Yasqut Sibawayh
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
Genres
ومع تعاقب الأجيال تم تخليق اللغات العامية في مصر والشام والعراق وشمال إفريقيا، من العربية الفصحى من ناحية، واللهجات التي كانوا يستخدمونها قبل تعريب بلادهم من ناحية أخرى.
وللأسف أننا لا نعرف بطريقة علمية كيف كان يتحدث الناس خلال الحقب المختلفة في التاريخ العربي؛ لأن الموروث المدون يقتصر على الفصحى إلا باستثناءات نادرة. قد يفتي البعض بأننا على يقين من كيفية كلام العرب في الماضي البعيد، لكن مثل هذا التأكيد أقرب إلى «الفهلوة» منه إلى المعرفة العلمية.
الشيء المؤكد هو أن العرب في كل مكان هجروا الفصحى ولجئوا إلى أساليب أخرى للتفاهم فيما بينهم. ومن هذا المنطلق علينا أن نبحث في أسباب البعد عن لغة يعشقها العرب وأنتجت أجمل المعاني الشعرية والأدبية التي يدرسونها في المدارس والجامعات.
فاللغة التي يختارها الناس للتعامل هي الأقرب إلى العقل وإلى النفس، وليست اللغة التي يتكلف الإنسان جهدا بالغا للتعبير عن نفسه بواسطتها.
والدارسون لتطور الحضارات أدركوا أن اللغة معاكسة التوازي مع التقدم الحضاري. فكلما وصلت إحدى الحضارات إلى درجة من التعقيد والتطور الراقي، كلما شعرت بالاحتياج الفطري إلى لغة سهلة تعبر عنها. وهذا هو سر الجهود المستمرة في تبسيط اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدول المتقدمة. وكلما ازداد التقدم كلما ازدادت الحاجة إلى تبسيط اللغة.
وبعيدا عن النفاق، فإن علينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التي نرفض عادة حتى التفكير فيها، ناهيك عن طرحها ومناقشتها على الملأ. وأول هذه الأسئلة هو عدد العرب القادرين على فهم التراث الشعري العربي، حيث إن الشعر هو أهم ما تركه العرب من آثار فنية وثقافية. وبمعنى آخر: من يستطيع أن يقرأ قصيدة للمتنبي أو ابن الرومي ويفهم معانيها فهما معقولا؟ كم شخصا قادرا اليوم على القراءة يستطيع أن يمسك بديوان البحتري أو أبي تمام ويتذوق ما به من أشعار؟
وإجابتي عن هذا السؤال هي أن النسبة القادرة على هذا لن تزيد بحال من الأحوال عن واحد في المائة من أبناء الشعوب العربية في أحسن التقديرات. ومن يعترض على هذه النسبة ويرفع شعارات حماسية عليه أن يقوم بتجربة عملية على من حوله من الأشخاص العاديين، أي غير المتخصصين في الأدب أو اللغة العربية، وحتى لو شملت هذه التجربة خريجي أفضل الجامعات في الطب أو الهندسة أو التجارة أو حتى كليات الآداب، باستثناء قسم اللغة العربية، فإن النتيجة لن تزيد عن نسبة هزيلة للغاية، أؤكد وأنا مطمئن أنها ستقل عن 10 في المائة.
وإذا أخذنا في الاعتبار نسبة الأمية المرتفعة في العالم العربي، والتي تزيد اليوم عن 50٪، سنجد أن افتراض 1٪ الذي ذكرته قد يكون أعلى كثيرا من الواقع؛ فأغلب الظن أن نسبة من يفهمون الشعر العربي، وهو العمود الفقري لتراثنا الثقافي، لن تزيد عن نصف في المائة أو أقل من ذلك. ربما ارتفعت قليلا في دول تعداد سكانها ضئيل، وحصل أبناؤها على قسط من التعليم أكثر من غيرهم، لكن هذه النسبة لن تزيد بحال من الأحوال عن 2 أو 3٪ على أكثر تقدير، وفي عدد ضئيل جدا من الدول، إنما المتوسط العام لن يزيد عن نصف في المائة. •••
ولا يقتصر الأمر على الشعر وحده، فلو عرضنا كتاب «الأغاني» على المتعلمين من غير المتخصصين فستكون نسبة الذين يفهمون الكتاب بصورة مرضية والقادرين على إدراك معانيه وتذوق ما أبدعه الأصفهاني نسبة ضئيلة للغاية.
والغريب أنني عندما طرحت هذا السؤال على البعض أبدى غضبه من الطرح ذاته. وقد تهرب من الإجابة غالبية من طرحت عليهم السؤال ورفضوا أن يقروا بحقيقة لا تقبل أي شك، وهي أن الغالبية العظمى من المصريين والعرب غير قادرين على استيعاب الشعر القديم والأدب الكلاسيكي دون شرح مستفيض.
Unknown page