهم اشتراكيين يوتوبيين: الويلزي روبرت أوين (1771-1858)، والفرنسيين تشارلز فورييه (1772-1837)، وهنري سان-سيمون (1760-1825). ورغم أن أيا منهم لم يكتب رواية يوتوبية، فقد نشروا رؤيتهم للمجتمعات المثالية، وكتب آخرون روايات يوتوبية استندت إلى أفكار أوين وفورييه. أسس أوين مجتمعات مقصودة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، في حين أسس آخرون مجتمعات بناء على أفكاره في هذين البلدين وفي أيرلندا. كان أوين منشغلا بإدخال إصلاحات في المصانع، والإصلاحات التي أدخلها بمحلج القطن خاصته في قرية نيو لانارك، اسكتلندا، حققت نجاحا كبيرا. وقرية نيو لانارك الآن بقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. والمجتمعات التي قامت على مقترحات فورييه وسان-سيمون تأسست في فرنسا، وفيما بعد في الولايات المتحدة الأمريكية.
شكل 2-3: كانت قرية نيو لانارك الموقع الذي شهد أول خطوة كبرى في حياة روبرت أوين (1771-1858) باعتباره إصلاحيا. عندما تولى أوين منصب مدير محلج القطن في تلك القرية، وفر لسكانها اللائق من المسكن والتعليم والرعاية الصحية والطعام بأسعار في المتناول، والتي لم يكن أي منها متاحا في أغلب البلدات التي تتكون حول المصانع . ألغى أوين أيضا وسائل العقاب البدني، ووضع قيودا على عمل الأطفال. حققت تجربة أوين نجاحا عظيما من منطلق أنها زادت من الإنتاجية، وفي الوقت نفسه كان العمال في حال أسعد. وقرية نيو لانارك الآن بقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. (3) الكيبوتسات
تأسس الكثير من المجتمعات الدينية والعلمانية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أن الحدث الكبير اللاحق في تاريخ المجتمعات المقصودة كان تأسيس ديجانيا، أول كيبوتس، في فلسطين في عام 1920. انتقل الكثير من اليهود، أغلبهم من الشباب، إلى المنطقة لتأسيس كيبوتس عبر ما يعرف الآن بإسرائيل. كانت الكيبوتسات الأولى علمانية في الأساس، رغم تأسيس مجتمعات دينية أيضا أطلق عليها الموشافات.
كانت الكيبوتسات ناجحة - بوجه عام - حتى أجبر اجتماع العولمة، مع المشكلات التي طرأت على اقتصاد إسرائيل، الكثير منها على إدخال تعديلات كبيرة على اقتصاداتها الداخلية. تجاوزت أغلب الكيبوتسات أوقاتها العصيبة، لكن الكثير منها أيضا لم تعد كوميونية أو ميسورة الأحوال كما كانت في السابق.
يصف هنري نير، مؤرخ حركة الكيبوتسات، الكيبوتسات اليوم ب «ما بعد اليوتوبية»، دافعا بأن تأسيسها كان يوتوبيا بوضوح من منطلق أن مؤسسيها توقعوا أنها ستخلق حياة أفضل وجديدة بالكامل لأعضائها، لكن لأنه لم يحقق أي شعب أو أي نظام اجتماعي الآمال التي قام عليها تأسيسه، فعلى الناس التكيف مع واقع الحياة اليومية مع غيرهم وفقدان الرؤية الأصلية. وهي «ما بعد يوتوبية»؛ من منطلق أن كثيرا من أعضائها كيفوا رؤيتهم اليوتوبية مع الواقع، والبعض ببساطة غير حلمه، والبعض عده من الماضي، والبعض الآخر خلص إلى أن الموقف الحالي أفضل من البدائل، وأرجأ آخرون تحقيق اليوتوبيا إلى أجل غير مسمى بالمستقبل.
في أوج صعود حركة الكيبوتسات، اجتذبت دعما أخلاقيا وماليا كبيرا من حكومة إسرائيل، ورأت بعض البلاد الأخرى مزايا في تأييد المستوطنات الكوميونية. وفي الولايات المتحدة، إبان كساد ثلاثينيات القرن العشرين، أنشئ حوالي 100 مجتمع على سبيل الإغاثة وإعادة التوطين. وفي نيوزيلندا، في سبعينيات القرن العشرين، طبق برنامج لتأسيس مجتمعات عرفت باسم «الأوهو»، وهي كلمة باللغة الماورية تعني تحقيق شيء ما «عن طريق العمل والمساعدة الودية». وأنشئت بعض المجتمعات، لكن سرعان ما ضعفت بفعل البيروقراطية. (4) المجتمعات الديستوبية
كانت الكوميونات الصينية التي تأسست في عهد ماو تسي تونج (1893-1976) نسخة سلطوية من الكوميونية. ويظهر لنا أنها يمكن أن تكون ديستوبية من منطلق أن حياة الكثيرين من أهلها الذين فرض عليهم الانضمام إليها كانت أسوأ بوضوح مما كانت عليه من قبل، كما تشير حوادث الانتحار الجماعي في جونزتاون ومعبد الشمس إلى أن الانضمام إلى مجتمع له قائد قوي وصاحب شخصية كاريزمية على نحو استثنائي، يمكن أن يجعل الناس يقدمون على فعل أشياء ربما لن يقوموا بها في أي حال آخر، بما في ذلك قتل أنفسهم. وفي حين أن كثيرا من التهم التي وجهت إلى المجتمعات المقصودة اتضح أنها كاذبة، ثمة ما يكفي من الأمثلة على إساءة المعاملة تقتضي التسليم بالجانب الديستوبي من الكوميونية. (5) مجتمعات حقبة «الستينيات»
أفرزت حقبة الستينيات زيادة عظيمة في المجتمعات المقصودة عبر العالم، ضمت آلافا من المجموعات الحضرية التي لم يكتب لأغلبها البقاء طويلا، والتي عرفت نفسها على أنها كوميونات، والمئات من المجموعات الريفية التي تأسست على رؤى يوتوبية مختلفة. أنشئت هذه المجتمعات في أوروبا وأمريكا الشمالية. وبسبب فكرة الصحافة عن تلك المجتمعات، والمتمثلة في أن بها حرية جنسية، أو أنه لا توجد أي قيود على العلاقات الجنسية بها (كان بعضها كذلك، في حين لم يكن البعض الآخر كذلك)، فقد انبهرت بكوميونات الهيبيز؛ مثل: «دروب سيتي» الريفي، و«هوج فارم»، و«كريستا» في منطقة هيت أشبري، سان فرانسيسكو. كانت بعض الكوميونات الحضرية «منازل آمنة» للنشطاء المناهضين للحرب الذين حاولوا تجنب اعتقالهم؛ وأدى هذا بالصحافة إلى إدانة جميع المجتمعات؛ لأنها تؤوي راديكاليين خطرين. في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية، كانت الغالبية العظمى من تلك المجتمعات تحاول فحسب تطبيق ما يراه أعضاؤها أسلوب حياة أفضل، وأقل مادية، وأكثر حرية. واستمرار وجود عدد كبير منها لأكثر من أربعين عاما يشير إلى أن بعض الناس وجدوا ما كانوا يبحثون عنه .
شكل 2-4: كان «دروب سيتي» مجتمعا مقصودا تأسس في جنوب كولورادو في منتصف ستينيات القرن العشرين، ورغم أن من أسسه في الأصل طلاب الفنون من جامعتي كولورادو وكانساس، فقد أصبح أيقونة لكوميونية الهيبيز. وهو يشتهر بتصميمه المعماري المقبب.
كذلك، انجذب في فترة الستينيات كثيرون إلى الأديان الشرقية، لا سيما البوذية والهندوسية؛ نتيجة لذلك، بدأ الرهبان البوذيون في الانتقال إلى البلدان الغربية بهدف التبشير وإنشاء الأديرة، كما قدم مدرسون ومعلمون روحيون من الهندوس إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وأسسوا أشراما.
لكن المجتمعات التي كانت الأقرب شبها بالمجتمعات المبكرة لم تقم على الأديان الشرقية، بل على رؤية جديدة، مثل المجتمعات التي ألهمتها الرواية اليوتوبية لعالم النفس السلوكي بي إف سكينر «والدن تو». وأشهر هذه المجتمعات «توين أوكس» في فيرجينيا ترك منذ أمد بعيد نموذج سكينر، لكن المجتمع الآخر الذي استمر حتى الآن من مجتمعات سكينر الأصلية «لوس هوركونز» في المكسيك لا يزال يحمل مظاهر من الرؤية الأصلية التي تستخدم مؤسسات المجتمع لتعديل السلوك وتحسينه. «توين أوكس» عضو باتحاد المجتمعات المساواتية، وهو مجموعة صغيرة من المجتمعات التي تحاول أن تستوفي سبعة معايير. وهذه المعايير أهداف تطمح المجتمعات إلى تحقيقها ولم تحققها بعد، لكنها تعبر بوضوح عن رؤية يوتوبية. ويقوم كل مجتمع من مجتمعات الاتحاد بما يلي: (1)
مشاركة الأرض والعمل والدخل وغيره من الموارد بين الجميع. (2)
تحمل المسئولية فيما يتعلق بحاجات أعضائه، وتلقي نواتج عمله وتوزيعها هي وجميع الموارد الأخرى بالتساوي حسب الحاجة. (3)
تطبيق أسلوب اللاعنف. (4)
استخدام شكل من أشكال اتخاذ القرار يتمتع فيه الأعضاء بفرص متساوية للمشاركة؛ إما عبر إجماع الآراء، أو التصويت المباشر، أو حق الاستئناف، أو النقض. (5)
العمل دون كلل على إرساء المساواة بين الجميع، وعدم السماح بالتمييز على أساس الجنس، أو الطبقة الاجتماعية، أو العقيدة، أو الأصل العرقي، أو السن، أو النوع، أو التوجه الجنسي، أو الهوية الجنسية. (6)
العمل على الحفاظ على الموارد الطبيعية لأجيال الحاضر والمستقبل مع السعي إلى التحسين المستمر للوعي والممارسة البيئية. (7)
إنشاء عمليات من أجل المشاركة والتواصل بالمجموعة ، وتوفير البيئة التي تدعم تطوير الناس.
وتوجد شبكة من المجتمعات في الولايات المتحدة الأمريكية يتم تناول أخبارها في مجلة «كميونيتيز: لايف إن كواوبراتيف كالتشر»، التي تنشر منذ عام 1972، وثمة شبكة مماثلة بالمملكة المتحدة يتم تناول أخبارها في دورية «ديجرز آند دريمرز»، التي تنشر منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، وهناك شبكة عالمية من القرى البيئية. (6) المجتمعات المقصودة المعاصرة
ثمة حركتان حديثتان مرتبطتان ارتباطا مباشرا بالكوميونية أو ذات صلة بها؛ فحركة القرية البيئية هي بوضوح جزء من الكوميونية، وفيها تحاول مجتمعات صغيرة موجودة في جميع أنحاء العالم الوصول لنمط حياة وبنية معمارية وتصميم مجتمعي أكثر توازنا بيئيا. وبعض من هذه المجتمعات، مثل «فارم» في تينيسي بالولايات المتحدة الأمريكية، تقدم أيضا الدعم لتطوير المجتمعات الأخرى التي من هذا النوع. وبعض هذه المجتمعات أو أعضائها تستخدم الخبرة التي اكتسبتها في أوقات الحاجة للوصول إلى اتفاق في الآراء؛ لتدريب الناس في المجتمعات الأخرى وخارج الكوميونية على ديناميكيات الجماعات.
توجد صلات بين حركة الإسكان المشترك، التي نشأت في الدنمارك وانتشرت في أرجاء البلدان الغربية، والمجتمعات المقصودة. في إطار تلك الحركة، تكون الملكية مزيجا من الملكية الخاصة والجماعية؛ فتكون ملكية الموقع والمنشآت المشتركة جماعية، عادة على شكل مساهمة، في حين تكون ملكية منازل الأفراد ملكية فردية. وتؤكد شخصية الجماعة على أهمية التفاعل داخل المجتمع. وترى بعض مجتمعات الإسكان المشترك نفسها مجتمعات مقصودة، إلا أن مجتمعات أخرى ترفض الفكرة. وهذا الانقسام يعكس بدقة واقع هذا النوع من المجتمعات. وعادة ما يكون شكل الملكية في تلك المجتمعات واحدا أو متشابها على الأقل، إلا أن حدود الحياة الاجتماعية داخلها تختلف اختلافا كبيرا؛ فمن ناحية، تكون الاجتماعات المجتمعية والعمل المجتمعي والوجبات المشتركة وما إلى ذلك هي المعيار السائد، ومن الناحية المقابلة، يكون التفاعل في المجتمع قليلا، ولا يوجد إلا بالحدود التي تفرضها الاتفاقات القانونية الملزمة. وأغلب المجتمعات يقع في موقع متوسط بين هذين النقيضين.
وجمعيات الإسكان التعاوني، التي تتنوع من منزل وحيد يوفر الإقامة لطلاب الجامعة إلى المجمعات السكنية الضخمة، هي أيضا مجتمعات مقصودة. ورغم أن الكبرى منها قد لا تستوعب نشاطا كوميونيا كبيرا، فالصغرى منها غالبا ما تبدو كمجتمع حضري مقصود، وتعمل على نحو كبير بالطريقة نفسها التي يعمل بها. علاوة على ذلك، بعض الجمعيات الخاصة بالمنتجين، مثل «موندراجون» في إسبانيا، عادة ما تعتبر مجتمعات مقصودة من منطلق أنها لا توفر فقط وظائف لعمالها، بل أيضا تشركهم في إدارة العمل، وتوفر لهم وسائل الراحة، التي غالبا ما تشمل المسكن، التي تفوق كثيرا ما توفره أغلب الشركات.
ينبغي أن يكون من الواضح أنه لا يوجد نموذج واحد فقط للحياة المجتمعية؛ فللمجتمعات المقصودة أغراض كثيرة؛ فعلى سبيل المثال، كان مجتمع «بلاك ماونتن كوليدج» مجتمعا بمنزلة مركز ثقافي وسياسي، وضم في عضويته المطرب بيت سيجر (المولود عام 1918)، والملحن جون كيدج (1912-1992)، والراقص ومصمم الرقصات ميرس كنينجهام (1919-2009).
لسنوات طوال، ضمت بلجيكا مجتمعات مصممة للمرضى العقليين، وانتشرت هذه المجتمعات العلاجية بعد ذلك في دول العالم؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وفر مجتمع «جولد فارم» في ماساتشوستس ومجتمع «كوبريس» في نورث كارولاينا منذ فترة طويلة مثل هذا الإطار. ومجتمعات كامبهيل في جميع أنحاء العالم، التي تقوم على تعاليم المفكر النمساوي رودولف شتاينر (1861-1925)، تعمل مع أصحاب إعاقات التعلم، والذين لديهم مشكلات عقلية وغيرها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتوفر لهم بيئة آمنة وداعمة يستطيعون فيها باعتبارهم أفرادا تطوير مهاراتهم قدر الإمكان.
ثمة مجموعة من المجتمعات تعتبر نسخة مختلفة من المجتمعات العلاجية هي مجتمعات العمال الكاثوليك، التي تأسست لمساعدة مدمني الكحوليات ومدمني المخدرات وغيرهم ممن هم موجودون بقاع السلم الاجتماعي على تحسين حالهم. تضم تلك المجتمعات منازل العمال الكاثوليك الموجودة في أسوأ المناطق بالمدن الكبرى وعددا من المجتمعات الريفية؛ حيث يمكن للناس الذهاب إليها لاستنشاق بعض الهواء النقي وممارسة بعض النشاط البدني للمساعدة على شفائهم. وكانت هناك نسخة أقدم ومماثلة جدا من تلك المجتمعات، تمثلت في المجتمعات التي أسسها «جيش الخلاص» في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. تأسست كل من المستعمرات الحضرية والريفية، وكانت الخطة تتمثل في التوسع في بناء مستعمرات خارج البلاد؛ حيث يستطيع من أحرزوا نجاحا في المجتمعات الريفية بدء حياة جديدة تماما. (7) عوامل نجاح المجتمعات أو إخفاقها
ما الذي يجعل مجتمعا ما ناجحا أو فاشلا؟ ثمة إجابة نموذجية؛ وهي فترة استمراره. كان المعيار النموذجي هو 25 عاما، واقترحته روزابيث موس كانتر (المولودة عام 1943)، الأستاذة التي تشغل كرسي إرنست إل آرباكل بكلية هارفرد لإدارة الأعمال، في كتابها «الالتزام والمجتمع» (1972)، لكن بالنسبة لأغلب أعضاء المجتمعات، فإن هذا معيار معيب بصورة بالغة؛ ففي حين توجد مجتمعات كثيرة اليوم تجاوزت معيار الخمسة والعشرين عاما بزمن طويل، بما فيها عدد كبير تأسس في فترة الستينيات، ويعتقد عموما أنها انتهت منذ أمد بعيد، فإن فترة الاستمرار ليست هي المعيار الأهم لنجاح المجتمع أو فشله بالنسبة للكثيرين.
لا يعني استمرار المجتمع أنه ضم نفس السكان. بعضها فعل هذا، وأما البعض الآخر فلا، لكن أغلب المجتمعات حظي بمعدل تعاقب سكاني ضخم. يبدو في الواقع أن افتراضات كانتر تناسب المجتمعات الدينية التي استمر بعضها لعدة أجيال. فإن أمرك الرب أو ممثل الرب بالبقاء فستبقى. وفي حين أن فترة الاستمرار يمكن أن تكون مقياسا للنجاح عندما تجتمع مع عوامل أخرى، فهي وحدها لا تشكل أي معنى. ومع أن كانتر نفسها كانت تدرك ذلك، فإن هذا المعيار البسيط مع ذلك جرى تطبيقه على يد آخرين منذ ذاك الحين.
يورد المفكر التقدمي الأمريكي هنري ديمارست لويد (1847-1903) أحد المداخل لتناول مسألة نجاح أو فشل المجتمعات:
هل تفشل المجتمعات على الدوام؟ لم تشاهد إلا في تلك المجتمعات، في الحدود الواسعة للولايات المتحدة، حياة اجتماعية امحى فيها الجوع والبرد، والدعارة، وإدمان الكحوليات، والفقر، والعبودية، والجريمة، والشيخوخة المبكرة، وارتفاع معدل الوفيات والذعر والهلع الصناعي. لو كانت قد فعلت ذلك لعام فحسب، لكانت استحقت أن توصف بأنها «المجتمعات» الناجحة الوحيدة بهذه القارة، وبعضها يبلغ من العمر أجيالا عديدة. وكل هذا لم يقم به قديسون بالسماء، بل على الأرض على يد رجال ونساء عاديين.
ثمة معيار آخر، وهو معيار سيقدره أفراد المجتمعات، يتمثل في أن نجاح المجتمع يعتمد على قدر وفائه باحتياجات أعضائه مهما بلغت مدة عضويتهم فيه. بالنسبة لأغلب الأعضاء، فإن نجاح المجتمع لا يقاس بفترة استمراره، وإنما بمدى تحسينه أو عدم تحسينه لحياتهم في الفترة التي كانوا فيها أعضاء فيه. بالطبع تتنوع الاحتياجات بوضوح من عضو لآخر، وتتغير بتغير الناس؛ ومن ثم ستتغير الديناميكيات الداخلية للمجتمع بمرور الوقت. (8) التطورات الحديثة في التطبيق العملي لليوتوبيا
ثمة شكلان من أشكال التطبيق العملي الحديث لليوتوبيا، أحدهما متعلق بالمجتمعات المقصودة، يوضحان النحو الذي ابتعدت به اليوتوبية عن الفئات التقليدية. أولهما - الذي أطلق عليه حكيم بك (بيتر لامبورن ويلسون، المولود عام 1945) «المنطقة المستقلة المؤقتة»، وأطلق عليه جورج ماكاي (المولود عام 1960) ثقافة «افعلها بنفسك» - مساحة من النشاط المنشأة لغرض معين. يركز كل من حكيم بك وماكاي في هذا الشأن في المقام الأول على الاحتجاجات، إلا أنه يمكن إدراج مخيم الموسيقى السنوي للمثليات في ميشيجان وغيرها من الأماكن المؤقتة. وبالنظر إلى الماضي، يمكن أن نصف تلك الأماكن بأنها يوتوبية؛ لأنها أفرزت على نحو مؤقت ما رآه المشتركون بها حياة أفضل، وإن كانت لفترة قصيرة، وهي ترتبط بما سبقها من يوتوبيات مؤقتة مبكرة مثل الاحتفال بعيد الإله ساتورن، والصورة المبكرة من الكرنفال، وعيد البلهاء، وخيم الاجتماعات التي تقام من أجل إيقاظ الروح الدينية، و«أحداث» فترة الستينيات. وبعضها أنشأ مجتمعات دامت لفترة طويلة، مثل مخيم السلام النسائي في قاعدة جرينهام كومون الجوية في بيركشاير، بإنجلترا، الذي استمر من سبتمبر من عام 1981 حتى عام 2000.
يمكن كذلك وصف ظواهر مؤقتة على نحو أكبر بأنها يوتوبية؛ فهناك، على سبيل المثال، مبادرة «فري» الفنية الجماعية البريطانية التي تنشئ احتجاجا سياسيا في مكان عام من خلال، مجرد قصد مكان ما، عادة، حاملين شعارا ما، والوقوف هناك لساعات مكونين «منطقة مستقلة مؤقتة» أو مساحة يوتوبية مؤقتة حول أنفسهم، وهذا مجرد أسلوب من ضمن أساليب أخرى. ويصنع الأعمال الفنية الأشخاص الذين يتفاعلون معهم. وثمة الكثير من هذه المجموعات، لكن مجموعة «فري» تصف ما تفعله بأنه يوتوبي.
أحد جوانب تلك الظاهرة الأداء الفني. وفي كل أداء، سواء كان موسيقى أو رقصا أو تمثيلا مسرحيا أو بعض أشكال الفن الجماهيري، ثمة أمران على الأقل يحدثان؛ أحدهما بين المؤدين، والآخر لدى المشاهدين. وفي حالات نادرة، يجتمع الاثنان وتتشكل لحظة يوتوبية بحق، لكن في الأغلب، يوجد ما قد نفكر فيه على أنه لحظات يوتوبية أصغر. في الغالب، وإن كانت تلك حالات نادرة، يخلق المؤدون المساحة اليوتوبية فيما بينهم من خلال الأداء الفني. وقد أشار منظرو الأداء إلى هذا. فعلى سبيل المثال، كتبت جيل دولان، أستاذة المسرح بجامعة تكساس (المولودة عام 1957) تقول:
أرى أن المسرح والأداء الفني يمكن أن يعبرا معا عن مستقبل مشترك؛ مستقبل أكثر عدالة وإنصافا، مستقبل يمكننا جميعا أن نشارك فيه على نحو متساو أكثر، مستقبل يحفل بفرص أكبر للحياة الكاملة، وللمساهمة في صنع الثقافة.
يوجد الكثير من مثل تلك اللحظات، وفي حين أننا نعلم أن العرض القادم قد لا يبلغ نجاح سابقه، فمعرفة أن الأمر ممكن وأن المشاعر التي يطلقها عندما يجري هي الأمر المهم. وهذا مهم من نواح ربما تكون سياسية؛ لأن الرضا في تلك اللحظة يمكن أن يتسرب خارج مكان الأداء ليلقي الضوء على الاستياء الذي نشعر به في الحياة اليومية.
والاستياء هو بداية اليوتوبية، واليوتوبية في النهاية تدور حول تغيير الحياة اليومية. تواجه اليوتوبيا حقيقة أن الحياة هي كل متكامل، وأن الأطفال والعائلات والزواج والتربية والاقتصاد والسياسة والموت وغير ذلك مرتبطة كلها. والمجتمعات المقصودة راديكالية بوجه خاص من منطلق أن أعضاءها لا يمانعون في تغيير حيواتهم. ويكون على جميع أعضاء تلك المجتمعات التعامل مع هذا التغيير كل يوم.
الفصل الثالث
اليوتوبية الأصلية والكولونيالية وما بعد
الكولونيالية
كان يوجد صنفان من المستعمرات، وكلاهما هدفه خدمة مصالح البلد المستعمر، لا مصالح المستعمرة. كان القصد الأساسي من أحدهما استغلال عمالة المستعمرة وموادها الخام وثرواتها. أما الثاني، فكان الهدف منه الاستيطان؛ إما للتخلص من الزيادة السكانية، وإما كأماكن لإرسال غير المرغوب فيهم إليها. والمستعمرات مهمة بالنسبة لليوتوبية من حيث إنها مثلت أحلاما يوتوبية، لكن أيضا بسبب أنه - إجمالا - كتبت يوتوبيات أدبية، وأنشئت مجتمعات مقصودة فيها أكثر من البلاد التي أنشأتها. وكان للمستعمرات تأثيرات على السكان الأصليين، واختلف تفسير تلك التأثيرات على مر الزمن، وحسب القائم بالتفسير. (1) مستعمرات المستوطنين
التفسير النموذجي لعملية الهجرة إلى مستعمرات المستوطنين هو أن الناس يخرجون من بلدهم الأم، بسبب الفقر والمرض وغيرهما من الظروف المحلية، ويستوطنون البلد الجديد تحدوهم الرغبة في الحصول على حياة أفضل، أو الأمل في القدرة على ممارسة معتقداتهم السياسية أو الدينية. عرض جيمس بالتش (المولود عام 1956) في كتابه «إعادة إعمار الأرض» (2009) أن هذه الصورة شديدة البساطة. ولكن أيضا في الحقيقة من بداية القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الناس يتركون بلادهم ويسافرون، في بعض الحالات لمسافات طويلة حول العالم، عاقدين الأمل على أن يتمكنوا من أن يعيشوا حياة أفضل مما أتيح لهم في مسقط رأسهم. وجد البعض حياة أفضل في المكان الجديد، في حين لم يجدها البعض الآخر، فأقاموا في البلد الجديد في الظروف السابقة نفسها، أو في ظروف أسوأ منها، أو عادوا إلى بلدهم الأم، إلا أن الحلم بحياة أفضل، الذي قاد الكثيرين، كان يوتوبيا على نحو واضح، ومستعمرات المستوطنين كلها كانت وراءها أحلام يوتوبية. يمكن أن نجد مثالا لذلك في الأغاني التي غناها المهاجرون، والتي وصفت عادة المكان الذي انتقلوا إليه بأوصاف يوتوبية. فعلى سبيل المثال، تبين الأغنية الأيرلندية «الولايات المتحدة الأمريكية العظيمة والحرة» الوصف اليوتوبي:
إن عملت في أمريكا،
فستتقلب في النعيم،
فلا توجد ضرائب ولا عشر هناك
ولا إيجار يثقل كاهلك،
إنه بلد حر وعظيم،
يرحب بكل البشر،
فهيا أبحروا إلى أمريكا،
بأسرع ما يمكنكم.
ووفرت أيضا مستعمرات المستوطنين أو المهاجرين، رغم أن ذلك لم يكن جزءا من القصد الأساسي، مساحة لمختلف أنواع المنشقين، أغلبهم من الدينيين، لتجربة أفكارهم، غالبا في مجتمعات مقصودة. كانت اليوتوبية محورية بالنسبة للهويات الوطنية لنيوزيلندا والولايات المتحدة. (2) اليوتوبية الأصلية
لكن أحلام المستوطنين اصطدمت بتوقعات الأشخاص الذين كانوا يعيشون أصلا في تلك البلاد ، وأفرزت بوجه عام ديستوبيات حقيقية بالنسبة لهم. ضمت تلك الشعوب المستعمرة ثقافات حضرية بالغة التطور لشعوب الآزتك والإنكا والمايا، إضافة إلى ثقافات غير حضرية؛ مثل السكان الأصليين لأستراليا، والماوري في نيوزيلندا، والشعوب الأولى والإنويت في كندا، والهنود الأمريكيين الأصليين في كندا والولايات المتحدة.
