مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة
1 - برج بابل
2 - هل هناك لغة عالمية؟
3 - رسالة إلى حراس الضاد
4 - هل العربية لغة مقدسة؟
5 - المسيحيون والعربية
6 - المتنبي يخاف من الإعراب
7 - شيزوفرينيا لغوية
8 - غاية اللغة
9 - ضد تحنيط العربية
10 - الاستثناء العربي
قالوا عن الكتاب
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة
1 - برج بابل
2 - هل هناك لغة عالمية؟
3 - رسالة إلى حراس الضاد
4 - هل العربية لغة مقدسة؟
5 - المسيحيون والعربية
6 - المتنبي يخاف من الإعراب
7 - شيزوفرينيا لغوية
8 - غاية اللغة
9 - ضد تحنيط العربية
10 - الاستثناء العربي
قالوا عن الكتاب
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
تأليف
شريف الشوباشي
إن اللغة العربية ليست ملكا لرجال الدين، ولكنها ملك للذين يتكلمونها جميعا من الأمم والأجيال.
د. طه حسين
مستقبل الثقافة في مصر
مقدمة الطبعة الثالثة
عندما سلمت النص النهائي لهذا الكتاب إلى المطابع في أبريل 2004 لم أكن أتخيل أنني أحمل بين يدي قنبلة موقوتة ستنفجر لتمزق الصمت المهيمن على الحياة الثقافية والفكرية في مصر منذ أكثر من ثلاثين عاما.
كنت أتوقع أن بعض الأقلام ستهب للدفاع عن اللغة العربية من منطلق الرفض المسبق لأي مساس بلغة الضاد، بل لأي جديد في أي مجال. وكنت أمني نفسي بأن أصحاب الفكر المتطور ودعاة الاستنارة سيشهرون أقلامهم ردا لحجج الجمود والتحجر.
لكن ما حدث خلال الأشهر الثلاثة الماضية جعلني أعيد النظر في بعض قناعاتي عن توازنات الحياة الثقافية في مصر.
والضجة التي أثارها الكتاب تدل على واقع لا يمكن مجادلته، وهو اعتراف الجميع، من مؤيدين ومعارضين، بأن هناك مشكلة حقيقة تواجه اللغة العربية الآن. ولولا أنني وضعت يدي على العصب المكشوف لما انتبه أحد لكتابي ولما ثارت ثائرة الكثيرين عليه.
لكن ما أذهلني أن الغالبية العظمى ممن تصدوا للتعليق على الكتاب لم يقرءوه وقد اتضح من خلال تعليقاتهم أنهم اكتفوا بالمثل القائل: «الكتاب يقرأ من عنوانه»!
وإذا كان لي أن أبدي بعضا من الملاحظات حول أهم الانتقادات التي وجهت للكتاب، في طبعتيه السابقتين، فإنها تتلخص في الآتي:
أولا:
كان الاتهام الأول هو أنني أدعو إلى هجر الفصحى واللجوء إلى اللهجات العامية، ومن يقرأ الكتاب يتضح له أنني أنادي بعكس ذلك تماما، بل إن استشراء اللهجات كان من أهم دوافعي للتفكير في الكتابة حفاظا على الفصحى.
ثانيا:
الاتهام الثاني هو أنني أسعى إلى هدم اللغة العربية وتشويهها، مع أن كل سطور الكتاب، وما وراءها، هي دفاع موضوعي عن الفصحى.
ثالثا:
الاتهام الثالث هو أنني أطالب في الكتاب بإلغاء النحو، وهذا اتهام مضحك للغاية، فلا يمكن أن يكون هناك لغة في العالم بغير نحو وقواعد، فلغات «الهوسا» في نيجيريا، و«البمبرا» في مالي، لديها قواعد نحو تحكمها. وما أطالب به هو تطوير وتيسير النحو العربي.
رابعا:
الاتهام الرابع هو أنني لست متخصصا في اللغة حتى أتناول هذا الموضوع، وردي أن اللغة هي أداتي وأداة كل عربي للتعبير عن نفسه من ناحية، وللاتصال بالآخرين من جهة أخرى، وبالتالي فمن حقي، كاتبا ومثقفا، برأيي في وضع اللغة الحالي الذي يعترف الجميع بأنه مأسوي.
خامسا:
أن غالبية من شاركوا في الحملة على الكتاب ركزوا على اقتراحاتي التطبيقية مثل إلغاء المثنى ونون النسوة وغير ذلك، وقد قلت بوضوح إن هذه مجرد اجتهادات لا أتمسك بها ولا أدعي أنني أملك سلطة إقرارها، لكنني أقول بوضوح مرة أخرى: إن المجامع اللغوية في العالم العربي هي الوحيدة المنوط بها إقرار كيفية تطوير النحو والصرف بالتنسيق فيما بينها.
على أن ما راعني هو المزايدات التي جاءت ممن يقفون خلف ساتر «قدسية اللغة»، فهؤلاء يرون أن أي مساس باللغة هو مساس بالقرآن الكريم، مع أن هذه قضية حسمت منذ قرون، وقد جئت بأدلة دامغة في كتابي تفند هذه الحجة. واللغة ليست شرطا من شروط الإيمان، فإذا أراد أجنبي أن يعتنق الإسلام فهل تشترط عليه مسبقا تعلم اللغة العربية؟
وعلى الرغم من عنف الانتقادات، إلا أنني لم أغضب من أصحاب الأقلام الجادة الذين اختلفوا معي، فأنا لا أدعي - مثل البعض - أنني أمتلك الحقيقة المطلقة. وقد جاء بعض الذين انتقدوا الكتاب بحجج وجيهة وأمثلة في الصميم استفدت منها كثيرا، لكن البعض الآخر انزلق إلى أسفل الدرك في توجيه الاتهامات العشوائية، وهؤلاء لا يستحقون مجرد الرد ولا الالتفات.
وفي النهاية، فإن ما أصابني بخيبة أمل هو نكوص الكثير من أصحاب الأقلام التنويرية الذين من المفترض أن يحاربوا معركتهم في مواجهة الاتجاه المحافظ وتيارات الانغلاق، فقد هنأني بعضهم في الحجرات المغلقة، ثم لاذوا بالصمت الرهيب خارجها؛ إيثارا للسلامة.
مقدمة
أصبت بصدمة في أحد أيام مارس 2001 عندما فتحت العدد السنوي من «الألمناك» والذي كان صادرا قبلها بأيام قليلة، و«الألمناك» هو مطبوعة سنوية تحمل المعلومات الأساسية في كافة المجالات وآخر الإحصائيات العالمية. ومن عادتي أن أتابع في «الألمناك» آخر أرقام تعداد السكان في دول العالم وفي أكبر المدن، ومعدلات النمو، وكذلك عدد أبناء كل ديانة والناطقين بأهم لغات العالم، ومعلومات أخرى كثيرة ذات فائدة كبيرة.
أما عن الصدمة، فكانت عندما جلت بنظري في جدول أهم اللغات المتداولة في العالم، فلم أجد العربية في مكانها المعتاد بهذه المطبوعة، وأعدت قراءة جدول أهم اللغات عدة مرات وأنا في حيرة شديدة: هل هناك مشكلة أصابت نظري؟ أم أن اللغة العربية سقطت منهم سهوا، أم ماذا؟
وعندما فتشت في الجدول الموسع للغات المنتشرة في العالم، والذي يضم نحو 230 لغة، أدركت الحقيقة التي أثارتني بقدر ما أزعجتني، فمطبوعة «الألمناك» لم تعد تعتبر العربية لغة قائمة بذاتها، على أساس أن اللغة هي أداة التفاهم اليومي بين الناس وليست أداة الدرس والعلم، وهم يعتبرون أن العربية صارت لغة لقراءة الكتب والمراجع.
أما لغة التفاهم في العالم العربي فهي اللهجات مثل المصرية والشامية والمغربية. وباختصار فهم قرروا أن يعتبروا العربية من اللغات الميتة التي يعرفها البعض، زاد أو قل عددهم، لكنهم لا يستخدمونها في تعاملهم اليومي.
ومن الممكن أن يكون أول رد فعل لنا أن ننتفض صائحين: «هيهات، وموتوا بغيظكم أيها الحاقدون، ووالله هذا لن يكون أبدا.» وأنا أقول: إن شاء الله هذا لن يكون، لكن هذا لا يكفي. فهذه المطبوعة تعتبر من المطبوعات الجادة التي يعتد بها في العالم، وإن كانت لا تخلو من الأغراض الخبيثة، وخاصة حيال الإسلام والعرب.
ومع ذلك، فإن كبار الكتاب والمتخصصين في العالم، وخاصة في الغرب، يعدونها من أهم مراجعهم، وبالتالي فمن الخطأ أن نأخذ موقف هذه المطبوعة من العربية بالاستخفاف والتعالي، بل ومن مصلحتنا أن نعتبره جرس إنذار علينا أن نستمع إلى ما يحمله رنينه إلينا بكل جدية وحرص حتى وإن كرهنا محتواه.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن هناك جامعات ومعاهد لغات في أوروبا وغيرها تقوم بتدريس اللهجات عوضا عن العربية، بل إنهم يخيرون الطلبة الراغبين في دراسة العربية بين الفصحى وإحدى اللهجات العامية، وهنا يتضح لنا مدى خطورة الموقف. بل إن مراكز تعليم اللغة في البلدان العربية تفعل نفس الشيء مع الأجانب المبتدئين في تعلم لغتنا.
والأكثر من ذلك أن هناك محاولات جادة لتقعيد اللهجات حتى تصير بمثابة لغات كاملة الأركان لها قواعد النحو والصرف الخاصة بها.
وكما نثبت في هذا الكتاب، فإن اللهجات كانت موجودة دائما. واللغة الفصحى التي نرمز إليها أحيانا بلغة سيبويه لم تكن في يوم من الأيام لغة تفاهم وتعامل يومي، اللهم إلا في فترة وجيزة جدا في رقعة جغرافية محدودة بالجزيرة العربية. فما الذي استجد حتى ننزعج اليوم من اقتحام اللهجات لحيز التعامل اللغوي بين العرب؟
الجديد هو أننا نعيش في عصر يعرف باسم عصر العولمة. وأيا كان موقفنا من تلك العولمة، فإن لها بالتأكيد آثارا سلبية على الثقافات الإقليمية، وعلى كل مقومات الحضارات، ومن بينها اللغات.
والعولمة بمعناها السياسي والاقتصادي ذوبان الحدود بين الدول والتجمعات الإقليمية. لكن معناها الثقافي عميق، وقد يكون أكثر تأثيرا على الشعوب. فالعولمة قد تؤدي إلى هيمنة ثقافة واحدة على العالم، مما يترتب عليه انكماش مقومات الثقافات الأخرى التي تبلورت من خلال حقب التاريخ المتعاقبة. وبالتأكيد إن اللغة من أبرز مقومات الشخصية الإنسانية، ولا بد بالتالي أن تتأثر بالعولمة.
الجديد أيضا هو أن وسائل الإعلام الحديثة جعلت أدوات التفاهم الشفهية تنافس المكتوبة، بل وتتفوق عليها أحيانا وتسحب من تحتها البساط. ففي الماضي كانت الوسيلة الوحيدة للاتصال وحفظ المعلومات هي الكتابة. أما منذ نهاية القرن العشرين، فقد ظهرت الوسائل السمعية والبصرية التي جعلت للكلمة المنطوقة أهمية كبرى لم تكن لها بهذا القدر منذ عرف الإنسان الكتابة، وانطوى عندئذ عصر الثقافات الشفهية؛ فالتسجيلات الصوتية والصورة صارت هي الأخرى وسائل حيوية لنقل المعلومات وتخزينها، كمراجع للمعرفة.
وأخيرا وليس آخرا، فمن المؤكد أن هناك من لا يريد للعالم العربي أن يكون واحدا، ويأمل في قرارة نفسه تمزيق أواصر هذا العالم. وحيث إن أهم ما يربط بين العرب هو لغتهم، فإن القضاء على هذه اللغة سيؤدي إلى نهاية عالمنا العربي، وربما كان هذا هو الهدف الخفي من وراء المشروعات الغربية المطروحة على الساحة في بداية القرن الحادي والعشرين.
وأمام هذه التحديات الخطيرة؛ فإن اللغة العربية تمر الآن بمفترق طرق حيوي؛ إما أن تجدد نفسها فتبقى دائما لغة العرب المشتركة، أو أن تتقوقع على نفسها، فتواجه بالفعل خطر الزوال لحساب اللهجات، كما حدث للغة اللاتينية في القرون الوسطى الأوروبية. وهذا الاحتمال، وإن كان بعيدا، إلا أنه ليس من دروب الخيال العلمي.
والمشكلة هي أن اقترابنا من قضية اللغة مغلوط من أساسه؛ فهو يقوم على فرضية نعدها من المسلمات، وهي أن مشكلة اللغة تكمن في الناطقين بها من العرب. وكل من يتصدى للحديث عن اللغة هذه الأيام يسخر من جميع من يخطئون فيها ويستهزئ بالآخرين، وكأنه معصوم من الخطأ في اللغة. فالمنطق السائد في هذا الموضوع يشابه ما طرحه الشاعر مرسي جميل عزيز في أغنية: «سيرة الحب» التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم عن مشكلات الحب ومن هو المتسبب فيها؛ حيث تقول: «العيب فيكم يا في حبايبكم، أما الحب، يا روحي عليه.» فالخطأ إذا ليس في الحب وإنما في كل من يمارسونه بأسلوب خاطئ.
ولو كان من الممكن أن تنطبق هذه المقولة على الحب؛ لأنه قيمة مجردة، فإنه لا يمكن أن تنسحب على اللغة، فاللغة كائن حي لا بد أن تتغير بتغير الوقت وأن تجاري الزمان، وبالتالي فأنا أقول: إن الخطأ لا يقع بالكامل على مستخدمي العربية؛ لكنه يقع أساسا على عاتق اللغة نفسها.
وأقول لكل من يتعذب من جراء تعلم اللغة، أو يشعر بعقدة نقص لعدم إجادته العربية إجادة تامة: لا تقلقوا؛ فالعيب ليس فيكم، ولكنه في اللغة التي لم تشملها سنة التطوير. وأستطيع انطلاقا من هذا أن أبرئ ساحة ملايين العرب بل الأغلبية الساحقة من الشعب العربي من ذنب عدم تملك ناصية لغة الضاد بكل تعقيداتها.
ومن منطلق معرفتي بمستوى التعليم في فرنسا وغيرها من الدول الغربية، أستطيع أن أجزم بأن المستوى اللغوي لخريجي الجامعات المصرية من غير المتخصصين يوازي مستوى تلميذ في بداية المرحلة الإعدادية هناك في لغته الأم.
