Yasqut Sibawayh
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
Genres
وكلمة في طريق خفت أعربها
فيهتدى لي فلم أقدر على اللحن
ويروي لنا محمود محمد شاكر ملابسات هذا البيت في كتابه «المتنبي» فيقول: إن الشاعر الكبير كان قد اضطر للهروب من «حمى جرش» خوفا من بطش شخص يدعى ابن كروس وصفه بالأعور. وقد اقتحم الشاعر كما يقول الكتاب ظلمات البادية متوجها إلى أنطاكية، ونظم قصيدة لدى وصوله إلى بر الأمان يمدح بها أبا عبد الله الخصيبي الذي كان ينوب عن أبيه في مجلس القضاء بأنطاكية، كما يقول محمود شاكر.
لكن المهم بالنسبة لنا هنا هو المعنى الموجود في هذا البيت الوارد بالقصيدة.
فالمتنبي يقول إنه خاف خلال هروبه أن ينطق بلغة عربية سليمة خوفا من أن يكتشف الناس هويته. وكلمة اللحن هي الخطأ في إعراب الكلمة، وبالتالي في نطقها وتشكيلها، أي أن النطق بلغة سليمة يدل على أن المتكلم شخص غير عادي وخارق للعادة، فالنطق الخطأ إذا هو القاعدة، ومن لا يخطئ هو الاستثناء، فإذا نطق المتنبي دون خطأ فمن الممكن أن يكشف ويعرف أنه شخص ينتمي إلى الصفوة.
وإذا صدقت نظرية علوية المتنبي، فإن خوفه من افتضاح أمره كان هاجسا يؤرقه على الدوام، لكن المهم عندنا هنا هو أن المتنبي يقر بأن من كان يتحدث العربية في هذا العصر بلا أخطاء كان يعد شخصا غير عادي.
فكيف نلوم الناس اليوم على عدم إلمامهم باللغة وجهلهم بقواعدها؟ فمن الواضح أن عدم معرفة اللغة كان سمة دائمة في العالم العربي. ونحن نتخيل فيما يبدو أن الناس في الماضي وخاصة في عصر الرسول والخلفاء الراشدين ثم في العصرين الأموي والعباسي، كانوا كلهم سيبويه أو المتنبي أو أبا تمام. وهذا غير صحيح على الإطلاق، فصعوبة اللغة جعلت إجادتها التامة دائما صفة من صفات الخاصة التي كانت تحفظ القرآن وتقرأ كتب التراث.
أما العامة أي غالبية الشعب العربي أو الخاضع لسلطان الأمة الإسلامية، فقد كانت معرفتهم باللغة معرفة محدودة تسمح لهم بالتفاهم وربما القراءة والكتابة، لكنها ليست على أية حال معرفة رصينة وسليمة لقواعد اللغة.
وإذا كان الشباب يتكبد أعتى المشاق في بداية القرن الواحد والعشرين لتعلم قواعد اللغة العربية، فعلينا أن نلتمس لهم العذر، خاصة إذا علمنا بما أفصح عنه أحد ألمع بلغاء العرب في العصر الحديث وهو الإمام محمد عبده. ففي المجموعة الكاملة التي جمعها الأستاذ محمد عمارة يقول محمد عبده حرفيا في كتاب شرح النحو عن تعلمه لقواعد اللغة: «فحملني عدم الفهم على الهرب من طلب العلم لتمكن اليأس من نفسي.» فإذا كان محمد عبده شخصيا قد تعذب منذ نحو مائة وخمسين عاما بسبب قواعد العربية، فماذا عن شبابنا اليوم؟
وقد أدرك رفاعة الطهطاوي صعوبة اللغة العربية عندما بدأ يتعلم الفرنسية خلال بعثته لباريس التي دامت من 1826م إلى 1831م، وخلال هذه السنوات الخمس استطاع الطهطاوي الإلمام بالفرنسية وقواعدها إلى درجة مبهرة جعلته قادرا على الكتابة بها دون أخطاء في قواعد اللغة أو الإملاء. وقد وقعت على خطاب محفوظ بأحد المتاحف الفرنسية في باريس بخط يد الطهطاوي، وبصراحة فقد ذهلت لأن الخطاب ليس به خطأ واحد في اللغة. وأعتقد أن هذا لا يدل فقط على عبقرية الطهطاوي، لكنه يدل كذلك على السهولة النسبية لتعلم الفرنسية خاصة بالنسبة لشخص غريب عن الثقافة الأوروبية، فتعلم الفرنسية قد يكون سهلا على شخص إيطالي أو إسباني نظرا لتقاربها مع لغته الأم، لكنه صعب جدا بالنسبة لعربي تربى على لغة سامية.
Unknown page