كان لهذه الشعوب كلها أساطير عن الخلق فسرت كيف نشأ العالم والكائنات التي تأهله. وفي كثير من تلك الأساطير، كان الخلق الأول أفضل مما لحقه، وضمت الأساطير تفسيرا لما وقع من إخفاق.
ولأن مستعمرات المستوطنين غالبا ما دمرت - على نحو ممنهج - ثقافات السكان الأصليين إلى جانب ذبحهم، فلا نعرف عن أساطيرهم أو أحلامهم بالحصول على حياة طيبة سوى القليل جدا مقارنة بما نعرفه عن أحلام المستوطنين. ولكن في بعض الحالات، توجد نسخ حديثة بعثت من جديد، وأحيانا ما تضفى عليها صبغة رومانسية من تلك الأحلام، والأبحاث الحديثة بصدد إطلاعنا على المزيد فيما يتعلق بأساطير وقصص تلك الشعوب. ونحن نتعلم أشياء جديدة كل يوم؛ لأنه في حقبة ما بعد الكولونيالية، الثقافات التي تعرضت للقمع لكن لم تختف في واقع الأمر تستكشف الآن هي والقصص القديمة. وقد كتب كاتب معاصر مجهول - تعود جذوره إلى القبائل الهندية الأمريكية - يقول:
يعني أن نستكشف تاريخ القدماء أن نعيش على النحو المقدس، أن ننصب قامتنا، ونسير باعتدال، أن نحترم إخواننا وأخواتنا من الأمم المختلفة والأعراق المختلفة. يعني هذا أن ننفتح مثل الهواء، مثل السماء؛ كي نتعرف على الجبال والمياه والرياح، وأضواء السماء، والنباتات، والكائنات ذوات الأربع، وذوات الست، والزواحف، والطيور. يعني هذا أن نقتل على النحو المقدس، أن نعرف الحب والأسف والغضب والسعادة على النحو المقدس، وأن نموت على النحو المقدس.
في حين أن هذه رؤية للماضي مصطبغة بصبغة رومانسية، فمن الواضح أنها تعبير عن حلم يوتوبي.
ثمة تقاليد يوتوبية بين سكان أستراليا الأصليين والشعوب الأولى في كندا، وشعب الماوري في نيوزيلندا، والهنود الأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة. وأفرز الصراع المناهض للكولونيالية حركات ألفية تضم عناصر يوتوبية قوية، مثل حركة «رقصة الشبح» في الولايات المتحدة. ثمة العشرات من تلك الحركات في أمريكا الجنوبية، ولا يزال عدد منها يعيش بين جماعات الماوري في نيوزيلندا، مثل كنيسة راتانا. وقد أحيت بعض جماعات الماوري أشكالا تقليدية من الكوميونية التي يظنون أنها توفر حياة أفضل لشعبهم من الحياة التي يمكن بلوغها عبر الاندماج في المجتمع الأكبر.
وهكذا، في مستعمرات المستوطنين في أمريكا الشمالية والجنوبية وأفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا، يمكننا أن نتتبع نمطا شائعا تدمر فيه مستعمرة يوتوبية ثقافات حية ومهمة بأساطيرها وقصصها التي كانت تعبر عن أحلام يوتوبية، ويستمر فيه حلم المستوطنين بحياة أفضل، ثم تنتهي الكولونيالية وتبزغ أحلام جديدة لكل من ذرية المستوطنين وذرية السكان الأصليين، ويعاد استكشاف الثقافات التي جرى قمعها.
أحيانا، اكتسبت الثقافات التي جرى تدميرها صبغة يوتوبية من قامعيها. حدث ذلك في مفهوم «الهمجي النبيل» الذي ظهر جليا أكثر من أي وقت آخر عقب الاحتكاك بالسكان المحليين في أمريكا الشمالية والجنوبية، على الرغم من أنه كانت له نماذج مماثلة في شعوب مثل السكوثيين التي وصفها الكتاب الإغريق والرومان الكلاسيكيون. كان ينظر إلى الهمجي النبيل على أنه أقرب إلى الطبيعة؛ ومن ثم على نحو ما أنقى وأبسط وأفضل من الذين يفترض أنهم متحضرون. ورغم المبالغة الواضحة في التبسيط، يؤكد البعض على وجود حقيقة خفية في الصورة. وقد نقل روجر ويليامز (1603-1683)، أحد المنشقين الدينيين الأمريكيين، عن أحد الهنود قوله: «نحن لا نرتدي ملابس، ونعبد آلهة عدة، لكن خطايانا أقل. أنتم بربريون وثنيون متوحشون، أرضكم هي أرض الهمجية.»
لكن أغلب الأدب اليوتوبي الذي كتبه السكان الأصليون هو ديستوبيات تصف المعاملة التي تلقوها على يد المستوطنين في زمن الاستيطان وحتى الوقت الراهن. على سبيل المثال، تقارن رواية «حدائق بين كثبان الرمال» (1999)، للكاتبة ذات الأصول الهندية الأمريكية ليزلي مارمون سيلكو (المولودة عام 1948)، بين يوتوبيا الحياة الهندية الأمريكية التقليدية والديستوبيا التي خلقتها سياسة الولايات المتحدة، وتصف قصيدة «المزرعة» (1996)، للكاتب ذي الأصول الهندية الأمريكية شيرمان ألكسي (المولود عام 1966)، الولايات المتحدة في المستقبل وهي تضم معسكرات اعتقال للهنود الأمريكيين. (3) الهجرة القسرية
أحيانا لم تكن عملية الاستيطان طوعية. جلب الأفارقة كعبيد إلى الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، وكان المدانون بجرائم ينقلون إلى أستراليا وبعض المستعمرات الفرنسية، وكان الفرنسيون ينقلون عددا من العبيد إلى مستعمراتهم بالبحر الكاريبي أكثر مما كانوا ينقلون إلى أمريكا الشمالية أو الجنوبية. مكث الكثير منهم في تلك المستعمرات، لكن وقع عدد من ثورات العبيد، وأنهت ثورة هاييتي التي وقعت فيما بين عامي 1791 و1804 العبودية في ذلك البلد.
العبيد الذين كان يتم اصطحابهم إلى المكان الجديد نادرا ما كانوا في وضع يسمح لهم بكتابة رؤاهم عن حلمهم بحياة أفضل، لكن لا يعني ذلك أنه لم تكن لديهم مثل تلك الرؤى، وقد أنتجوا أغاني وقصصا وصل إلينا بعضها، وأشهرها الأناشيد الدينية الزنجية التي كان يتغنى بها العبيد في جنوب الولايات المتحدة، التي عادة ما كانت تعرض صورا للجنة التي سيفوزون بها بعد مآسي الحياة الدنيا، والأقل شهرة قصص «المكان الطيب العظيم» التي يرويها نفس هؤلاء الأشخاص؛ وهي قصص تناظر مباشرة قصة «أرض كوكين» التي ترجع للعصور الوسطى، أو حكايات الوفرة التي كانت تروى أثناء فترة الكساد العظيم؛ فالطعام الذي يأتي دون كد، والتحرر من أي سلطة، والدعة؛ كانت موضوعات أساسية فيها.
كما أنه نتيجة للمجاعة، كانت هجرة الأيرلنديين خارج أيرلندا في الغالب قسرية، وكانت أيرلندا حالة خاصة لسببين؛ إذ إنه بالنسبة لكثير من الأيرلنديين، ظلت أيرلندا مستعمرة بسبب أيرلندا الشمالية، وعلى النقيض من أغلب المهاجرين، كانت المجاعة تعني أنه كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، العودة إن لم تسر الأمور على ما يرام بالأرض الجديدة؛ ومن ثم كان الأيرلنديون من بعض النواحي لاجئين أكثر من كونهم مهاجرين، واستمر كثير منهم في التنقل من بلد إلى بلد حتى قبل استقرارهم في النهاية في مكان ما أو وفاتهم. (4) إسرائيل/فلسطين
ثمة بلد نادرا ما يوصف بأنه مستعمرة مستوطنين، رغم أنه كذلك بوضوح؛ هو إسرائيل. تضم الأعمال اليوتوبية اليهودية المبكرة قصة جنة عدن في سفر التكوين، والأنبياء، ونصوص عديدة غير موجودة في العهد القديم المسيحي ، بما فيها بعض الكتب والنصوص التي تعالج فكرة نهاية العالم، وتصف مجيء المخلص المنتظر، والمجتمع الديني المنعزل في خربة قمران ومجتمع شبيه يسمى ثيرابيوتاي في مصر. وفي القرن الثاني عشر، وضع الكاتب اليهودي يهودا اللاوي كتابا بعنوان «الخزري: الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل»، الذي يعتبر ضمن الأعمال الأولى، إضافة إلى كتابين إسلاميين من الفترة نفسها؛ وهما: «حي بن يقظان»، و«الرسالة الكاملية في السيرة النبوية»، التي تصف شخصا يعيش وحيدا على جزيرة منعزلة، وهي فكرة اشتهرت فيما بعد مع رواية دانيال ديفو «روبنسون كروزو».
يؤمن الكثير من اليهود أنهم لم يقدموا إلا على استيطان الأرض التي كانت ملكا لهم في الماضي، والتي وهبهم الرب إياها. وهذا منعكس في ظهور اتجاه يوتوبي متنام داخل إسرائيل من جانب اليمين الديني، الذي يبرر الاستحواذ على المنازل والأراضي التي يملكها فلسطينيون، ربما لأجيال. لكن بدأ الاستيطان اليهودي الجديد كجزء من سلسلة من المشروعات اليوتوبية على نحو واضح، مثل كتابات تيودور هيرتزل (1860-1904)، بما فيها «الدولة اليهودية» (1896)، و«الأرض الجديدة القديمة» (1901)، وإنشاء أول كيبوتس في عام 1920. كان لحركة الكيبوتسات أكبر تأثير على اليوتوبية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وكان لنجاحات وإخفاقات الحركة تأثير على المجتمعات المقصودة حول العالم.
في المقابل، تتخذ اليوتوبية الفلسطينية شكلين. بالنسبة للبعض، هي تمثل رغبة الفلسطينيين في الحصول على أرض لهم، أو استعادة الأرض التي يرون أنها كانت ملكا لهم بعد أن كانت بحوزتهم لسنوات طوال، وأحيانا لمئات السنين. وبالنسبة للبعض الآخر، هي مجرد جزء من حركة الإسلام السياسي. وقد وردت إلي معلومات عن وجود بعض الرؤى اليوتوبية الفلسطينية منذ النصف الأول من القرن العشرين، لكن يبدو أنه لا توجد أي منها في أي كتاب صادر بأوروبا أو أمريكا الشمالية. (5) الاستقلال
اختارت بعض مستعمرات المستوطنين الاستقلال الكامل، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل والمستعمرات الإسبانية في أمريكا اللاتينية والجنوبية، في حين اختار البعض الآخر الحفاظ على الروابط، التي تفككت تدريجيا، مع القوى الاستعمارية التي كانت خاضعة لها، مثل أستراليا وكندا ونيوزيلندا. لكن في تحول مثير للانتباه، استخدمت حركات الاستقلال، أينما توجد، وحركات الاعتراف وإثبات الحقوق في مستعمرات المستوطنين لغة البلد المستعمر والمستوطنين، إضافة إلى لغتهم اليوتوبية، ضدهم. وكان من المعتاد قول شيء من قبيل: «إن كنت تؤمن بما تقول إنك تؤمن به، فيجب ألا تستمر في معاملتنا المعاملة الحالية. إننا نطلب منك فحسب ما تقول إنه الصواب.» نتيجة لذلك، لعبت اليوتوبيات الأصلية والكولونيالية دورا مهما في حقبة ما بعد الكولونيالية. (5-1) الولايات المتحدة
إحدى المستعمرات الناجحة الأولى كانت مستعمرة لم تكن العوامل الاقتصادية على قمة أولويات مستعمريها. كانت تلك هي المستعمرة التي تأسست في بليموث في عام 1620، والتي أصبحت فيما بعد ولاية ماساتشوستس. هناك كانت الاعتبارات الدينية هي التي تأتي في المقام الأول؛ فقد أراد المستعمرون أن يتمكنوا من ممارسة أسلوب الحياة الذي اعتقدوا أن دينهم يفرضه. فعلى سبيل المثال، قال جون وينثروب (1588-1649)، أول حاكم لمستعمرة خليج ماساتشوستس، إن البيوريتانيين سافروا إلى أمريكا لبناء «مدينة موضوعة على جبل»، ليطبقوا ما جاء بإنجيل متى. وفي حين كان وينثروب يحذر أتباعه من أن «عيون الجميع تتوجه إلينا»، وكان يقصد بقوله أن يحذرهم من الفشل، يفسر قوله الآن باعتباره إعلانا عن اليوتوبية الأمريكية المبكرة.
لم تمتد حرية ممارسة معتقداتهم الدينية إلى السماح للآخرين بممارسة معتقداتهم الدينية. كان أعضاء جمعية الأصدقاء الدينية، أو الكويكرز، الذين استقروا في بنسلفانيا، أول مستعمرين استوطنوا لأسباب دينية، ومارسوا الحرية الدينية فيما أصبح لاحقا الولايات المتحدة. وكانت المستعمرة الثالثة التي تأسست في الأساس لأسباب دينية هي ماريلاند، التي استوطنها الكاثوليك الرومان.
انطوت مستعمرتا ساوث كارولاينا وجورجيا على خطط يوتوبية محددة، رغم أنه لم يتم تنفيذها؛ ففي ساوث كارولاينا، وضع اللورد أشلي، أول إيرل لشافتسبري (1621-1683)، بالتعاون من الفيلسوف والمنظر السياسي جون لوك (1632-1704) ما أطلقا عليه «الدساتير الأساسية»، التي اقترحت تكوين طبقة أرستقراطية شبه إقطاعية وطبقة نبلاء أمريكية جديدة. وفي جورجيا، وضع السير الاسكتلندي روبرت مونتجومري (1680 تقريبا-1731) خطة لإقامة يوتوبيا تعرف باسم «أزيليا»، وحاول المبشر الألماني كريستيان برايبر (1697-1744) إنشاء مجتمعات يوتوبية بين الهنود. وفيما بعد، كان المقصود من التأسيس الفعلي لمستعمرة جورجيا على يد الجنرال البريطاني جيمس أوجلثورب (1686-1785) أن تكون للفقراء المحتاجين والمدينين، إضافة إلى توفير ربح لملاك الأراضي.
كان الهدف من المستعمرات الأمريكية المبكرة الأخرى في الأساس هو تحقيق ربح لأصحاب امتيازات تمليك الأراضي، لكن بث الأمل في حياة أفضل في المستوطنين كان جانبا من طريقة هؤلاء في محاولة الربح. وكما هو الحال مع معظم هذا النوع من المستعمرات، كانت الحياة الأفضل تعني العمل الشاق جدا لسنوات عديدة من أجل التجميع التدريجي للأموال من قبل المستوطنين، والذي سيسمح لهم بشراء أرض أو تأسيس متجر أو تجارة.
تعاقد الكثير من المهاجرين الأوائل إلى الولايات المتحدة على العمل لعدد معين من السنوات لدى أصحاب الأعمال مقابل السماح لهم بالمرور إلى أمريكا. وفي حين بذل بعض أصحاب العمل كل ما في وسعهم كي يتأكدوا من أن عمل هؤلاء لديهم لن ينتهي، هرب بعض هؤلاء المهاجرين من أصحاب الأعمال (دائما ما كانت الأرض التي بدت خالية في الغرب مكانا مغريا للهرب بالنسبة لهم). في معظم الأحيان، كان النظام يعمل كما كان المستهدف منه بالنسبة للغالبية. وبعد أن كان العمال يعملون سنوات العمل المطلوبة منهم، كانوا يعملون لحسابهم حتى يتمكنوا من شراء أرض أو يؤسسوا - على نحو مستقل - متجرا أو تجارة. بطبيعة الحال، فشل البعض، لكن كانت هناك فرص حقيقية لتحسين المستوى، وكانت هناك ممارسات شبيهة في الكثير من المستعمرات؛ لأن تكلفة المرور فاقت بكثير موارد الأشخاص الأشد حاجة للرحيل.
بالتأكيد كان البعض أفضل حالا؛ ومن ثم تمكنوا من الاستقرار على نحو أيسر. على سبيل المثال، استقر جيه هيكتور سان جون دي كريفكور (1735-1813) فيما أصبح - فيما بعد - الولايات المتحدة في عام 1759، واتخذ اسم جون هيكتور سان جون عندما أصبح مواطنا، وتزوج واشترى مزرعة، وبدأ في الزراعة والكتابة عن تجربته. وفي عام 1782، نشر «خطابات من مزارع أمريكي» (إضافة إلى طبعات مزيدة منها في عامي 1784 و1787)، وفيها وصف أمريكا لجمهور أوروبي مستخدما مصطلحات شبه يوتوبية. كانت خطابات كريفكور أقل إيجابية في الطبعات اللاحقة، إلا أن هذا الوصف اليوتوبي من قبل المستوطنين أصبح شيئا معتادا، وساعد في جذب المهاجرين إلى أغلب مستعمرات المستوطنين. وفي بعض الحالات، نشر وكلاء الأراضي أوصافا خيالية وخطابات خيالية في بلادهم لجذب المهاجرين.
شكل 3-1: أعلنت وثيقة «إعلان الاستقلال» استقلال ثلاث عشرة مستعمرة أمريكية عن الحكم البريطاني. وأكدت على أن للشعب «حقوقا محددة لا يمكن التصرف فيها.» وأكدت على حق الثورة.
اضطلعت عادة اليوتوبيات المبكرة في مستعمرات المستوطنين بمسائل عملية، مثل توزيع الأرض وبنية الحكم. وفي نهاية الحقبة الكولونيالية، ومع انفصال المستعمرات الأمريكية عن بريطانيا وتحولها إلى ما يعرف بالولايات المتحدة الأمريكية، تم وضع ثلاث وثائق، اثنتان منها ألهمت قيام يوتوبيات في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. أكدت الأولى، والمتمثلة في «إعلان الاستقلال»، على الحرية والمساواة وبررت الثورة. أما الوثيقة الثانية، والمتمثلة في «مواد الكونفدرالية»، فينساها الكثيرون، ويعدها الكثيرون - بوجه عام - فاشلة؛ لأنها لم تنص إلا على حكومة مركزية ضعيفة، وتركت أغلب السلطة للولايات، إلا أنه بموجبها انتصرت الولايات المتحدة الأمريكية على الثورة، وأسست علاقات دبلوماسية، ووسعت من أرضها. والوثيقة الثالثة، والمتمثلة في الدستور الأمريكي، المعروف عادة بأنه أول دستور مكتوب - مع تجاهل مواد الكونفدرالية - كانت نموذجا لكثير من الدساتير الأخرى. وبعد التصديق على الدستور، أدخلت عشرة تعديلات، معروفة ب «وثيقة الحقوق»، وأضحت تلك التعديلات وثيقة يوتوبية محورية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفكرة توضيح بنية الحكم وحقوق وواجبات كل من المواطنين والحكومات ألهمت الكثير من الدساتير ووثائق الحقوق اليوتوبية، إضافة إلى الكثير منها التي جرى تفعيلها. (5-2) كندا وأستراليا ونيوزيلندا
في كندا، كانت العلاقة بين الإنجليز والفرنسيين ذات أهمية خاصة في اليوتوبيات الكندية المبكرة، واستمرت مسألة جوهرية في كندا الفرنسية. فعلى سبيل المثال، تحمل يوتوبيا كندية مبكرة مكتوبة بالإنجليزية، وهي «الإقطاعي الشاب، أو صنع أمة» لويلفريد شاتوكلير (1888) اسما مستعارا نصفه إنجليزي، ونصفه الآخر فرنسي، وتتناول على نحو مباشر العلاقات الإنجليزية الفرنسية. وركزت أول يوتوبيا كندية فرنسية «رحلتي إلى القمر»، التي حملت الاسم المستعار نابليون أوبين (1839)، على الاستقلال عن كندا الإنجليزية.
في أستراليا، كان هناك موضوع سائد يتعلق بكيفية التعامل مع الجزء الأوسط من البلد الكبير الخالي، والظروف الطبيعية القاسية - بوجه عام - السائدة فيه، والذي يواجه - على نحو منتظم - الحرائق والجفاف من ناحية، والفيضانات من ناحية أخرى، وهي مشكلات ما زالت موجودة حتى الآن؛ أدى هذا ربما إلى ظهور أول ديستوبيا تتحدث عن الاحترار العالمي، وكانت بعنوان «الغبي وميراثه» (1911)، كتبها جيمس إدموند (1859-1933) الذي ترأس لفترة طويلة تحرير المجلة الأسترالية «ذا بوليتين».
تناولت غالبا يوتوبيات نيوزيلندا، مثل عمل ألكسندر جويس (1840 / 1841-1927) «الأرض! حوار في 1933» (1881)، إعادة توزيع الأرض وغيرها من سبل تحقيق قدر أكبر من المساواة. وفي الوقت نفسه، صور كثير من يوتوبيات نيوزيلندا المبكرة نيوزيلندا ذاتها باعتبارها يوتوبيا. على سبيل المثال، تصور القصائد اليوتوبية المبكرة مثل قصيدتي «نهر أفون» (1854) لهنري جاكوبس (1824-1901)، و«لا يوجد مثيل حتى الآن لأوتاجو» (1861) لجون بار من كريجيلي (1809-1889)، جزأين من نيوزيلندا: كانتربري وأوتاجو على الترتيب، على أن كلا منهما يوتوبيا جاهزة، واستمر هذا النهج لوقت طويل حتى أواخر القرن العشرين. (5-3) أمريكا اللاتينية والجنوبية
كان الأدب السياسي في أمريكا اللاتينية والجنوبية مهتما في الأصل بالاستقلال، ولم يظهر الأدب اليوتوبي على وجه الخصوص نسبيا على نحو سريع، رغم وجود بعض الاستثناءات. وعندما ظهر الأدب اليوتوبي، كان منشغلا بالقضايا نفسها التي انشغلت بها مستعمرات المستوطنين الأخرى، وكانت التفاوتات في الثروة والفقر هي الأشيع. وبمرور الوقت، تغيرت القضايا مبدئيا قليلا، لكن زاد تعقد اليوتوبيات مع زيادة عددها. وفي أواخر القرن العشرين، بدأت الشعوب الأصلية هي الأخرى تكتب يوتوبيات، وقد كتبوا غالبا ديستوبيات تصور على نحو روائي المعاملة التي يلقونها على يد المستوطنين.
إبان حقبة الكولونيالية، كانت العلاقة بين المستعمرين والسكان الأصليين تتسم بالعنف في الغالب، لكن كانت هناك محاولات - أحيانا ما استندت مباشرة إلى كتاب «يوتوبيا» لمور - لتكوين علاقات أفضل. وفي حين أن هذه المحاولات تبدو من منظور القرن الحادي والعشرين أقل إيجابية مما تبدو في أعين أصحابها، فقد كانت نماذج لاتجاه يوتوبي أبوي كان له أوجه شبه مع رؤية مور، رغم وجود اختلافات فيما يتعلق بالمؤسسات المتضمنة.
كتب بارتولومي دي لاس كاساس (1484-1566)، وهو دومينيكي إسباني، «في حق الجزر الهندية» (1516)، الذي ربما تأثر به مور. كما حاول تأسيس مجتمع في فنزويلا كان سيضم مزارعين إسبانيين يعلمون أساليب الزراعة الحديثة للسكان الأصليين، الذين كانوا سيدفع لهم أجر عادل بدلا من أن يتم استعبادهم، وهو الأمر الذي كان سائدا حينها. كانت الخطة تنصير الهنود وجعلهم متحضرين، وفي الوقت نفسه تحسين العلاقات بين المستعمرين والمستعمرين.
في عامي 1552 و1553، أسس فاسكو دي كيروجا (1470-1565)، وهو علماني إسباني تم ترسيمه باعتباره أول أسقف لميتشواكان بالمكسيك، مستشفيات هندية أو بلدات كوميونية في سانتا في دي مكسيكو، بالقرب من مكسيكو سيتي وسانتا في دي لا لاجونا خارج ميتشواكان. وقام كلا المجتمعين مباشرة على تفسيره ليوتوبيا مور، وكان القصد منهما تحسين حياة الهنود وتنصيرهم في الوقت ذاته. استمر كلا المجتمعين، لا سيما المجتمع الموجود خارج ميتشواكان، لبعض الوقت، وحققا نجاحا من حيث البعدين الاقتصادي والديني.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، أسس اليسوعيون «بلدات تبشيرية» أو مجتمعات مصممة لتنصير شعوب المنطقة وحكمهم وتعليمهم. وتأسست هذه البلدات في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وباراجواي، واتخذت صورة مجتمعات حتى طرد اليسوعيون خارج تلك المناطق. (5-4) جنوب أفريقيا
تأخرت جنوب أفريقيا في إنتاج أدب يوتوبي، وعندما أنتجته كان منشغلا في المقام الأول بقضايا التمييز العنصري، وكان قسم كبير منه يبرر الفصل العنصري ويدافع عنه. ومن الأمثلة على هذا الأدب عمل جيمس مارشال ومارجريت سكوت مارشال «1960 (نظرة إلى الماضي)» (1912) المكتوب بالإنجليزية، و«الأرض الموعودة» (1972) لكاريل شومان باللغة الأفريقانية.
لكن أفرز آخرون صورة أكثر تعقيدا، وكتبت نادين جورديمر (المولودة عام 1923 والحاصلة على جائزة نوبل في الآداب لعام 1991) عددا من الروايات حول ما أطلقت عليه «الفجوة» بين هيمنة البيض والتغيير القادم، والتي كانت أحداثها تدور غالبا في المستقبل القريب. وتصور رواياتها، مثل «شعب يوليو» (1981) و«رياضة الطبيعة» (1987)، نطاق العلاقات العرقية بأكمله في جنوب أفريقيا، وأحيانا ما تبسطه إلى أجزاء أخرى من أفريقيا، ولكن تؤكد على أن التغيير آت لا محالة، وأنه، رغم أن اتجاه التغيير كان إشكاليا، يمكن تحسين الديستوبيا الحالية.
وعندما حدث التغيير، كانت أول قضية يتم تناولها هي ضرورة وضع دستور جديد، ويعتقد الكثير من الجنوب أفريقيين أن الدستور يوتوبي بحق، رغم أن تفعيله لم يكن كذلك. وفي الواقع، يراه كثيرون ديستوبيا. واليوم، كثير من الجنوب أفريقيين، سواء السود أو البيض أو الملونون، غير راضين بشدة عن إيقاع و/أو اتجاه التغيير، ونشر عدد من الأعمال الجنوب أفريقية في حقبة ما بعد الفصل العنصري اهتمت بالمستقبل، أغلبها - كما هو الحال في سائر العالم - ديستوبية، وبعضها يصور مستقبلا انتكست فيه جنوب أفريقيا وعادت إلى نظام الفصل العنصري، مثل «جنوب أفريقيا 1994-2004» (1991)، التي نشرت تحت الاسم المستعار توم بارنارد، و«جاكوب» (1993)، لإدوارد لوري، و«قناع الحرية» (1994)، لبيتر فيلهيلم (المولود عام 1943). (6) يوتوبية ما بعد الكولونيالية
رغم استمرار عدد قليل جدا من المستعمرات على الطراز القديم، فلا تزال الهجرة قائمة في ظل بحث الناس عن حياة أفضل. وإطلاق أحفاد المهاجرين الأوائل على مهاجري اليوم «المهاجرين الاقتصاديين» استخفافا بهم يتجاهل حقيقة أنه دائما ما كان للهجرة بعد اقتصادي، رغم أنه في حالات معينة كان لعوامل أخرى أهمية مكافئة أو أكبر.