فهل يعكس هذا نبوغ تلاميذ العالم الغربي وتخلف طلاب العلم عندنا؟ بالتأكيد لا؛ فإن المستوى الذهني متقارب بين الاثنين، إنما المعضلة تكمن في اللغة العربية التي ترقى تعقيداتها إلى مرتبة اللوغاريتمات المنغلقة على عقول غير المتخصصين.
وفي فصول هذا الكتاب سنناقش بهدوء الأهمية الحيوية للغة في حياتنا، وهل هناك شيء اسمه لغة عالمية، كما سنناقش لماذا يتعذب ملايين التلاميذ والطلاب من أجل تعلم اللغة العربية بدلا من أن يركزوا طاقاتهم في تحصيل العلوم من خلال أداة لغوية سهلة طيعة، كما هو الحال بالنسبة لطلاب غالبية دول العالم الأخرى.
فعلينا، بعيدا عن النفاق، أن نعترف بأن طلبة المدارس يكرهون حصة اللغة العربية، وينعون همها أكثر من أي مادة تعليمية أخرى. فإلى متى نجعل أطفالنا وشبابنا يتجرعون عذاب القواعد المعقدة التي عفا عليها الزمن ولم تعد تواكب العصر؟
وتتعدى القضية تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات حيث يكاد لا يوجد شخص في العالم العربي لا يخطئ في اللغة، وحتى الذين يتباكون على اللغة ويتهكمون على أخطاء غيرهم غير قادرين على القراءة والكتابة دون خطأ، باستثناء بضع مئات معدودة من المتخصصين في العالم العربي كله.
وهذه اللغة العظيمة التي نزل بها إعجاز القرآن الكريم، والتي فتحت للعرب آفاقا رحبة للتطور الفكري والإبداع الفني أصبحت، مع مرور القرون، قيدا يكبل العقل العربي ويغل طاقتنا الخلاقة، فاللغة تحولت إلى إسار يخنق أفكارنا ويلجمها. وهي تسهم للأسف في حرماننا من الانطلاق إلى الآفاق الرحبة التي يفتحها العلم الحديث ووسائل المعيشة المواكبة للتطور العلمي. وباختصار فإن اللغة أصبحت سجنا يحبس العقل العربي بين جدرانه الحديدية بإرادته المستكينة.
فالعربية هي اللغة الوحيدة في العالم اليوم التي لم تتغير قواعدها الأساسية منذ 1500 سنة كاملة. قد يرى البعض في ذلك رسوخا واستمرارية ودليلا على رصانة اللغة، لكني أرى فيه جمودا وتحجرا ينعكس سلبا على العقل العربي؛ فاللغة كما قلنا كائن حي، يولد وينمو ويتطور ويشب وينضج ثم يشيخ، وكثيرا ما يموت، ودورنا هو إعادة الشباب إلى لغتنا، وإجراء عمليات تجميل لإزالة التجاعيد التي تراكمت بعد قرون من الممارسة الناجحة، فالجمود في اللغة يؤدي حتما إلى جمود في العقل، والتحجر في اللغة يؤدي إلى تيبس الأذهان.
وفي الماضي كان النوابغ قادرين على معرفة اللغة والتراث والحديث والتعمق في الوقت ذاته في علوم مثل: الفلك، والكيمياء، والرياضيات. أما اليوم، ومع الاتساع اللامتناهي في المعارف، فإن الإنسان العربي يجد نفسه أمام خيار صعب: إما أن يكرس حياته لدراسة اللغة والتراث، أو أن يتخصص في فرع من فروع العلم والمعرفة الحديثة.
وفي الحالة الأولى، فإنه سيكون ضليعا ولا شك في العربية، لكنه سيكون شبه منقطع عن العالم ومحبوسا في دائرة مغلقة تجعله خارج حياة القرن الحادي والعشرين، وفي الحالة الثانية يكون مواكبا للتطور الحضاري الهائل في العالم أجمع، لكن معرفته بالعربية ستكون محدودة وسطحية إلى حد بعيد.
وسنعقد في فصول هذا الكتاب مقارنة سريعة بين العربية واللغات الحية الأخرى؛ لنتبين صدق هذه الحقيقة، وسنشعر من هذه المقارنة بين العربية بقواعدها الجامدة مع اللغات الأخرى التي تستخدمها الشعوب المتقدمة، أننا كمن يمتطي جمالا بالطريق السريع، في الوقت الذي يركب فيه غيرنا سيارات تنقلهم بأقصى سرعة إلى ساحات التقدم. فتحصيل العلم من أجل تطبيقه لنفع الإنسان أصبح الشغل الشاغل للمجتمعات المتحضرة. لم يعد هناك فراغ يجعل الناس تستلذ صعوبة القواعد وتعقيد الكلمات كما هو الحال عندنا ، حيث ينتشي البعض وتنتفخ أوداجهم سرورا عندما يصححون خطأ لغويا، ويتلون قاعدة متقعرة، لا قيمة لها إلا أنها من وضع النحاة الأقدمين.
هذا في حين أن المجتمعات المتقدمة في صراع مع الزمن، وليست على استعداد لإضاعة وقتها الثمين في الكلمات الرنانة الفارغة من أي محتوى، وفي القواعد المعقدة والجناس والطباق والمقابلة والاستعارة المكنية وغير المكنية، وما شابه ذلك من محسنات بديعية. حتى الأدب العالمي أصبح يعتمد على المعنى والمضمون وليس على زخرف اللغة والتلاعب بالألفاظ.
وسوف نتعرض أيضا بمعيار العقل إلى قضية حساسة هي علاقة اللغة بالدين، وهل العربية لغة «توقيفية» أي هابطة من السماء، كما يريد البعض، أم لغة «اصطلاحية»، أي من صنع الإنسان، كما يريد المنطق؟ مع أن الكل يعلم أن العربية نشأت واستوت كمنظومة لغوية متكاملة في العصر الجاهلي، فهي إذن تنتمي، كلغة، إلى العصر الجاهلي، لكن الله سبحانه وتعالى تخيرها لتنزيل رسالته إلى البشر، فسما بها إلى أعلى مراتب الإعجاز. •••
وفي كتاب «الداء العربي» حاولت أن أضع أصابعي على بعض أسباب تخلف العالم العربي عن ركب الحضارة العالمي، ورصدت فيه ثلاثة محاور أساسية هي: «الفكر القبلي» و«ثقافة الأذن» و«حضارة اليقين»، وكنت أنوي أن أخصص فصلا عن اللغة بعنوان «رسالة إلى حراس الضاد» أشدد فيه على ضرورة الثورة على قواعد اللغة التي لم تعد تواكب زماننا، فأنا أعتبر أن اللغة هي أحد عناصر تخلف العالم العربي، وأن تحجر البعض في تناول قضية اللغة من أسباب عملية إجهاض النهضة الذي قمت بتحليله في كتاب «الداء العربي»، لكنني وجدت أن قضية اللغة أكبر من أن تعرض في فصل داخل كتاب؛ فهي في حاجة إلى مؤلف مستقل يحلل الظاهرة ويحيط بها من جوانبها المختلفة.
ويأتي هذا الكتاب تكملة لما سعيت إليه في «الداء العربي»، فقد آن الأوان أن ندرك أن اللغة أصبحت إحدى العقبات في سبيل انطلاق العقل العربي، وآن الأوان أن نقول هذا الكلام بشجاعة في وجه من يريدون الحجر على عقولنا وترويع كل من ينادي بالتحديث . •••
وبعيد عن ذهني تماما هجر اللغة العربية لحساب اللهجات العامية، أو استخدام الحروف اللاتينية، وما شابه ذلك من اقتراحات طرحها بعض الذين أدركوا نكوص الفصحى عن التعبير عن واقعنا الحالي، فالذين يدعون إلى وأد العربية لا يدركون تبعات مطلبهم، فاللغة العربية أنتجت بعضا من أهم الإبداعات الإنسانية، ومن يدرس تاريخ الآداب العالمية لا يسعه إلا أن يتوقف بإجلال أمام أشعار المتنبي، وأبي العلاء، وأبي نواس، ونثر أبي حيان التوحيدي، كما لا يملك إلا أن ينحني تحية لأدب نجيب محفوظ.
وترك اللغة العربية معناه ببساطة محو كل هذا التراث العظيم من الذاكرة الجماعية للشعب العربي. هذا عن التاريخ، أما عن الحاضر فإن معناه تفتيت الأمة العربية وشرذمتها إلى كيانات مستقلة وربما متنافرة. فإذا نظرنا إلى الوطن العربي اليوم نجد أن أقطاره تختلف في السياسة وتتنافر في الاقتصاد وتتنافس في التجارة. الجانب الوحيد الذي يجمع بين العرب هو اللغة والثقافة؛ فإذا سحبنا البساط من تحت هذا الجانب فإننا نهدم صرحا يظل كافة العرب وكأننا نهدم المعبد فوق رءوسنا.
ولهذه الحيثيات فإنه لا يمكنني أن أقف مع الداعين إلى هدم العربية من أساسها، لكنني أطالب بإعادة النظر في القواعد الأساسية للغتنا؛ لتصبح أداة فعالة لتفجير طاقات العقل العربي المحتبسة في هيكل اللغة المقدس.
وأنا على ثقة من أنني أترجم المشاعر الدفينة في نفوس ملايين العرب، وأنا أهتف قائلا: يسقط سيبويه.
الفصل الأول
برج بابل
يخطئ كثيرا من يتصور أن قضية اللغة من القضايا الهامشية أو الثانوية التي يواجهها المجتمع، أو حتى أنها مجرد قضية هامة من بين قضاياه المتعددة. وقد يرى البعض أن الأجدى التعرض للقضايا الاقتصادية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الموضوعات الحيوية التي تمس الحياة اليومية للإنسان العربي. أما قضية اللغة فهي ترف ينبغي أن نتركه للمتخصصين وعلماء الفقه اللغوي.
فالحقيقة أن اللغة قضية حيوية ستسهم بشكل حاسم في تحديد الهوية العربية وتطور ثقافتنا في القرن الحالي. كما أنها ملك لكل من يستخدمها وليست حكرا على علماء اللغة. وسنحاول في هذا الفصل إثبات أهمية اللغة في حياة الإنسان منذ بدء الخليقة، وكيف كانت عنصرا مؤثرا في تطور المجتمعات وتشكيل الوجدان الجماعي لها.
وهناك بين اللغة والفكر علاقة جدلية؛ فاللغة وعاء الفكر، والفكر مضمون اللغة. والإنسان لا يستطيع أن يفكر بطريقة مجردة وإنما يفكر من خلال كلمات وتركيبات لغوية تتفاعل في ثنايا عقله. فنقل الأفكار يكون دائما باللغة سواء عن طريق الكلام أو الكتابة.
أما وسائل التعبير الأخرى مثل الرسم والموسيقى مثلا فتنقل شحنات من الأحاسيس والمشاعر. لكن كل هذه الوسائل التي لا تعتمد على اللغة عاجزة عن إيصال الفكر من إنسان إلى آخر. وقد ظل الإنسان لمئات الآلاف من السنين أقرب إلى الحيوان؛ نظرا لعدم تبلور أداة للتفاهم بينه وبين الآخرين من بني جنسه.
وعلماء الأنثروبولوجي يؤكدون العلاقة المتوازية بين تطور اللغة وتقدم المجتمعات الإنسانية؛ فكلما استطاع الناس أن يتفاهموا فيما بينهم، كلما نجحوا في تطوير حياتهم ومستوى معيشتهم. والعكس صحيح، فقد ثبت دائما أن التخلف الفكري والإفلاس الحضاري يؤديان بالضرورة إلى اضمحلال اللغة.
والتخلف اللغوي يعيق العقل عن التطور الحضاري ويؤدي إلى تحجيم للإدراك والخيال اللازمين للتقدم؛ فالفقر اللغوي كثيرا ما يعكس فقرا معنويا وحتى ماديا للمجتمع.
والتعريف الشائع للإنسان هو أنه حيوان ناطق، فالفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان هو النطق، أي: اللغة. الحيوان لا يستطيع التعبير عن نفسه، ولا يستطيع أن يورث خبرته وتجاربه لمن بعده، على عكس الإنسان الذي ينقل كل معارفه وعلمه عن طريق اللغة.
وهناك نظريات عديدة في أصل اللغات، ونشأتها وتطورها عند الإنسان البدائي الذي ظل ملايين السنين حتى توصل إلى لغة راقية تعبر عن مشاعره ومتطلباته. لكن علماء الأنثروبولوجي يرجحون أن الإنسان الأول كان يدرك الأشياء في البداية، كصور مجسدة في عقله، فيفكر مثلا في أسد أو نهر، فيتمثل كل منهما أمامه، وظل كذلك حتى بدأ يصدر أصواتا للتعبير عن تلك الأشياء التي يريد استحضارها ونقلها لغيره. ومن هنا بدأت اللغة.
وظل التفكير الإنساني قاصرا وأقرب إلى تفكير الحيوان طالما لم تتكون لغة التحاور؛ فالتفكير في الأشياء المادية المحسوسة والأحاسيس الغريزية مثل الخوف والجوع يساعد على خلق لغة بدائية تتكون من أصوات، ثم كلمات مقتضبة للتعبير عنها، لكن التطور الذي عرفه الإنسان بعد المراحل الأولى من وجوده على الأرض، كان يستلزم وسيلة أكثر تعقيدا للتعبير والتفاهم. وبدأت اللغات تنمو وتتطور وتجسد أفكارا مجردة. وبالتوازي مع تطور وسيلة التعبير عما يجيش في صدره من أحاسيس ومشاعر انفتحت أمام الإنسان آفاق التقدم والحضارة.
وكانت الكتابة من أهم الثورات الثقافية التي عرفها تاريخ البشرية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، بل إن التاريخ نفسه يبدأ بالكتابة، أي: بتثبيت اللغة الشفهية وتخطيها لحاجز الزمن. والخط الفاصل بين ما يسمى بعصور ما قبل التاريخ وعصور التاريخ هو اختراع الكتابة. وعلى الرغم من اختلاف العلماء حول الحضارة التي كان لها فضل اختراع الكتابة أهي المصرية، أم السومرية؟ إلا أن الإجماع على أن بدء التدوين كان لحظة تاريخية فاصلة، جعلت الإنسانية تقفز قفزة عملاقة إلى الأمام.
قبل ذلك كانت المعلومات والخبرات تنتقل كلها شفاهة من جيل إلى جيل. وهذا التوارث السمعي من شأنه أن يطمس الثقافة ولا يسمح بوجود دين أو معرفة حقيقية. فقوام الأديان السماوية كلها هي الكتب التي تحمل رسالة كل دين، وليس المنقول عن الأنبياء أنفسهم بالسمع جيلا بعد جيل. فالتوراة والإنجيل والقرآن هي الأسس التي شيدت عليها الديانات السماوية الثلاث. وكان القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المحفوظ عند العرب بعد انتقال سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى الرفيق الأعلى.
وإذا سألنا أنفسنا: ما الذي يربطنا بماضينا وبتراثنا الثقافي؟ فإن الإجابة هي ببساطة: اللغة؛ فاللغة هي الوسيلة الأساسية لمعرفة كل ما حدث قبل وجود جيلنا في الدنيا، فمعلوماتنا عن الماضي نستقيها من الكتب التي تركها السلف، كما أن التراث والأدب والفكر مرهونون كلهم باللغة التي دونوا بها ونقرؤها اليوم كما قرأها من عاشوا قبلنا.
هناك طبعا الآثار الباقية مثل: الأهرام وأبي الهول، والمساجد، والقصور، والقطع الأثرية، مثل: التماثيل والأواني والحلي وغير ذلك، لكن كل مخلفات الماضي البعيد والقريب تفقد معناها في غياب الفهم اللغوي؛ فالآثار الفرعونية القديمة مثلا ظلت أحجارا صماء لم تعرف قيمتها ومعناها أجيال متعاقبة من المصريين لقرون طويلة بسبب عدم فهم اللغة الهيروغليفية المنقوشة عليها. وكان العرب يفتون فتاوى غريبة حول بناء الأهرام، فصاحب المعجم القاموس يقول مثلا: «إن الهرمين بناءان أزليان بمصر، بناهما إدريس عليه السلام، لحفظ العلوم فيهما من الطوفان، أو بناء سنان بن الشلشل.»
ووصل الأمر إلى أن الخليفة المأمون عندما قدم إلى مصر عام 832م أمر بتفكيك أحجار الأهرام بهدف استخدامها في بناء منشآت جديدة. ولولا ثقل الأحجار وأحجامها الضخمة، التي حالت دون تنفيذ أوامر المأمون، لفقدت مصر والعالم أجمع إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة. بل إن هرم خوفو هو الوحيد الباقي إلى يومنا هذا من عجائب الدنيا السبع القديمة.
أما الست الأخر، وهي: فنار الإسكندرية، وحدائق بابل المعلقة، وعملاق رودس، وتمثال زيوس، ومعبد أرتميس (حامية الأرض عند الرومان) وضريح هاليكارناس، فقد تهدمت جميعا بفعل الزلازل، والحرائق، والعوامل الطبيعية الأخرى.
فالهرم الأكبر إذا هو البناء الوحيد من عجائب الدنيا السبع الأصلية الذي تحدى الزمن وانتصر على كل عوامل الهدم، مما جعل الشاعر يقول عنه:
خليلي ما تحت السماء بنية
يشابه بنياها بنا هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على الأرض يخشى دائما سطوة الدهر
وهذا الصرح العظيم الذي يعتبر اليوم أهم بناء على وجه الأرض، ويوضع على رأس قائمة التراث العالمي الواجب حمايته، والذي تحتضنه منظمة اليونسكو الدولية، كاد يزول بسبب الجهل باللغة.
وعندما نجح شامبليون في فك طلاسم الهيروغليفية في بداية القرن التاسع عشر تكشفت أسرار الحضارة المصرية القديمة، التي يعتبرها العالم أجمع اليوم أم الحضارات الإنسانية كلها. وقد كانت اللغة هي المفتاح الوحيد؛ لفهم قيمة الأحجار الصماء التي تركها أجدادنا في عصور الفراعنة.
ولو افترضنا جدلا أننا فقدنا فجأة معرفتنا بالعربية، فإننا لن نستطيع قراءة القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وسننقطع بذلك عن ديننا، كما سنفقد أي اتصال بتراثنا الأدبي والثقافي العظيم. فما الذي يربطنا بعظماء مثل المتنبي أو البحتري أو حتى أحمد شوقي وطه حسين؟ إنها اللغة أيضا.
ولو لم نكن نعرف العربية؛ لما استطعنا أن نفهم ما أبدعه هؤلاء؛ ولصرنا عاجزين عن الارتباط بماضينا. والانقطاع عن الماضي هو أكبر كارثة يمكن أن تواجه شعبا من الشعوب. والوصل المطلوب بالتراث اليوم يمر بتطوير سريع وجريء للغة؛ وليس بالتمسك بها كما هي بغباء قد يؤدي إلى أخطر النتائج على العربية. •••
وبالإضافة إلى دورها الأساسي كوسيلة وحيدة لحفظ التراث وانتقاله عبر الأجيال، فإن اللغة هي أحد أهم العناصر المكونة للحضارة وللهوية الإنسانية في كل مكان. وأول اتصال بين إنسان وآخر يتم عن طريق اللغة. ويحتاج الزعماء ورجال السياسة والاقتصاد إلى مترجمين للتفاهم، ولولا هؤلاء المترجمون الذين يجيدون أكثر من لغة لكان التفاهم صعبا للغاية، إن لم يكن مستحيلا. فاللغة هي الأداة الأساسية للتفاهم، لكنها أيضا الوعاء الذي يتبلور فيه فكر الإنسان ورؤيته للحياة؛ وبالتالي فإن اللغة هي العنصر المشكل للثقافة وللفكر والفلسفة والآداب.
وبالإضافة إلى هذا فإن اللغة هي أداة التفاهم الأساسية بين أبناء البشرية. وقد أثبت القرآن الكريم الأهمية الحيوية للغة حين يقول تعالى:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم: 4)؛ أي أنه لو تحدث الرسل بلغة مختلفة أو غريبة عن قومهم ما أوضحوا لهم وما بينوا لهم ما كلفوا بنقله من رسائل سماوية. ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى عندما يقول:
ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (الشعراء: 198 و199).
ثم هذه الآية التي توضح هذا المعنى بجلاء:
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء (فصلت: 44). ومعنى هذا بوضوح أن اختيار الله سبحانه وتعالى للعربية جاء بناء على لغة القوم الذين أنزل عليهم الكتاب.
والواقعة الوحيدة المذكورة في القرآن عن تحدث الله سبحانه وتعالى إلى بشر كان بطلها النبي موسى؛ ويقول كتاب الله:
فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (طه: 11، 12، 13). وباقي الآيات معروفة في سورة طه. ولنا أن نتساءل: بأي لغة تحدث الله إلى عبده موسى؟
فموسى تربى في مصر وعاش بها وكان يتحدث اللغة المصرية القديمة. أما العربية، فلم يكن لها وجود على الأرض آنذاك؛ فموسى عاش قبل خاتم الأنبياء بسبعة عشر قرنا. ويجمع علماء اللغة على أن لغة الضاد لم تتخذ ثوبها الذي نزل به القرآن إلا قبل قرن أو قرن ونصف على الأكثر قبل الدعوة.
ومن المسلم به أن موسى فهم كل كلمة مما قاله ربه؛ فقد سأله:
وما تلك بيمينك يا موسى (طه: 17) فأجابه النبي كما هو وارد في سورة طه، ثم ألقى الله بأوامر محددة حين قال:
ألقها يا موسى (طه: 19) ثم:
قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (طه: 21) ثم:
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (طه: 22) ثم:
اذهب إلى فرعون إنه طغى (طه: 24). وقد أجاب موسى على خالقه ونفذ كل هذه الأوامر على الفور، أي أنه فهم تماما اللغة التي نودي بها، بل إنه أجاب على الله بالكلام فقال من بين ما قال:
قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (طه: 18)، كما توجه إلى ربه بالرجاء في الآيات من 25 إلى 35.
وإذا أعملنا عقلنا لوجدنا أن هناك احتمالين من الصعب أن يكون لهما ثالث وهما:
إما أن يكون الحوار مع موسى باللغة الوحيدة التي يفهمها وهي المصرية القديمة.
أو أن يكون الله قد أوحى إليه المعاني دون اللجوء إلى لغة معينة.
لكن المنطق يقول إن موسى حتى في الحالة الثانية قد تحدث بلغته الأم وهي المصرية القديمة.
وفي كل الأحوال فإن العبرة أن الله تحدث إلى موسى بأسلوب يفهمه ويدرك معانيه، ولو تحدث إليه بالعربية مثلا؛ لما فهم وما استطاع أن يطيع الأوامر. •••
وقد لعبت اللغة منذ فجر التاريخ دورا محوريا في نسج الضمير الجماعي للمجتمعات، لكنها ظلت أداة استخدام داخلية أي بين أبناء المجتمع الواحد الذين يتحدثون نفس اللغة . فكانت أهمية اللغة كبيرة في تماسك المجتمعات وربطها بهيكل بنيوي واحد في أسلوب التفكير. ولم تكن المجتمعات في السابق متداخلة، ولم يكن السفر والتنقل متاحين بسهولة كما هو الحال اليوم؛ فظلت لغة كل مجتمع هي التي تتسيد وحدها الفضاء الجغرافي الذي يضم كل أفراده. وكان أبناء المجتمع الواحد لا يعرفون إلا لغة واحدة للتفاهم، ولا يدور بخلدهم أن يتعلموا لغة أخرى، إلا باستثناءات نادرة.
أما اليوم فقد تغيرت الصورة جذريا، وأصبحت اللغة أداة تفاهم بين المجتمعات المختلفة. ولم يعد من الممكن في بداية القرن الحادي والعشرين على أية دولة في العالم أن تعيش يوما واحدا دون الاتصال بدولة أخرى تتحدث لغة مختلفة عنها.
وكان من نتائج ذلك أن أصبحت مهنة الترجمة والتي كانت موجودة منذ قديم الزمان من أهم وأخطر المهن في العالم، وقد أصبحت أيضا من أكثر المهن المجزية من الناحية المادية؛ حيث يتقاضى المترجم الفوري في المؤتمرات الدولية مكافأة يومية مرتفعة نظرا لأنه من أهم مقومات نجاح الاجتماعات، ولولاه لما حدث تفاهم بين الحاضرين.
وقد أدرك الإنسان منذ أقدم العصور أن اللغة هي أداة توحيد وانسجام ووفاق. وتروي التوراة قصة تؤكد أهمية اللغة في ترابط المجتمعات، فتقول إن الناس كانوا في بدايات البشرية قوما واحدا يتكلمون لغة واحدة. ثم ظهر في بابل ملك طاغية يدعى نمرود تصور أنه قادر على مناطحة الآلهة.
وشرع هذا الملك في بناء برج شاهق يرتفع به إلى عنان السماء حتى يصل إلى الآلهة ويتحداهم؛ فقد كان هذا الملك يعتبر نفسه أقوى من الآلهة التي في السماء، وأراد أن يثبت ذلك لقومه، فما كان من الخالق إلا أن جعل العاملين في بناء البرج يتكلمون لغات مختلفة. وعلى الفور اختفى التفاهم فيما بينهم ودبت الخلافات وأخذوا يتشاجرون بدلا من العمل في بناء البرج، ولم يستطيعوا، بالتالي، إكمال البناء. وأخفق نمرود في وضع مشروعه المجنون موضع التنفيذ.
وخلاصة هذه القصة هي أن اللغة هي أساس التفاهم بين الناس، وأن وجود لغات مختلفة جعل الناس عاجزين عن السعي في مشروع مشترك وهو بناء برج بابل.
وبرغم هذه القصة الواردة في التوراة فمن المؤكد أن وجود لغات مختلفة هي نعمة من نعم الله؛ فكل لغة تعبر عن ثقافة بذاتها ورؤية للحياة تختلف عن غيرها، كما أنها تعكس منظومة فكرية تثري حضارات الإنسانية. وهناك آلاف اللغات التي اندثرت تماما ولم يعد علماء اللغات يعرفون عنها شيئا، ولا يستطيع علماء اللغة إحصاء عدد هذه اللغات لكنها اختفت عادة لحساب لغات أخرى أكثر تعبيرا عن احتياجات المجتمع. فكأن اللغات القديمة مثل السمك في الماء يبتلع الكبير الصغير.
حتى في الجزيرة العربية خلال الجاهلية كانت هناك عشرات اللهجات المختلفة إلى أن جاء القرآن فانزوت كلها ولم تبق إلا لغة قريش أداة للتفاهم بين العرب.
وهناك لغات اندثرت لكنها لازالت معروفة للمتخصصين. ولعل أشهرها اللاتينية التي تعد اللغة الأم لعدة لغات حية من أهم لغات عالم اليوم، مثل: الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية. كما أن هناك اللغة اليونانية القديمة التي أبدع بها هوميروس وأفلاطون وأرسطو وسوفوكليس وغيرهم ممن غيروا نظرة الإنسان للحياة في القرون السابقة على ظهور المسيح.
وكان لكل حضارة من تلك الحضارات واللغة المعبرة عنها دور حيوي في تقدم الإنسانية ورقيها ووصولها إلى ما هي عليه الآن بفعل تراكم المعارف. ولولا اللغة لما كان ذلك متاحا. •••
ووعيا منه بخطورة اللغة في العلاقات بين الشعوب، طرأت على ذهن طبيب بولندي في نهاية القرن التاسع عشر فكرة عبقرية؛ فقد وضع لغة جديدة تماما هي مزيج من أهم لغات العالم، أطلق عليها اسم «إسبيرانتو» ونشرها عام 1887م باسم اللغة العالمية.
لكن الفكرة سرعان ما أهملت وسقطت في طي النسيان، فلم يكن وراءها ثقافة ولا دولة قوية تحميها.
وعندما أفاق الناس من صدمة الحرب العالمية الثانية المروعة، رأى البعض ضرورة البحث عن وسائل لنزع فتيل المواجهة بين أبناء البشرية، وأرادوا مد جسور التفاهم بين الناس، فعادت الروح بعض الشيء إلى الإسبرانتو على أساس أنه إذا تحدثت كل شعوب العالم لغة واحدة فسوف يؤدي ذلك إلى إذابة العوائق النفسية ونزعات الشر الكامنة في نفس الإنسان تجاه من يعتبرهم غرباء عنه.
لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، كما أن فكرة إقامة حكومة واحدة للعالم هي حلم من الأحلام الوردية التي لا يمكن تحقيقها في المستقبل المنظور، فحتى دول الاتحاد الأوروبي لازالت عاجزة حتى الآن - برغم تقدمها في الوحدة فيما بينها - عن إنشاء نوع من أنواع الحكم الفوقي تخضع له كل الدول الأعضاء. وكان الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان يحلم بأن يكون أول رئيس للولايات المتحدة الأوروبية، لكن هناك أفكار مثل الإسبرانتو تسبق عصرها وقد تتحقق في المستقبل البعيد عندما تتغير ظروف المجتمعات البشرية. •••
وإذا أخذنا مثالا آخر من القرن العشرين يعكس إدراك الإنسان لأهمية اللغة نجد أن الطاغية النازي أدولف هتلر (1889-1945م) كان يحلم بتوحيد كل الناطقين بالألمانية في أوروبا. وقد قام بغزو النمسا وأهلها يتحدثون الألمانية، ثم غزا المناطق البولندية الناطقة بالألمانية، وبعد ذلك منطقة السوديت جنوب تشيكوسلوفاكيا السابقة، وسكانها أيضا كانوا من الناطقين بالألمانية.
ومن يتابع تحرك الجيش النازي في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين يتضح له مخطط هتلر الذي كان يقوم في أساسه على اللغة التي كان يعتبرها أحد المكونات الأساسية للجنس؛ فخريطة التحرك كانت مطابقة لخريطة المجتمعات التي تتخذ من الألمانية لغة للتفاهم.
وكان لهتلر بطبيعة الحال أطماع توسعية واستعمارية أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكن فكرته الرئيسية كانت قيام إمبراطورية تضم كل أبناء العنصر الألماني الناطقين بالألمانية. وقد فرض على الحلفاء في اتفاقية ميونيخ عام 1938م ضم منطقة السوديت بجنوب تشيكوسلوفاكيا السابقة، على أساس أن أهلها يتحدثون الألمانية.
مثال آخر من العالم العربي: إذا قمنا بتحليل حقبة الاستعمار من منظور لغوي يتضح لنا أن اللغة لعبت دورا هاما لازال العرب واقعين تحت تأثيره إلى بداية القرن الواحد والعشرين.
وقد تقاسم الهيمنة على العالم العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر دولتان أوروبيتان، لكل منهما مفهومها الخاص عن رسالتها الثقافية واللغوية؛ فإنجلترا كانت تهدف من فرض سيطرتها على المستعمرات الاستفادة المادية والانتفاع بخيرات الأراضي التي احتلتها إلى أقصى حد ممكن، ولم تسع بريطانيا لفرض لغتها أو ثقافتها على الدول التي استعمرتها في العالم العربي وعلى رأسها مصر.
أما فرنسا فكان لها هاجس آخر بالإضافة إلى الاستفادة المادية؛ فقد كانت حريصة على نشر ثقافتها ولغتها في الدول العربية والإفريقية وغيرها التي وقعت تحت براثنها. وكانت السلطة الفرنسية تفرض لغتها في المدارس وتحارب العربية، أو تسعى لتقليصها بقدر المستطاع، وجعلها لهجة للتفاهم البدائي بين أبناء الشعوب الخاضعة لها. وكان أبناء الجزائر وتونس والمغرب يتعلمون في المدارس أن أجدادهم هم الغاليون، وهؤلاء بطبيعة الحال هم أجداد الفرنسيين وحدهم.
فرنسا إذا لم تكتف بالسيطرة على الأرض، لكنها أرادت السيطرة على العقل، واكتشفت أن الهيمنة العقلية تمر من خلال الحالة اللغوية. ومن الواضح، برغم سوء نواياها، أنها كانت على صواب.
وكانت نتيجة السياسة اللغوية التي انتهجتها فرنسا أن شعوب المغرب العربي لازالت إلى الآن مرتبطة ارتباطا ثقافيا وثيقا بفرنسا، ويقترب منهاج تفكيرها من المنهاج الفرنسي أكثر منه إلى العربي. صحيح أن أبناء الجيل الحالي يبذلون جهودا جبارة للتخلص من سيطرة التأثير الفرنسي والتوصل إلى صيغة يلتحمون بها بثقافتهم العربية الأصيلة، لكن الأثر الثقافي الذي تركته سنوات الاستعمار لازال شديد الوطأة على العقل المغاربي.
ومع ذلك فإنه من المؤكد أن تأثر الشعوب المغاربية بالفرنسية قد أفادها كثيرا بعد مرحلة الاستعمار، وانعكس في الانتعاشة التي تعيشها هذه الدول منذ نهايات القرن العشرين.
والغريب أن المفهومين الفرنسي والإنجليزي لقضية الثقافة واللغة لا زالا ينعكسان إلى يومنا هذا على موقف الدولتين من الجاليات الأجنبية المقيمة فيهما؛ فإنجلترا تتعامل مع الجاليات الأجنبية بها، وكأنها وحدات مستقلة بثقافتها ولغاتها طالما أنها تصب في نفع الاقتصاد الإنجليزي، ولا تعكر صفو الأمن العام؛ فالهنود مثلا لهم أحياؤهم التي يعيشون فيها بلندن، وكأنهم في بومباي أو نيودلهي.
أما فرنسا فترفض هذا المنطق بشدة وتسعى إلى إيجاد مجتمع متجانس في الثقافة واللغة والمزاج، وتنظر بعين القلق إلى أي محاولة للتميز الثقافي أو اللغوي من قبل أي جالية أجنبية.
وكان هذا المفهوم هو السبب في انفجار قضية الحجاب في المدارس الفرنسية منذ الثمانينيات من القرن العشرين. •••
ولعل كل هذه المواقف تصب في قالب واحد وهو تأكيد الأهمية الحيوية للغة، ووعي المجتمعات المتقدمة بالدور الخطير الذي يمكن أن تقوم به سلبا أو إيجابا.
ويتزايد إحساس الإنسان بأهمية اللغة عندما يزور بلادا غريبة لا يجيد لغتها؛ فيحس وكأنه تائه وضائع تماما، ويشعر بالعجز عن الاتصال بالمحيطين به، وقد يتعرض لمواقف صعبة أو لأخطار بسبب جهله باللغة.
ومع تسليم الجميع بأهمية اللغة على مستوى الإنسانية، فإن المجتمعات العربية تضع لغة الضاد في مكانة خاصة لا تطالها أي لغة أخرى، بل لا تقترب منها. فاللغة منذ العصر الجاهلي تلعب دورا محوريا في حياة العرب، كما كانت تسهم في تحديد العلاقات بين الناس، بل وفي تحديد طبقات المجتمع، جنبا إلى جنب مع شرف النسب ووفرة المال. ولن أطيل في وصف الأهمية التي كان يحظى بها الشعراء، أولا والخطباء في المرتبة الثانية. ولم يكن الأمراء يستنكفون رواية الشعر، على عكس كل المجتمعات الأخرى التي كانت ترى الفن والأدب هواية لا تجوز إلا للعامة؛ فامرؤ القيس، وأبو فراس الحمداني، والمعتمد بن عباد، كانوا من أمراء قومهم على سبيل المثال لا الحصر.
بل إن هناك خليفة كان يقرض الشعر بنفسه، وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثاني خلفاء بني أمية، وينسب إليه بيت من أشهر الأبيات التي يستدل بها على البلاغة العربية يقول فيه:
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
ومهما كانت أهمية اللغة بالنسبة لكافة شعوب العالم منذ قديم الأزل، فلا يوجد شعب يعشق لغته ويبجلها مثل الشعب العربي، فالعربي ينتشي لحسن اللغة بقدر ما يطرب لنغمات الموسيقى. واللغة تحكم سيطرتها السحرية على العقل العربي بصورة غير مسبوقة وغير موجودة في كافة ثقافات العالم.
ويلخص فيليب حتي افتتان العرب بلغتهم في كتاب «تاريخ العرب» (دار الكشاف للنشر والطباعة، بيروت 1965م) حيث يقول:
وقل أن تجد بين أمم الأرض شعبا كالعرب في شدة إعجابهم بالأدب، وتأثرهم بالكلام الأنيق الذي يلقى في مجالس المخاطبة، ولهم شغف وهيام كبيران بجمال اللغة، سواء رأوها مكتوبة، أو سمعوها بآذانهم حتى تمتعت اللغة العربية بما لم تتمتع به لغة أخرى من الاستيلاء على عقول الناس، والسيطرة على أفئدتهم، بالرغم من أن هذا الأدب يرد أحيانا في لغة منمقة معقدة يفهمون بعضها، ويغلق عليهم البعض الآخر ...
الفصل الثاني
هل هناك لغة عالمية؟
طوال حقب التاريخ المتعاقبة كانت الأهمية التي تحظى بها اللغة انعكاسا لقوة الدولة أو الحضارة التي تستخدمها، حتى في الجزيرة العربية خلال العصر الجاهلي كانت لغة قريش هي أهم اللغات نظرا لأهمية مكة كمركز للتجارة والحجيج، ولموقعها من طرق التبادل التجاري. وظلت كذلك حتى جاء القرآن الكريم ليؤكد تفوق لغة قريش ويحيل إلى طي النسيان كل اللغات الأخرى التي كانت متداولة بين القبائل في الجزيرة.
والسؤال الذي يثير بعض الجدل في مجال اللغات اليوم هو: هل هناك لغة عالمية؟ أي هل هناك لغة يمكن للإنسان استخدامها في أي مكان في العالم ويكون مفهوما من الجميع؟ في بداية التسعينيات كتب رئيس تحرير صحيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية مقالا يقول فيه حرفيا: «اللغة العالمية هي الإنجليزية.»
ولا شك أن هناك مغالاة في مقولة رئيس تحرير هذه الصحيفة، برغم الأهمية الكبرى التي تحظى بها اللغة الإنجليزية، أو بمعنى أدق اللغة الأمريكية، فالمعنى الدقيق لكلمة لغة عالمية أنها لغة يفهمها كل الناس في العالم. وهذا بعيد جدا عن الإنجليزية، وعن أي لغة أخرى في أي عصر من العصور. وعدد المتحدثين بالإنجليزية اليوم كلغة أولى لا يتعدى 341 مليونا كما يتضح من الجدول التالي:
عدد الناطقين بأهم لغات العالم كلغة أم.
اللغة
العدد بالمليون
الصينية (مندارين)
874
هندي
366
إنجليزي
341
إسباني
322
عربي
240
بنغالي
207
برتغالي
176
روسي
167
أما عدد الذين يجيدون الإنجليزية في العالم فلا يمكن معرفته بدقة، لكن التقدير الجزافي المتداول هو مليار إنسان يعيشون في قارات العالم الخمس.
وفي التاريخ الإنساني كانت هناك في كل العصور لغة تتفوق على اللغات الأخرى في الأهمية لأنها لغة الحضارة المسيطرة في العالم. كان هذا هو الحال بالنسبة للغة اليونانية قبل المسيح بعدة قرون، ثم اللاتينية عندما كانت روما القوة العظمى التي تبسط نفوذها على معظم بقاع العالم المعروف آنذاك، ومنها مصر. وكان العالم يعيش ما يسمى «باكس رومانا» أي السلام الذي تفرضه روما على الجميع.
وكانت كل المعاملات تتم في تلك العصور باليونانية ثم باللاتينية. وقد ظهرت آنذاك كلمة «بربري»، وكانت تعني ببساطة كل من ليس يونانيا أو رومانيا، ومن لا يتكلم اليونانية القديمة أو اللاتينية. كما كان العرب يطلقون لفظة «أعجمي» على كل من لا يجيد العربية، أيا كان أصله.
وعندما بزغ نور الحضارة الإسلامية أصبحت العربية هي لغة العلم والمعرفة والتفوق في كل المجالات. وكان علماء العالم يضطرون إلى الإلمام بالعربية ليكونوا على معرفة بآخر ما وصل إليه العلم الحديث في ذلك العصر؛ نظرا لأن كل الاكتشافات والبحوث العلمية القيمة كانت تكتب بالعربية. وتماما كما أن علماء العالم اليوم الذين يجهلون الإنجليزية يصبحون متخلفين عن ركب العلم والمعرفة، فإن علماء الماضي كانوا يضطرون اضطرارا لتعلم العربية؛ فكل الاختراعات والأدوات العلمية التي كانت تسهل حياة الإنسان كانت تنطلق من العالم العربي الإسلامي وتصاغ بلغة الضاد.
وبعد عصر النهضة كانت الفرنسية هي لغة المعاهدات ولغة الدبلوماسية خاصة في عصر لويس الرابع عشر (1638-1715م) الذي كان يلقب بالملك أشمس. وقد اتخذ هذا الملك من قصر فرساي مقرا له؛ فأصبحت فرساي عاصمة العالم آنذاك، وصارت الفرنسية لغة تفاهم رئيسية وخاصة في بلاد ملوك أوروبا وفي المحافل الدبلوماسية حتى بداية القرن العشرين. •••
اللغة المسيطرة إذا ليست ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم إلا مع الإنجليزية الأمريكية. لكن المؤكد أن وسائل الإعلام الحديثة وانتشار التليفزيون والإنترنت وسهولة الانتقال منحت الإنجليزية فرصة لم تكن متاحة لأي لغة أخرى سيطرت حضارتها على العالم في الماضي؛ فقد كان العارفون باللغة المسيطرة من خارج أصحابها في الماضي، هم شريحة ضئيلة جدا من المتعلمين والمفكرين. أما اليوم فإن معرفة الإنجليزية أصبحت شائعة في الطبقات العليا لكل المجتمعات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. وأصبح أي مثقف في أي ركن من أركان العالم مطالب بالإلمام بهذه اللغة؛ وإلا فإن ثقافته ستكون محلية ومحدودة.
وإذا كانت الإنجليزية هي اللغة المهيمنة على عالمنا اليوم؛ فإن الفضل في ذلك لا يرجع إلى إنجلترا برغم كونها أم هذه اللغة وموطنها الأصلي، إنما الفضل يعود للولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت الإنجليزية لغة رسمية منذ إنشائها في عام 1776م.
ولأن الولايات المتحدة أصبحت القوة العظمى الأولى في عالم اليوم وصارت رائدة في مجالات العلم والفن والإعلام والصناعة؛ فإن لغتها تصدرت لغات العالم، وأصبحت اللغة المتداولة بين الصفوة، وفي المعاملات الدولية، وفي الندوات السياسية والعلمية والثقافية الدولية. كذلك فإن أهم الأبحاث الطبية والعلمية يتم تداولها بالإنجليزية، وتطبع النشرات والمجلات المتخصصة في كل المجالات العلمية بالإنجليزية الأمريكية، دون غيرها.
وكما نجح الأمريكيون في فرض الدولار كعملة التداول الأساسية في العالم، نجحوا أيضا في جعل لغتهم هي لغة التفاهم الرئيسية في كل المجالات؛ فالعقود الكبرى والاتفاقات الدولية والكتابات العلمية صارت تكتب بالإنجليزية. وقد أصبح من الصعب الآن على أي إنسان يسعى للانفتاح على عالم المعرفة في أي مجال من مجالات الحياة أن يجهل الإنجليزية جهلا تاما.
لكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن السطوة اللغوية لا تعني بالضرورة الانتشار؛ فاللغة الإنجليزية برغم مكانتها ليست أكثر لغات العالم تداولا كما هو واضح من الجدول:
نسبة الناطقين بأهم لغات العالم كلغة أم (النسبة بالمائة).
اللغة
العام
1958
1970
1980
1992
2000
الصينية (مندارين)
15,6
16,6
15,8
15,2
14,5
الهندية
5,2
5,3
5,3
6,4
6,1
الإنجليزية
9,8
9,1
8,7
7,6
5,7
الإسبانية
5
5,2
5,5
6,1
5,4
العربية
2,7
2,9
3,3
3,5
4
الروسية
5,5
5,6
6
4,9
2,8 (1)
لا توجد إحصائيات موثوق بها عن اللغات منذ عام 2000. (2)
يرجع الانخفاض الحاد في عدد الناطقين بالروسية في عام 2000 إلى أن العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق لم تعد تعتبر الروسية لغتها الأم. •••
ويتضح من الجدول أن اللغة الإنجليزية هي الثالثة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها، بعد لغة الماندارين أكثر لغات الصين انتشارا، واللغة الهندية.
والأهم من ذلك هو أن عدد الناطقين بالإنجليزية كلغة أم قد تضاءل في السنوات السابقة نسبة إلى سكان الكرة الأرضية لحساب لغات أخرى من بينها العربية . لكن المهم أن الإنجليزية أصبحت لغة الرجال والنساء المؤثرين في العالم؛ فرجال السياسة والدبلوماسية، ورجال المال والاقتصاد والعلوم يتفاهمون فيما بينهم بالإنجليزية. وباختصار فإنه إذا أراد أي شخصين مختلفين في اللغة والثقافة التفاهم فيما بينهما، فإنهما غالبا ما يلجآن إلى الإنجليزية، كلغة مشتركة بينهما.
وكان من الطبيعي أن يأتي رد الفعل الرافض لهيمنة الإنجليزية من أصحاب اللغة الثانية في العالم من حيث الأهمية، وهي الفرنسية. وكانت الفرنسية حتى منتصف القرن العشرين منافسا عتيدا للإنجليزية، ثم تراجعت بصورة واضحة، خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر عندما أصبحت إنجلترا وفرنسا دولتين من الدرجة الثانية.
وبهدف مواجهة احتكار الأنجلو-أمريكية أنشأت فرنسا تجمعا أطلقت عليه اسم «الفرانكوفونية» أي الناطقين بالفرنسية. والهدف الرسمي لهذا التجمع هو الدفاع عن التنوع الثقافي ورفض سيطرة لغة واحدة وقوة واحدة على العالم. وقد انضمت لهذا التجمع سبع دول عربية من بينها مصر. ولأن الناطقين بالفرنسية في مصر عددهم محدود للغاية، فمن الواضح أن قرار انضمامها كان وراءه هدف سياسي، لكنه يقوم على البعد اللغوي.
ومن يراقب تطور اللغات في العالم يتضح له أن الهيكل العام لاستخدام اللغات الحية، لم يتغير كثيرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، كما يتضح من الجدول السابق.
هناك لغات انخفضت نسبة مستخدميها قليلا بفعل النمو الديمغرافي لدول الجنوب على حساب دول الشمال الغنية؛ فلغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية واليابانية عانت من هبوط نسبي في نسبة الناطقين بها.
وفي مدينة دافوس السويسرية يجتمع سنويا في الشتاء نحو ألف من أهم متخذي القرار في العالم وخاصة في المجال الاقتصادي. ويصل الوزن المالي لمرتادي منتدى دافوس إلى رقم فلكي يزيد على مئات المليارات من الدولارات. وخلال أسبوع تدور ندوات وحلقات بحث بين هؤلاء وبعض أبرز رجال السياسة الدوليين حول قضايا العالم الأساسية.
ولأن المشاركين في المنتدى ينتمون لعشرات الدول الناطقة بلغات مختلفة، فإن السؤال هو: كيف يتفاهم كل هؤلاء؟ خاصة وأنه من مبادئ دافوس ألا توجد أية ترجمة في اللقاءات والندوات.
والإجابة ببساطة هي أن اللغة الوحيدة المستخدمة في الندوات واللقاءات هي: الإنجليزية. وعلى الرغم من محاولات الناطقين باللغة الفرنسية في تنويع لغات المنتدى وإدخال الفرنسية ولو كلغة ثانوية للتعامل بها، إلا أن الإنجليزية لازالت تسيطر بلا منازع على المشاركين في منتدى دافوس. وينطبق ذلك على غالبية الندوات والمؤتمرات العلمية والثقافية الدولية في العالم.
ومن المشروع أن نتساءل: لماذا نجحت الإنجليزية في أن تهيمن تماما، وتصبح لغة التعامل الدولي في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين؟
لا نشك في أن السبب الأول كما قلنا هو أن الولايات المتحدة صارت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي القوة الأولى في العالم، بل إنها أصبحت القوة المتحكمة في مصائر الشعوب. ولا تكتفي أمريكا ببسط سيطرتها سياسيا واقتصاديا فقط، ولكنها صارت أكبر مصدر للثقافة بالمعنى الواسع للكلمة؛ فهي أكبر مصدر للأفلام والأغاني والبرامج التليفزيونية والسي دي والإنترنت.
وقبلها، كانت الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس تسعى لنشر ثقافتها ولغتها، لكن العصر اختلف حيث أصبحت أدوات الاتصال والإعلام والمعرفة غولا يسمح اليوم لأمريكا بتحقيق ما فشلت فيه بريطانيا في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ويصل إجمالي الناتج القومي لمجموع الدول الناطقة بالإنجليزية اليوم إلى 31٪ من الناتج القومي العالمي. أما الدول الناطقة بالعربية فلا تمثل سوى 6,6٪ من إجمالي الناتج القومي العالمي.
لكن القوة ليست السبب الأوحد في السيطرة اللغوية؛ فمن أهم ما يساعد على هيمنة الإنجليزية اليوم السهولة الشديدة لهذه اللغة خاصة بعد أن عبرت المحيط الأطلنطي من موطنها الأصلي بريطانيا إلى قارة أمريكا الشمالية؛ فقد اجتهد الأمريكيون ليجعلوا من لغة شيكسبير لغة مبسطة ومباشرة، أصبحت أداة طيعة يستطيع أي طفل أن يتعلم قواعدها ويمتلك ناصيتها، دون أن يعاني الأمرين كما هو الحال بالنسبة لأطفال الوطن العربي.
وقد طبقوا على اللغة ما نادى به الدكتور طه حسين للعربية في بداية القرن الماضي؛ فهم يجتهدون لكتابتها حسبما تنطق وليس حسب القواعد الكتابية القديمة المبنية على أصل تكوين الكلمات. وكم لاقى طه حسين من هجوم وسخرية بسبب اقتراحه الذي تطبقه اليوم القوى العظمى اللغوية الأولى في العالم.
وسهولة اللغة واستجابتها لاحتياجات الإنسان في التعبير عن نفسه جعلت الكثيرين يقبلون على تعلم الإنجليزية؛ فهي لا تستغرق وقتا وجهدا كلغات أخرى مهمة، مثل الفرنسية والإسبانية، بالإضافة إلى تفوقها في الأهمية العملية على كل لغات العالم اليوم.
وقد حاولت شعوب أخرى لها حضارات قديمة وراسخة أن تقوم هي الأخرى بعملية مواءمة لغوية. حاول الفرنسيون والألمان والإيطاليون، لكنهم لم ينجحوا نجاح الأمريكيين في تحقيق ذلك، على الرغم من جهودهم الضخمة لتطويع لغاتهم لمتطلبات العصر الحديث.
ففي الفرنسية مثلا أكثر من عشر تصريفات مختلفة للأفعال تعبر بدقة شديدة عن زمن الفعل، فيمكن بالفرنسية مثلا أن تتحدث عن حدثين متتاليين وقعا في الماضي فتعرف من مجرد تصريف الفعل أيهما السابق على الآخر. وأذكر كم عانيت في فصول الدراسة لحفظ هذه التصريفات المعقدة نسبيا، والتي كانت مستخدمة وشائعة حتى منتصف القرن العشرين.
أما اليوم فقد صارت اللغة الفرنسية أكثر سهولة واختفت غالبية التصريفات المعقدة، ولم يعد هناك إلا بضع تصريفات تعبر عن الأزمنة المطلوبة من ماض ومضارع ومستقبل.
ومع كل هذه الجهود لازالت الفرنسية لغة صعبة مقارنة بالأمريكية، فقد نجح الأمريكيون في غربلة اللغة الإنجليزية وإزالة شوائبها وقاموا بعملية تشبه ما يفعله الجزار الماهر عندما «يشفي» اللحوم، فيستبعد ما لا يفيد ولا يحتفظ إلا بالضروري والنافع.
والمهم أن التطوير الضخم الذي أدخله الأمريكيون على الإنجليزية لا يؤدي إطلاقا إلى عجزها عن التعبير الأدبي البليغ؛ فقد أبدع بها كتاب أمريكيون عظام مثل همنجواي وجون شتاينيك وأرثر ميلر. وقد ارتفع هؤلاء باللغة وبالمعاني إلى مستويات راقية تتناسب مع العصر وتتوافق مع مزاج الإنسان المعاصر، مما يدل على أنه لا توجد أية علاقة بين البلاغة وتعقيد اللغة وكثرة مترادفاتها.
وقد وضعت الجمعية الأمريكية لأساتذة اللغة الفرنسية في نشرة بعنوان «أهم اللغات» (نشرة رقم 3 لعام 1999م) ستة معايير لقياس أهمية كل لغة وهي الآتية: (أ)
عدد المتحدثين بها كلغة أم. (ب)
عدد المتحدثين بها كلغة ثانوية. (ج)
عدد الدول وعدد سكانها الذين يتحدثون اللغة. (د)
عدد المجالات الأساسية (العلوم، الدبلوماسية وغيرها) التي تستخدم فيها اللغة على الصعيد الدولي. (ه)
القوة الاقتصادية للدول التي تستخدم هذه اللغة. (و)
الإشعاع الثقافي والأدبي للدول التي تستخدم هذه اللغة.
ومن هذا المنطلق فقد وضعوا لكل لغة عددا من النقاط تعكس أهميتها. وجاء ترتيب أهمية اللغات كالآتي:
اللغة
عدد النقاط (1) الإنجليزية
37 (2) الفرنسية
23 (3) الإسبانية
20 (4) الروسية
16 (5) العربية
14 (6) الصينية
13 (7) الألمانية
12 (8) اليابانية
10 (9) البرتغالية
10 (10) الهندو أوردية
9
وإذا أردنا أن نعرف مكانة العربية بين لغات العالم من خلال بعض المعايير الهامة، يتضح لنا ما يلي: أنها الخامسة في العالم من حيث عدد الناطقين بها، والثامنة من حيث إجمالي الناتج القومي.
لكن هناك مجالات تتراجع فيها لغة الضاد بشكل لافت للنظر، ففي مجال النشر يتم سنويا طباعة ما يقرب من 700 ألف كتاب. وتقف العربية في موقع لا تحسد عليه؛ حيث إنها رقم 22 من بين لغات العالم في هذا المجال.
أما في شبكة الإنترنت التي تعد من المعايير الهامة للتقدم، فالإنجليزية هي الوحش المسيطر بنسبة تزيد على 84٪ من إجمالي ما يتم تداوله على شاشات الكمبيوتر في العالم. وهناك فجوة ضخمة بينها وبين اللغة الثانية وهي الألمانية التي لا يزيد حجمها عن 4,5٪ تليها اليابانية (3,1) ثم الفرنسية (1,8). أما العربية فلم أجد لها أثرا بين الدول الخمس عشرة الأولى الأكثر استخداما على الإنترنت.
وإذا كان تعبير لغة عالمية لا ينطبق الآن بدقة على أي من لغات العالم في بداية القرن الحادي والعشرين، فإن أقرب لغة إلى هذا المعنى هي بالتأكيد الأنجلو- الأمريكية؛ فقد نجحت هذه اللغة في أن تكون قاسما مشتركا أعظم بين كل الذين يتطلب عملهم الاتصال بآخرين من دول أو ثقافات أخرى. وبالتالي فالأنجلو-الأمريكية هي المرشحة لتحقيق حلم الإسبيرنانتو، أي أن تكون لغة تفاهم عالمية.
ما نريد أن نستخلصه من الحديث عن لغة عالمية هو أن سيطرة الأنجلو-أمريكية لا تأتي فقط من كونها لغة الدولة المهيمنة في عالم ما بعد الحرب الباردة، وإنما أيضا لأنها لغة سهلة، طيعة، يتطلب تعلم مبادئها جهدا أقل من أي لغة أخرى في العالم. وبالتالي فإن من يتقنها يصل إلى المعرفة من أقصر الطرق، على عكس العربية.
الفصل الثالث
رسالة إلى حراس الضاد
أعرف مسبقا أن الآراء الواردة في هذا الفصل والفصول القادمة ستجلب علي انتقادات عنيفة ممن يعتبرون أنفسهم حراس اللغة وتراث السلف في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية، لكنني أعتبر أن أكبر خطر ستواجهه اللغة العربية في السنوات القادمة يتمثل تحديدا في أنصار التجمد ورفض التجديد. وفي رأيي المتواضع أن الذين يتصورون أنفسهم حماة اللغة العربية هم الذين يعرضونها لأكبر الأخطار برفض التطوير، بل الثورة التي تستلزمها اللغة في بداية القرن الحادي والعشرين لتظل لسان العرب المشترك في الألفية الثالثة.
وأنا مقتنع أن ما أقترحه في هذا الكتاب هو - في خطوطه العريضة - الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العربية وخروجها من المأزق الخطير الذي تعاني منه اليوم أكثر من أي يوم مضى؛ للأسباب التي أوضحتها في المقدمة.
فلغتنا في حاجة إلى انتفاضة تحديثية عاجلة، وإلا فإنها قد تتعرض لخطر التقوقع وربما الاختفاء، لا قدر الله، كلغة حية يستخدمها الناس في التعامل فيما بينهم. وقد تتحول إلى لغة لا يعرفها سوى بعض العلماء والمتخصصين، ويتعلمها الناس لقراءة القرآن الكريم فقط.
فمن يرقب تطور اللغة في البلدان العربية، يستشعر أن لغتنا الأصيلة مهددة بالضياع لحساب اللهجات التي يستخدمها الناس في الأقطار العربية المختلفة للتعبير عن أنفسهم في حياتهم اليومية. وهناك نفور واضح ومتزايد لدى الشباب من تعلم قواعد اللغة المعقدة والمفردات والتراكيب التي عفا عليها الزمن، ولم تعد تفي باحتياجات الإنسان الحديث في التعبير عن نفسه.