وتختلف بعض الشيء يوتوبية ما بعد الكولونيالية في مستعمرات المستوطنين عن يوتوبية ما بعد الكولونيالية في المستعمرات التي صممت في الأساس لاستغلال مواردها البشرية والمادية. ورغم أن ذرية السكان الأصليين كانت تستخدم يوتوبيات المستوطنين لتبرير التغيير؛ فإنه في بعض البلدان كانت ذرية المستوطنين تشرع في استيعاب أساطير السكان الأصليين، بما فيها أساطيرهم اليوتوبية، ودمجها في يوتوبياتهم الجديدة. وفي المستعمرات الاستغلالية، استخدم نفس الإرث السياسي للقوى الكولونيالية لتبرير الاستقلال، إلا أن اليوتوبيات التي كتبت، التي سنناقشها في الفصل القادم، انشغلت على نحو مباشر بقضايا محلية، لا سيما الإشكاليات التي صاحبت الاستقلال. (7) التجارب اليوتوبية
أصبحت مستعمرات المستوطنين أماكن للتجريب اليوتوبي؛ فمنذ عام 1659، أنشئت مجتمعات مقصودة داخل المستعمرات الأمريكية. وبينما أنشئ أول مجتمع على هذا الغرار في ديلاوير على يد الهولندي بيتر بلوكوي (1629 تقريبا-1700 تقريبا )، وكانت فيه حرية دينية، فإن أغلب المجتمعات الأولى أسسها ألمان، مثل مجتمع إفرتا في بنسلفانيا، وكانت دينية دون وجود حرية دينية داخلها.
وعد دستور 1917 في المكسيك باستعادة نظام زراعة الأرض الجماعية (الإيخيدو)، الذي يرى المكسيكيون أنه يعود لشعوب الآزتك. وفي هذا النظام، تملك الحكومة الأرض، لكن يتم الانتفاع بها على نحو مشترك، وبموجب الإصلاحات التي أدخلت في ثلاثينيات القرن العشرين، كان للفلاحين حق الانتفاع ما دام أنها يتم الانتفاع بها فعليا، ويمكنهم توريث هذا الحق إلى أطفالهم. ألغي هذا الحق في تسعينيات القرن العشرين، لكن لا تزال بعض المناطق التي تتم زراعتها باستخدام هذا النظام موجودة حتى الآن.
لم يكن هناك الكثير من المجتمعات المقصودة في أمريكا الجنوبية، لكنها كانت موجودة أو لا تزال موجودة اليوم في البرازيل وتشيلي وكولومبيا والإكوادور وباراجواي. كان «كولونيا ديجنيداد» مجتمعا ديستوبيا في تشيلي تأسس عام 1961، وقد سجن قائده بتهمة الاعتداء الجنسي على الأطفال. وهناك ما يشير إلى سماحه للنظام العسكري الحاكم في تشيلي تحت قيادة الجنرال أوجستو بينوشيه (1915-2006) باستخدام منشآت المجتمع لتعذيب خصوم النظام.
أما باراجواي، فقد جذبت عددا من المجتمعات من بلدان أخرى لتستوطن بها؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر، تأسست منطقة نويفا جرمانيا بهدف خلق مجتمع آري نقي، ولا تزال ذرية سكانها الأصليين تقطن المنطقة. وفي الوقت ذاته، أسس ويليام لين (1861-1917)، القيادي العمالي الأسترالي، وأتباعه منطقتي نيو أستراليا وكوزمي. وعلى رغم أن المجتمعين لم يستمرا لفترة طويلة، وعودة لين وكثيرين غيره إلى أستراليا، فلا يزال من ذرية الأستراليين من يعيشون بالمنطقتين. وفي عشرينيات القرن العشرين، استقر المينوناتيون من أوروبا وأمريكا الشمالية في باراجواي وأسسوا مجتمعات لا تزال موجودة حتى الآن.
أصبحت أستراليا مركزا لحركة المدينة الحدائقية، التي نشأت مع العمل اليوتوبي الإنجليزي «الغد: طريق سلمي لإصلاح حقيقي» (1898)، المشهور باسم «مدن الغد الحدائقية» (1902)، لصاحبها إبنزر هاوارد (1850-1928). وتأسست المدن الحدائقية في كثير من البلدان، مثل مدينة ليتشورث الحدائقية ومدينة ويلين الحدائقية في إنجلترا، ورادبيرن في نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية. لكن يبدو أن أستراليا ضمت مجتمعات من هذا النوع أكثر من أي بلد آخر، وأن نصيب الفرد بها من المجتمعات المقصودة أكبر من أي بلد آخر غير إسرائيل، كما تملك نيوزيلندا عددا كبيرا من المجتمعات المقصودة.
تتخذ المجتمعات المقصودة أشكالا متنوعة، بما فيها المجتمعات الدينية المنعزلة على نحو صارم، مثل جلوريافيل في نيوزيلندا، والمجتمعات العلمانية المفتوحة للأعضاء الجدد والزيارات من الغرباء، مثل توين أوكس في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تتفاوت من حيث الحجم؛ ففيها ما دون الاثني عشر عضوا حتى مئات الأعضاء. ثمة مجتمعات أنشئت منذ مئات السنين، وثمة مجتمعات ظلت في المكان نفسه قرابة المائة عام، وثمة مجتمعات يافعة، وهناك مجتمعات مقترحة كثيرة تنتظر إنشاءها.
الفصل الرابع
اليوتوبية في الثقافات الأخرى
القاطنون بالجزيرة الشمالية «... لا يقومون بالزراعة أو أي فن أو حرفة أخرى. تنمو شجرة اسمها باديسا في تلك الجزيرة الغنية ولا تتدلى منها ثمار، بل أقمشة فاخرة من شتى الألوان يأخذ منها أهل الجزيرة ما يشاءون. وبالمثل، لا حاجة لهم لزراعة الأرض أو حرثها أو جني ثمارها، ولا يصطادون السمك أو الحيوانات؛ لأن الشجرة نفسها تثمر لهم على نحو تلقائي نوعا فاخرا من الأرز لا تغلفه قشرة. ومتى يشتهوا الغذاء، فما عليهم سوى وضع الأرز على حجر معين كبير، ومنه يتقد لهب في الحال يطهو لهم طعامهم ثم ينطفئ من تلقاء نفسه. وبينما يتناولون أرزهم تتدلى من أوراق بعض الأشجار مختلف أنواع اللحوم المنتقاة المطهية لهم، فيأخذون منها كما يشاءون، وما يتفضل من طعامهم يختفي على الفور.»
نص بوذي بورمي، نقله الأب سانجرمانو
في بلد صغير يسكنه عدد قليل من الناس، بإمكان الحكيم أن يكون السبب في عزوف الناس عن استخدام الأدوات التي تسهل لهم العمل على نحو كبير. بإمكانه أن يجعل الناس مستعدين للموت فداء لوطنهم بدلا من الهجرة منها. قد تكون المراكب راسية والعربات الحربية منتظرة، لكن لن يعتليها أحد. ربما تكون أسلحة الحرب موجودة، لكن لن يتمرن أحد على استخدامها. بإمكانه أن يتسبب في «عودة الناس (من الكتابة) إلى عقد الحبال وقناعتهم بطعامهم، وسرورهم بملبسهم ، ورضاهم عن منازلهم، وسعادتهم بعملهم وعاداتهم. سيكون البلد المجاور قريبا لدرجة أن تسمع صياح الديوك ونباح الكلاب هناك، لكن سيكبر الناس ويموتون دون أن يفكروا ولو مرة واحدة في الذهاب إلى هذا البلد.»
داو دي جنج، نقله جوزيف نيدهام
يذهب كريشان كومار، صاحب كتاب «اليوتوبيا والديستوبيا في العصر الحديث» (1987)، إلى أن اليوتوبيا ظاهرة وجدت في الغرب، وأنها نشأت من المسيحية، وأن أي يوتوبيات غير غربية ظهرت كانت نتيجة الاتصال باليوتوبيات الغربية. واليوم يختلف أغلب الباحثين مع ذلك ويذهبون إلى أن اليوتوبيات ظهرت في أغلب الثقافات، مشيرين إلى الصين البوذية والكونفوشيوسية والطاوية، والهند البوذية والهندوسية، والبلدان الإسلامية بالشرق الأوسط، ودول جنوب شرق آسيا البوذية، واليابان البوذية والشنتوية.
ابتكر توماس مور ضربا من ضروب الأدب، لكن ثمة نصوصا عديدة ظهرت في الغرب وخارجه تسبق «يوتوبيا» مور تصف مجتمعا غير موجود يتفوق في جوانب محددة على المجتمع المعاصر. ويتضح أن التقاليد اليوتوبية التي تسبق عمل مور كانت موجودة خارج الغرب. وعقب الاتصال باليوتوبية الغربية، بدأت كل هذه التقاليد، إضافة إلى ثقافات أفريقيا، تفرز يوتوبيات باستخدام النموذج الذي وضعه مور بعد تعديله ليتوافق مع ظروفها؛ نتيجة لذلك، تتناول يوتوبياتها قضاياها الخاصة التي غالبا ما تختلف اختلافا جما من حيث الشكل والمحتوى عن اليوتوبيات التي كتبت في الغرب بعد عام 1516.
وكما يتضح من الاقتباسين الموجودين في صدر الفصل، ورغم وجود اختلافات مهمة بين الثقافات، فثمة أوجه تشابه بين الأساطير الخاصة بها. ثمة شكلان شائعان لليوتوبيا لهما نظير في الغرب وموجودان بأغلب الثقافات: مجتمع نموذجي في الماضي، وصورة ما من الجنة. على وجه الخصوص، شاعت فكرة وجود حقبة يوتوبية في الماضي وكانت محورية في الاتجاه اليوتوبي بأغلب الثقافات؛ ففي بورما، قبل أن تصبح ميانمار، احتوى الدستور والنظام القانوني على مقدمات تربط بوضوح القوانين الحديثة باليوتوبيا التي يعتقد أنها كانت موجودة في الماضي. وهكذا، ظل الماضي اليوتوبي في بورما معيارا للحياة حتى نهاية القرن العشرين.
أكبر فارق بين الماضي اليوتوبي المسيحي المتمثل في جنة عدن وغيرها من الأساطير هو عدم وجود خروج من الجنة. دائما هناك تفسير ما لانتهاء الماضي اليوتوبي، لكن ليس الانفصال التام عنه الذي يمثله الخروج من الجنة؛ ونتيجة لذلك، فاليوتوبية ليست هرطقة. كما تختلف الأساطير الأخرى عن أسطورة العصر الذهبي الإغريقية في أن الأسطورة الإغريقية يوجد بها سلسلة من عمليات الخلق المنفصلة التي أدت إلى تكوين حاضر غير يوتوبي، في حين أنه لا توجد عمليات خلق منفصلة في الثقافات الأخرى أو انفصال تام؛ وهذا يعني أن الماضي اليوتوبي لم يفقد بالضرورة، ويمكن استخدامه نموذجا للمستقبل. وهذا مهم - بوجه خاص - في الصين؛ بسبب الاعتقاد بأن كلا من اليوتوبيا الكونفوشيوسية واليوتوبيا الطاوية كانتا موجودتين بالفعل في الماضي، وأنهما من ثم يمكن أن توجدا مجددا إذا فهمت - على نحو صحيح - المبادئ التي قامتا عليها، وطبقت على أرض الواقع. (1) الصين
إن اليوتوبية الصينية هي الأشهر من بين التقاليد اليوتوبية التي ظهرت خارج الغرب، ولها جذور في الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية، والكونفوشيوسية الجديدة، ومجموعات منشقة شتى، وذلك في شكل أكثر قبولا. ذاع صيت الأدب اليوتوبي الصيني في القرنين التاسع عشر والعشرين رغم ظهوره قبل ذلك، في حين ازدهر الأدب الديستوبي الصيني في القرن العشرين. وكان هناك عنصر يوتوبي قوي في شيوعية ماو تسي تونج، رغم أن نتيجة سياسات ماو كانت ديستوبية بالنسبة لكثيرين.
واختلفت اليوتوبية الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية المبكرة في أن اليوتوبيا الطاوية، التي غالبا ما يطلق عليها «السلام العظيم»، كانت معارضة في البداية للحكومة بأشكالها كافة، ويمكن أن نصفها بأنها لا سلطوية، واليوم، كثيرا ما توصف الطاوية بأنها لا سلطوية. التقاليد الثلاثة جميعها تستلهم فترة ما في الماضي عندما لم تكن وظيفة الحاكم ضرورية وعاش الناس ببساطة في تناغم مع الطبيعة. وتغيرت هذه اليوتوبيا تدريجيا لتركز على الحاجة إلى رجال حكماء لتقديم النصح والتوجيه. والكونفوشيوسيون خاصة دائما ما ينظرون لتلك الفترة من الماضي بوصفها مثلا أعلى ينبغي خلقه مجددا في الحاضر. ومن أهم عناصر اليوتوبيا الكونفوشيوسية وجود تركيز على التطوير الذاتي، وهذا التركيز والاهتمام بالرجال الحكماء كانا أساسين للدور الذي لعبه التعليم في المجتمع الصيني باعتباره وسيلة أساسية للارتقاء المجتمعي (رغم أن الاهتمام بالحكمة حل محله القدرة على اجتياز الاختبارات).
ثمة طرح يوتوبي مبكر آخر تمثل في نظام زراعي طرح فكرة التقسيم المتساوي للأرض، وقد قدم على أنه كان موجودا في الماضي، وأنه يمكن تطبيقه مجددا. والفكرة تكمن في أنه إذا كان كل شخص يمتلك قطعة أرض، فهو قادر على إعالة نفسه. ربما لم يوجد هذا النظام في الماضي، إلا أنه طرح على نحو جدي باعتباره أسلوبا يمكن تطبيقه فيما بين نهاية فترة ما قبل الميلاد وبداية فترة ما بعد الميلاد.
يضم «كتاب الشعر» - وهو أول سجل للأدب الصيني - قصيدة، يطلق عليها بوجه عام «الفأر الكبير»، تشير إلى أن الناس سيتمكنون من إيجاد مكان أفضل يعيشون فيه بدلا من المكان الذي يعيشون به الآن، إلا أن اليوتوبيا الصينية الكلاسيكية هي «أرض أزهار الخوخ» لصاحبها تاو يوان مينج (365-427). وفي أحداث هذه القصة، يقصد صياد سمك ذات يوم جدولا لم يقصده من قبل، ويصادف بستان خوخ مثمرا على ضفتي الجدول. وإذ أعجبه بشدة جمال البستان، أخذ يخوض الجدول حتى وصل إلى كهف صغير ينبع منه الجدول. دلف إلى الكهف بصعوبة عبر فتحة صغيرة ليجد نفسه في سهل واسع تتناثر فيه منازل بسيطة وحقول وبرك بديعة، وكانت السعادة بادية بوضوح على جميع السكان الذين شاهدهم، فأنزلوه منازلهم وأطعموه وأخبروه أنهم هربوا من الاضطرابات التي سادت في عهد أسرة تشين القديمة، قبل أحداث القصة بنحو 600 عام، وأن أجدادهم استقروا بهذا المكان المنعزل وقطعوا كل صلة لهم بالعالم الخارجي. بعد مكوثه معهم لبضعة أيام، اختار الصياد المغادرة، وطلبوا منه حينها ألا يطلع أحدا بالخارج على أمر هذا المكان. وعندما عاد لوطنه، أبلغ السلطات عن المكان، لكن لم يتمكن أحد قط من العثور عليه.
كان للقصة تأثير على الأدب الصيني الذي ظهر بعدها، وأعيد إنتاجها في اليابان، وكانت الكلمة اليابانية المقابلة ل «أرض أزهار الخوخ» هي «شانجري-لا». وفي الصين، استخدم كتاب صدر في القرن الثامن، بعنوان «كوانج-إي تشي»، نهجا مماثلا لوصف زيارات لأرض يسكنها الخالدون من الطاويين، ومجموعة من النساء اللائي هربن من العمل القسري المضني في بناء سور الصين العظيم، واللائي أسسن مجتمعا يوتوبيا في واد معزول حيث أمسين خالدات.
تطور الأدب اليوتوبي الصيني في القرن الثامن عشر، وكان أشهر أعماله «أزهار بالمرآة» (1828)، لصاحبه لي جو-تشين (1760؟-1830؟). ويشبه هذا الكتاب إلى حد ما رواية «رحلات جاليفر»؛ لأنه عرض لرحلات لعدد من البلاد، مثل «تشان-تسو كو»، أو بلد النبلاء، و«تا-جين كو»، أو بلد العظماء، لكن الرحلة التي حظيت بأكبر اهتمام هي الرحلة إلى «نو-إير كو»، أو بلد النساء؛ حيث تتقلد النساء مقاليد السلطة كلها، ويتلقين القدر من التعليم الذي يحظى به الرجال في أي مكان آخر. وفي حين يمكن اعتبار «بلد النساء» إقرارا مبكرا بحقوق المرأة، فلم تنشر يوتوبيات نسوية في الصين حتى القرن العشرين.
شكل 4-1: كونفوشيوس يقدم جوتاما بوذا الصغير إلى لاوتزه، صاحب كتاب «تاو تي تشينج»؛ ومن ثم تضم الصورة مؤسسي طرق التفكير الثلاث التي هيمنت على الصين القديمة.
في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ركزت اليوتوبيات الصينية في معظمها على ضرورة تبني التكنولوجيا الغربية، مع الإبقاء على المنظومة الأخلاقية الصينية للتخفيف من وطأة تلك التكنولوجيا، وفي القرن العشرين تم إنتاج ديستوبيات ترفض التكنولوجيا الغربية. وكتب الفيلسوف الاجتماعي كانج يو-واي (1858-1927) عددا من الأعمال اليوتوبية يقبل فيها التكنولوجيا الغربية ويعرض لدولة عالمية ديمقراطية تقوم على مساواة واسعة النطاق. وهذه الدولة لها برلمان عالمي يقوم، من بين مهامه التشريعية المعتادة، باستحداث لغة عالمية، والإشراف على الخفض التدريجي في حجم الجيوش في جميع أنحاء العالم. وستلغى الرأسمالية، وجميع الملكيات الخاصة. وأكدت يوتوبيا كانج على ضرورة تغيير وضع المرأة؛ الأمر الذي سيقتضي، من بين جملة أشياء أخرى، السماح بالطلاق وابتكار عقود زواج محددة الأجل بين الرجال والنساء.
في القرن العشرين، قدم عدد من الكتاب دساتير نموذجية لصين تقوم في المستقبل، مثل «مستقبل الصين الجديدة» (1902) لصاحبه ليانج تشي-تشاو (1873-1929)، و«زئير الأسود» (1905-1906) لصاحبه تشين تيان-وا؛ والكتاب المجهول الصاحب «روح الدستور» (1907). وفي صين القرن العشرين، كان ماو تسي تونج يوتوبيا بجلاء في رغبته في تحويل المجتمع الصيني على غرار رؤيته له، ويمكن القول بأن شيوعية ماو كانت ماركسية ولها أصول في الكونفوشيوسية. (2) الهند
تشير النصوص الأساسية للديانات الهندية التقليدية إلى عصر ذهبي في الماضي، وتتتبع التغيرات والسقطات التدريجية في السلوك الإنساني التي تؤدي إلى نمو الخلافات الاجتماعية وضرورة وجود الحاكم. وتلك الأوصاف لحقب ساد فيها السلام والازدهار في الماضي، رغم اشتمالها على عناصر فانتازيا مثل المحاصيل الدائمة التجدد، أساسية في الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية اليوم.
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، نشرت أعمال يوتوبية لكاتبين هنديين، وهما الكاتب الهندوسي هارا براساد شاستري (1853-1931)، والكاتبة المسلمة رقية شوكت حسين (1880-1932). على الأرجح، نشر عمل شاستري «انتصار فالميكي» في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر أو بداية ثمانينيات القرن نفسه، ونشر بالإنجليزية في عام 1909، ويصور الجنة الهندوسية على الأرض بوصفها يوتوبيا حديثة. وكتبت رقية عملها «حلم السلطانة» (1905) ونشرته باللغة الإنجليزية. أما عملها «الياقوت» (1924)، فكتبته ونشرته باللغة البنغالية. وكلا العملين يوتوبيا نسوية. ويصف «حلم السلطانة» أرض النساء، وهي بلد تقطنه النساء، وأما «الياقوت»، الذي يركز على نحو أساسي على الأوضاع الفظيعة للمرأة الهندية في ذاك الوقت، فيصف مجتمعا من النساء يقدم مدرسة للبنات، ومأوى للنساء اللاتي تمت إساءة معاملتهن، ومشفى للمرضى من النساء. وأسست رقية مدرسة للبنات عام 1910 لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
كان موهانداس كيه غاندي (1869-1948) يوتوبيا، واستخدم مفهوم «راماراجا» الهندوسي، أو حكم راما، أو العصر الذهبي باعتباره وسيلة لإيصال أفكاره. حدد غاندي ما كان يؤمن أنه هيكل الحضارة الهندية القديمة ليكون أساس اليوتوبيا التي أمل في تحقيقها في الهند الحديثة.
فاضل غاندي على نحو مباشر بين رؤيته للماضي/المستقبل وبين الديستوبيا، الرأسمالية والاشتراكية، التي شاهدها في الغرب المادي التنافسي؛ لأنه، بالنسبة لغاندي، يجب أن يتم تأسيس اليوتوبيا على الروحانية. كان المزمع أن تقوم يوتوبيا غاندي على مجتمعات صغيرة سيؤدي فيها كل من المجموعات أو الطبقات الرئيسية بالمجتمع الهندي دورها المحدد بالتعاون مع جميع المجموعات الأخرى. وسيحكم هذا المجتمع الصغير كبار القرى، البنتشايت، ويمثلون المجتمع بأسره. وتمثلت أكثر مراجعات غاندي الجذرية لهذا الهيكل التعاوني في أنه سيضم الداليت، أو طبقة المنبوذين، ولن يستثنيها، وسيحظى هؤلاء بمقاعد في البرلمان بحسب الدستور، وستكون الحياة بسيطة، وسيتعاون الكل في إنتاج ما يحتاجونه. واشتهر عن غاندي نفسه أنه كان ينسج القماش.
أول المبادئ التي قامت عليها يوتوبيا غاندي هو «سواراج»، أو ضبط النفس/الانضباط الفردي، وتحققه الأمة بالقدر الذي يحققه مواطنوها. والمبدأ الثاني هو «أهيمسا»، أو احترام الحياة، والثالث «ساتيا جراها»، أو قوة الحقيقة، والتي كان يعني بها غاندي الممارسة الإيجابية للاعنف. ورابعها اشتراكية دون اختلافات طبقية. وفي ذلك كان غاندي سباقا على المنظرين الاشتراكيين مثل ليوبولد سيدار سنجور (1906-2001) من السنغال، وجوليوس كيه نيريري (1922-1999) من تنزانيا، وأو نو (1907-1995) من بورما. وقد كان فينوبا بهافي (1895-1982)، تابع غاندي، صاحب النسخة الهندية منها.
واليوم، توجد بالهند حركة يوتوبية قريبة من مراكز السلطة السياسية. وترغب حركة هندوتفا في القضاء على التعددية الدينية بالهند، وإقامة الهند - أو بحسب تعبير الحركة: إعادة إقامتها - لتكون أمة هندوسية بالكامل. والمستهدفون من تلك الحركة هم المسلمون والمسيحيون، وقد استخدمت السلطة القانونية والسياسية إضافة إلى العنف ضد هذين الهدفين. (3) اليابان
ثمة خلاف حقيقي حول وجود يوتوبية يابانية أصلية. والأساطير اليابانية إما تضم يوتوبيات وإما لا. وإن كانت تضمها، كانت اليوتوبيا إما مستعارة من الصين وإما لا. والجدل مستمر حتى يومنا هذا حول إن كانت اليوتوبيات اليابانية مقلدة على نحو كبير أو أصلية مبتكرة.
والإجابة على هذه الإشكالية، كما هو الحال في كثير من الأحيان، موجودة بين طرفي النقيض. ثمة تقليد يوتوبي ياباني قوي، بعضه تأثر تأثرا عميقا بالصين وفيما بعد بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن قدرا كبيرا منه قد دخلت عليه تعديلات جذرية كي يتناسب والوضع الياباني. على سبيل المثال، لم تكن أول ترجمة يابانية ل «يوتوبيا» توماس مور تحت اسم «عن الحكم الرشيد » (1892) - في الواقع - ترجمة، بل مواءمة لتناسب اليابان، الهدف منها حث اليابانيين على إحداث تغيير اجتماعي.
وكلمة يوتوبيا في اليابانية هي ريسو-كيو، المشتقة من كلمة طوكويو؛ أي عالم موجود للأبد. واستخدمت كلمة طوكويو قديما في القرن الثامن لوصف العالم الطاوي المكون من خالدين، والذي يعد في التقليدين الصيني والياباني كيوتوبيا. وتشير «طوكويو نو كوني» (البلد الخالد) إلى الجزء الخامس من كون الشنتو الذي يقع بين البحار، وهو مكان يوتوبي. وثمة تقليد ياباني يقوم على التطلع إلى الماضي بحثا عن يوتوبيا على أمل خلقها مجددا في المستقبل.
تأثرت اليابان تأثرا عميقا بالبوذية وكذلك الطاوية، لكن دخلت تعديلات على كلتيهما باليابان؛ فقد أدمجت مظاهر معينة من الطاوية في عقيدة الشنتو، واستحدثت اليابان نسختها من البوذية؛ بوذية الزن، التي كان لها تأثير كبير على الغرب في وقت لاحق؛ حيث تعتبر أكثر أشكال البوذية تطورا. وغالبا ما يجري تمثيل روح الزن في الغرب بالتقشف والبساطة اللذين تتمتع بهما حديقة حجرية. وتقول سوزان جيه نابير، الباحثة في الأدب الياباني بجامعة تافتس إنه توجد يوتوبيا جمالية يابانية تقليدية، وهي التي يمكن العثور عليها في ذاك العمل الكلاسيكي من الأدب الياباني «قصة جنجي» (القرن الحادي عشر). بينما ذهب آخرون إلى أن فن اليوكيو الياباني يمكن اعتباره يوتوبيا جمالية تصور المتع العابرة والجمال الزائل.
شكل 4-2: تختلف حدائق الزن عن أغلب الحدائق في أنها تتكون على نحو أساسي من الحجارة والرمال، وهي تعكس شكلا فنيا يابانيا. وتساعد العناية بالحديقة وعملية تقليب تربتها وتسويتها الرهبان على التركيز والتأمل.
وفي الوقت نفسه، يمكن إيجاد بوذية أكثر تقليدية في الجنات البوذية اليابانية، التي تضم مدنا غاية في التعقيد. ويقوم قاسم من البوذية اليابانية، مثل قاسم من البوذية الهندية والصينية، على ترقب ميروكو أو مايتريا؛ بوذا المستقبلي الذي سيأتي في زمن معين بالمستقبل ليحيي البوذية من جديد.
ثمة قصة شهيرة، بعنوان «قصة قاطع البامبو»، تعود إلى نهاية القرن التاسع أو بداية القرن العاشر، وفيها يأتي زائر من القمر ويكافئ أحد البشر على مساعدته له، وهي تعتبر يوتوبيا يابانية مبكرة. إلا أن أشهر اليوتوبيات اليابانية المبكرة هي أعمال تأثرت ب «أرض أزهار الخوخ»، التي جرت ملاءمتها قليلا لتتناسب مع اليابان. على سبيل المثال، في «قصة أوراشيما تارو»، ينقذ ابن صياد سمك سلحفاة من الأولاد الآخرين ويكافأ برحلة إلى عالم شبيه بالفردوس. وبعد عودته، يكتشف أنه غاب لوقت طويل للغاية وليس لبضعة أيام، وتلك سمة معتادة في مثل تلك القصص بأغلب الثقافات.