وكلما اجتاحت مظاهر التطور وسرعة إيقاع الحياة مجتمعات العالم العربي، كلما ازداد الشعور العربي العام وخاصة لدى الشباب بأن لغة الضاد لا تسعف في هذا الزمان المتسارع الإيقاع الذي يصل فيه الناس إلى المعلومات وإلى المعاني في أسرع وقت ممكن وأكثر الطرق مباشرة.
وقد سبقني بعض كبار المفكرين وعمالقة الثقافة، منذ رفاعة الطهطاوي (1801-1873م)، في محاولة وضع أصابعهم على أسباب تخلف العالم العربي عن ركب الحضارة وخاصة عن العالم الغربي، لكن أحدا من هؤلاء العمالقة لم يتطرق إلى قضية اللغة بطريقة مباشرة أو اعتبرها عائقا لتقدم العالم العربي وازدهاره.
وأنا مقتنع أن اللغة التي أبدعت أعظم وأجمل وأرق ما كتب في تاريخ البشرية، صارت اليوم مثل عجوز محنط في حاجة إلى عمليات عاجلة للعودة إلى الصبا، والتخلص من آثار الزمن؛ فالعربية كما قلت في المقدمة، هي اللغة الحية الوحيدة في العالم التي لم يطرأ على قواعدها الأساسية أي تعديل منذ أكثر من خمسة عشر قرنا كاملة.
أما باقي اللغات الحية فهي إما حديثة نسبيا، أو قديمة، ولكن طرأت عليها تغييرات أساسية لمواكبة العصر.
وإذا أخذنا اللغات الأوروبية نجد أنها ارتبطت بصورة أو بأخرى بعصر النهضة. وقد تبلورت كلها في شكلها الحالي في حدود القرنين الخامس والسادس عشر. وقد لعب اختراع الطباعة على يد الألماني جوتنبرج في منتصف القرن الخامس عشر دورا حاسما في تطوير اللغات الأوروبية.
فالفرنسية مثلا لا يتجاوز عمرها خمسة قرون. وكانت فرنسا مقسمة لغويا في العصور الوسطى إلى شمال يتحدث الناس فيه لغة تسمى «أويل»، وجنوب يستخدم لغة «أوك» - ويذكرنا هذا باللغة العدنانية في شمال الجزيرة العربية، ولغة حمير في جنوبها - ولم تصبح الفرنسية لغة رسمية إلا في عام 1539م بموجب مرسوم ملكي أصدره ملك فرنسا فرنسوا الأول (1494-1547م) وعرف باسم مرسوم فيليرس-كوتريه.
أما الإنجليزية فإن دائرة المعارف البريطانية تشير إلى أن المؤرخين يجمعون في غالبيتهم على أنها بدأت نحو عام 1500م في صورتها التي نعرفها حاليا. وكما أن مونتيني (1533-1592م) كان أول من أبدع بالفرنسية، فإن الرائد الأول للإنجليزية هو تشوسر (1340-1400م).
لكن حتى مع حداثة هاتين اللغتين بالنسبة للعربية، فقد طرأت عليهما تغييرات أساسية. ولم تكن نتيجة التطور الطبيعي فحسب، وإنما بفعل تعديلات في القواعد والتراكيب؛ فنحن إذا رجعنا للغة مونتيني، أول من كتب بالفرنسية الحديثة لوجدنا فروقا جوهرية مع الفرنسية التي يستخدمها الكتاب اليوم.
كذلك لو قارنا بين الإنجليزية التي كان يكتب بها شيكسبير (1564-1615م) مسرحياته الخالدة، واللغة الإنجليزية المعروفة اليوم لوجدنا فروقا لا يمكن أن تخفى على أحد. وكما في الفرنسية فإن التغيير ليس في تطور الأسلوب وإدخال كلمات جديدة فحسب، وإنما في القواعد الأساسية التي تضبط النحو والصرف في اللغتين.
إذا فحتى اللغات الحديثة نسبيا تطورت من أجل مجاراة العصر، ولكي تعكس بأمانة احتياجات الإنسان العصري التي تختلف جذريا عن احتياجات سابقيه الذين عاشوا من مئات السنين.
أما اللغات القديمة مثل العبرية واليونانية والصينية فإنها تختلف اليوم اختلافا جذريا عن اللغات الأصلية التي كانت مستخدمة منذ أكثر من ألفي عام. والجدير بالملاحظة أن عمليات التطوير التي عرفتها الصينية كانت تتم بطريقة تلقائية مرة كل نحو خمسمائة عام.
والخلاصة هي أن العربية هي اللغة الوحيدة على وجه الأرض التي لم تتطور قواعدها ونحوها وصرفها منذ ألف وخمسمائة عام، وهي اللغة الوحيدة في العالم التي أصر الناطقون بها على تحنيطها، وبذلوا كل الجهود بدعوى الحفاظ على «نقائها». •••
ولأن اللغة هي انعكاس لاحتياجات المجتمع في التفاهم والتعامل، فلا يعقل أن تكون احتياجات المجتمع العربي في القرن الحادي والعشرين مماثلة لاحتياجات سكان البادية في القرن الخامس الميلادي قبل ظهور الإسلام. واللغة هي المحدد الرئيسي لأسلوب التفكير ورؤية الدنيا؛ فهل يعقل أننا نفكر اليوم مثل البدو في القرن الخامس الميلادي بالجزيرة العربية، وأن رؤيتنا للدنيا لا تختلف عن رؤيتهم؟
ولو كان ذلك صحيحا لكان دليلا على تخلفنا الشديد؛ فسنة الحياة أن يتطور الفكر ويرتقي إلى آفاق أرحب بالتوازي مع التقدم المادي للمجتمع. ولا يمكن لإنسان القرن الواحد والعشرين أن يرى الدنيا كالبدوي في صحراء القرن الخامس الهجري، الذي لم يكن يعرف عن العالم شيئا، وكانت كل آفاقه هي كثبان الصحراء المحيطة به.
ولأن اللغة هي مرآة أمينة لتطور العقل، فإن عدم تطور قواعد اللغة العربية منذ 1500 عام يحمل دلالات خطيرة، أترك للقارئ أن يستنتجها بنفسه.
صحيح أنه علينا أن نفخر بأن أجدادنا وضعوا لغة جميلة كانت قادرة على تحدي الزمن، وعلى التعبير عن أدق المعاني وأجمل المشاعر، إلا أنه لا يمكن أن تستمر العربية في غياب تطوير جذري في قواعدها دون مواجهة خطر فقدان هويتها.
وكان أعظم ما نزل بالعربية هو القرآن الكريم، وهذا يجعلنا أكثر حرصا على الحفاظ على لغتنا الجميلة وأكثر تمسكا بها. والحفاظ عليها يستوجب العمل على تطويرها دون إبطاء؛ حتى تواكب متطلبات العصر في الصياغة والمفردات وقواعد النحو والصرف.
وتدل كل المؤشرات على أن الشباب، حتى من خريجي أفضل الجامعات العربية، أصبحوا يكتبون بلغة ركيكة ويقعون في أخطاء لغوية فادحة، حتى خريجو كليات من المفترض أن يستخدموا العربية لممارسة عملهم مثل الحقوق والآداب، قد وصلوا في الآونة الأخيرة إلى مستوى لا يصدق من التدني في الإلمام باللغة وقواعدها.
وقد دأب الكتاب والمثقفون على السخرية من هؤلاء الشباب وصب لعناتهم على هذا الزمان، واكتفوا بذلك؛ فهم يعتبرون أن كل من لا يجيد قواعد العربية ويخطئ في النحو جاهل ولا علاقة له بالعلم. والكل مجمع على أن السبب الوحيد في هذه المحنة هو استهتار هؤلاء الشباب ورفضهم لبذل أي مجهود من أجل تعلم قواعد اللغة العربية ونحوها.
وهم يؤكدون أن الشباب فاشل في كل العلوم التي يتلقاها في المدرسة والجامعة، وليس في اللغة العربية وحدها، وهذا دليل على عدم جديتهم. لكن هذا الرأي يناقضه الواقع الذي يدل على أن القصور في معرفة العربية لا يقع على الشباب وحدهم كما لا يقع على أبناء هذا الجيل وحدهم، ولكنه قديم قدم اللغة نفسها.
والشكوى من الضعف في اللغة كان موجودا في كل حقبة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية كما سنكتشف من خلال فصول هذا الكتاب. وقد لخص شاعر النيل حافظ إبراهيم هذا الهاجس في قصيدة شهيرة نشرها عام 1903م بعنوان «اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها» يقول في مطلعها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
وهو هنا يتحدث بلسان اللغة العربية فيقول إنها اتهمت نفسها أولا بأنها السبب في ضعفها الظاهر على ألسنة الناس، ثم حاولت أن تنادي الناطقين بالعربية للنجدة فخذلوها فاحتسبت نفسها عند الله.
ولا نقاش حول أن الناطقين بالعربية من الشباب وغير الشباب ممن يخطئون في قواعد اللغة ومفرداتها يتحملون مسئولية كبيرة في ضعف مستواهم اللغوي. لكن هل فكر أحد في طرح السؤال التالي: هل الخطأ في هؤلاء الشباب وفي الناطقين بلغة الضاد عامة في هذا الزمان وحدهم؟ أم أن الذنب يقع كذلك على تحجر اللغة وعدم ملاءمتها لمتطلبات العصر؟ وهل الحل هو فرض اللغة التقليدية كما هي دون تطوير على أساس أنها لغة التراث والأدب والثقافة العربية، وأن أي مساس بقواعدها هو عدوان على الدين والمقدسات؟ أم أنه آن الأوان أن نفكر في كيفية تطويع اللغة لتلائم مقتضيات عصر جديد وفكر جديد لا بد من التعبير عنهما بأسلوب جديد؟
أعلم أن هذه الأسئلة تعتبر خروجا قد لا يقبله البعض عن أساليب التفكير التقليدية، واقترابا من مناطق حساسة يقف على أبوابها الموصدة فريق من العلماء المؤمنين بضرورة الحفاظ على التراث اللغوي كما هو، دون أدنى تحريف. وهؤلاء العلماء يعتبرون أي كلام عن تحديث اللغة بمثابة خوض في المحظور وخروج عن إطار الدين الحنيف. وهم يتفننون أحيانا في تعقيد اللغة وتقعيرها حتى تنغلق أكثر فأكثر عن العامة؛ فيصبحوا هم فئة متميزة ترتفع فوق باقي الناس بحذقها اللغوي.
وظاهرة رفض المساس باللغة العربية هي جزء من ظاهرة أعم أصبحت مسيطرة على المجتمعات العربية.
فقد استشرى منذ الثلث الأخير من القرن العشرين تيار جارف يعتبر كل جديد بدعة مكروهة، ويرى في أي فكر حر متطور محاولة شيطانية لتقليد الغرب، ونبذا للدين والثقافة العربية الأصيلة. ويعتبر أصحاب هذا التيار أن واجبهم المقدس هو الوقوف بالمرصاد في وجه كل من تسول له نفسه الخروج عن قوالب التفكير الجامدة ومحاولة تطوير الموروث والسعي وراء التجديد.
وهذا الاتجاه المحافظ الرافض - من حيث المبدأ - لأي تجديد، موجود منذ فجر التاريخ في كل المجتمعات الإنسانية. وقد أثبت في كتاب «الداء العربي» كم عانى الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
نفسه من أنصار الجمود الذين وصفهم القرآن قائلا :
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا (لقمان: 22). •••
وهناك معارك كثيرة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وحضارات أخرى، اصطدم فيها الفكر الجديد بحراس الماضي.
ومن أشهر المعارك التي وقعت في تاريخ الأدب العالمي «معركة هرناني»، وهذه التسمية معروفة لكل من يهتم بالأدب العالمي والفرنسي خاصة. وقد نشأت عندما كتب شاعر فرنسا الأشهر فكتور هوجو (1802-1885م) مسرحية باسم هرناني عام 1830م حطم فيها كل القوالب الجامدة التي التزم بها المسرح الفرنسي منذ عصره الذهبي في القرن السابع عشر، وضرب هوجو عرض الحائط بواحد من أسس المسرح الكلاسيكي الأوروبي، وهي قاعدة وحدة المكان والزمان والموضوع، كما خرج عن الوزن الشعري المعروف باسم «ألكساندران» أي «السكندري»، والذي يتكون من اثنتي عشرة وحدة صوتية.
وهاج أنصار القديم، واعتبروا أن هوجو مارق ومحطم للتقاليد التي صنعت مجد فرنسا. وأغرب اتهام وجه إليه آنذاك هو الخروج على تعاليم الديانة المسيحية، والكنيسة الكاثوليكية، حامية التقاليد الراسخة التي استقر عليها المجتمع. وفي يوم افتتاح المسرحية نشبت معركة عنيفة وصلت إلى حد التشابك بالأيدي بين أنصار القديم والجديد.
لكن التطور الذي أحدثه هوجو هو الذي انتصر في النهاية وتحرر المسرح الأوروبي والعالمي من القيود، التي ربما كانت تناسب زمنا من الأزمان لكنها تتصادم مع طبيعة التطور التي استنها الله في الأرض.
وقد أثبتت التجربة أن النزعة إلى التقوقع والخوف من العالم الخارجي تظهر وتستشري بالتوازي مع الانحسار الحضاري؛ فالحضارات القوية الواثقة من نفسها تكون عادة على استعداد لتقبل الفكر الوافد من الخارج ومناقشته والتعرف عليه ونقل ما قد يفيد منه.
ومع ذلك فالميل إلى رفض كل جديد نزعة كامنة في كل المجتمعات البشرية على مر التاريخ بصورة أو بأخرى. ومن الممكن إعادة قراءة التاريخ الفكري للإنسانية من منظور الصراع الدائم بين حراس القديم ودعاة التحديث؛ ففي كل مرة طرأت فيها على مجتمع من المجتمعات تغيرات موضوعية، تستوجب تأقلم الفكر والثقافة والقوانين من أجل مطابقة الواقع المستحدث، نجد دائما من يهب للتمسك بالموروث دون تطوير، ويقاتل بكل شراسة كي تظل المرجعية الوحيدة هي مرجعية السلف.