ثمة أساطير يابانية تقليدية ذات محتوى يوتوبي، وعلى الأقل بضع قصص يابانية قديمة احتوت على بعض المحتوى اليوتوبي، وكلتاهما مستمدتان من مصادر صينية ولكن جرى تعديلها باليابان. لكن أغلب اليوتوبيات اليابانية جرى نشرها بعد الاتصال بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولم يظهر الأدب الياباني اليوتوبي سريعا. وفي القرن السابع عشر، كان هناك عمل قصير لإيهارا سايكاكو (1642-1693) اسمه «حياة رجل عاشق» (1682) يصور في أغلبه مجموعة من الرجال يعيشون من أجل المتعة فقط، لكن ينتهي بهم الحال وهم يبحثون عن «جزيرة نيوجو»، وهي جزيرة منعزلة تقطنها النساء القويات فقط. في القرن الثامن عشر، كانت هناك فانتازيات شتى عن السفر والرحلات، بما فيها واحدة على الأقل تقوم على رواية «رحلات جاليفر» لسويفت. وضمن أندو شويكي (1701-1758) جزءا في عمله «شيزن شينايدو» (1775) يوتوبيا بسيطة، وطبيعية، وذات اكتفاء ذاتي.
في نهاية القرن التاسع عشر، وبفعل تأثير الروايات الشهيرة لجول فيرن (1828-1905) وبعده إتش جي ويلز، بدأ أدب الخيال العلمي الياباني يتطور؛ في البداية في صورة روايات سياسية تتنبأ بالمستقبل، ثم في صورة روايات مستقبلية تكنولوجية. كانت في البداية يوتوبية في المقام الأول، ثم تحولت إلى ديستوبية مثل أي مكان آخر، مع الهجوم، في بعض الحالات، على الغرب بوصفه قمة الديستوبيا. وحديثا، تصور القصص المصورة اليابانية المسماة «المانجا» مستقبلا ديستوبيا أو، في حالات أكثر ندرة، مستقبلا يوتوبيا إيجابيا. (4) الإسلام
تاريخيا، للإسلام تقليد يوتوبي محدود، لكنه يضم يوتوبيتين أساسيتين: الجنة، والمجتمع المسلم المبكر بالمدينة المنورة؛ ففترة السلام بالمدينة المنورة قبل العودة إلى مكة وضرورة القتال من أجل الدفاع عن الدين تمثل العصر الذهبي للإسلام. وفي الواقع، يذهب بعض الباحثين المسلمين، مثل محمود محمد طه (1909-1985)، السياسي وعالم الدين السوداني، إلى أنه ينبغي قراءة القرآن باعتباره يعكس حقبتين مختلفتين تماما، حقبة المدينة المنورة وحقبة مكة، مع اعتبار الآيات التي نزلت في المدينة هي الأكثر أهمية. وفي حين أن هذه بالتأكيد هي وجهة نظر الأقلية؛ فإن حقبة المدينة، قبل الحروب والانقسامات التي خلفت طائفتي السنة والشيعة الرئيسيتين إلى جانب عدد من الفرق الأقل حجما، تلعب دورا خاصا في الخيال الإسلامي.
وصفت «رباعيات» عمر الخيام (1048-1131) بأنها أول يوتوبيا فارسية، ويذكر إدوارد فيتزجيرالد؛ صاحب الترجمة الإنجليزية الشهيرة لهذا العمل، أن هذا وصف صحيح لها. وتوحي لنا مقاطع ذائعة الصيت، مثل «زجاجة الخمر ونصف الرغيف، وما حوى ديوان شعر طريف، أحب لي إن كنت لي مؤنسا، في بلقع من كل ملك منيف»، بيوتوبيا أساسها المتعة، إلا أن فيتزجيرالد قام بملاءمة لا بترجمة، وأن المقاطع كالمقتبسة لا تعكس العمل كله، وهي أقرب إلى «سفر الجامعة» بتأكيده على حقيقة الموت باعتباره نهاية كافة متعنا. وفي حين أن هناك مقاطع في هذا العمل تركز على المتعة والرغبة الجنسية، كان التأكيد على إيجاد السلوى في الخمر؛ وهو تأكيد غير إسلامي على الإطلاق.
يعكس عملان من الزمن نفسه تقريبا على نحو أكثر دقة المعتقدات الإسلامية؛ فعمل «حي بن يقظان: قصة فلسفية» الذي ظهر عام 1150 تقريبا، وعمل «الرسالة الكاملية في السيرة النبوية» الذي ظهر بعد العمل السابق بحوالي 100 عام، يصوران طفلا وحيدا على جزيرة معزولة للإشارة إلى أن العقل البشري يمكنه بنفسه استنتاج الحقائق الدينية؛ تلك الحقائق التي تعدد أسس الإسلام.
وفي حين يرى من لا ينتسبون للإسلام أنه منظومة عقائدية واحدة ومتماسكة، فإنه في الحقيقة اليوم منقسم انقساما كبيرا؛ فيوجد على أحد طرفي النقيض الليبراليون والنسويون وحتى بعض المثليين الذين يحاولون تفسير القرآن على النحو الذي يؤيد موقفهم، في حين يوجد على الطرف الآخر الإسلاميون الأصوليون الذين يدفعون بصحة تفسيرهم له. والغالبية العظمى من المسلمين في الوسط فيما بينهما . وعلى اختلاف الإسلاميين فيما بينهم ، فإنهم جميعا يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية معتبرين إياها أساسا للنظام الاجتماعي، وهم أكثر المسلمين يوتوبية اليوم. ورؤية الجمهورية الإسلامية التي وضعها الخميني (1900-1989) ورؤية طالبان لأفغانستان كانتا يوتوبيتين بجلاء، وبعض منشورات الخميني، مثل «كشف الأسرار» (1944) و«الحكومة الإسلامية» (1971)، رغم أنها أطروحات، فإنها تقدم وصفا مفصلا للمجتمع الإسلامي المثالي كما رآه، وقد تقلد فيما بعد السلطة التي مكنته من محاولة تطبيق معتقداته على أرض الواقع.
ثمة أمثلة قليلة على التناول الأدبي لليوتوبيا من وجهة نظر الحركة الإسلامية، لكن يوجد عملان - على الأقل - مهمان في هذا الشأن؛ يتمثل العمل الأول في «البعد الخامس»، وهي مسرحية مكتوبة بسجن مصري؛ حيث أودع المؤلف السجن لانضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين. ويبدو أن اليوتوبيا تقوم على تعاليم سيد قطب (1906-1966)؛ وهو أحد منظري حركة الإسلام السياسي. أما العمل الآخر، وهو «البرنامج الثوري لفدائيان إسلام» (1950)، للإيراني سيد مجتبى نواب صفوي (المولود عام 1924، والمعدم عام 1955)، فيرسم الخطوط العريضة لنظام اجتماعي إسلامي مثالي. وهو مزيج غاية في البساطة، بل مفرط في البساطة، من الدين الإسلامي والقواعد الأخلاقية. (5) أفريقيا
يقول الناقد الأدبي الكيني سايمون جيكاندي إن محور الرواية الأفريقية هو «إشكالية السلطة». ويقرأ الكثير من اليوتوبيات الأفريقية كما لو كانت روايات واقعية حول الديستوبيات الموجودة في أوطانها في ظل حكم نظم ديكتاتورية مدنية أو عسكرية. وتتميز هذه اليوتوبيات في الأساس بأنها تدور أحداثها في بلاد خيالية أو في المستقبل القريب. ولكن الكثير من الروائيين الأفارقة كتبوا يوتوبيات إيجابية؛ فرواية الكاتبة بيسي هيد (1937-1986) «عندما تتجمع سحب المطر» (1969) هي أكثر أعمالها يوتوبية، وتعرض محاولة خلق قرية يوتوبية، لكن تعرض روايتاها «مارو» (1971) و«مسألة قوة» (1974) حياة القرية الأفريقية الحالية من منطلق إيجابي في عمومه. كتب آيي كواي آرما (المولود 1939) يوتوبيا وديستوبيا، وروايته «ألفا موسم» (1973) تقدم ماضي أفريقيا بتصور جديد في صورة يوتوبيا تقوم على المساواة، لكن روايته «لم يولد الفاتنون بعد» (1968) تشبه الديستوبيات الأفريقية الأخرى في عرض الوضع المعاصر في أحد البلاد، وهو الكونغو في هذه الحالة، في صورة ديستوبيا . ويقدم وولي سوينكا (المولود عام 1934) يوتوبيا وديستوبيا في رواية واحدة؛ فأول فصلين من روايته «موسم الفوضى» (1973) يقدمان يوتوبيا كوميونية، لكن معظم الجزء المتبقي من الكتاب يعرض الواقع الحالي في صورة ديستوبيا. إلا أن بلد أييرو اليوتوبي يوفر الفرصة لشيء أفضل. ومن مالي، تأتي القصيدة الملحمية «سوندياتا: ملحمة من مالي القديمة» (1960) لجبريل تامسير نيان (المولود عام 1932)، التي تعرض التاريخ الشفاهي لأحد ملوك مالي، وتنتهي باليوتوبيا التي نتجت عن نجاحه عندما ساد السلام والازدهار.
شكل 4-3: شينوا أتشيبي (المولود عام 1930) هو كاتب نيجيري من قبيلة إجبو، وقام بالتدريس في نيجيريا والولايات المتحدة، وهو مشهور بأعماله الساخرة عن الحياة الأفريقية المعاصرة.
وعلاوة على اليوتوبيات المذكورة أعلاه، تضم اليوتوبيات الأفريقية؛ من كينيا، رواية «محاكمة كريستوفر أوكيجبو» (1971) لعلي إيه مزروعي (المولود عام 1933)، وروايات «بتلات الدم» (1977) و«الشيطان مصلوبا» (1980) و«ساحر الغربان» (2004) للكاتب نجوجي وا ذيونجو (المولود عام 1938)؛ ومن نيجيريا، أعمال «اغتصاب شافي» (1983) لبوتشي إميكتا (المولودة عام 1944) و«كثبان السافانا» للكاتب تشينوا أتشيبي (المولود عام 1930)، و«إدهاش الآلهة» (1995) و«في أركاديا» (2002) للكاتب بن أوكري (المولود عام 1959)؛ ومن غانا، أعمال «سيدة الطائرات» (1988) و«الميجور جنتل وحروب أشيموتا» (1992) للكاتب كوجو لينج (المولود عام 1946)، و«ثورة السود» (1995) للكاتب كودو أبايدو؛ ومن السنغال، العمل «نهاية الإمبراطورية: رواية سنغالية» (1980) للكاتب سيمبين عثمان (1923-2007). (6) المجتمعات المقصودة
ازدهرت الأديرة البوذية في الهند والصين واليابان وجنوب شرق آسيا في وقت مبكر منذ عام 500 قبل الميلاد، وكان للأشرام تاريخ أطول؛ إذ يعود إلى نحو عام 1500 قبل الميلاد. والأشرام أماكن للسكنى لمن يعيشون في نوع من الالتزام الروحاني في الهند. وهي نشأت عن الهندوسية؛ ومن ثم مثلما تعتبر الرهبانية المسيحية الآن جزءا من التاريخ الطويل للمجتمعات المقصودة في الغرب والمبشرة بالمجتمعات المقصودة الحديثة، لا تزال التقاليد اليوتوبية في تلك المناطق مزدهرة، وتظل جزءا لا يتجزأ من الثقافة المحلية مع انتشارها إلى بقاع أخرى من خلال الهجرة.
ومؤخرا، شيدت الهند أشراما مسيحية لتجذب الهنود المسيحيين إلى الكوميونية بالتوازي مع الأشرام الهندوسية التقليدية، إلا أن تلك الأشرام المسيحية معرضة للخطر من حركة هندوتفا.
شهدت الهند واليابان - على وجه الخصوص - في العصور الحديثة إنشاء عدد كبير من المجتمعات المقصودة الدينية والعلمانية، وبعضها، مثل أوروفيل في الهند، كان له بالغ التأثير على حركة المجتمعات المقصودة بأسرها. تأسس مجتمع أوروفيل في عام 1968، ويقطنه حاليا حوالي ألفي شخص؛ ما يجعله - على الأرجح - أكبر مجتمع مقصود في العالم. وهو يوظف حوالي أربعة آلاف شخص.
واليوم، خارج إطار المنضمين إلى حركة المجتمعات المقصودة، على الأرجح ترتبط الكوميونية الهندية بالحركات الهندية التي انتقلت إلى خارج الهند، والتي يطلق عليها كثيرون طوائف، مثل أتباع بهاجوان شري راجنيش (1931-1990)، الذي أسس مجتمعات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في أوريجون؛ حيث أوقفت أنشطتها وطرد قائدها من البلد، وذلك بعد صراع مع الحكومات المحلية في المنطقة. لكن لعل أشهر مجموعة اليوم هي الجمعية الدولية للوعي بكريشنا، أو حركة «هاري كريشنا»، التي يمكن رؤية أعضائها يرقصون وينظمون مواكب ويغنون مرتدين أروابهم الملونة في أغلب المدن الكبرى.
ولليابان تاريخ كوميوني ثري على وجه الخصوص؛ فإضافة إلى الأديرة البوذية، لا سيما أديرة زن التي جذبت كثيرا من الغربيين وانتشرت في جميع أرجاء العالم، هناك حركة تعاونية قوية. وقد تأثرت تلك الحركة بكتابات روبرت أوين، وتوجد جمعية روبرت أوين باليابان منذ فترة طويلة. وكان باليابان أيضا ما يصل إلى 300 قرية تعاونية في سبعينيات القرن العشرين. وشاعت فكرة المدينة الحدائقية في يابان ما قبل الحرب، لكنه أسيء فهم الفكرة بوجه عام؛ ومن ثم، ما بني وأطلق عليه مدن حدائقية كان في الواقع قرى توجد في ضواحي المدن، ولم تعكس المفهوم كما وضعه إبنزر هاوارد.
كما أنشأت اليابان مجتمعاتها الأصلية هي الأخرى، بما فيها طوائف ديستوبية مثل «أوم شنريكيو»، التي قامت بمحاولة قتل الركاب في عدد من محطات مترو أنفاق طوكيو في عام 1995، وذلك بنشر غاز السارين السام فيها. وقد تأسس أقدم كوميونات اليابان، «حديقة النور»، في عام 1911، وانتقل إلى موقعه الحالي في عام 1928. وتأسس مجتمع «القرية الجديدة» في عام 1918، وتأسست مجتمعات أخرى على نحو منتظم حتى يومنا هذا، مع زيادة كبيرة في تأسيسها في سبعينيات القرن العشرين بالتوازي مع الزيادة الكبيرة في إنشاء تلك المجتمعات التي شهدها الكثير من البلدان الأخرى. وقامت معظم المجتمعات اليابانية على قائد ذي شخصية كاريزمية، إلا أن بعضها استمر بعد وفاة هذا القائد.
شكل 4-4: مجموعة تنتمي لحركة هاري كريشنا ترقص بشارع أكسفورد بلندن في عام 1980.
للصين تقليد طويل من الرهبانية البوذية، ودخلت الأديرة المسيحية البلاد مع المسيحية، لكن صراعات القرن العشرين أدت إلى تعرض جميع المؤسسات الدينية للهجوم على يد الحكومة الشيوعية، وتدمير كثير منها قسرا أو إغلاقها، ولم يعد فتح بعضها إلا هذه الأيام.
غير أن الكوميونية الصينية في القرن العشرين ارتبطت عادة بالكوميونية القسرية الخاصة بستينيات وسبعينيات هذا القرن؛ إذ نقلت الحكومة إبان تلك الفترة أعدادا كبيرة من الناس من قراهم إلى مستوطنات كوميونية. وهي مجتمعات مقصودة من منطلق أن الحكومة هي التي أقامتها، ولم تكن مجتمعات مقصودة من منطلق أن الأشخاص الذين كانوا فيها لم يكونوا هناك بملء إرادتهم. على نحو مؤقت، بدا أن تلك المجتمعات تحقق مقاصد الحكومة المتمثلة في تحقيق كفاءة أكبر في إنتاج الغذاء، وتوزيع السكان، واستغلال العمال (عن طريق إعطاء النساء حرية العمل بقيامهن بالطهي ورعاية الأطفال على نحو مشترك)، والقدرة على الاستفادة من العمالة من أجل تنفيذ مشروعات البنية التحتية، وتوفير إسكان ومرافق صرف صحي أفضل وما إلى ذلك، إلا أنه سريعا ما ثبت أنها أقل كفاءة بكثير من المأمول، وأقل تخطيطا بكثير مما كان ينبغي أن تكون عليه؛ ومن ثم في حين أن المجتمعات المقصودة الدينية التقليدية بدأت تظهر من جديد، فإن ذلك لم يحدث بالنسبة ل «الكوميونات الصينية».
رغم بعض الاستثناءات القليلة، كانت كل المجتمعات المقصودة الأفريقية تقريبا نتاجا لعملية الاستعمار؛ إذ كان الكوميونيون الأوروبيون يؤمنون بأن أفريقيا تعد المكان المناسب لتطبيق أفكارهم على أرض الواقع، متجاهلين إلى حد ما حقيقة أن تلك الأرض محتلة. بدأت أولى محاولات إنشاء تلك المجتمعات بمقترح لاستيطان سيراليون قدم في «خطة 1789 لإقامة مجتمع حر على ساحل أفريقيا، تحت حماية بريطانيا العظمى؛ لكنه مستقل تماما عن كل القوانين والحكومات الأوروبية.» لم يتحقق شيء من ذلك، لكن كانت هناك محاولات شتى لاستيطان العبيد السابقين من بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية لسيراليون، ولم تحقق سوى نجاح محدود. ومنذ حوالي قرن مضى، اقترح تيودور هرتزكا إنشاء مجتمعه الذي أطلق عليه فريلاند في أفريقيا، وحاز على تأييد كبير في البداية. لم ينجح أي من تلك المقترحات، لكن كانت هناك تجربة ناجحة نوعا ما وضمت مقترحات يوتوبية، بوجه عام، وبعض المجتمعات المقصودة، التي تمثلت في مستوطنة ليبيريا التي كونها العبيد الأمريكيون المحررون تحت رعاية مختلف الكنائس الأمريكية، وفي بعض الأحيان، بتأييد رسمي. وقد كتبت الرواية اليوتوبية «ليبيريا، أو تجارب السيد بايتون» (1853) لدعم هذا المشروع.
لا يوجد أي تقليد كوميوني إسلامي، لكن تأسست في سبعينيات القرن العشرين بضعة مجتمعات مقصودة حضرية وريفية في الولايات المتحدة الأمريكية على يد أمريكيين من أصول أفريقية متحولين إلى الإسلام. (7) المنظور العالمي
يتضح مما سبق أن اليوتوبية ليست ظاهرة خاصة بالغرب المسيحي فقط، لكنها موجودة بصور شتى في أغلب الثقافات، إن لم يكن كلها. وشاع في هذا الإطار وجود أساطير تتحدث عن عصر يوتوبي قديم، مع وجود اختلافات حول الجوانب التي حدث إخفاق فيها، وإن كان يمكن استعادة تلك اليوتوبيا أو إعادة إنشائها أم لا. كذلك شاعت الرؤى حول الحياة الطيبة التي ينبغي تحقيقها بالجهد البشري، وكانت معتمدة على الثقافة ذات الصلة. وعقب شهرة «يوتوبيا» مور، صدرت يوتوبيات أدبية تستخدم نموذجه عبر أنحاء العالم، لكنها مجددا تعكس الأماكن عينها التي كتبت فيها. وفي الوقت نفسه، غالبا ما كانت تواجه بلدان وثقافات مختلفة مشاكل متشابهة، وأحيانا ما قدمت حلول متشابهة. وأثارت الحركات الاجتماعية، مثل النسوية والمحافظة على البيئة، أسئلة تمت الإجابة عليها بطرق متشابهة في أماكن مختلفة. ولكن أيضا قدمت أماكن مختلفة إجابات غير متشابهة على المسائل المثارة، وعكست الإجابات بوضوح الظروف المحلية.
يبدو أن المجتمعات المقصودة الدينية نشأت على نحو مستقل في أماكن عدة، وأنها عكست الظروف المحلية. نشأت المجتمعات العلمانية بعدها بفترة طويلة. واختلف بعضها حسب الظروف والعادات المحلية، في حين بدا بعضها قريب الشبه بالمجتمعات في أي مكان آخر، وتوقف ذلك على السبب وراء إقامة المجتمع.
الفصل الخامس
اليوتوبية في التقليد المسيحي
لأغلب الأديان رواية ما عن حياة أفضل كثيرا، حتى وإن كانت بعد الموت فقط، لكن اليهودية والمسيحية مشبعتان بالصور اليوتوبية. تعد المسيحية نبع اليوتوبية الغربية، واليوتوبية شاغل جوهري، إيجابيا وسلبيا، في المعتقد المسيحي الحديث. وترتبط صور الماضي اليوتوبي (جنة عدن) والمستقبل اليوتوبي (النعيم والجحيم، والمجيء الثاني للمسيح، وحكم المسيح للأرض لمدة ألف سنة بعد مجيئه الثاني) بهذا العالم والآخرة، لا بمجرد ماض يتعذر بلوغه أو مستقبل مشكوك فيه. أصبحت تلك الصور صورا لحياة أفضل (أو أسوأ)، غالبا في صورة فانتازيا، لكنها في نفس الوقت كثيرا ما تطرح أسئلة حول الأسباب التي لا تجعل هذه الحياة حياة أفضل. في العصور الوسطى، كان يبدو أن رجال الدين، لا سيما الرهبان، يعيشون حياة أفضل ممن يرعونهم، وتساءل بعض الناس عن سبب عدم إتاحة تلك الحياة الأفضل لهم. وكثيرا ما تساءل الناس عن السبب وراء أن الكنائس تبدو لهم أنها تساند الأغنياء وأصحاب السلطة في مواجهة أغلبية المؤمنين. ولما كان الأغنياء وأصحاب السلطة يتمتعون بحياة أفضل في الوقت الراهن، فلم لا يمكن لبقيتنا التمتع بها؟ (1) الإنجيل
يضم العهدان القديم والجديد صورا ورسائل كثيرة غذت نشوء وتطور اليوتوبية الغربية؛ فمن العهد القديم استفاد اليوتوبيون اللاحقون من تصوير جنة عدن والرؤى الكونية للأنبياء ومقترحات البعض منهم، ومن العهد الجديد كان لرسالة المسيح، ووصف نهاية العالم، ومعركة أرمجدون، وحكم المسيح للعالم لمدة ألف سنة في سفر رؤيا يوحنا؛ أبلغ التأثير. علاوة على ذلك، تضم الأسفار الأبوكريفية (وهي الأسفار غير المضمنة في الإنجيل) أوصافا لنهاية العالم، ومعركة أرمجدون، والحكم الألفي للمسيح التي كان لها تأثير على المفكرين المسيحيين اللاحقين. (1-1) العهد القديم
ضاعت الجنة ولا سبيل لاستعادتها. وبعد خروج آدم وحواء منها، أصبحت غير مأهولة ومحظورة على الجنس البشري حتى المجيء الثاني للمسيح، لكن جنة عدن قدمت صورة للتوحد مع الرب؛ للخلود والبراءة والأمان من الحيوانات البرية، والسلامة من تقلبات المناخ، والوفرة دون كد.
سريعا ما أصبحت أوصاف جنة عدن أكثر تفصيلا مما كانت عليه في سفر التكوين، ومثالا على ذلك وصف الشاعر اللاتيني بلوسيوس أميليوس دراكونتيوس القرطاجي (455 تقريبا-505 تقريبا) الذي عاش بالقرن الخامس بشمال أفريقيا:
مكان تتدفق فيه أربعة أنهار،
مكان تزينه الورود الفيحاء، والمروج المزدانة بالجواهر،
حيث تنتشر النباتات الفواحة التي لا تذبل أبدا،
إنه أجمل حديقة في العالم الذي خلقه الرب.
هناك تنمو الثمار طوال العام بغض النظر عن موسمها،
هناك يسود الربيع الأرض على الدوام.
تكتسي الأشجار بكساء بديع، في صحبة خلابة،
وتتشابك الأوراق والفروع القوية مع بعضها
لتشكل غابة كثيفة؛ تستمد بأسها شامخة من تجمع كل شجرة
مع الشجرة المجاورة لها، أو تنتشر على بساط المروج.
لا تلفحها أبدا أشعة الشمس الحارقة، ولا تهزها
الرياح العاتية، ولا تعصف بها
العواصف العنيفة؛ فلا تهبط الثلوج من السماء،
ولا تهب العواصف الجليدية، ولا تكتسي الحقول
بالبياض جراء الصقيع. لكن بها نسائم عليلة،
تتصاعد من دفقات الينابيع المتلألئة الخفيفة.
تتمايل كل شجرة في خفة من النسيم الهادئ
ولا يغير من هذا الهدوء سوى حركة أوراق الشجر ...
لكن خروج آدم وحواء من الجنة غير كل هذا؛ فأصبح الكد والخوف والموت مصير الجنس البشري. لم يعد هناك توحد مع الرب، وضاعت البراءة ليحل محلها الإثم، ممثلة في ورقة التوت. كثيرا ما تفسر اليوتوبية على أنها رغبة في تجاوز الخطيئة الأصلية والعودة إلى جنة عدن، أو خلق يوتوبيا جديدة مع زوال الخطيئة. وكما تقول المنظرة السياسية جوديث سلار (1926-1992):
اليوتوبيا سبيل لرفض مفهوم «الخطيئة الأصلية» الذي اعتبر الفضيلة والعقل البشريين على طبيعتهما ملكتين ضعيفتين أو فاسدتين على نحو يصعب إصلاحه. وبغض النظر عما تقوله اليوتوبيات الكلاسيكية أو لا تقوله، فهي كلها تهاجم النظرية الراديكالية للخطيئة الأصلية.
كانت هناك بعثات - حقيقية وخيالية - لاستكشاف جنة عدن، ونشرت تقارير حول موقعها؛ ففي القرن الثامن عشر ظهرت عدن على الخرائط وكان موقعها في أرمينيا؛ لأن نهري دجلة والفرات ينبعان من أرمينيا؛ ونتيجة لذلك، أصبحت عدن جنة أرضية من الممكن اكتشافها، بل جنة سكنتها قبيلة اختفت أو حكمها أمير مسيحي عادل. وقد اعتقد المستكشفان كريستوفر كولومبوس (1451-1506) وأمريجو فسبوتشي (1454-1512) أنهما ربما عثرا على جنة الأرض في العالم الجديد. (1-2) الرؤية الكونية للأنبياء
فزع الأنبياء من الأحوال الحالية للناس، وحذروا من نكبات أشد إن لم يقوم الناس سبلهم، وتنبئوا بالحصول على حياة أفضل إن قام الناس بذلك. لم يجر التأكيد على الجزء الأخير، لكنه كان موجودا؛ فكما قال النبي إرميا:
فيأتون ويرنمون في مرتفع صهيون، ويجرون إلى جود الرب على الحنطة وعلى الخمر وعلى الزيت، وعلى أبناء الغنم والبقر، وتكون نفسهم كجنة ريا، ولا يعودون يذوبون بعد؛ حينئذ تفرح العذراء بالرقص، والشبان والشيوخ معا، وأحول نوحهم إلى طرب، وأعزيهم وأفرحهم من حزنهم.
الإصحاح 31، الآيات 12-13
وقد قال النبي إشعياء كلاما مشابها في كلامه الشهير:
فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معا، وصبي صغير يسوقها. والبقرة والدبة ترعيان. تربض أولادهما معا، والأسد كالبقر يأكل تبنا. ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان.
الإصحاح 11، الآيات 6-8
يؤكد إشعياء على نحو خاص على غياب البغضاء بين بني البشر والحيوانات، وفيما بين الحيوانات، والتي كانت سمة مميزة لأغلب العصور الذهبية وجنات الأرض، فسيختفي خوف شائع، وسيأمن الطفل بين الحيوانات التي كانت خطرة في السابق.
إلا أن رؤية الأنبياء الإيجابية كانت غامضة وبالغة التعميم. وأقرب إشارة إلى يوتوبيا كلاسيكية في العهد القديم موجودة في سفر حزقيال (40-48)، وفيه وصف تفصيلي للمعبد المعاد تشييده، والشعائر التي ستقام هناك، لكن هناك أيضا ذكرا للطريقة التي ينبغي توزيع الأرض بها بين المعبد والأمير والقبائل المختلفة. ويشير إلى أن إعادة تشييد المعبد ينبغي أن تنتهز باعتبارها فرصة لتحسين حياة الجميع.
ثمة تقليد في مختلف أجزاء العهد القديم، اعتبره الكثيرون أساسا لإقامة اليوتوبيا؛ هو عام اليوبيل الموصوف في سفر اللاويين، الإصحاح 25، وسفر نحميا، الإصحاح 10 الآية 31، وسفر الخروج، الإصحاح 3 الآيات 10-12، وعلى نحو أكثر راديكالية في سفر التثنية، الإصحاح 15 الآيات 1-18. والمبدأ الأساسي هو أنه كل سبعة أعوام تراح الأرض. ويقدم سفر التثنية المزيد من التفاصيل بذكره أنه في كل عام سابع يجب العفو عن الديون كافة، عدا الديون إلى أجانب. وتؤكد كل الفقرات على مساعدة الفقراء والأمانة في المعاملات التجارية. وقد استمدت حركة «يوبيل 2000» التي تدعو لإسقاط ديون العالم الثالث اسمها من هذا التقليد.
شكل 5-1: لوحة «مملكة السلام على الأرض» (1834) لإدوارد هيكس (1780-1849) التي تعد واحدة من إحدى وستين نسخة عن الموضوع. رسمها هيكس بناء على سفر إشعياء (الإصحاح 11، الآيات 6-8).
وعلى مستوى أكثر تعميما، يقول النبي إشعياء إنه في المستقبل لن تكون هناك حروب أخرى:
فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد.
الإصحاح 2، الآية 4
كما قدمت الكتابات اليهودية غير المشمولة في الإنجيل المسيحي صورا لمستقبل أفضل؛ فقد ورد في سفر اليوبيلات (153-105 قبل الميلاد):
يتمون حياتهم في السلام والفرح. ولن يكون شيطان أو مدمر شرير، بل تكون كل أيامهم أيام بركة وشفاء.
وقد ورد في «نبوءات سيبيل» ما يلي:
ستخرج الأرض الأم إلى الفانين أشهى ثمارها في صورة ذرة وخمر وزيت لا يحصى. ومن السماء سينزل تيار من عسل مصفى، وستعتلي الأشجار ثمارها، وستملأ الأرض قطعان الماشية والغنم وجديان الماعز. ستتفجر ينابيع اللبن الأبيض الحلو، وستحفل المدن بأطيب الأشياء، وستطيب الحقول بثمارها، ولن تندلع حرب أو يحدث اضطراب، ولن تعاني الأرض أنات المعذبين، ولن تندلع حرب على الأرض، ولن تكون هناك مجاعة أو قحط، ولن تنال من المحاصيل ريح أو زوبعة، بل سيسود السلام في شتى بقاع الأرض، وسيعم الإخاء بين الملوك حتى نهاية العصر، وسيطبق قانون موحد على الجميع من مختلف بقاع الأرض، في جنة الفردوس، يقتص من كافة الأشياء التي أقدم عليها الفانون البائسون.
لفت قراء العهد القديم اللاحقون الانتباه إلى كل من الرسائل الإيجابية التي قدمها الأنبياء، والتأكيد على القوانين المصممة لتشجيع الناس على أن يعيشوا الحياة التي أرادها الرب لهم. وكتب كثيرون يوتوبيات بناء على تلك القوانين التي كان هدفها تحقيق الغرض نفسه، وكثيرا ما عكست المناهج النبوية وأكدت على العواقب التي ستنزل جراء عدم الامتثال لتلك القوانين. (1-3) العهد الجديد
يصور العهد الجديد مجيء المسيح لإنقاذ الجنس البشري، ويتحدث عن رب المحبة لا العقاب. لا توجد بالعهد الجديد يوتوبيا على غرار الموجودة في العهد القديم، لكن رسالة المساواة والصفح ومحبة الغرباء والجيران شكلت أساس جانب كبير من اليوتوبية الغربية والكثير من اليوتوبيات الأدبية. كان أحد الموضوعات الأساسية يتمثل في أنه من الممكن إقامة مجتمع صالح إن امتثل الناس لرسالة المسيح. وأوضحت «عظة الجبل» (متى، الإصحاح 5، الآيات 3-11) الثواب العظيم للسلوك القويم، فتقول:
طوبى للمساكين بالروح؛ لأن لهم ملكوت السموات.
طوبى للحزانى؛ لأنهم يتعزون.
طوبى للودعاء؛ لأنهم يرثون الأرض.
طوبى للجياع والعطاش إلى البر؛ لأنهم يشبعون.
طوبى للرحماء؛ لأنهم يرحمون.
طوبى للأنقياء القلب؛ لأنهم يعاينون الله.
طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناء الله يدعون.
طوبى للمطرودين من أجل البر؛ لأن لهم ملكوت السموات.
طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين.
افرحوا وتهللوا؛ لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.
وكذلك ورد بإنجيل متى (الإصحاح 5، الآية 48): «فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.» (2) نهاية العالم والحكم الألفي للمسيح
كانت أكثر أشكال الكتابة اليوتوبية شيوعا إبان تلك الفترة هي تلك التي تتحدث عن نهاية العالم، التي تنبأت بنزول نائبة وشيكة سيدمر فيها الرب الأشرار، ويعلي من شأن الأخيار في حياة في مملكة يحكمها المسيح بعد مجيئه الثاني. استبعدت أغلب تلك الأعمال من الإنجيل، وسفر رؤيا يوحنا هو الاستثناء الوحيد على ذلك. وفض الختوم السبعة والنفخ في الأبواق السبعة الموصوفة به هي بيان لعقوبات رهيبة ستنزل وتستمر في النزول حتى تفنى الأرض بكل من يسكنها. ولكن بعد حكم الأخيار لألف سنة ومعركة أرمجدون - أو المعركة الأخيرة بين الخير والشر - سيتشكل عالم جديد.
ثم رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة؛ لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد. وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتا عظيما من السماء قائلا: «هو ذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبا، والله نفسه يكون معهم إلها لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد؛ لأن الأمور الأولى قد مضت.»
الإصحاح 21، الآيات 1-4
ثم يتبع ذلك وصف لأورشليم الجديدة، مع التأكيد على أنها مشيدة من المعادن والأحجار النفيسة؛ على سبيل المثال: «وكان بناء سورها من يشب، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي» (الإصحاح 21، الآية 18).
أغلب الروايات التي تتحدث عن نهاية العالم غير معترف بها من الكنيسة وتصف مملكة المسيح بمصطلحات تستدعي العصر الذهبي. على سبيل المثال، يقول سفر باروخ، المعروف أيضا بباروخ الثاني:
سينزل الشفاء من السماء مع الندى، وسيختفي المرض، ويذهب الجزع والكرب والنواح من بين بني البشر، وسيعم السرور الأرض كلها. ولن يموت أحد ثانية في غير أوانه، ولن تقع أي نائبة فجأة ... ولن تتألم النساء ثانية من حملهن، ولن يتوجعن وهن يضعن ما في أرحامهن. وستحل أيام لن يتعب فيها الحاصدون، ولن يصيب النصب البناة؛ إذ ستجري الأمور بسرعة من تلقاء نفسها بالنسبة لمن يؤدونها، وذلك في هدوء شديد.
يعرض سفر أخنوخ صورة مشابهة، وتوجد أيضا ممالك يحكمها المسيح على غرار العصر الذهبي في كتابات آباء الكنيسة الأوائل؛ ففي «القوانين الإلهية» كتب لاكتانتيوس يقول:
ستفتح الأرض باطنها وتخرج وافر ثمارها، وسينزل العسل من الجبال الصخرية، وستجري جداول من الخمر، ويجري اللبن بالأنهار؛ باختصار، سيبتهج العالم، وستتهلل الطبيعة بأسرها؛ إذ ستتحرر من سيطرة الشر وغياب التقوى، ومن الإثم والخطيئة.
شكل 5-2: أورشليم الجديدة الهابطة على الأرض موصوفة في سفر رؤيا يوحنا (الإصحاح 21، الآية 16). وهذا التصوير من منسوجة يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر.
وهكذا، في حين قد لا يتوفر سبيل لدخول جنة عدن، فثمة جنات بديلة ربما تكون متاحة.
رغم أن توقعات نهاية العالم والحكم الألفي للمسيح قد أسكتت بسبب مضامينها الراديكالية، فقد كانت ذات تأثير عظيم، ويمكن تتبع آثارها بطول العصور الوسطى، عندما أصبح محور تركيزها الأمل على قدوم آخر إمبراطور عادل يحكم العالم الذي كان من المفترض أن يقيم فترة من الإصلاح على الأرض قبل مجيء المسيح الدجال. ويمكن ملاحظة هذه التوقعات في الحركات السياسية في إنجلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وفي معتقدات البيوريتانيين الأمريكيين، والثورة الأمريكية في مرحلة لاحقة. ومؤخرا، ظهرت سلسلة الروايات الأمريكية «المخلفون» التي تضم 13 رواية، إضافة إلى قصص مصورة وأفلام وألعاب فيديو وكتب للأطفال، وغيرها من الأعمال ذات الصلة، وكلها تصف المتبقين على الأرض بعد الاختطاف؛ وهو معتقد يقوم على الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، وفيه ينتقل كافة المؤمنين الناجين من الأرض للسماء للقاء المسيح في وقت واحد، خلال الصراع بين الخير والشر وحتى المجيء الثاني للمسيح. (3) جزيرة القديس برندان وأرض برستر جون
أضيفت صورتان بالغتا التأثير إلى اليوتوبية المسيحية في العصور الوسطى؛ وهما: جزيرة القديس برندان، وأرض برستر جون التي تعود لأواخر القرن الثاني عشر. ظهرت جزيرة القديس برندان في الخرائط في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وعندما أبحر المستكشف فاسكو دا جاما (1460 / 1469 تقريبا-1534)، حمل رسائل إلى برستر جون؛ لذا ظل القديس برندان وبرستر جون حاضرين في الخيال المسيحي لقرون.
مع دخول المسيحية إلى أيرلندا، اصطبغت قصص الرحلات المأثورة المعروفة باسم «الإمراما» بصبغة مسيحية أو حلت محلها قصص رمزية مسيحية تستخدم الشكل نفسه. وكان أكثرها شهرة «رحلة القديس برندان»، التي ربما كتبت عام 800 ميلاديا، التي توجد منها عدة نسخ مختلفة بلغات شتى. وفي النسخة التي ربما تكون الأقدم، يبحث برندان وبعض رهبانه عن أرض القديسين الموعودة، الموصوفة بتعبيرات تدل على التقشف. وفي نسخ أخرى أكثر تفصيلا، يزور برندان ورهبانه الجنة، التي يحرس بابها تنانين وسيف عظيم، لكن يرحب بهم رسول الرب ويسمح لهم بدخول الجنة؛ حيث :
لن يشقى من يسكنها، ولن تهب عليها رياح عاصفة، ولن يكون بها حر ولا زمهرير، لا نصب ولا جوع، لا عطش ولا عوز. ستكون هناك وفرة من كل ما يشتهيه المرء، وسيطمئن الجميع أنهم لن يفقدوا أكثر ما يريدونه ويحتاجون إليه؛ فسيكون حاضرا لهم دائما وفي كل الأوقات.
أصبحت القصة العظيمة الأخرى، أرض برستر جون، من الأساطير المهمة التي تعود لأواخر العصور الوسطى. ومن المفترض أن جون ماندفيل زارها ووصفها في عمله «رحلات السير جون ماندفيل» (1499)، إلى جانب الكثير من الأماكن الحقيقية والخيالية، مثل مجتمع الأمازونيين وأحد الوحوش. أبحر كثير من المستكشفين لإيجاد تلك الأرض؛ وقال كثيرون عند عودتهم إنهم عثروا عليها. وسواء اكتشفت تلك الأرض أم لا، فقد ظلت السمات الأساسية لها كما هي تقريبا. كان برستر جون هو نموذج الحاكم المسيحي المقدس، والأرض التي كان يحكمها يمكن للمسيحي الحق أن يعيش عليها حياة مسيحية كاملة؛ وهو أمر لا يمكن تحقيقه في أي مكان آخر. ويجب أن تكون تلك الحياة المسيحية الكاملة يوتوبية. لا يمكن أن تكون حياة مثالية لأن الكمال يجب أن يرتقب الحكم الألفي للمسيح، ولكنها يمكن أن تكون أفضل بكثير في ظل حكم أمير مسيحي صالح لا في ظل أي نظام حكم آخر. أطلق على أحد أشكال الأدب في تلك الحقبة «دروس للأمراء»، وكان يخبر الأمراء بكيفية التصرف كي يكونوا أمراء مسيحيين صالحين؛ ومن ثم يحققوا حياة أفضل لكل رعاياهم.
كافة هذه الأوصاف للأماكن اليوتوبية هي استجابات تفصيلية للعنة خروج آدم وحواء من الجنة، لكن لا يمكن للجنس البشري الوصول لأي من تلك الأماكن دون تدخل الرب. حتى الصالحون لا يختارون أنفسهم ببساطة، بل يختارهم الرب. وهذا حقيقي أيضا بشأن اليوتوبيا الأخيرة؛ الفردوس. (4) الفردوس والجحيم
لا توصف الأحوال الحقيقية للجنة أو الفردوس على النحو الذي وصفت به جنان الأرض، إلا أن الفردوس شبيهة على نحو كبير بعصر من العصور الذهبية، باستثناء أنه ليس همها الأساسي هو المتعة مثلها. وبطبيعة الحال، لا يوجد هناك موت لأنه قد وقع بالفعل. وعادة لا يحتاج الوجود الروحي إلى الطعام أو المأوى أو الجنس أو العمل؛ فالتوحد مع الرب يوفر كل ما هو مطلوب للأبد.
قدم «نهاية العالم لبولس»، الذي يعود للقرن الرابع وأصبح مشهورا في المعتقد المسيحي الغربي، وصفا مبكرا للفردوس والجحيم أصبح جزءا من الثقافة الغربية. وكانت الفردوس جنة نموذجية على غرار جنات الأرض. وفيما يلي جزء من وصف تلك الجنة:
ونظرت في أرجاء تلك الأرض، ورأيت نهرا يتدفق فيه اللبن والعسل، وكانت هناك أشجار مزروعة على ضفة هذا النهر، مزدانة بالثمار؛ كل شجرة تثمر اثني عشر نوعا من الفاكهة في العام، فترى الواحدة تحمل ثمارا شتى ومتنوعة. وشاهدت المخلوقات الموجودة في هذا المكان وكل صنع الرب، وشاهدت هناك نخلا يبلغ طوله عشرين ذراعا، وشاهدت آخر يرتفع لعشر أذرع، وكانت الأرض تلمع ببريق يفوق الفضة سبع مرات. وكانت هناك أشجار حافلة بالثمار من جذورها حتى أعلى فروعها، وعشرة آلاف نخلة مثمرة تحمل فوقها عشرة آلاف ثمرة. وعدد كرمات العنب تبلغ عشرة آلاف، وفي كل كرمة عشرة آلاف عنقود، ويحمل كل عنقود ألف حبة عنب، وكل شجرة تحمل ألف ثمرة.
أما الجحيم، فكان رهيبا:
ورأيت هناك نهرا يغلي ماؤه وتتصاعد منه ألسنة اللهب، مغموسا فيه حشد من الرجال والنساء حتى ركبهم، وزمرة من الرجال حتى سراتهم، وآخرون حتى شفاههم، وآخرون حتى شعورهم ... ورأيت صوب الشمال مكانا تنزل فيه شتى صنوف العذاب على الرجال والنساء، ونهرا من النار يجري فيه.
وكانت نسخة القديس أوغسطين (354-430) المنقحة الخاصة بتصوير الفردوس والجحيم بوصفهما «مدينة الرب ومدينة الأرض» بالغة التأثير أيضا. قسم أوغسطين الأرواح، الحية منها أو الميتة، إلى الملعونين - وهم الأغلبية العظمى - والمختارين أو المنقذين. وبين الأحياء، يعلم الرب وحده إن كان أحدهم ينتمي لمدينة الرب أو مدينة الأرض، ويستحيل على الفرد أو أي شخص آخر أن يعرف ذلك؛ ومن ثم في حين يمكن أن توجد ديستوبيا في هذا العالم، فإنه لا يمكن أن توجد يوتوبيا.
إلا أن نسخة الجحيم التي تغلغلت في خيال الناس كانت النسخة التي صورها دانتي (1265-1321) في «الجحيم»، وهو الجزء الأول من عمله «الكوميديا الإلهية»، بما ضمته من تسلسل درجات المذنبين المنزل بهم شتى صنوف العذاب. وأكثر الصور شيوعا هي صورة النار، المصورة في عمل دانتي، رغم أن الدائرة الداخلية التي يعلوها الشيطان الموجودة في وسط الجحيم الأعمق مجمدة في الواقع.
ورغم أنه في المسيحية يمكن أن يحدث المجيء الثاني للمسيح في أي وقت، فمن المستحيل معرفة توقيت حدوث ذلك، ولا يستطيع أي شخص التأكد إن كان من بين الناجين أم لا. أجريت حسابات كثيرة حول التاريخ الذي سيحدث فيه ذلك، وكانت هناك مقترحات بشأن كيفية تحقيقه، لكن بمرور الوقت خبا ترقب غالبية المسيحيين، وليس كلهم، لهذا الأمر. وكان هذا الموقف غير مقبول، فلم يسع البشر الإيمان بأن الحياة لا يمكن تحسينها، وتساءلوا عن الشكل الذي ستكون عليه الحياة الأفضل وكيفية بلوغها.
اجتمعت الكتابات عن نهاية العالم والحكم الألفي للمسيح لدى يواكيم الفلوري (1135 تقريبا-1202)، الذي أثر - على نحو مباشر أو غير مباشر - على أجيال من الكتاب اللاحقين عليه. تنبأ يواكيم أنه سيأتي عصر ثالث لم يحن بعد، وفيه ستقوم حالة روحية جديدة من الوجود بتغيير المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة، بما فيها الكنيسة، وسيكون الأمر أشبه باليوتوبيا.
إن العناصر اليوتوبية في كتابات يواكيم وفي فكر أغلب أتباعه - على اختلافهم - كانت صورة غامضة بوجه عام لفكرة الحكم الألفي للمسيح، رغم أنه كان هناك الكثير من الطوائف المنشقة في الحقبة ذاتها تقريبا، التي كانت لها مفاهيم مختلفة عما ستكون عليه الحياة في ظل هذا الحكم، لكن لم تتضح معالم الحياة في ظل هذا الحكم إلا في عهد حركة الإصلاح الراديكالية؛ إذ قدم - على سبيل المثال - عمل ماري كاري «سقوط وهلاك القرن الصغير» (1651) وصفا تفصيليا لليوتوبيا التي ستسود في تلك الفترة. ثم تطورت وازدهرت العناصر الراديكالية الكامنة في المسيحية، وداعبت الكثير من اليوتوبيات المخيلات وجرى تطبيقها على أرض الواقع. (5) علم اللاهوت المسيحي الحديث
ذهب كريشان كومار في عمله «الدين واليوتوبيا» إلى وجود تناقض عميق بين الدين المسيحي واليوتوبيا؛ فاليوتوبيا تنتمي لهذا العالم، والدين بالنسبة لكثيرين معني في الأساس بالحياة الآخرة؛ ومن ثم فاليوتوبيا ضرب من الهرطقة. فعلى سبيل المثال، كتب توماس مولنار، الفيلسوف المجري-الأمريكي الكاثوليكي (المولود عام 1921) يقول: «الفكر اليوتوبي في حد ذاته شر.»
الحجة الدينية المناهضة لليوتوبية أبسط كثيرا من الحجة المؤيدة لها؛ لأنها مبنية على الافتراض الشائع بأن اليوتوبية تقوم في الأساس على رفض الخطيئة الأصلية. اعتاد عالم اللاهوت رينهولد نيبور (1892-1971) مهاجمة ما أطلق عليه «الأوهام اليوتوبية والضلالات العاطفية للثقافة الليبرالية الحديثة المستمدة كلها في الواقع من الخطأ الأساسي المتمثل في إنكار الخطيئة الأصلية.» خالف آدم وحواء أمر الرب وعوقبا بالطرد من جنة عدن إلى حياة من النصب والألم والخوف والموت. وأي اعتقاد بأن تلك العقوبات يمكن أن يتغلب عليها من خلال فعل الإنسان من المؤكد أنه ضرب من الهرطقة.
والحجة المؤيدة لليوتوبية تقوم على رسالة المسيح وخدمته، التي تعتبر يوتوبية من منطلق أنها كانت موجهة غالبا نحو مشاكل البشر التي يمكن لفعل الإنسان أن يحلها. ذهب علماء لاهوت مثل بول تيليخ (1886-1965) إلى أن العناصر اليوتوبية في المسيحية، لا سيما طبيعتها الأخروية منها، مصدر جوهري من مصادر قوتها. علاوة على ذلك، أدمج كتاب ماركسيون من أمثال إرنست بلوخ العناصر المسيحية الأخروية في مذهبهم الماركسي، وتمخض عن ذلك «لاهوت» لا ديني من الأمل. أصبح هذا الخلاف مهما على نحو خاص في القرن العشرين مع نشوء حركة الإنجيل الاجتماعي، والاشتراكية المسيحية، والمنافسة الجادة التي شكلتها أنظمة عقائدية أخرى كالشيوعية للمسيحية.
يعتبر تيليخ من أبرز مؤيدي اليوتوبيا من بين علماء اللاهوت المسيحي الحديث، والذي كتب يقول: «أعتقد أنه يمكن إثبات أن لليوتوبيا أساسا في وجود الإنسان.» فبالنسبة لتيليخ، نحن يوتوبيون لأننا بشر، واليوتوبيا هي في المقام الأول رفض أو «إنكار لما هو سلبي في الوجود الإنساني»؛ فكافة اليوتوبيات هي وسائل تمثل تغلب الإنسان على تناهيه. وتتمتع اليوتوبيا بقسمات من الحقيقة «لأنها تعبر عن جوهر الإنسان، الهدف الداخلي من وجوده، وتبدي ما يكنه الإنسان كهدف ، وما يجب أن يحققه في المستقبل كشخص.» إلا أن اليوتوبيا تتمتع أيضا بقسمات من الباطل؛ لأنها «تنسى تناهي الإنسان وعزلته، وتنسى أن الإنسان بوصفه متناهيا يجمع بين الوجود واللاوجود، وأن الإنسان بموجب مقتضيات الوجود منفصل دائما عن وجوده الحقيقي.» إضافة لذلك، اليوتوبيا مفيدة ومضرة في نفس الوقت؛ لأنها تفتح الباب أمام أشياء جديدة يمكن للبشرية القيام بها، ولكنها في الوقت نفسه توحي بأن الأشياء المستحيلة هي في الواقع ممكنة. اليوتوبيا مهمة لأنها «قادرة على تغيير المسلم به»، وهي غير مجدية لأنها «تؤدي حتما إلى التحرر من الوهم.» ويختتم كلامه بالإشارة إلى أمل مقيد، زاعما بأن اليوتوبيا دائما ما تكون معلقة بالضرورة بين «الإمكانية والاستحالة».
علاوة على ذلك، دفع الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر (1878-1965)، صاحب كتاب «مسارات في اليوتوبيا» (المنشور بالعبرية في عام 1946، وبالإنجليزية عام 1949)، بأهمية اليوتوبية لكل من اليهودية والمسيحية، معتبرا أن اليوتوبيا هي التطبيق العملي للإيمان بفكرة المخلص الذي سينقذ العالم في كلتا الديانتين. لكنه حذر من خطر تحويل اليوتوبيا إلى مخطط يجب اتباع خطواته.
بتقديم اليوتوبيا صورا بديلة للمستقبل، فإنها تتحدى الحاضر لتبرير نفسها بقيم تسمو فوق مسائل السلطة الراهنة. وتؤكد اليوتوبيا على أن الحياة للبشر، وأنه ينبغي تصميم المجتمع بحيث يلبي احتياجات جميع أعضائه.
لوحظت مؤخرا وظيفة المعارضة التي تقوم بها اليوتوبيا في حركة «لاهوت التحرير»، والتي كانت لها على نحو واضح رؤية يوتوبية في «اختيارها التمييزي للفقراء» وتضمنت شكلا من أشكال المجتمعات المقصودة عرف ب «جماعات الأساس»، بوصفه جزءا جوهريا من إحداث التغيير الاجتماعي. كانت الحركة صريحة في معارضة دعم الكنيسة للأغنياء والأقوياء في أمريكا الجنوبية. وبقيامها بذلك، فقد احتكمت إلى المساواة التي دعا لها المسيح والقديس فرانسيس على وجه الخصوص. ويشير جوستافو جوتيريز (المولود عام 1928) - وهو عالم لاهوت بيروفي وأحد مؤسسي الحركة - صراحة إلى الوظيفة اليوتوبية في حركته اللاهوتية. ومع تجاوز الحركة لحدود الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي قمعتها، إلى المذهب البروتستانتي، وإلى لاهوت السود على وجه الخصوص، أضافت عنصر العرق ثم النوع إلى الطبقة.
واليوم، ثمة مجتمعات مقصودة مسيحية كثيرة، بعضها مغال في التحفظ، وبعضها مبالغ في الراديكالية، محاولين أن يعيشوا الحياة التي يعتقدون أن المسيحية تقتضيها منهم. ويميل المحافظون منهم إلى الانعزال عن المجتمع الأكبر، في حين يتجه الراديكاليون منهم إلى الانخراط مباشرة في المجتمع الأكبر.
ومن ثم تستمر العلاقة الوثيقة بين المسيحية واليوتوبية حتى في الوقت الذي يؤمن فيه كثير من المسيحيين أنها ضرب من الهرطقة.
الفصل السادس
اليوتوبية والنظرية السياسية
تبدأ اليوتوبية بعدم الرضا وتقول إن احتياجات الإنسان يمكن إشباعها إن تم توفير ظروف معينة. وأبسط حالات عدم الرضا تؤدي إلى أبسط حالات الإشباع وأبسط صور اليوتوبيا، التي لم يتم الوصول إليها في معظم العالم؛ معدة خاوية تملأ، جسد عار يستر، سكن للوقاية من التعرض للعوامل الجوية. لكن بعض منتقدي اليوتوبية ربطوها ببعض مشكلات القرن العشرين، مثل الحربين العالميتين وعمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا ورواندا. وعلى وجه الخصوص، نظر إلى الشيوعية والنازية، وحديثا الحركة الإسلامية، التي يؤمن أتباعها أنها سبل لحياة أفضل، بوصفها الأساس لما أطلق عليه القرن العشرين الديستوبي. وعلى الجانب الآخر، يدفع مؤيدو اليوتوبية بأنها كانت الركيزة الأساسية للتغلب على أسوأ مآسي القرن العشرين، وأنها ضرورية من أجل استمرار الحضارة، بل وجزء جوهري من بشرية الإنسان. وإلى حد ما، كلاهما على حق.