وكم استخدم حراس القديم الأديان في كل زمان لوقف أي تطور وحجب أي رؤى وآراء جديدة! وما يحدث اليوم في العالم العربي هو تكرار لما وقع منذ العصر الجاهلي، مرورا بكل عصور الدول الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها وحتى العصر الحديث. •••
وإذا قمنا بالمراجعة التاريخية التي أقترحها فسوف نستخلص منها: أن أنصار التجمد ينتصرون دائما في المدى الآني والقريب. لكن كل تجارب الماضي تثبت أن حركة التجديد التي أجهضت تترك دائما آثارا إيجابية تؤدي إلى تقدم ولو محدود إلى الأمام.
والغريب أن من يقرأ تاريخ تطور الفكر الإسلامي يكتشف أن حراس القديم يتشدقون دائما بنفس الحجج وبذات المنطق. وخلاصته أن التجديد هو قطيعة مع الدين وأصوله وخروج عن تعاليمه، وأن أي فكر خارج عن الإطار الذي وضعه السلف يعد خطرا داهما على الأمة الإسلامية وعلى ديننا الحنيف. ويقوم فكر هؤلاء على المسلمات التي لا تناقش، والمحرمات التي يحظر الاقتراب منها. ومبدؤهم الراسخ هو التسليم التام برأي السلف وقطع رقبة من يجترئ على طرح أفكار جديدة.
ويستند هؤلاء على فرضيات من الدين ينطلقون في تفسيرها من أرضية منطقهم الرافض للتقدم، فيستخلصون منها نتائج مخيفة لا علاقة لها بالدين الإسلامي من قريب أو بعيد. ويقف حراس الماضي ضد كل فكر يعلي قيم الحرية والديمقراطية وتحرير المرأة وسعادة الإنسان المادية على الأرض، مع أن الدين الإسلامي قد أنزل من السماء رحمة للعالمين ومن أجل سعادة بني آدم.
ولو التزمنا بكلام حراس الماضي، لظلت مجتمعاتنا العربية في حالة من التخلف المرعب، ولكنا اليوم نحبس النساء في البيوت ونكتفي بتحفيظ القرآن الكريم بديلا عن المدارس والجامعات المدنية، ولما كان عندنا تليفزيون أو إذاعة أو صحف ولانعزلنا تماما عن العالم الخارجي. لو استمعنا على مر العصور إلى أنصار القديم لكانت حياتنا اليوم جحيما لا يطاق، ويتعارض مع المبادئ الحقيقية لديننا الذي يدعونا إلى طلب العلم ولو في الصين.
ومن واجبنا اليوم ألا نستمع إلى دعاوى حراس الماضي الباطلة ومحاولتهم تخويف وترويع كل من يطالب بالتغيير والتطور لملاحقة ما وصل إليه العالم المتقدم. •••
لكن الحيدة العلمية تدعونا إلى أن نذكر أن أنصار الماضي لعبوا أحيانا دورا إيجابيا في الحفاظ على التراث وعلى التقاليد الأصيلة للمجتمع، في مواجهة تيارات تسعى إلى التجديد من أجل التغيير، ورفضا لكل ما هو قديم دون تمييز. فكما أن هناك من يخاف أي تعديل لما نشأ عليه وتربى على احترامه وتقديسه، فهناك من يدعوه طبعه إلى الثورة على كل شيء، ومحاولة العصف بأي فكر قديم وبمجموعة القيم والتقاليد المؤسسة للمجتمع الذي يعيش فيه. وذلك كرد فعل على قيود الأفكار المتوارثة من جيل إلى جيل.
ويقول شوقي في هؤلاء:
لا تحذ حذو عصابة مفتونة
يجدون كل قديم شيء منكرا
وتطور المجتمعات يكون عادة في التوازن بين التيارين؛ فالمحافظة على القيم والمثل التي تعد البوتقة التي ينصهر فيها أي مجتمع من المجتمعات، هي صمام الأمان الحافظ على استقراره وتماسكه، لكن الاكتفاء بالموروث وحده يجعل المجتمع يتقوقع على نفسه ويتحجر ثم يذبل شيئا فشيئا. فكل مجتمع في حاجة إلى جرعات منتظمة من التغيير والتبديل من أجل الاستمرار في الحياة.
وكلما تأخر المجتمع في قبول التجديد تزداد الحاجة إلى هزة أقوى للفكر المتوارث؛ فكل مجتمع في حاجة ماسة خلال كل حقبة إلى أن يجاري التطور الطبيعي للحياة؛ لذلك كانت عمليات إعادة النظر في الموروث لازمة في كل عصر لاستمرار التطور باتجاه المستقبل.
وفي الماضي كان تطور الحياة الطبيعي بطيئا للغاية. أما اليوم فقد أصبحت ضرورة تطويع المجتمع للتطور أكثر إلحاحا خلال فترات زمنية قصيرة للغاية؛ نظرا للإيقاع المتلاحق للتطور الطبيعي لأي مجتمع من المجتمعات. ولو طبقنا ذلك على اللغة، لأدركنا كم تأخرنا وكم فوتنا من الفرص لإحداث ثورة لغوية تضع العربية على خريطة أكثر لغات العالم رقيا وتطورا.
والصراع بين القديم والحديث اتخذ في الماضي أشكالا عنيفة كما حدث في الثورات التي هزت العالم خلال القرون الماضية. ومن يدرس تاريخ أهم الثورات، مثل: الثورة الفرنسية في 1789م، والثورة السوفيتية في 1917م، يتضح له أنها لم تكن نتيجة مصالح متناقضة وصراعات على الحكم بين الطبقات فقط، بل كانت خلفياتها دائما الصراع بين القديم والحديث، الصراع بين قيم وأفكار وعلاقات اجتماعية أصبحت بالية، لكن أصحاب السلطة يتمسكون بها، ورؤية جديدة للحياة تسعى إلى فرضها شرائح غاضبة من الشعب.
لهذه الأسباب كان ماكيافيللي (1469-1527م) يعطي في كتابه الشهير «الأمير» نصيحة ثمينة؛ حيث يقول للأمير الشاب الذي كان يلقنه دروسا في فن السياسة: «إذا أردت أن تتفادى الثورة، فاصنعها بنفسك.»
ومعنى هذا الكلام أن الثورة على الماضي ضرورة حتمية يمكن أن تتم برضى الحاكم إذا تقبل الواقع الجديد وأجرى التغييرات التي تستلزمها ظروف عصره. أما إذا رفض ذلك وتمسك بالحفاظ على الماضي فإن الثورة على القديم ستتم في كل الأحوال، ولكن بأشكال عنيفة وضد إرادته.
وإذا استخلصنا من حكمة داهية السياسة الشهير ماكيافيللي ما يفيدنا في هذا البحث فإننا نقول: لنقم نحن بثورة في اللغة العربية اليوم بدلا من أن يفرض علينا الأمر الواقع، ونجد لغتنا في خطر داهم بعد بضعة أجيال قادمة. وعلى حد تعبير ما جاء في تراثنا العربي، فليتم ذلك «بيدي لا بيد عمرو.» •••
وفي غياب إجابات صريحة وجريئة عن الأسئلة التي طرحتها حول أسباب ضعف المستوى اللغوي للناطقين بالعربية، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة: شريحة متضائلة من المتخصصين يرفضون التطوير، لكن لهم الصوت العالي والسيطرة على مناهج التعليم وأدوات الثقافة والإعلام، ثم غالبية ساحقة لم تعد قادرة على استيعاب اللغة واستخدامها وتشعر بعقدة بسبب هذا العجز.
وهذه الأغلبية ليست من الشباب فقط ولكنها متمثلة في كافة شرائح المجتمع، كما لا يقتصر الأمر على الطبقات التي لم تنل حظا كافيا من التعليم، وإنما تمتد ظاهرة انخفاض المستوى اللغوي إلى طبقة المثقفين والمسئولين باستثناءات نادرة جدا؛ فغالبية رؤساء الدول العربية يقعون بخطبهم وأحاديثهم في أخطاء لغوية فادحة، وخاصة في التشكيل. ولا تكاد خطبة مسئول عربي على أي مستوى تخلو من أخطاء ولحن يخرق آذان من يعرف اللغة العربية. أما عن المذكرات الرسمية في الحكومة والدواوين العامة فإنها مكتظة بالأخطاء.
وأعلم أن بعض المسئولين يأخذون على مرءوسيهم أخطاء اللغة والهجاء التي يقعون فيها، لكن هؤلاء الوزراء والمسئولين أنفسهم غير منزهين عن الخطأ في العربية، ليس تقصيرا منهم، لكن لشبه استحالة عدم الوقوع في الخطأ عند التحدث أو الكتابة بلغة الضاد. •••
ويبدو أن غضب كبار المسئولين من ضعف مستوى العربية عند مرءوسيهم هو تقليد عربي قديم؛ فمن الروايات المتداولة في مجالات باب «التوقيعات» أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (نحو 709-775م) وصله كتاب من عامله على حمص به أخطاء في اللغة، فكتب إليه: «استبدل بكاتبك، وإلا استبدل بك»، أي «ارفد» من يكتب لك، وإلا «رفدتك».
وقد استهلكت الصحافة المصرية أنهارا من الأحبار لفضح الأخطاء اللغوية وخاصة بين أوساط الطلبة الجامعيين، واتضح أن مستوى اللغة وصل إلى درجة مفزعة من الانحطاط. وقد أفردت الصحافة المصرية مئات من الموضوعات تفضح فيها تدني المستوى اللغوي في أوساط الطلاب الجامعيين وأعطت أمثلة لأخطاء تقشعر لها الأبدان.
واتضح لي أن التهكم على الأخطاء اللغوية تقليد قديم في الصحافة المصرية أيضا؛ ففي مارس 1922م نشرت مجلة «روضة البلابل» - وهي أول مجلة موسيقية في العالم العربي، وكان رئيس تحريرها لبناني يدعى إسكندر شرفون - مقالا عن الأخطاء اللغوية التي يقع فيها كبار المطربين آنذاك أثناء غنائهم للقصائد الشعرية. وكان كثير من هؤلاء المطربين يحملون لقب «شيخ»؛ مما يعطي انطباعا بإجادتهم اللغة.
وكان أطرف مثال ضربته المجلة عن مطرب لم تذكر اسمه وقع في خطأ مضحك؛ لخلطه بين العامية والفصحى في النطق، فكان يغني قصيدة أبي فراس الشهيرة «أراك عصي الدمع»، وعندما وصل إلى البيت الذي يقول:
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
نطق كلمة ظمآنا: «ظمقانا» لاعتقاده أن ظمآنا بالنطق العامي، فحولها هو، إلى عربية فصيحة! •••
وكثيرا ما فوجئت بكبار المثقفين يخطئون أخطاء لا تصدق في لغتهم الأم التي يكتبون ويبدعون بها. وبعض هؤلاء أو معظمهم يعدون من رموز الأدب والكتابة في مصر والعالم العربي.
وكنت أسأل نفسي وأنا أستمع إليهم: هل يمكن أن يكون جيش المسئولين والمثقفين والصحفيين والكتاب بهذه الدرجة من الجهل؟
وعندما كنت أقارن حالنا بالآخرين، كنت أجد نفسي مضطرا لأن أعترف بأنه لا يوجد مثقف واحد في فرنسا أو إنجلترا أو إسبانيا، أو حتى البرازيل يخطئ في لغته الأم بهذه الصورة. فهل كل الشعوب العربية بمثقفيها ومفكريها أصبحت معوقة ذهنيا بحيث لا تستطيع تعلم اللغة والإلمام بها إلماما سليما؟
وإذا وسعنا باب المقارنة مع الآخرين، نجد أن أية سكرتيرة متواضعة حاصلة على شهادة متوسطة في أية دولة غربية، قادرة على أن تكتب بنفسها خطابا دون أخطاء لغوية. وقد تعاملت خلال عملي في منظمة اليونسكو الدولية مع أكثر من سكرتيرة فرنسية، وفوجئت بأنهن يكتبن مذكرات وخطابات رسمية دون أي خطأ. أما في الوطن العربي، فإن أعلى القيادات الوظيفية من الحاصلين على أعلى الشهادات الجامعية، عاجزون عن صياغة مذكرة أو خطاب خاص بعملهم، دون أخطاء لغوية في العربية.
فهل السكرتيرة الفرنسية تمتلك قدرات ذهنية أرقى من المثقفين، وأصحاب الشهادات العليا في العالم العربي؟ بالطبع لا. إذا فالخلل يكمن في الطرف الآخر من المعادلة، وهو اللغة المستخدمة للتعبير عند كل من الطرفين: السكرتيرة الفرنسية والمثقف العربي؛ فاللغة الفرنسية طيعة وسهلة ومباشرة، كما أن السكرتيرة مثلها مثل كل من يجيد الفرنسية، لديها أدوات تسهل مهمتها وتجعلها قادرة على تجنب الخطأ. وعلى رأس هذه الأدوات قاموس اللغة الفرنسية الذي يقوم على ترتيب الحروف الأبجدية، بالإضافة إلى ترسانة من القواميس الخاصة بالقواعد وبالمترادفات، وغير ذلك من الكتب التي يتعلم أي تلميذ فرنسي كيفية استخدامها في المدرسة. •••
وقد يكون أول رد فعل لمن يقرأ هذا الكلام هو الاعتراض بأن العربية قد طرأت عليها تطورات كبيرة بالفعل، وأنني أغفلت ذلك في تحليلي لإشكالية العربية في العصر الحديث، لكنه لم يفتني أن العربية التي نستخدمها اليوم تختلف كثيرا عن اللغة التي كان يستخدمها أجدادنا في الماضي البعيد وحتى القريب. لا أشك أن العربية قد عرفت تطورا ضخما خلال القرن العشرين، لكن هناك فرقا جوهريا بين التطور والتطوير؛ فمنذ ظهور الصحافة بصفة خاصة، بدأت العربية مرحلة جديدة من التطور الطبيعي المنسجم مع ضرورة الاتصال بالناس وتقديم المعلومات للقارئ بالصورة التي يقدر على استيعابها.
لكن ما أقصده ليس التطور، وإنما التطوير. وهناك فرق جوهري بين الاثنين؛ فالأول هو ظاهرة طبيعية لا يستطيع أحد أن يقاومها لأنها سنة من سنن الحياة، لكنها تحدث دون تدبير محكم يضعها في سياق منهجي. أما التطوير فهو جهد إرادي جماعي للخروج من حالة السكون، وذلك من خلال تقنين التطور وإيجاد الآليات اللازمة للوصول به إلى مداه.
ولغتنا الجميلة أصبحت في حاجة ماسة إلى التطوير الطوعي؛ حتى لا نجد أنفسنا في خلال عقود قليلة أمام معضلة مخيفة وهي خطر الانقطاع عن ثقافتنا وتراثنا بسبب تعنت بعض العقول المتحجرة الرافضة لكل جديد.