بعد عام 1989، مع سقوط حائط برلين وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي (لا تزال الشيوعية الأيديولوجية الرسمية في الصين وكوبا ولاوس وفيتنام)، نشر الكثير من الأعمال التي تعلن نهاية اليوتوبيا، تماما كما كانت هناك أعمال تتوقع نهاية الأيديولوجية في خمسينيات القرن العشرين. زعمت تلك الأعمال التي تتحدث عن «نهاية اليوتوبيا» أن مناهضي اليوتوبيا قد فازوا في الصراع بين مؤيديها ومناهضيها. ولأسباب واضحة، ظهر هذا الموقف على أقوى نحو في ألمانيا؛ فبسبب معاناة الكثير من الألمان من كل من النازية والشيوعية، سعدوا بالاعتقاد بأن اليوتوبيات لم تعد تهددهم، لكنهم اعتقدوا أيضا أن نهاية اليوتوبيا ستؤتي لهم بحياة أفضل. والآن لا يرى الجميع أنها فعلت ذلك، ويرى كثيرون، لا سيما في ألمانيا الشرقية السابقة، أن الحياة كانت أفضل في ظل الشيوعية؛ لأنهم شعروا - رغم الفقر وانعدام الحرية - أنهم كانوا يتمتعون بالأمن الاقتصادي، وفي شعورهم هذا لا يمكن اعتبارهم محقين تماما ولا غير محقين تماما. وهكذا نرى مجددا ظاهرة تخيل الوصول لليوتوبيا ثم اكتشاف أنها غير ملائمة، وبداية رحلة السعي وراء يوتوبيا أخرى ستكون غير ملائمة هي الأخرى. ويقيم مناهضو اليوتوبيا تلك العملية على نحو سلبي بينما يقيمها المؤيدون لها على نحو إيجابي. (1) الحجة المناهضة لليوتوبيا
أعتبر أن ما أطلق عليه «اليوتوبية» نظرية جذابة، وفي الواقع مبالغ في جاذبيتها؛ لأنني أعتبرها أيضا خطرة وخبيثة. أعتقد أنها عقيمة وتفضي إلى العنف.
كارل بوبر
في أغلب الفظائع التي حدثت، ثمة حلم يوتوبي كبير؛ مجتمع أنظف أو مجتمع أنقى.
ريتشارد موليكا
أكثر الأساليب التي يستخدمها مناهضو اليوتوبية في الهجوم عليها شيوعا هو المساواة بين ما هو يوتوبي وما هو مثالي. تعني كلمة «مثالي» كامل أو مكتمل أو غير قابل للتغيير؛ ولا شيء يتصل بالبشر كامل أو مكتمل أو غير قابل للتغيير؛ ومن ثم فالمساواة هنا تجعل اليوتوبيا تبدو حمقاء أو - على الأقل - غير حكيمة. وقد كتبت جوديث سلار، المنظرة السياسية، أن «اليوتوبيا - منتج الأخلاقيين - هي بالضرورة كل متكامل متجانس لا يتغير.» وقد كتب عالم الاجتماع رالف داريندورف (المولود عام 1920)، الذي أصبح مدير كلية لندن للاقتصاد، أن «جميع اليوتوبيات من «جمهورية» أفلاطون حتى عالم جورج أورويل الجديد الرائع في «1984» تشترك في عنصر بنيوي واحد؛ وهو أنها كلها مجتمعات يغيب التغيير عنها.» وكتب ليشك كولاكفسكي، الفيلسوف البولندي، أن إحدى ما يطلق عليها «السمات العامة» للتفكير اليوتوبي هي «فكرة الأخوة البشرية المثالية الخالدة».
عدد قليل جدا من اليوتوبيات الحقيقية هي التي تدعي تمتعها بقدر من المثالية؛ فلم يدع أفلاطون أو ماركس، مصدرا اليوتوبية اللذان تناولهما بوبر، أنهما يتحدثان عن الكمال. أمضى أفلاطون قسما كبيرا من «الجمهورية» يدفع بأن دولته المثالية يجب أن تسقط لا مناص. وكان ماركس واضحا عندما ذكر أنه لا يعرف، وليس بمقدوره أن يعرف ، ما سيحمله المستقبل، وطبيعية المجتمع الذي ربما يخلقه الأشخاص المنعزلون. ووصفه المكون من جملة واحدة لمثل هذا المجتمع في عمله «الأيديولوجية الألمانية» (1845-1846) يؤكد على التنوع والتغير. وفي رواية «رجال كالآلهة» (1923)، يعرض إتش جي ويلز يوتوبيا تمر بتغيرات ضخمة، فيها يشبه السكينة الظاهرة لليوتوبيا ب «ثبات تيار الماء المتدفق الذي يدير عجلة الطاحونة، الذي يبدو ساكنا في تدفقه الهادئ حتى تمر به فقاعة هواء أو زبد أو عصا أو ورقة شجر فتكشف عن سرعته.»
وكثير من اليوتوبيات عبارة عن صورة أو لمحة من مجتمع موجود في لحظة من الزمن يضم ما يراه المؤلف أفضل، ومصمم لتحطيم حواجز الحاضر، وتشجيع الناس على التغيير والعمل من أجله. تجيد أغلب اليوتوبيات تصوير التغيير من الظروف الحالية إلى اليوتوبيا عن تصوير التغيير داخل اليوتوبيا، وبعضها يقصر عن عمد التغيير داخل اليوتوبيا على افتراض أنه لا ينبغي تغيير شيء جيد دون تفكير متأن، إلا أن كثيرا من اليوتوبيات ترحب بإمكانية التغيير كما فعل اليوتوبيون في عمل مور عندما علموا بأمر المسيحية. ويتتبع عدد كبير آخر خطى رواية «أطلانتس الجديدة» (1627) لفرانسيس بيكون (1561-1626) في إرسال الناس إلى العالم الخارجي، عادة لأماكن غير معلومة، لاكتشاف أي ما يكون مفيدا لليوتوبيا. وهذا يشير إلى الانفتاح على التغيير. لا ينتهي التاريخ بظهور اليوتوبيا؛ فالتغيير قد يكون أبطأ، لكن التغيير - ومن ثم المستقبل - سيحدث.
ثمة حجة أخرى بأن اليوتوبية تفترض أن جميع اليوتوبيات تقوم على العقلانية البشرية، وأن البشر عقلانيون جزئيا فحسب. يقول جاكوب تالمون (1916-1980)؛ أستاذ التاريخ الحديث بالجامعة العبرية بالقدس في هذا الشأن:
تقوم اليوتوبية على افتراض أن العقل وحده - لا العادة ولا التقليد ولا التحيز - يمكن أن يكون المعيار الوحيد الحاكم في الشئون الإنسانية. لكن حتى يكون هذا الافتراض صحيحا، يجب على العقل - كالرياضيات - أن يحظى بموافقة عامة؛ لأن له صحة واحدة وحصرية. في الواقع، اتضح أن العقل أكثر أدوات التوجيه تقلقلا وعرضة للخطأ؛ لأنه لا يوجد ما يمنع مجموعة مختلفة من «العقول» من الظهور دون سابق إنذار، وأن يدعي كل منها صحته الوحيدة والحصرية ، ولن يكون هناك حل وسط أو شيء يحتكمون إليه سوى القوة.
يقدم بوبر حجة مشابهة فيقول:
لا يمكن الإبقاء على النهج اليوتوبي إلا عن طريق الاعتقاد الأفلاطوني في مثل أعلى مطلق غير قابل للتغيير، إلى جانب افتراضين آخرين؛ هما: أنه توجد وسائل عقلانية لتحديد هذا المثل الأعلى على نحو حاسم، وكذلك وجود طرق مثلى لتحقيقه.
وهذه الحجة مشابهة للزعم الذي ساقه توماس هوبز (1588-1679)؛ فيلسوف القرن السابع عشر الإنجليزي، في كتابه «لفياثان» (1659)، بأنه بسبب غياب «العقل السليم»، ستكون العيشة في الحالة الطبيعية للإنسان «فقيرة وكريهة وبهيمية وقصيرة.» لكن يخلص هوبز إلى أنه من ثم يجب أن يؤسس نظام الحكم بوصفه «العقل السليم»؛ فهذا هو السبيل الوحيد لضمان الأمن الذي سيتيح بلوغ حياة كاملة؛ ولهذا السبب وصف البعض عمل هوبز هذا بأنه يوتوبيا.
شكل 6-1: كان كارل بوبر (1902-1994) من بين أهم فلاسفة العلم في القرن الماضي. ولد بوبر وتلقى تعليمه في النمسا، وقضى أغلب حياته العملية في كلية لندن للاقتصاد. وكتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» (1945) (إضافة إلى عدد من الطبعات اللاحقة) هو أهم إسهاماته في الفكر الاجتماعي والسياسي.
يدفع بوبر بوجود عملية من الإصلاح المتأني، يطلق عليها «الهندسة الاجتماعية الجزئية»، بدلا من «الهندسة اليوتوبية»، ويقول إنه عوضا عن النهج اليوتوبي، ينبغي أن نحاول الحد من «الشرور الواقعية». وفي إطار إقامته لحجته، يقارن بوبر بين صنفين من العقل، صنف يطلق عليه المنطق، وهو ما يؤيده، والصنف الآخر يساوي بينه وبين اليوتوبية؛ لأنه يقتضي غاية محددة - اليوتوبيا. وما هو عقلاني بالنسبة له يتحدد حسب علاقته بتلك الغاية، وهو شيء على غرار «الغاية تبرر الوسيلة».
غالبا ما يستخدم مناهضو اليوتوبية مثل بوبر كلمة «مخطط» لوصف اليوتوبيات، وهي كلمة يرفضها أغلب مؤيدي اليوتوبيا رفضا باتا. وقد كتب المنظر السياسي الأمريكي جورج كاتب (المولود عام 1931) أن «أي مفكر يوتوبي جاد لن يشعر بالراحة تجاه فكرة المخطط، لفكرة التوصيات المفصلة لكل منحى من مناحي الحياة.» بعبارة أخرى، إن الحجة المؤيدة لليوتوبية تقول بأن اليوتوبيات لا تخلق الأدوات التي يقول بوبر وآخرون إنها تخلقها.
لكن مناهضي اليوتوبية ليسوا مخطئين تماما في وصفهم لما يمكن أن يحدث إن آمن شخص، أو مجموعة يتمتعون بالسلطة لفرض إرادتهم على الآخرين، بأن اليوتوبيا هي الحل الوحيد لمشاكل البشرية. ولا يبتعد هذا عن اليوتوبيا سوى بضع خطوات؛ حيث يجب أن تتحول اليوتوبيا أولا إلى أيديولوجية (منظومة من الأفكار)، ويجب أن يتمتع المؤمنون بها بسلطة، كما حدث مع الشيوعية في روسيا، والنازية في ألمانيا، وفي كمبوديا في ظل حكم بول بوت (1928-1998). لكن حتى إن قبلنا بوجود يوتوبيات جاءت على إثر الفظائع التي ارتكبت باسمها، لم يتمثل في أي منها اليوتوبيا المفصلة التي وصفها مناهضو اليوتوبيا. كانت اليوتوبيات غامضة تماما؛ ولم تكن محددة إلا في أجزاء منها، وظهرت المشكلة عندما أعطي الأفراد سلطة تحديد التفاصيل ومحاولة جعل مجتمعاتهم تمتثل لتلك التفاصيل. وقد عرض آدم سميث (1723-1790)، الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي، هذه المسألة على نحو بديع، فكتب:
الرجل الذي لديه نظام يسعى لفرضه على الآخرين ... عادة ما يكون حكيما جدا في خيلائه، وكثيرا ما يكون متيما بالجمال المفترض لخطة الحكم المثالية التي يؤمن بها، لدرجة أنه لا ينحرف قيد أنملة عن أي جزء منها، ويمضي في تطبيقها على نحو كامل وبكل تفاصيلها، دون أي اعتبار للمصالح العليا أو التحيزات القوية التي قد تعترض عليها. يبدو أنه يتخيل أنه بمقدوره ترتيب القطع المختلفة على رقعة شطرنج، ولا يدرك أن القطع على رقعة الشطرنج لا يحكمها أي قانون آخر للحركة باستثناء القانون الذي تفرضه اليد التي تحركها؛ لكن على رقعة الشطرنج الكبرى التي تضم المجتمع الإنساني، لكل قطعة مفردة قانون حركة خاص بها يحكمها، مختلف تماما عن القانون الذي ترتئي الجهة التشريعية أن تفرضه عليها. فإن توافق كلا القانونين وعملا في نفس الاتجاه، فإن لعبة المجتمع الإنساني ستستمر بسلاسة وتناغم، وأغلب الظن أن اللعبة ستكون ناجحة وسعيدة. أما إن كانا متعارضين أو مختلفين، فستسير اللعبة على نحو بائس، وستجد المجتمع في كل الأوقات في أشد درجات الاضطراب.
يعبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) عن تلك الإشكالية على نحو بارع، فكتب يقول: «من الضلع البالغ الاعوجاج المخلوق منه الإنسان، لا يمكن بناء شيء قويم تماما»؛ فمن يريدون إجبار «ضلع الإنسانية الأعوج» على الاستقامة ويتمتعون بالسلطة للمحاولة هم المشكلة، وليس الاعتقاد بأن العالم يمكن أن يكون أفضل. وحتى بوبر يجب أن يكون لديه تصور عن المقصود بكلمة «أفضل» عندما يؤيد التخلص من «الشرور الواقعية». يحمل أحد أعماله - الذي هو عبارة عن مجموعة من المقالات - عنوان «بحثا عن عالم أفضل» (1992)، ورغم أن بقية العمل مناهض لليوتوبية، فإن الجملة الأولى منه هي: «المخلوقات كافة تبحث عن عالم أفضل.»
لكن من الممكن أن ينخدع الناس. يعلق على تلك النقطة آرثر كوستلر (1905-1983)؛ الكاتب الذي كان شيوعيا من عام 1931 حتى عام 1938، في عمله «ممارس اليوجا والمفوض»، فيقول:
إن قمة اليوتوبيا شديدة الانحدار، والطريق المتعرج كالحية الذي يؤدي إليها محفوف بمنحنيات ملتوية عديدة. وأنت في طريقك لأعلى لا ترى مطلقا القمة، بل ترى الطريق أمامك، الذي يقودك إلى لامكان. إذا تقدمت جمهرة ضخمة من الناس على الطريق المتعرج، فإنهم - حسب قوانين القصور الذاتي المهلكة - سيدفعون بقائدهم بعيدا عن جادة الطريق ثم سيتبعونه، وستكون الحركة كلها عبارة عن سير في مسار إلى لامكان.
المشاكل التي يشير إليها كوستلر هنا، وفي عمله الشهير «ظلام في الظهيرة» (1940)، وفي إسهامه في عمل «الرب الذي فشل» (1950)؛ هي مشاكل الإيمان وميل بعض المؤمنين لاتباع القائد أينما ذهب، حتى إن كان ذلك إلى ديستوبيا أو حتى إلى الموت، كما حدث في حالات الانتحار الجماعية في جونزتاون. (2) الحجة المؤيدة لليوتوبيا
السمة المميزة لليوتوبية هي أنها نظرية سياسية هدفها الأساسي خلق السعادة البشرية.
جودوين وتايلور
لم أفهم قط سبب الاعتقاد السائد بأن التهمة الموجهة لليوتوبية هي أن هدفها الاعتراض على نظرية سياسية؛ فبالتأكيد أحد التطلعات المشروعة للنظرية الأخلاقية والسياسية هو أن تبدي لنا مسارات الفعل التي يجب أن نلتزم بالسير فيها من خلال القيم التي نقر بقبولها.
كوينتن سكينر
إضافة إلى تأكيد المؤيدين لليوتوبية أنها ليست ما يقوله عنها المناهضون لها ، فإنهم يزعمون أن اليوتوبية ضرورية، وأحيانا ما يبالغون لدرجة أنهم يعرفون البشر بأنهم الحيوانات التي تخلق اليوتوبيات. وقد رأى إرنست بلوخ اليوتوبيا في كل مكان؛ ففي كتابه «مبدأ الأمل» (1955-1959)، الذي صدرت الترجمة الإنجليزية منه في عام 1987، يبدأ تحليله لليوتوبيا بحقيقة أننا نحلم أحلام يقظة؛ أحلاما نأمل فيها صراحة في الحصول على شيء ينقصنا. وأغلب مثل تلك الأحلام ليست يوتوبية على نحو خاص، من منطلق أنها تركز على أنفسنا ولا تشمل الآخرين إلا لإشباع احتياجاتنا ورغباتنا. وهي أغلب الظن تدور حول الغذاء والجنس، والتحرر من العمل أو المديرين، لا حول التخلص من الجوع، وإشاعة السلام العالمي، والمساواة والحرية للجميع. إلا أن هذين البعدين وثيقا الصلة. يقول في هذا الشأن الباحث في مجال الدراسات الكلاسيكية إم آي فينلي (1912-1986):
يكتنف أشكال التفكير اليوتوبي كافة عنصر من الفانتازيا، أو من الحلم، أو - على الأقل - من الاشتياق لحياة أفضل وعالم أفضل. والناس كافة يحلمون بتلك الطريقة فيما يتعلق بأنفسهم وأسرهم، إن لم يكن فيما يتعلق بالمجتمع عامة أو العالم ككل.
شكل 6-2: كان إرنست بلوخ (1885-1977) فيلسوفا ماركسيا ألمانيا، ويعتبر كتابه «مبدأ الأمل» (الذي ظهر في ثلاثة أجزاء فيما بين عامي 1955 و1959، وصدرت ترجمته الإنجليزية في عام 1987) تأريخا لليوتوبية بكل تجسيداتها، وأيضا حجة مؤيدة للدور المهم الذي تلعبه في الفكر السياسي.
إلا أن أحلام اليقظة لا تصل بنا لبعيد؛ إذ إنها علامة على استيائنا أكثر من كونها مرشدا للتغيير.
بالنسبة لبلوخ، اليوتوبيا هي «الحلم المستقبلي»، وما لم يتحقق «حتى الآن» جوهري لفهمه لليوتوبيا. وتحمل كلمة «الآن» أهمية خاصة؛ إذ توحي بأن اليوتوبيا تعبر عما هو ممكن. يشير بلوخ إلى «أننا لا نسأم من رغبتنا في تحسين الأوضاع»، وأن «الانجذاب نحو ما نفتقر إليه لا ينتهي.» لكن مثل تلك الرغبة ينقصها التوجيه، فيجب أن تصبح دافعا أو حاجة، ويجب أن تنتقل مما يطلق عليه بلوخ «اليوتوبيا المجردة» إلى «اليوتوبيا الواقعية»، من يوتوبيات منفصلة عن الواقع الإنساني إلى أخرى مرتبطة به. وهو لا ينكر الدافع الذي يؤدي إلى اليوتوبيا «المجردة »؛ إذ يؤمن أن التفاؤل أفضل من التشاؤم، وأن اليوتوبيا المجردة تعبر عن الأمل، حتى إن كان هذا الأمل منفصلا عما هو ممكن. لكن اليوتوبيا الواقعية هي اليوتوبيا المضمنة في فهم الواقع الحالي، وتتصل بإمكانية إجراء تحسين اجتماعي فعلي ذي أهمية.
وفي نفس السياق، وصف فريدريك إل بولاك، عالم الاجتماع الهولندي، ما أطلق عليه «صور المستقبل الإيجابية»، التي يزعم أنها تجذبنا إلى الاتجاه الصحيح. كما يقول بولاك إن «اليوتوبيا تهدف إلى إعلاء الكرامة الإنسانية من خلال جهودنا.» ويذهب إلى أن اليوتوبيا متأصلة في القدرة البشرية على تحقيق الكرامة.
ثمة قضية مركزية في مسألة اليوتوبيا؛ وهي: هل النظام الاجتماعي الأفضل هو ما يتيح للناس أن يصبحوا أفضل، أم أن الأشخاص الأفضل هم من يخلقون نظاما اجتماعيا أفضل؟ كلا جانبي القضية يطرحان مسألة كيفية البدء؛ فيطرح الأول سؤالين: من أين يأتي النظام الاجتماعي الأفضل؟ وهل يمكن خلقه من جانب الأشخاص المتمثلين فينا الآن؟ والثاني يطرح سؤالا واحدا: من أين يأتي الأشخاص الأفضل؟
النظام الاجتماعي الأفضل الذي يتيح ظهور أشخاص أفضل هو النموذج اليوتوبي الكلاسيكي، وهو محور تركيز أغلب الهجوم الذي يشنه مناهضو اليوتوبية. وفي هذا النهج، يكتب عمل يوتوبي بقصد استخدامه - أو بدون قصد ذلك - نموذجا لتحقيق مستقبل أفضل؛ على سبيل المثال، قال إدوارد بيلامي إنه قصد ذلك، ولم يقصده في الوقت عينه، عند كتابة روايته الشهيرة «نظرة إلى الماضي»؛ فاليوتوبيا تجتذب أتباعا لها، كما فعلت رواية بيلامي، وتنشأ الحركات الاجتماعية والسياسية لمحاولة وضع بعض أجزاء اليوتوبيا - على الأقل - موضع التنفيذ. وأحيانا ما تتأسس مجتمعات مقصودة للغرض نفسه، وكثيرا على أمل أن إقامة نموذج ناجح سيقنع الآخرين بأهمية اليوتوبيا. وقد حدث ذلك في حالة رواية بيلامي، رغم أنه عارض تلك المجتمعات.
وحيث ينتظر من أناس أفضل أن يخلقوا نظاما اجتماعيا أفضل، فإن مشكلة المكان الذي سيأتي منه هؤلاء الأشخاص يحلها في أغلب الأحيان الدين. وثمة موضوع شائع في اليوتوبيات المسيحية، وهو أن الناس يمارسون فيها تعاليم المسيح ، وبذلك يحققون عالما أفضل. يمكن أن يبدأ ذلك برجل دين ملهم أو بشخص يضرب مثلا يختار الآخرون أن يتبعوه، كما في رواية تشارلز إم شيلدون (1857-1946) «على خطاه: «ماذا كان سيفعل المسيح؟»» (1897). تقوم اليوتوبيات المسيحية الأخرى على المجيء الثاني للمسيح، لكن ثمة الكثير من الأعمال الساخرة التي تتناول المجيء الثاني للمسيح، وتشير إلى أن المسيح سيلقى رفضا، كما في مشهد «المحقق الكبير» في رواية «الإخوة كرامازوف» (1880) للروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881).
عندما تصمم يوتوبيا بحيث تكون بديلا واقعيا، لا يكون القصد منها أن تكون مجتمعا قابلا للتحقق بكافة تفاصيله، لكن وسيلة لتقديم بديل للحاضر. ومن هذا المنطلق، اليوتوبيا هي مرآة للحاضر مصممة لإظهار عيوبه لتوضيح السبل التي يمكن أن تكون بها الحياة أفضل، وليس بالضرورة السبل التي ينبغي أن تكون بها الحياة أفضل.
ولأننا ننشأ في مجتمع معين ويكون علينا قبول آرائه، يحتمل ألا نكون قادرين على امتلاك الوعي النقدي لوضعنا؛ فيمكننا أن نعتبر غياب الحرية حرية، وانعدام المساواة مساواة، وفقدان العدالة عدالة. والمنظومات العقائدية السائدة قادرة على أن تعمي أبصار الناس عن حقيقة أوضاعهم. ويحاول الحلم اليوتوبي أن يخترق المواقف التي تميل إلى القبول بالوضع الراهن، ويمكن أن يكون هذا تجربة قاسية؛ لأنها تشير إلى أن واقعنا الحالي خطأ.
يصور منظران اجتماعيان معاصران، وهما: فريدريك جيمسون (المولود عام 1934) وزيجمونت باومان (المولود عام 1925)، الازدواجية الراهنة بشأن اليوتوبيا؛ فقد كانت اليوتوبيا محورية في فكر جيمسون، بدءا من كتابه «الماركسية والشكل» في عام 1971 وحتى «حفريات المستقبل» في عام 2005، وقد ناقش اليوتوبية بوجه عام، إضافة إلى عدد من الأعمال اليوتوبية. وهو يدفع بأن اليوتوبية إيجابية لأنها تفتح الباب أمام إمكانية التغيير المستقبلي، لكنه أيضا يقول بأن «اليوتوبيات تتحدث عن الفشل، وتطلعنا على المزيد عن حدودنا ونقاط ضعفنا أكثر ما تطلعنا على المجتمعات المثالية.» ويؤكد جيمسون على أن أغلب محاولات تخيل اليوتوبيات تكشف عن استحالتها؛ لأننا مرتبطون بالثقافة والأيديولوجية، وهذا يمنعنا من الانفصال عن واقعنا لتخيل أي شيء مختلف جذريا، حتى إن كان أفضل. ويؤكد أيضا في الوقت نفسه على أهمية الاستمرار في المحاولة، ضاربا المثل بأهمية اليوتوبيات النسوية والاشتراكية التي حاولت تخيل عوالم تخلو من الهيمنة على أساس النوع أو التراتب الطبقي.
ومن منظور مختلف نوعا ما، يقيم باومان حجة مشابهة؛ ففي كتابه «الاشتراكية: اليوتوبيا العاملة» (1976)، يقول بأن اليوتوبيا معنية بإمكانية الوصول إلى الكمال (العملية) لا الكمال نفسه (الغاية). واليوتوبيا تحض على التحرر من منطلق أنها بإمكانها أن تساعد على تحرير «النفس من السيطرة العقلية والمادية الطاغية لما هو روتيني واعتيادي و«طبيعي».» ولاحقا قال إن اليوتوبيات الخاصة بالحقبة التي يطلق عليها الحداثة «الصلبة» تؤكد فعليا على الكمال، الذي يقارنها بحقبة ما بعد الحداثة «المائعة». وكتب أنه في الحداثة:
اليوتوبيا هي رؤية لعالم مراقب، مرصود، موجه عن كثب ومدار يوميا. وفوق كل شيء، هي رؤية لعالم مسبق التصميم، عالم فيه التنبؤ والتخطيط يلغيان دور الصدفة.
إلا إنه يستمر في الدفع بأن اليوتوبيا جانب جوهري من بشرية الإنسان، فيقول:
أن تقارن الحياة «بوضعها الراهن» بحياة «مثالية» (أي حياة «يتخيل» أنها مختلفة من الحياة «الحالية»، لا سيما حياة أفضل؛ ومن ثم تكون «مفضلة» عن الحياة الحالية) هي سمة مميزة وأساسية للبشر.
إلا أنه لا يحب يوتوبيات ما بعد الحداثة، التي يرى أنها يغلب عليها الطابع الخاص والاستهلاكي والفردي والوحدوي، فيقول:
كل يوتوبيا مصممة خصيصى بما يخدم مصلحة الفرد، وبما يحقق استمتاعا فرديا بالكامل، حتى وإن كان هذا الفرد برفقة جماعة.
كما يعلن أنه لم يعد مطمئنا لليوتوبيا التي كان يؤيدها من قبل، فيقول إنه في الحداثة:
في مدينة العقل، لم تكن هناك طرق متشابكة، ولا مسالك مسدودة، ولا مواقع لم تجد من يعتني بها متروكة للصدفة؛ ومن ثم لا عابرو سبيل أو متشردون أو هائمون.
انتهى باومان، الذي بدأ مؤيدا قويا لنوع معين من اليوتوبيا، إلى إنكار تلك اليوتوبيا واليوتوبيات التي يجدها حاليا من حوله، لكنه لا يزال يرى اليوتوبية جوهرية للوجود الإنساني، لبشرية الإنسان. وهذا أساسي بالنسبة للحجة المؤيدة لليوتوبيا. ربما لا تروق لك أنواع بأسرها من اليوتوبيات، لكنه لا يزال من الضروري أن نستمر في الإيمان بإمكانية إقامة مجتمع أفضل حالا. (3) العولمة
الجدل بين مؤيدي العولمة ومناهضيها هو جدل بين يوتوبيتين؛ أي رؤيتين عما ينبغي أن يكون عليه العالم في المستقبل وكيفية الوصول إليه. ثمة عدد من اليوتوبيات، أو الديستوبيات - كما يفضل البعض أن يطلق عليها - العالمية، وأشهرها اليوتوبيا التي تربط العالم اقتصاديا من خلال التجارة الحرة والسوق الحرة. ويؤيد الرأسماليون والقوى العالمية الكبرى هذه اليوتوبيا، إلا عندما تؤثر عليهم بالطبع بالسلب، وعندها يفضلون الحماية الجمركية والرقابة. على سبيل المثال، تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية بقوة التجارة الحرة في الوقت الذي تفرض فيه رسوما لحماية صناعاتها، وتقدم الدعم المالي لمزارعيها، وفي الوقت نفسه تعارض بعنف دعم الاتحاد الأوروبي لمزارعيه؛ فالسوق الحرة آلية عظيمة ما دام أن الوطن فقط هو الذي يستفيد منها. وتتمثل اليوتوبيا في الاعتقاد بأن الأسواق الحرة والتجارة الحرة تأتي بنتائج إيجابية دون سواها. وهذا يغفل - كما يعي جميعنا اليوم - أن الأسواق تنكمش كما تزدهر. أما في اليوتوبيا، فالجميع مستفيد. سيستفيد الجميع اقتصاديا من العولمة التي ستساعد على نشر الديمقراطية بفتح الأسواق أو تحريرها ودمج الأسواق عالميا.
تنشأ اليوتوبيا العالمية الثانية من الحركة المناهضة للعولمة، وهي لا تعتبر يوتوبيا عالمية كسابقتها؛ لأنه خرج من رحمها المئات، وربما الآلاف، من الجماعات ذات الأجندات المختلفة جدا التي تشكل تلك الحركة. في جوهرها، هي ذات توجه إنساني أو معنية برفاهية الإنسان، رغم أن هذا الوصف - مع تضمنه لحركة حقوق الحيوان والإيكولوجيا العميقة - يقلص من معناها كثيرا جدا. وهي معنية بشأن كوكب الأرض من منطلق أنها تضع تصورا لإقامة حياة أفضل لجميع الكائنات الواعية، أو - من باب إدماج الإيكولوجيا العميقة - الغلاف الحيوي.
ثمة بعض التناقضات الجوهرية في هذه اليوتوبيا؛ فعلى أبسط مستوى، يجب أن يوجد عدد أقل بكثير من البشر لكي تحصل الحيوانات أو الغلاف الحيوي على حقوقها. وعلى مستوى أكثر تعقيدا، يريد العالم النامي أن يتمكن من توفير حياة أفضل لمواطنيه، ما قد يستتبع قدرا غير يسير من التأخر بالنسبة للعالم المتقدم.
تلقت كتب «الإمبراطورية» (2000) و«الجموع» (2004) و«الثروة المشتركة» (2009) للباحث الأدبي الأمريكي مايكل هاردت (المولود عام 1960)، والمنظر السياسي الإيطالي الراديكالي أنطونيو نيجري (المولود عام 1933)؛ تأييدا، وتعرضت للهجوم من كل من اليسار واليمين، ومن مؤيدي العولمة ومناهضيها؛ ففي «الإمبراطورية» يقولان إن الدولة القومية قد بطلت، ونتج عنها «شكل عالمي جديد للسيادة» لا يقوم على أساس إقليمي. ويؤكدان على أن ما نطلق عليه إمبراطورية هو مرحلة ضرورية في التطور، وهو ما يشبه تأكيد ماركس على أن الرأسمالية مرحلة ضرورية في التطور نحو الشيوعية، وكما أن الرأسمالية كانت أفضل من أشكال المجتمع السابقة، فإن «الإمبراطورية» أفضل من السيادة على أساس قومي. ورغم أن بعض الحجج المساقة في كتاب «الإمبراطورية» قد عفا عليها الزمن، من منطلق أنه لم يعد من الممكن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العظمى الوحيدة ذات «الهيمنة على استخدام القوة العالمي»؛ فهذا يعدل وحسب من التفاصيل، لا من حجة المؤلفين الأساسية.
كما أنهما يسيران على خطى ماركس في قولهما بأن «الإمبراطورية»، شأنها شأن الرأسمالية، تحمل في طياتها بذور دمارها، وهو ما يطلقون عليه في هذه الحالة «الجموع»، التي يمكن تشبيهها تقريبا - لكن ليس تماما - بالحركة العالمية المناهضة للعولمة. وفي «الثروة المشتركة»، يركزان على «المشاعات» التي يحددانها على نحو واسع لتشمل الأرض ومواردها، و«مخرجات الإنتاج الاجتماعي الضرورية من أجل التفاعل الاجتماعي والمزيد من الإنتاج، مثل المعارف واللغات والشفرات والمعلومات والعواطف وهكذا.» ويقولان إن ذلك لا ينبغي أن يكون ملكية لجماعة أو لدولة مهيمنة، بل يكون متاحا للاستخدام العام، كما كانت الأرض في الكثير من التقاليد.
من الممكن أن تكون مؤيدا للعولمة وتعارض عملية العولمة الحالية. على سبيل المثال، من منظور مختلف تماما، يهاجم جوزيف إي ستيجلتز (المولود عام 1943) - الذي شغل منصب نائب أول رئيس للبنك الدولي وكبير الخبراء الاقتصاديين به، وتقاسم جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 - بقوة العولمة التي تجري حاليا من منظوره كشخص مؤمن بأن العولمة يمكن أن تكون قوة إيجابية.
وهذا يطرح النقطة المهمة الأخيرة؛ وهي أن نظرتك للعولمة واليوتوبيا تتوقف على موقفك: إن كنت لا يزال لديك دخل، فستتمكن من شراء سلع معينة بسعر أرخص؛ لأن آخرين خسروا وظائفهم، وهذه هي الطريقة التي ينظر بها مؤيدو عولمة السوق إلى الأمر. لكن فكر في التأثير غير المباشر لخسارة تلك الوظائف على المحال والمقاهي والحانات التي تحصل على أغلب دخلها من الذين فقدوا وظائفهم؛ فمالكو الأعمال الصغيرة يخسرون أعمالهم ويخسر موظفوهم وظائفهم، والأماكن التي ينفقون فيها أموالهم تتأثر كذلك، ويفقدون منازلهم جراء عدم قدرتهم على سداد الرهون العقارية، وتفلس البنوك، كما شاهدنا في عامي 2008 و2009، وهكذا.
ومثل تلك الأشياء تعني أنه من الأصعب بكثير بالنسبة للناس أن يروا أنفسهم شخصا واحدا من أن يروا أنفسهم يتنافسون من أجل البقاء، وهو بالضبط ما يريده مؤيدو عولمة السوق. لكني أعتقد أنه لا تزال هناك إمكانية يوتوبية في العولمة، لكنها يجب أن تأتي من الحركة العالمية المناهضة للعولمة من خلال بناء مساحات من الأمل محليا، وذلك حسب قول ديفيد هارفي (المولود عام 1933)، عالم الجغرافيا والمنظر الاجتماعي. لن نقضي على الفقر بالشعارات. لن ينجح الأمر إلا بالتوقف عن خداع الناس بالعبارات الرنانة، وبناء مجموعات معارضة تستطيع أن تفعل شيئا على أرض الواقع.
الفصل السابع
اليوتوبيا والأيديولوجية
صك المفكر الفرنسي أنطوان دستوت دي تراسي (1754-1836) كلمة «أيديولوجية» في عام 1794 تقريبا؛ لتصف ما كان يأمل أن يكون علما جديدا للأفكار. لم ينتشر قط هذا الاستخدام، إلا أن الكلمة استخدمها آخرون، غالبا، كتوصيف سلبي للطرق التي يضلل بها الناس أنفسهم وغيرهم من خلال معتقداتهم. بالتأكيد صكت كلمة «يوتوبيا» قبلها بوقت طويل، لكن آل الأمر بالكلمتين إلى أن أصبحتا مرتبطتين رغم أن هذا يمكن أن يكون مربكا بعدة طرق. وقد أطلق على القرن العشرين «عصر الأيديولوجية»، واستخدمت اليوتوبيا استخدامين: باعتبارها مقابلا للأيديولوجية، وفي نفس الوقت باعتبارها مرادفا لها. فعلى سبيل المثال، عندما بدأت الشيوعية - إحدى أهم أيديولوجيات القرن العشرين - في الانهيار، كان كثيرا ما يطلق على ذلك نهاية اليوتوبيا.
كان كارل مانهايم أول من ربط بين اليوتوبيا والأيديولوجية في كتابه الصادر باللغة الألمانية، المنشور في عام 1929، «الأيديولوجية واليوتوبيا»، والذي أعاد كتابته باللغة الإنجليزية تحت عنوان «الأيديولوجية واليوتوبيا: مقدمة إلى علم اجتماع المعرفة»، وظهر في عام 1936، لكنه كان مختلفا تماما عن الكتاب الأصلي. كانت الأيديولوجية واليوتوبيا عند مانهايم أساسيتين في فهمه لكيفية وسبب تفكير الناس بالطريقة التي يفكرون بها، وكان يبحث عن مفاهيم غير تقييمية تتيح له دراسة المسألة بموضوعية.
شكل 7-1: كان كارل مانهايم (1893-1947) عالم اجتماع ولد في المجر، واختار أن ينفي نفسه إلى ألمانيا ليتجنب قسوة النظام الشيوعي المتزايدة ببلده، ثم إلى إنجلترا لتجنب النظام النازي في ألمانيا. كان المؤسس الرئيسي لعلم اجتماع المعرفة. وجمع كتابه «الأيديولوجية واليوتوبيا» (1929) بين مصطلحي «الأيديولوجية» و«اليوتوبيا» بوصفهما طريقتين مختلفتين لفهم العالم.
قال مانهايم إن الأفكار التي نحملها، والطريقة التي نفكر بها، والمعتقدات المترتبة تتأثر جميعها بموقفنا الاجتماعي. وعلى وجه الخصوص، أطلق على معتقدات متقلدي السلطة أيديولوجية، ومعتقدات من أملوا في الإطاحة بالنظام يوتوبيا. وفي كلتا الحالتين، أخفت معتقداتهم أو حجبت واقع مواقفهم. منعت الأيديولوجية متقلدي السلطة من أن يعوا أي نقاط ضعف في موقفهم، ومنعت اليوتوبيا من خارج السلطة من أن يعوا صعوبات تغيير النظام، وكلتاهما منعت أتباعها من رؤية مواطن القوة في موقف الآخر.
كان من عادة مانهايم أن يضم معا مقالات قد كتبها في فترات مختلفة دون مراجعة منهجية؛ ما أدى إلى تناقضات في المفاهيم الرئيسية، لكن الطبعة الألمانية من عمله «الأيديولوجية واليوتوبيا» استقبلت باعتبارها حدثا فكريا كبيرا عندما نشرت في عام 1929، وصاحبتها مراجعات نقدية متحمسة وبالغة السلبية على حد سواء. وفي إعادة كتابته للكتاب باللغة الإنجليزية، الذي صدر في عام 1936، والذي كان موجها للجمهور الأكاديمي المتحدث باللغة الإنجليزية، حذف مانهايم التوطئة وقائمة المحتويات المفصلة جدا، وأضاف مقالات ومقدمة إلى علم اجتماع المعرفة. لم تحمل الطبعة الألمانية عنوانا فرعيا. أما الطبعة الإنجليزية، فحملت عنوانا فرعيا هو: «مقدمة إلى علم اجتماع المعرفة»، وكان جزء كبير من المادة المضافة مخصصا لشرح علم اجتماع المعرفة، ووضع المادة المراجعة من الطبعة الألمانية في ذلك السياق.
في كتابه «الأيديولوجية واليوتوبيا»، يقول مانهايم بأن الأيديولوجية واليوتوبيا نتيجة للصراع السياسي. وكتب يقول:
يعكس مفهوم «الأيديولوجية» اكتشافا نبع من الصراع السياسي، وهو أن المجموعات الحاكمة يمكن أن تصبح في تفكيرها شديدة الاهتمام بمصلحتها في أحد المواقف، لدرجة أنها لم تعد تستطيع رؤية حقائق معينة من شأنها أن تقوض إحساسها بالسيطرة ... ويعكس مفهوم التفكير اليوتوبي الاكتشاف المقابل النابع من الصراع السياسي، وهو أن مجموعات مقهورة معينة مهتمة، بقوة، فكريا بتغيير وضع معني بالمجتمع، حتى إنهم عن جهل منهم لا يرون في هذا الوضع سوى العناصر السلبية فقط، فلا يقدر تفكيرهم على التشخيص السليم للوضع الحالي للمجتمع. إنهم غير معنيين على الإطلاق بما يوجد فعليا على أرض الواقع، بل يسعون بالفعل في تفكيرهم إلى تغيير الوضع الحالي.
ولكن كما قال عالم اللاهوت بول تيليخ في مراجعة نقدية للطبعة الألمانية من كتاب مانهايم الذي صدر في عام 1929: «يدرك المؤمن باليوتوبية أن أفكاره ليست واقعية، لكنه يؤمن أنها ستصبح أمرا واقعا. أما الشخص الذي لديه أيديولوجية، فعادة ما لا يدرك ذلك.»
بينما يبدو أن مانهايم يؤكد على نحو كبير على أهمية الأيديولوجية، فكثيرا ما يشير إلى أهمية اليوتوبيا، ويزعم أن اليوتوبيا أهم من الأيديولوجية، فيقول:
في حين أن انحسار الأيديولوجية لا يمثل كارثة إلا لطبقات معينة، ودائما ما تتخذ الموضوعية المستمدة من نزع الأقنعة عن الأيديولوجيات شكل إيضاح الذات بالنسبة للمجتمع ككل؛ فالاختفاء التام للعنصر اليوتوبي من الفكر والفعل الإنسانيين سيعني أن الطبيعة الإنسانية والتطور البشري سيكون لهما طابع جديد تماما. واختفاء اليوتوبيا يؤدي إلى جمود الأوضاع التي في ظلها لا يعدو الإنسان نفسه كونه أحد الأشياء.
ورغم تناول بعض الباحثين لكل من الأيديولوجية واليوتوبيا معا، وتقديم بعضهم مساهمات كبيرة في فهمنا لإحداهما أو الأخرى، فإنه بعد مانهايم، استخدمت الكلمتان غالبا على نحو منفصل. لكن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في محاضراته، التي ألقاها عام 1975 حول الموضوع، أعاد الربط بينهما. قال ريكور إن الأيديولوجية واليوتوبيا لهما سمات إيجابية وسلبية على حد سواء؛ فالشكل السلبي من الأيديولوجية تشويه الواقع، ومن اليوتوبيا فانتازيا. والجانبان الإيجابيان للأيديولوجية هما: «تبرير الأوضاع القائمة» و«إدماج الأفراد في هوية الجماعة.» أما الجانبان الإيجابيان الموازيان لليوتوبيا، فهما «تقديم شكل بديل للسلطة» و«استكشاف الممكن».
شكل 7-2: كان بول ريكور (1913-2005) فيلسوفا فرنسيا يعتبر من أبرز فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين. من عام 1968 حتى 1992، عمل أستاذا لعلم اللاهوت الفلسفي بكرسي جون نوفين بجامعة شيكاجو؛ حيث أعطى سلسلة من المحاضرات حول الأيديولوجية واليوتوبيا والعلاقة بينهما.
فالأيديولوجيا تحكي قصة؛ قصة تبرر أو تشرعن وجود ومعتقدات جماعة ما، وهي بذلك تعطي هوية لتلك الجماعة، لكن القصص هي تشويهات لما حدث فعليا، ومن المهم «كشف النقاب» عن هذا التشويه.
المشكلة الرئيسية عند ريكور، كما كانت عند مانهايم، هي التأثير المتغلغل للأيديولوجية وكيف يمكن التعرف عليها من داخلها. وكما يقول ريكور: «نحن نفكر من منظورها بدلا من أن نفكر فيها.»
رأى مانهايم أن الانتقال بين الطبقات الاجتماعية، لا سيما لمن أطلق عليهم «المفكرين المتحررين»، أتاح لهم فهم الموقف من الخارج، وقال إن اليوتوبيا يمكن أن تكون مصححة للأيديولوجية. أما ريكور، فرأى أن إحدى وظائف اليوتوبيا هي تقويض الأيديولوجية.
من «اللامكان» ينشأ أصعب الأسئلة عن الماهية؛ ومن ثم تبدو اليوتوبيا في جوهرها المقابل الدقيق لمفهومنا الأساسي عن الأيديولوجية المتمثل في الإدماج الاجتماعي؛ فمهمة اليوتوبيا في المقابل هي الهدم الاجتماعي.
ويزعم ريكور أن اليوتوبيا تسمح بانتقاد الأيديولوجية دون الاضطرار إلى البعد عن تأثيرها، فيقول:
إليكم قناعتي: السبيل الوحيد للخروج من الحلقة المفرغة التي تدخلنا فيها الأيديولوجيات هو تبني فكر يوتوبي، وإعلانه، والحكم على إحدى الأيديولوجيات على هذا الأساس. ولأن المراقب المطلق [«المفكر المتحرر» عند مانهايم] مستحيل الوجود، يتولى شخص من داخل العملية نفسها مسئولية الحكم.
يزعم ريكور أنه من اللامكان الخاص باليوتوبيا يبدو واقعنا غريبا، فيقول: «أليست فانتازيا المجتمع البديل و«لامكان» منظوره الخارجي إحدى نقاط الخلاف العويصة فيما يتعلق بالماهية؟» إن قدرة اليوتوبيا على كشف النقاب عن الأيديولوجية عن طريق إيضاح وجود بدائل لها لهي بوضوح أحد جوانبها الإيجابية. ويرى ريكور أن قدرة اليوتوبيا على تحدي الأيديولوجية متجددة.
ويركز ريكور على نحو خاص على كيف أن اليوتوبيا تمثل طرقا بديلة لتوزيع السلطة، وأحيانا يبدو أنه يرى أن اليوتوبيات معنية في المقام الأول بالسلطة، بل وجعل ذلك أحد الجانبين الإيجابيين لليوتوبيا. وهذا منطقي فيما يتعلق بعلاقتها بالأيديولوجية؛ فدور الأيديولوجية هو تعزيز توزيع السلطة الحالي. أما دور اليوتوبيا، فهو هدم هذا التوزيع.
ورغم أن ريكور أمضى وقتا أطول في تناول الأيديولوجية مقارنة باليوتوبيا، فيبدو أن اليوتوبيا، في نهاية الأمر، أهم من الأيديولوجية، لكن كلا منهما تؤثر في الأخرى وتغير منها.
واليوم، لا يزال مصطلح الأيديولوجية يستخدم على نحو سلبي للإشارة إلى الطريقة التي تشوه بها معتقدات الآخرين الوضع الحقيقي، لكن يستخدمها أيضا علماء الاجتماع للإشارة إلى الأنظمة العقائدية، عادة العقائد السياسية هي التي تنظم نظرة الشخص إلى العالم. وهكذا أصبحت الأيديولوجية - غالبا دون الإشارة لليوتوبيا - نقطة نقاش محورية على الصعيد السياسي الدولي والمحلي، وتجري دراستها باعتبارها جزءا من الطريقة التي يفكر بها الناس سياسيا.
الأيديولوجية واليوتوبيا مرتبطتان ارتباطا وثيقا؛ فثمة يوتوبيا في صميم كل أيديولوجية. صورة إيجابية - بعضها غامض، وبعضها مسهب التفاصيل - عما سيكون عليه العالم إذا ما تحققت آمال الأيديولوجية. ومن الممكن أن تتحول يوتوبيا إلى أيديولوجية. ولا تتضح تماما العملية التي يمكن بموجبها أن تصبح اليوتوبيا أيديولوجية، وهي بلا شك تختلف من حالة لأخرى، لكن من المحتمل إن كانت اليوتوبيا جذابة وقوية على نحو كاف، فيمكنها أن تحول الأمل والرغبة إلى معتقد وفعل لتحقيق اليوتوبيا على أرض الواقع من خلال حركة سياسية أو اجتماعية. لا تمر أغلب اليوتوبيات بتلك العملية، وأغلب التي تمر بها تفشل، لكن إذا تحولت اليوتوبيا إلى منظومة عقائدية تنجح في الوصول إلى السلطة في مجتمع، أو بلد صغير، أو حتى عدد من البلدان، فأغلب الظن أنها ستتحول إلى أيديولوجية. وعند تلك المرحلة، ستتحداها يوتوبيا أو أكثر قد تنجح - لكنها في الغالب لن تنجح - في الإطاحة بالأيديولوجية، ولكن، بحسب زعم مانهايم وريكور، اليوتوبيا هي السبيل الذي من خلاله يمكن تحدي الأيديولوجيات.
خاتمة
كتب أرشيبالد مكليش، الذي أصبح فيما بعد رئيس مكتبة الكونجرس يقول:
الحقيقة أنه لا يوجد بديل لليوتوبيا، ولا يوجد بديل للأمل، وأن اللحظة التي يتخلى فيها الناس عن حقهم في رسم مستقبلهم - مهما غالوا في ذلك - ويستسلمون إلى قانون اقتصادي محتوم، وذلك كما يطلب منهم الشيوعيون والرأسماليون؛ تذهب الحياة عنهم.
وكتب ليشك كولاكفسكي يقول:
أن نذهب إلى تخيل أنه بإمكاننا وضع خطة ما للمجتمع بأسره بواسطتها يحقق التخطيط البشري التناغم والعدل والوفرة؛ لهو دعوة للاستبداد.
في حين أن كلمة «يوتوبيا» نشأت في زمان ومكان معينين، ظهرت اليوتوبية في كل تقليد ثقافي؛ ففي كل مكان حملت اليوتوبيا الأمل في تحقيق حياة أفضل، وفي الوقت نفسه طرحت أسئلة حول كل من التحسينات المحددة المقترحة وأيضا - في بعض الحالات - إن كان التحسين ممكنا. شجعت اليوتوبية الناس على بذل جهود جبارة لتحقيق تحسين حقيقي. وقد أساء آخرون استخدامها للوصول للسلطة، أو المكانة الاجتماعية، أو الحصول على المال، وغيرها. وقد تحولت بعض اليوتوبيات إلى ديستوبيات، بينما استخدمت يوتوبيات أخرى لهزيمة هذه اليوتوبيات ذاتها؛ ومن ثم فاليوتوبيات ضرورة، لكنها من الممكن أن تكون خطرة.
أدرك منظرو وكتاب اليوتوبيات قوة اليوتوبية وخطرها، وقدموا لنا يوتوبيات غامضة، وأقل تحديدا، وأكثر تعقيدا. الأمثلة على ذلك ما أطلق عليه ألبير كامو (1913-1960)؛ الفرنسي الجزائري الأصل الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، «اليوتوبيا النسبية»، وما أطلق عليه جون رولز (1921-2002)؛ أحد كبار فلاسفة الليبرالية، «اليوتوبيا الواقعية». وهذا المنهج يتجنب أحد أشد أخطار اليوتوبيا؛ وهو المبالغة في أخذها على محمل الجد بصورة مبالغ فيها؛ إذ ينبغي للمرء أن يكون قادرا على أن يؤمن إيمانا قويا بمعتقداته، وفي الوقت نفسه قادرا على رؤية أوجه العبث بها والسخرية منها.
يمكن لليوتوبيا أن تكون مثل إحدى المآسي الإغريقية. تقدم البشرية في غرورها على إقامة يوتوبيا، وهي بذلك تنتهك حدود الدائرة المخصصة لها؛ ومن ثم تواجه انتقام الآلهة، وتخفق في إقامة اليوتوبيا وتدفع ثمن تجرئها في محاولتها إقامتها. وكما يقول إم آي فينلي إن حركات الإصلاح الاجتماعي:
اتضح أنها لم تحقق اليوتوبيا حتى في أفضل حالاتها، وتكتنفها خيبة أمل محتومة. ارتفعت الأصوات المناهضة لكل من التغييرات الاجتماعية والأفكار اليوتوبية التي تقوم عليها، المناهضة لإمكانية تقدم البشر، المناهضة للقوة الكامنة في البشر من أجل التطوير.
يبدو أن هذه الجدلية المحتومة من الأمل والفشل، أو على الأقل الفشل الجزئي، والقنوط وفقدان الأمل، المتبوعة عاجلا أو آجلا بتجدد الأمل؛ تمثل النمط الأساسي للتغير الاجتماعي، وربما تكون هي المنطق الفعلي لليوتوبيا، جامعة أجزاء من كلا المنطقين السابقين. وهذه الجدلية هي جزء من إنسانيتنا. واليوتوبيا رؤية مأساوية لحياة من الأمل، دائما ما تتحقق ودائما ما تفشل. بإمكاننا أن نأمل، ونفشل، ونأمل مجددا. يمكننا أن نتحمل إخفاقا متكررا ونستمر في تحسين المجتمعات التي ننشئها.
المراجع
All passages from the Bible are from the Revised Standard Version.
مقدمة
The opening quotations are taken from:
Marge Piercy,
He, She and It (New York: Alfred A. Knopf, 1991; UK edn. as
Body of Glass (London: Michael Joseph, 1992)).
Oscar Wilde,
The Soul of Man under Socialism (Boston: John W. Luce, 1910); originally published in
The Fortnightly Review , 55 (ns49) (February 1891): 292-319.
Immanuel Wallerstein,
Utopistics: or Historical Choices of the Twenty-First Century (New York: The New Press, 1998).
Max Beerbohm, 'In a Copy of More’s (or Shaw’s or Wells’s or Plato’s or Anybody’s)
Utopia’, Max in Verse: Rhymes and Parodies by Max Beerbohm , collected and annotated by J. G. Riewald (Brattleboro, VT: The Stephen Greene Press, 1963), 54; ascribed to the period 1910-15.
Thomas Babington Macaulay, 'Lord Bacon’,
The Works of Lord Macauley,
6 vols (Boston: Houghton Mifflin, 1943).
Alphonse Marie Louis de Prat de Lamartine,
Histoire des Girondins (Bruxelles: Société de Belge, 1850).
Thomas More’s
Utopia
was first published as
Libellus vere aureus nec minus salutaris quam festivus de optimo reip[ublicae]statu, deq[ue] noua Insula Vtopia (Louvain, Belgium: Arte Theodorice Martini, 1516). There are many translations available:
Utopia: A Revised Translation, Backgrounds, Criticism,
2nd edn., tr. and ed. Robert M. Adams (New York: W. W. Norton, 1992) includes considerable additional material about the book; and
Utopia , tr. Paul Turner, revised edn. (Harmondsworth: Penguin, 2003) makes the satire and play on words of the text clear.
Leszek Kolakowski, 'The Death of Utopia Reconsidered’,
The Tanner Lectures on Human Value,
vol. 4, ed. Sterling M. McMurrin (Salt Lake City, UT: University of Utah Press/Cambridge: Cambridge University
his Modernity on Endless Trial (Chicago: University of Chicago Press, 1990), 131-45. The lecture was delivered at the Australian National University, 22 June 1982.
Lyman Tower Sargent, 'The Three Faces of Utopianism Revisited’,
Utopian Studies,
5.1 (1994): 1-37.
Ruth Levitas,
The Concept of Utopia (Hemel Hempstead: Philip Allan/Syracuse, NY: Syracuse University Press, 1990).
Darko Suvin, 'Defining the Literary Genre of Utopia: Some Historical Semantics, Some Genology, a Proposal and a Plea’,
Studies in the Literary Imagination,
6 (Autumn 1973): 121-45; reprinted in his
Metamorphoses of Science Fiction: On the Poetics and History of a Literary Genre (New Haven, CT: Yale University Press, 1979), 37-62.
الفصل الأول
The quotations at the head of the chapter are from Teleclides’s
Amphictyonies , quoted in Athenaeus,
The Learned Banqueters,
VI: 268b-d, ed. and tr. S. Douglas Olson, 7 vols (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2008), 3: 235; and Diodorus Siculus,
Bibliotheca Historiae,
58, tr. in Ernest Barker,
From Alexander to Constantine (Oxford: Clarendon Press, 1956), 63.
Lewis Mumford,
The Story of Utopias (New York: Boni and Liveright, 1922; reprinted New York: Viking Press, 1962 with a new 'Preface’ by the author).
Lyman Tower Sargent, 'The Three Faces of Utopianism Revisited’,
Utopian Studies,
5.1 (1994): 1-37.
Hesiod, 'Works and Days’,
Theogony Works and Days Testimonia,
ed. and tr. Glenn W. Most (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2006; Loeb Classical Library 57).
Ovid,
Metamorphoses,
I: 89-112, tr. Mary M. Innes (Harmondsworth: Penguin, 1955).
Lucian,
The Works of Lucian of Samosata, Complete with Exceptions Specified in the
tr. H. W. Fowler and F. G. Fowler (Oxford: Clarendon Press, 1905).
A. L. Morton,
The English Utopia (London: Lawrence and Wishart, 1952).
Virgil,
tr. H. Rushton Fairclough, 2 vols, revised edn. (London: Heinemann, 1965).
, tr. Bernadotte Perrin, 11 vols (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1914), 1.
The Republic,
ed. G. R. F. Ferrari, tr. Tom Griffith (Cambridge: Cambridge University Press, 2000). 'The Sweet Potato Mountains’, quoted in George Milburn,
The Hobo’s Hornbook: A Repertory for a Gutter Jongleur (New York: Ives Washington, 1930).
The slave story comes from B. A. Botkin (ed.),
Lay My Burden Down: A Folk History of Slavery (Chicago: University of Chicago Press, 1945).
Edward Bellamy,
Looking Backward: 2000-1887 (Boston, MA: Ticknor and Company, 1888). Modern editions include those edited by Alex MacDonald (Peterborough, Canada: Broadview Press, 2003) and by Matthew Beaumont (London: Penguin, 2007). Bellamy revised his utopia in
Equality (New York: D. Appleton, 1897).
Marge Piercy,
Woman on the Edge of Time (New York: Alfred A. Knopf, 1976).
William Morris, 'Looking Backward’,
The Commonweal,
5.180 (June 1889): 194-5; reprinted in May Morris,
William Morris: Artist, Writer, Socialist,
vol. 2,
Morris as a Socialist with an Account of William Morris as I Knew Him by Bernard Shaw (Oxford: Blackwell, 1936), 501-7.
William Morris,
News from Nowhere; or, An Epoch of Rest, Being Some Chapters from a Utopian Romance (Boston, MA: Roberts Bros., 1890). Modern editions include those edited by James Redmond (London: Routledge and Kegan Paul, 1970) and by Krishan Kumar (Cambridge: Cambridge University Press, 1995).
Tom Moylan,
Demand the Impossible: Science Fiction and the Utopian Imagination (London: Methuen, 1986).
Lucy Sargisson,
Contemporary Feminist Utopianism (London: Routledge, 1996).
Lyman Tower Sargent, 'The Problem of the “Flawed Utopia”: A Note on the Costs of Utopia’,
Dark Horizons: Science Fiction and the Dystopian Imagination,
ed. Raffaella Baccolini and Tom Moylan (London: Routledge, 2003), 225-31.
Joanna Russ, 'What Can a Heroine Do? Or Why Women Can’t Write’, in
Images of Women in Fiction; Feminist Perspectives , ed. Susan Koppelman Cornillon (Bowling Green, OH: Bowling Green University Popular Press, 1972), 3-20; reprinted in her
To Write Like a Woman: Essays in Feminism and Science Fiction (Bloomington: Indiana University Press, 1995), 79-93.
Ernest Callenbach,
Ecotopia: The Notebooks and Reports of William Weston (Berkeley, CA: Banyan Tree Books, 1975; reprinted New York: Bantam, 1977).
الفصل الثاني
Arthur Eugene Bestor, Jr,
Backwoods Utopias: The Sectarian and Owenite Phases of Communitarian Socialism in America, 1663-1829 (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1950; 2nd edn. 1970).
Lyman Tower Sargent, 'The Three Faces of Utopianism Revisited’,
Utopian Studies,
5.1 (1994): 1-37. 'The Rule of S. Benedict’,
Documents of the Christian Church,
ed. Henry Bettenson, 2nd edn. (London: Oxford University Press, 1963).
Henry Near, 'Utopian and Post-Utopian Thought: The Kibbutz as Model’,
Communal Societies,
5 (1985): 41-58.
Lyman Tower Sargent, 'The Ohu Movement in New Zealand: An Experiment in Government Sponsorship of Communal Living in the 1970s’,
Communal Societies,
19 (1999): 49-65.
Federation of Egalitarian Communities,
http://www.thefec.org/ 'Principles’
accessed 10 May 2010.
Rosabeth Moss Kanter,
Commitment and Community: Communes and Utopias in Sociological
(Cambridge, MA: Harvard University Press, 1972).
Henry Demarest Lloyd, quoted in Caro Lloyd,
Henry Demarest Lloyd, 1847-1903: A Biography,
2 vols (New York: Putnam, 1912), II: 66-7.
Hakim Bey [Peter Lamborn Wilson],
T. A. Z.: The Temporary Autonomous Zone, Ontological Anarchy, Poetic Terrorism,
2nd edn. with a new preface (ix-xii) (Brooklyn, NY: Autonomedia, 2003).
George McKay (ed.),
DiY Culture: Party and Protest in Nineties Britain (London: Verso, 1998).
Jill Dolan, 'Performance, Utopia, and the “Utopian
Theatre Journal,
53.3 (October 2001): 455-79; revised as '“A Femme, a Butch, a Jew”: Feminist Autobiographical Solo Performance’, in her
Utopia in Performance: Finding Hope at the Theater (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2005), 35-62, 180-5.
الفصل الثالث
James Belich,
Replenishing the Earth: The Settler Revolution and the Rise of the Anglo-World, 1783-1939 (Oxford: Oxford University Press, 2009).
Robert L. Wright (ed.),
Irish Emigrant Ballads and Songs (Bowling Green, OH: Bowling Green University Popular Press, 1975). 'The Non-progressive Great Spirit-“Traditionalism in the Modern World”’,
Akwesasne Notes,
5 (1973).
John Winthrop,
Life and Letters of John Winthrop,
2 vols (Boston, MA: Ticknor and Fields, 1864-7).
Roger Williams,
Key into the Language of America (1643), quoted in George H. Williams,
Wilderness and Paradise in Christian Thought: The Biblical Experience in the History of Christianity and the Paradise Theme in the Theological Idea of the University (New York: Harper, 1962), 103.
Nadine Gordimer, 'Living in the Interregnum’,
The New York Review of Books,
29.21 and 22 (20 January 1983): 21-2, 24-9; based on the James Lecture at the New York Institute for the Humanities, 14 October 1982.
الفصل الرابع
The quotations at the head of the chapter come from Father Sangermano,
A Description of the Burmese Empire Compiled Chiefly from Native Documents by the Revd. Father Sangermano and Translated From His MS by William Tandy, D. D. (Rome, printed for the Oriental Translation Fund of Great Britain and Ireland/John Murray, 1833; reprinted Rangoon: The Government Press, 1885), pp. 8-9; and from the Tao Te Ching (80th chapter) as quoted in Joseph Needham with research assistance of Wang Ling, vol. 2 of
History of Scientific Thought of Science and Civilisation in China (Cambridge: Cambridge University Press, 1956).
On the proposed constitutions, see Koon-ki T. Ho, 'Several Thousand Years in Search of Happiness: The Utopian Tradition in China’,
Oriens Extremus (Germany), 30 (1983-6): 19-35.
On K’ang Yu-wei, see Kung-Chuan Hsiao,
A Modern China and a New World: K’ang Yu-wei, Reformer and Utopian, 1858-1927 (Seattle: University of Washington Press, 1975).
Donald Keene, 'The Tale of the Bamboo Cutter’,
Monumenta Nipponica,
11.1 (January 1956): 329-55; 'Introduction’ (329); translation with notes (330-54).
Rubáiyát of Omar Khayyám,
tr. Edward FitzGerald (London: Penguin, 1989). Originally published as
Rubáiyát of Omar Khayyám, The Astronomer-Poet of Persia. Translated into English Verse (London: Bernard Quaritch, 1859); an alternative modern translation is by Peter Avery and John Heath-Stubbs (London: Penguin, 2004).
Ibn Tufail,
The Journey of the Soul: The Story of Hai bin Yaqzan, as told by Abu Bakr Muhammad bin Tufail,
tr. Riad Kocache (London: Octagon Press, 1982). Also as
Ibn Tufayl, Hayy Ibn Yaqzan: A Philosophical Tale , tr. Simon Ockley (London: Chapman and Hall, 1929); and tr. Lenn Evan Goodman (New York: Twayne, 1972).
Ayatollah Sayyed Ruhollah Mousavi Khomeini,
Islamic Government,
tr. Joint Publications Research Service (New York: Manor Books, 1979).
On the Islamist utopias, see Christian Szyska, 'On Utopian Writing in Nasserist Prison and Laicist Turkey’,
Welt des Islams,
35.1 (April 1995): 95-125; and Sohrab Behdad, 'Islamic Utopia in Pre-Revolutionary Iran: Navvab Safavi and the Fadai’an-e Eslam [Crusaders of Islam]’,
Middle Eastern Studies,
33.1 (January 1997): 40-65.
Simon Gikandi, quoted in the
Times Literary Supplement , no. 5392 (4 August 2006): 21.
الفصل الخامس
Dracontius is quoted in Eleanor S. Duckett,
Latin Writers of the Fifth Century (New York: Henry Holt, 1930), 85.
Judith Shklar, 'The Political Theory of Utopia: From Melancholy to Nostalgia’,
Utopias and Utopian Thought,
ed. Frank E. Manuel (Boston, MA: Beacon Press, 1967/London: Souvenir Press, 1973), 101-15. 'Book of Jubilees’, 'The Sibylline Book of Oracles’, and 'II Baruch’ can be found in R. H. Charles,
The Apocrypha and Pseudepigrapha of the Old Testament in English with Introductions and Critical and Explanatory Notes to the Several Books,
2 vols (Oxford: Clarendon Press, 1913).
Lactantius,
The Divine Institutes,
tr. Rev. William Fletcher, D. D.
The Ante-Nicene Fathers: Translations of the Writings of the Fathers down to A. D. 325, American reprint of the Edinburgh Edition, ed. Rev. Alexander Roberts, D. D., and James Donaldson, LL.D, revised and chronologically arranged, with Brief Prefaces and Occasional Notes by A. Cleveland Coxe, D. D.
Volume VII,
Lactantius, Venantius, Victorinus, Dionysius, Apostolic Teaching and Constitutions. Homily, and Liturgies , authorized edn. (Edinburgh: T&T Clark/Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1990 reprint), 219-20.
Tim LaHaye and Jerry B. Jenkins,
Left Behind: A Novel of Earth’s Last Days (Wheaton, IL: Tyndale House Publishers, 1995). There are twelve sequels plus graphic novels, videos, video games, books for children, and related products. See
http://www.leftbehind.com (accessed 10 May 2010) for all the books and related materials.
The Voyage of St Brendan: RepresentaUtopias and Utopian Thoughttive Versions of the Legend in English Translation,
ed. W. R. J. Barron and Glyn S. Burgess (Exeter: University of Exeter Press, 2002; 2nd edn. 2005). On the Irish voyages, see Tom Moylan, 'Irish Voyages and Visions: Pre-Figuring, Re-Configuring Utopia’,
Utopian Studies,
18.3 (2007): 299-323. On Prester John, see Vsevolod Slessarev,
(Minneapolis: University of Minnesota Press, 1959). 'The Apocalypse of Paul’, tr. J. K. Elliott, in
Apocryphal New Testament (Oxford: Clarendon Press, 1993).
Krishan Kumar,
Religion and Utopia (Canterbury: Centre for the Study of Religion and Society, University of Kent at Canterbury, 1985; Pamphlet Library No. 8).
Thomas Molnar,
Utopia: The
(New York: Sheed and Ward, 1967/London: Tom Stacey, 1972).
Reinhold Niebuhr,
The Nature and Destiny of Man,
2 vols (New York: Charles Scribner, 1941; reprinted Louisville, KY: Westminster John Knox
William J. Crout, Walter Bense, and James L. Adams, in his
(New York: Harper and Row, 1971), 125-80.
Martin Buber,
Utopia,
tr. R. F. C. Hull (London: Routledge and Kegan Paul, 1949/New York: Macmillan, 1950).
الفصل السادس
Lyman Tower Sargent, 'Utopia and the Late Twentieth Century: A View from North America’, in
Utopia: The Search for the Ideal Society in the Western World , ed. Roland Schaer, Gregory Claeys, and Lyman Tower Sargent (New York: The New York Public Library/Oxford University Press, 2000), 333-45.
The quotations from Karl Popper come from 'Utopia and Violence’,
Hibbert Journal,
46 (January 1948): 109-16; reprinted in
World Affairs , 149.1 (Summer 1986): 3-9, and in his
Conjectures and Refutations: The Growth of Scientific Knowledge (London: Routledge Classics, 2002), 477-88.
Richard Mollica, quoted in Philip Gourevitch, 'Letter from Rwanda: After the Genocide’,
The New Yorker,
71 (18 December 1995): 84.
Ralf Dahrendorf, 'Out of Utopia: Toward a Reorientation of Sociological Analysis’,
American Journal of Sociology,
64 (September 1958): 115-27.
Judith Shklar, 'The Political Theory of Utopia: From Melancholy to Nostalgia’,
Utopias and Utopian Thought,
ed. Frank E. Manuel (Boston: Beacon
101-15.
Leszek Kolakowski, 'The Death of Utopia Reconsidered’,
The Tanner Lectures on Human Value,
vol. 4, ed. Sterling M. McMurrin (Salt Lake City, UT: University of Utah Press/Cambridge: Cambridge University
Modernity on Endless Trial (Chicago: University of Chicago Press, 1990), 131-45. The lecture was delivered at the Australian National University, 22 June 1982.
H. G. Wells,
Men Like Gods (London: Cassell, 1923).
Jacob Talmon,
Utopianism and
(London: Conservative Political Centre, 1957).
Thomas Hobbes,
Leviathan,
ed. Richard Tuck (Cambridge: Cambridge University Press, 1991).
George Kateb, 'Utopia and the Good Life’, in
Utopias and Utopian Thought , ed. Frank E. Manuel (Boston: Beacon Press, 1967/ London: Souvenir Press, 1973), 239-59.
Adam Smith,
The Theory of Moral Sentiments,
ed. D. D. Raphael and A. L. Macfie (Indianapolis: Liberty Fund, 1982).
Immanuel Kant, quoted in Isaiah Berlin,
The Crooked Timber of Humanity: Chapters in the History of Ideas,
ed. Henry Hardy (London: John Murray, 1990), epigram p. v.
Arthur Koestler, 'The Yogi and the Commissar’,
Horizon,
5.30 (June 1942): 381-92; reprinted in
The Yogi and the Commissar (London: Jonathan Cape, 1945).
Barbara Goodwin and Keith Taylor,
The Politics of Utopia: A Study in Theory and
(London: Hutchinson, 1982).
Quentin Skinner,
Liberty Before Liberalism (Cambridge: Cambridge University Press, 1998).
Ernst Bloch,
The Principle of Hope,
tr. Neville Plaice, Stephen Plaice, and Paul Knight, 3 vols (Oxford: Blackwell, 1986).
M. I. Finley, 'Utopianism Ancient and Modern’, in
The Critical Spirit: Essays in Honor of Herbert Marcuse , ed. Kurt Wolff and Barrington Moore, Jr (Boston, MA: Beacon Press, 1967).
Frederick L. Polak,
The Image of the Future: Enlightening the Past, Orientating the Present, Forecasting the Future,
tr. Elise Boulding, 2 vols (Leyden, The Netherlands: A. W. Sythoff/New York: Oceana, 1961).
Fredric Jameson, 'Comments’,
Utopian Studies,
9.2 (1998): 74-7. Jameson is responding to a special issue of the journal devoted to his work.
The quotations from Zygmunt Bauman come from
Socialism: The Active Utopia (New York: Holmes and Meier, 1976); 'Conclusion: Utopia with No
Topos’ , in his
Society under Siege (Cambridge: Polity Press, 2002), 222-41, 251-2; and
Does Ethics Have a Chance in a World of Consumers? (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2008).
Michael Hardt and Antonio Negri,
Empire (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2000).
David Harvey,
Spaces of Hope (Berkeley: University of California
2000).
الفصل السابع
Karl Mannheim,
Ideology and Utopia: An Introduction to the Sociology of Knowledge,
tr. Louis Wirth and Edward Shils (New York: Harcourt, Brace, 1936; new edn. London: Routledge, 1991). The English edition brings together his
Ideologie und Utopie (Bonn: Cohen, 1929) and other essays by Mannheim.
Bucher and Denise Siemssen, in
Knowledge and
, ed. Volker Meja and Nico Stehr (London: Routledge, 1990), 107-12.
The quotations from Paul Ricoeur are from
Lectures on Ideology and Utopia , ed. George H. Taylor (New York: Columbia University Press, 1986); 'Ideology and Ideology Critique’,
ed. Bernhard Waldenfels, Jan M. Broekman, and Ante Pažanin, tr. J. Claude Evans (Boston, MA: Routledge and Kegan Paul, 1984), 134-64; and 'Imagination in Discourse and Action’,
The Human Being in Action: The Irreducible Element in Man.
Investigations at the Intersection of
ed. Anna-Teresa Tymieniecka, vol. 7 of
Analecta Husserliana: The Yearbook of Phenomenological Research (Dordrecht: Reidel, 1978).
خاتمة
The quotations at the beginning of the chapter are from Archibald MacLeish, 'Preface to an American Manifesto’,
Forum,
91.4 (April 1934): 195-8; and Leszek Kolakowski, quoted in George Urban, 'A Conversation with Leszek Kolakowski,
The Devil in History’, Encounter,
56.1 (January 1981).
Lyman Tower Sargent, 'The Necessity of Utopian Thinking: A Cross-National Perspective’,
Thinking Utopia: Steps into Other Worlds,
ed. Jörn Rüsen, Michael Fehr, and Thomas W. Rieger (New York: Berghahn Books, 2005), 1-14.
Albert Camus,
Neither Victims nor Executioners,
tr. Dwight Macdonald (Chicago: World Without War Publications, 1972).
John Rawls,
The Law of
(Cambridge, MA: Harvard University Press, 1999).
M. I. Finley, 'Utopianism Ancient and Modern’,
The Critical Spirit; Essays in Honor of Herbert Marcuse,
ed. Kurt Wolff and Barrington Moore, Jr (Boston, MA: Beacon Press, 1967), 3-20.
قراءات إضافية
مقدمة
The best overviews are Krishan Kumar,
Utopia and Anti-Utopia in Modern Times (Oxford: Blackwell, 1987); Frank E.Manuel and Fritzie P. Manuel,
Utopian Thought in the Western World (Cambridge, MA: Belknap Press of Harvard University, 1979); and Roland Schaer, Gregory Claeys, and Lyman Tower Sargent (eds.),
Utopia: The Search for the Ideal Society in the Western World (New York: The New York Public Library/Oxford University Press, 2000).
الفصل الأول
The best overview of classical utopianism is John Ferguson,
Utopias of the Classical World (London: Thames and Hudson, 1975).
There is very little on the Middle Ages, but see F. Graus, 'Social Utopias in the Middle Ages’, tr. Bernard Standring,
38 (December 1967): 3-19; and Norman Cohn,
The
(London: Secker and Warburg, 1957).
The best books on the 16th and 17th centuries are J. C. Davis,
Utopia and the Ideal Society: A Study of English Utopian Writing 1516-1700 (Cambridge: Cambridge University Press, 1981); and Miriam Eliav-Feldon,
Realistic Utopias: The Ideal Imaginary Societies of the Renaissance,
1516-1630 (Oxford: Clarendon Press, 1982).
On National Socialist utopias, see Jost Hermand,
Old Dreams of a New Reich: Volkish Utopias and National Socialism,
tr. Paul Levesque in collaboration with Stefan Soldovieri (Bloomington: Indiana University Press, 1992).
الفصل الثاني
The closest there is to a general overview is Donald E.
America’s Communal Utopias (Chapel Hill, NC: University of North Carolina Press, 1997).
On the kibbutz, see Henry Near,
The Kibbutz Movement: A History,
2 vols (Oxford: Oxford University Press/The Littman Library of Jewish Civilization, 1992-7).
For contemporary eco-villages, see Jan Martin Bang,
Ecovillages: A Practical Guide to Sustainable Communities (Edinburgh: Floris Books and Gabriola Island, BC, Canada: New Society Publishers, 2005); Barbro Grindheim and Declan Kennedy (eds.),
Directory of Eco-Villages in Europe (Steyerberg: Global Eco-Village Network (GEN) Europe, 1998); and Barbara Knudsen (ed.),
Eco-Villages and Communities in Australia and New Zealand (Maleny, Queensland: Global Eco-Village Network (GEN) Oceania/Asia, 2000).
On co-housing, see Kathryn McCamant and Charles Durrett,
Cohousing: A Contemporary Approach to Housing Ourselves,
2nd edn. with Ellen Hertzman (Berkeley, CA: Ten Speed Press, 1994).
On therapeutic communities, see Association of Therapeutic Communities-
http://www.therapeuticcommunities.org
accessed 10 May 2010.
On the utopian socialists, see Keith Taylor,
The Political Ideas of the Utopian Socialists (London: Frank Cass, 1982).
الفصل الثالث
On settler utopianism, see James Belich, 'Settler Utopianism?: English Ideologies of Emigration, 1815-1880’, in
Liberty, Authority, Formality: Political Ideas and Culture, 1600-1900, Essays in Honour of Colin Davis , ed. John Morrow and Jonathan Scott (Exeter: Imprint-Academic, 2008), 213-34; and Lyman Tower Sargent, 'Colonial and Post-Colonial Utopias’, forthcoming in
The Cambridge Companion to Utopian Literature , ed. Gregory Claeys (Cambridge: Cambridge University
On utopianism in early America, see Lyman Tower Sargent, 'Utopianism in Colonial America’,
History of Political Thought,
4.3 (Winter 1983): 483-522.
On More’s influence in Spanish America, see Silvio Zavala,
Sir Thomas More in New Spain: A Utopian Adventure of the Renaissance (London: The Hispanic and Luso-Brazilian Councils, 1955).
On Bartolomé de las Casas, see Victor N. Baptiste,
Bartolomé de las Casas and Thomas More’s 'Utopia’: Connections and Similarities, A Translation and Study (Culver City, CA: Labyrinthos, 1990), which includes a translation of
Memorial de Remedios para las Indias/Memorial of Remedies for the Indies .
On Vasco de Quiroga, see Fintan B. Warren,
Vasco de Quiroga and His Pueblo-Hospitals of Santa Fe (Washington, DC: Academy of American Franciscan History, 1963).
On the Jesuit 'reductions’, see Stelio Cro, 'From More’s
Utopia
to the Jesuit
Reducciones
in Paraguay’,
Moreana,
42.164 (December 2005): 92-117.
On the
eijdos
at their peak, see Henrik F. Infield and Koka Freier,
of Mexico (New York: Praeger, 1954).
On garden cities, Robert Beevers,
The Garden City Utopia: A Critical Biography of Ebenezer Howard (New York: St Martin’s Press, 1988); Stanley Buder,
Visionaries and Planners: The Garden City Movement and the Modern Community (New York: Oxford University Press, 1990); Robert Freestone,
Model Communities: The Garden City Movement in Australia (Melbourne: Thomas Nelson Australia, 1989); and Stephen V. Ward (ed.),
The Garden City:
(London: Spon, 1992).
الفصل الرابع
The only overviews of the material in this chapter are a forthcoming essay by Jacqueline Dutton in
The Cambridge Companion to Utopian Literature , ed. Gregory Claeys (Cambridge: Cambridge University Press); and Zhang Longxi, 'The Utopian Vision, East and West’,
Utopian Studies,
13.1 (2002): 1-20 (revised in 'The Utopian Vision, East and West’,
Thinking Utopia: Steps into Other Worlds,
ed. Jörn Rüsen, Michael Fehr, and Thomas W. Rieger (New York: Berghahn Books, 2005), 207-29), which is primarily concerned with China.
On Chinese utopianism, see Wolfgang Bauer,
China and the Search for Happiness: Recurring Themes in Four Thousand Years of Chinese Cultural History,
tr. Michael Shaw (New York: Seabury Press, 1976); Koon-ki T. Ho, 'Several Thousand Years in Search of Happiness: The Utopian Tradition in China’,
Oriens Extremus (Germany), 30 (1983-6): 19-35; and Ho, 'Utopianism: A Unique Theme in Western Literature? A Short Survey of Chinese Utopianism’,
Tamkang Review,
13.1 (Autumn 1982): 87-108.
On the Gandhian utopia, see Richard G. Fox,
Gandhian Utopia: Experiments with Culture (Boston, MA: Beacon Press, 1989).
الفصل الخامس
While there are many specialist articles, there are few that discuss Christian utopianism generally.
On the millennium, see Kenelm Burridge,
New Heaven, New Earth: A Study of Millenarian Activities (Oxford: Blackwell, 1969).
On heaven and hell, see Colleen McDannell and Bernhard Lang,
Heaven: A History (New Haven, CT: Yale University Press, 1988); and Alice K. Turner,
The History of Hell (New York: Harcourt, Brace, 1993).
On monasticism, see George A. Hillery, Jr, and Paula C. Morrow, 'The Monastery as a Commune’,
International Review of Modern Sociology,
6.1 (Spring 1976): 139-54 (reprinted as only by Hillery in
Communes: Historical and Contemporary , ed. Ruth Shonle Cavan and Man Singh Das (New Delhi, India: Vikas
On Jewish utopianism, see Michael Higger,
The Jewish Utopia (Baltimore: The Lord Baltimore Press, 1932).
الفصل السادس
At the time of writing, there is no general study of the role utopianism plays in political theory.
الفصل السابع
The best introduction to ideology is Michael Freeden,
Ideology: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2003).
مصادر الصور
(1) Frick Collection, New York. The Yorck Project, DirectMedia/Wikipedia. (1-2) Alte Pinakothek, Munich. © TopFoto. (2-1) © G. E. Kidder Smith/Corbis. (2-2) Reproduced with permission from Donald E. Janzen. (2-3) New Lanark Trust. (2-4) © Iwasaki/Time and Life Pictures/Getty Images. (3-1) US National Archives. (4-1) Wikimedia. (4-2) © Eightfish/The Image Bank/Getty Images. (4-3) Chinua Achebe. (4-4) © Alan Davidson/Evening Standard/Getty Images. (5-1) Museum of Fine Arts, Houston, Texas. © The Granger Collection/TopFoto (5-2) Wikimedia. (6-1) © The Granger Collection/TopFoto. (6-2) © Keystone/Getty Images. (7-1) © National Portrait Gallery. (7-2) © Pelletier Micheline/Corbis Sygma.
Unknown page