إن اللغة كائن حي يحتاج على الدوام إلى تغذية وعمليات إحلال وتبديل، كما يحتاج الإنسان إلى الغذاء وإلى تجديد خلايا جسده.
ومن يطالب بتحنيط اللغة وعدم المساس بها فكأنه يطالب بموتها؛ لأن التحنيط لا يكون للأحياء وإنما للأموات وحدهم. والذين يرفضون تطوير اللغة يرفضون فكرة أنها كائن حي ويغلفونها بهالة الدين فتصبح في عيونهم لغة ليست ككل لغات العالم، وإنما نسيج لا مثيل له.
والواقع يقول عكس ذلك، فالأدب العربي عظيم لا شك في ذلك، لكنه ليس الأدب الوحيد في العالم. وقد أبدع شيكسبير بالإنجليزية وجوته بالألمانية وموليير بالفرنسية روائع تباري ما أبدعه المتنبي وأبو العلاء وطه حسين. وأنا من الذين يرون أن الشعر العربي القديم يفوق في رقته وجماله ما أبدعه فطاحل الأدب الغربي، لكنه رأي شخصي، والأرجح أنه رأي غير موضوعي؛ لأن ثقافتي الأولى التي نشأت عليها هي العربية.
الفصل الرابع
هل العربية لغة مقدسة؟
من المؤكد أن اللغة العربية تدين باستمرار وجودها حتى بداية القرن الحادي والعشرين للقرآن الكريم؛ فلولا القرآن لما ظلت العربية لغة متماسكة يتحدث بها أكثر من 240 مليون من البشر في العالم أجمع.
ومن هنا فإن علاقة اللغة بالدين من أخطر القضايا وأكثرها حساسية. وقد أسهمت بعض الأفكار الجامدة التي تقف بالمرصاد في وجه أي تطور في تحنيط اللغة وعزلها عن مجاراة العصر .
وتصب هذه الأفكار في قالب واحد وهو الربط المباشر بين العربية والدين.
ويزعم أصحاب هذه الأفكار أن العربية ليست فقط اللغة التي نزل بها القرآن، ولكنها لغة الدين ذاته؛ وبالتالي فهي محاطة بقدسية خاصة ترفعها إلى مرتبة تجعل المساس بها نوعا من أنواع الكفر. ومن هذا المنطلق ظهرت نظرية تصف اللغة العربية بأنها لغة «توقيفية» أي أنها منزلة من السماء؛ وبالتالي فهي متوقفة بجوهرها عن أي إضافة أو حذف أو تعديل بيد البشر.
وفي مواجهة هذا التيار ظهرت نظرية أخرى ساندها أصحاب العقل تقول: إن العربية مثلها مثل باقي لغات العالم، هي لغة «اصطلاحية»، أي أن الناس اصطلحوا على كلمات ومعان من واقع ثقافتهم وتجاربهم المتراكمة، ووضعوا قواعد لضبط لغتهم.
وفكرة قدسية اللغة وانتمائها إلى عالم يسمو فوق مستوى عالم الإنسان، قديمة قدم التاريخ، فالمصريون في عصر الفراعنة كانوا يؤمنون بالإله تحت، رب الحكمة والكتابة، وكانت اللغة المصرية القديمة تكتب بخطوط ثلاثة هي الهيروغليفية والهيراطيقية وظهرتا في توقيت واحد تقريبا نحو 3200 قبل الميلاد، ثم ظهرت الديموطيقية في نحو القرن السابع قبل الميلاد.
وكان أهل مصر يعتبرون كل هذه الخطوط واللغة نفسها هابطة من السماء، وأنها هبة من الآلهة. وكان المصري يرمز إلى اللغة بتعبير مدونتر، ومعناها كلام الآلهة. وكانت القناعة الراسخة هي أن الإنسان لا علاقة له باللغة، ولم يخترعها، ولم تتطور أو تتبلور، ولكنها هبطت من القوى الفوقية جاهزة للاستعمال دون تغيير أو تبديل.
ومن المؤكد أن كهنة آمون وحاشية فرعون ساعدوا على ترويج هذا الاعتقاد. وكان الهدف هو تكريس الكهنوت المسيطر على عقول أبناء الشعب البسطاء وإجبارهم على تبجيل اللغة؛ ومن ثم تبجيل الطبقة العليا المكونة من الكهنة وحاشية فرعون، الذين يعرفون أسرارها دون غيرهم، والخوف منهم واعتبارهم حملة المعرفة المطلقة والوحيدة على وجه الأرض.
وفي سومر التي كانت تقع في جنوب بلاد ما بين النهرين (العراق حاليا)، والتي ظهرت فيها حضارة شبه متزامنة مع بداية الحضارة المصرية، كان الشعب يؤمن هو الآخر بأن اللغة السومرية مقدسة.
ويختلف العلماء إلى الآن حول الحضارة التي ظهرت فيها الكتابة أولا؛ أهي مصر أم سومر. لكن المؤكد أن الحضارة المصرية كانت أكثر تطورا ونضجا، وتركت آثارا لا زالت تبهر الإنسانية.
وأيا كان الأمر فإن السومريين كانوا مقتنعين تمام الاقتناع بأن الآلهة قد منت عليهم بلغة يتحدثون ويكتبون بها، وأنه لولا إحسان الآلهة عليهم لما استطاعوا الكتابة ولا التفاهم فيما بينهم.
وهناك حضارات أخرى قديمة ظنت كل منها أن لغتها نزلت من السماء وأنها ليست من وضع الإنسان الذي يستخدمها. فالذين روجوا لفكرة قدسية اللغة العربية لم يأتوا بجديد ولكنهم ساروا على نهج العديد من الحضارات القديمة.
وكل هذه الأفكار حول قدسية اللغة لا أصل لها في القرآن ولا في السنة. فهل يفهم من أي كلمة في القرآن أو السنة أن العرب هم أفضل الشعوب؟ وهل يفهم من أي كلمة في القرآن أو السنة أن العربية هي أفضل اللغات؟ وهل هناك أية إشارة إلى أنه يتحتم على كافة الناس تعلم اللغة العربية؟
فالقرآن نزل بالعربية حتى يفهمه أهل الجزيرة العربية التي هبط الوحي على أشرف أبنائها وهو سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم . واستخدم القرآن الكلمات والتراكيب المفهومة من أبناء هذا العصر وهذه البقعة من الأرض، والذين آلت إليهم مسئولية نشر الرسالة، وهو ما فعلوه بأمانة بعد الرسول
صلى الله عليه وسلم
في عصر الخلفاء الراشدين، ثم الأمويين، ثم العباسيين في عصرهم الأول. والقرآن نزل لكل أبناء البشر في كل بقعة من بقاع الأرض، لكنه هبط في مكان وزمان محددين، فكان لا بد من أن يفهمه العرب أولا، يفهمونه باللغة التي يعرفونها وبأمثلة من البيئة التي يعيشون فيها.
فجاءت أمثلة القرآن بالبقرة والناقة والصحراء وغير ذلك. وكان من الممكن أن يعطي القرآن أمثلة بالطائرة، والأقمار الصناعية، وناطحات السحاب مثلا، لكن أهل الجزيرة في ذلك العصر كانوا سيعجزون عن إدراك معنى هذه الأمثلة، فينتفي الغرض الأول من التنزيل، وهو استيعابهم لمعاني القرآن وإيمانهم به. ولو نزل القرآن باللغة الآرامية مثلا لما فهم معانيه أهل مكة والجزيرة.
والقول بأن العربية لغة «توقيفية» أي منزلة من السماء، وبالتالي فهي لغة مقدسة لا يجوز المساس بها، هو قول يناقض في رأيي صحيح الدين الإسلامي؛ فلو كانت العربية مقدسة وتسمو فوق كل لغات العالم لكان العرب قادرين من خلال استخدام هذه اللغة على البلوغ إلى ما بلغه القرآن من إعجاز. فالعرب في عصر الدعوة كانوا متمكنين من العربية تمكنا مدهشا، وكان بينهم ملوك البلاغة والبيان من فطاحل الشعراء والرواة، وقد تحداهم القرآن في أكثر من آية أن يأتوا بآية واحدة مشابهة لكلام الله فعجزوا عن ذلك.
فقال تعالى:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله (البقرة: 22).
أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله (يونس: 38).
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله (هود: 13).
ولو كانت العربية مقدسة فما الذي أعجزهم؟ لو كانت اللغة مقدسة وهابطة من السماء لكان الإعجاز في ذاتها، ولكان العرب قادرين بالتالي على الإتيان بمثل ما جاء بالقرآن، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا؛ فالإعجاز إذا في القرآن وليس في اللغة.
وقد وقعت معجزات ذكرها القرآن من أهمها قصة عصا موسى، التي التهمت ما جاء به سحرة فرعون. فهل يمكن أن نعتبر عصا موسى مقدسة، وأن كل عصا في الدنيا تنسحب عليها صفة القداسة؟ بالتأكيد لا، فعصا موسى كانت مجرد أداة لمعجزة أرادها الخالق، لكن المعجزة ليست في ذاتها، كذلك فقد كانت العربية أداة لمعجزة القرآن.
وقد أدرك العرب منذ البداية أن القرآن، وإن كان بالعربية، إلا أنه ليس من لغتهم. وكانوا يقولون: ليس بنثر وليس بشعر. وقال أنيس الغفاري وهو شقيق أبو ذر: عرضت القرآن على السجع والشعر والنظم والنثر، فلم يوافق شيئا من طرق كلام العرب.
هذا مع أن القرآن استخدم المفردات المعروفة لأي عربي في البادية آنذاك، وكان مفهوما تماما للجميع، لكنه جاء بشيء غير موجود في اللغة ولم يستطع أحد تقليده وقتها أو بعد ذلك.
وكل هذا يؤكد لنا أن الإعجاز ليس في اللغة العربية وإنما في القرآن وحده، فكيف نقول إن العربية لغة مقدسة؟ ومحاولة إحلال الإعجاز القرآني في اللغة التي نزل بها هو خلط لا يسانده المنطق ولا صحيح فهم الدين. لقد نزل الدين الإسلامي لكل البشر في كل مكان وزمان، وكان من الممكن أن يتنزل بالتالي بلغة غير العربية، وكان إعجازه عندئذ سينبع من ذاته وليس من اللغة التي نزل بها.
ولو كانت العربية لغة مقدسة لكان الدين الإسلامي للعرب وحدهم وللذين يجيدون لغة الضاد دون غيرهم من البشر. وهذا يناقض صلب الدين الإسلامي الحنيف. ولو كانت العربية مقدسة فإن من لا يفهمها لا يكون مسلما كامل الإسلام والإيمان.
وهذه الفرضية تخرج من زمرة المسلمين الغالبية العظمى من الشعوب الإسلامية، كما أنها إجحاف لمئات الملايين من المسلمين الذين لا يجيدون العربية.
فقد دخل الإسلام، في حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، أناس لا يعرفون العربية فتقبلهم النبي دون أن يثير مشكلة اللغة وعجزهم عن فهمها، بل إن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان يعتبر هؤلاء مسلمين على درجة متساوية مع العرب الناطقين بالضاد. ويقول الحديث: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.» ولم يقل بالنسب أو العرق أو بمعرفة اللغة. ولو كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يرى في العربية لغة مقدسة منزلة من السماء لكان من المنطقي أن يعتبر من يتحدث لغة أخرى كافرا وعاصيا لأوامر الله، ولكان العربي في هذه الحالة فوق كل البشر لأنه يتحدث اللغة المقدسة.
ولو كان صحيحا ما يقذف به البعض في وجوهنا من قدسية اللغة العربية لرفض رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهو أدرى بمشيئة الخالق، أن تترجم معاني القرآن إلى أي لغة أخرى. وهناك رواية معروفة تناقض ذلك حول سؤال سلمان الفارسي عن أبناء جنسه الذين لا يفهمون العربية: هل يترجم لهم القرآن أم لا. وكان سلمان متحرجا من ذلك فاستفتى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وأجابه محمد
صلى الله عليه وسلم
بأن عليه أن يترجم لهم معاني القرآن بلغتهم حتى يفهموه.
ولو كانت العربية لغة مقدسة لا بد لكل مسلم من إجادتها كشرط مسبق لدخوله الإسلام ولاكتمال إيمانه، لفرضها الرسول
صلى الله عليه وسلم
على غير العرب، وهو ما لم يحدث. ولو فعل الرسول
صلى الله عليه وسلم
ذلك لانحصرت الدعوة في العرب وحدهم وانتفى بالتالي الغرض الأساسي منها. لكن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان يدرك تماما أن اللغة ما هي إلا أداة لتوصيل الرسالة السماوية إلى بني البشر، وحرمان الفرس أو غيرهم من فهم معاني القرآن، يجعل الإسلام دين الخاصة، كما هو الحال بالنسبة للديانة اليهودية، فاليهود لا يسعون إلى نشر دينهم، بل يتحفظون على أي شخص راغب في اعتناق اليهودية، وهذا يعكس منطق الإسلام الذي كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
أمينا عليه فسمح لسلمان أن يترجم معاني الآيات إلى الفارسية. •••
وبعد انتشار الدين الحنيف بسطت الدولة الإسلامية نفوذها على أراض شاسعة تغطي أجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا وأوروبا. وقد تبنت بعض شعوب هذه البلدان اللغة العربية، كمصر، والشام، والعراق، ودول المغرب العربي. لكن غالبية الشعوب التي دخلها الإسلام ظلت متمسكة بلغاتها الأصلية، وهذا الذي يفسر أن غالبية المسلمين اليوم لا يجيدون العربية. ولم تخطر على بال الفاتحين العرب فكرة فرض العربية على الشعوب التي خضعت لدولتهم. وهذا دليل على أن فكرة قدسية اللغة لم تكن مسيطرة على الأذهان في العصور الأولى للدولة الإسلامية.
واليوم فإن غالبية المسلمين في الأرض لا يعرفون العربية، ومع ذلك فإنه لا يمكن التشكيك في إسلامهم وفي صحة إيمانهم، بل إن نسبة المسلمين غير العرب أكبر كثيرا من نسبة العرب المسلمين؛ فحسب آخر التقديرات هناك اليوم في العالم 1,25 مليار مسلم، في حين أنه لا يوجد أكثر من 240 مليون عربي تعد العربية لغتهم الأم، من بينهم أكثر من عشرة ملايين من غير المسلمين، أي أن نسبة المسلمين الذين تعد العربية لغتهم الأم تمثل 19,2٪ من مجموع مسلمي العالم.
وبحسبة بسيطة فإن 81٪ من المسلمين لا يعرفون اللغة العربية التي نعتبرها نحن العرب الركن الأساسي للدين. لكن هذه النسبة لا تمثل الواقع اللغوي العربي؛ فالإحصائيات تدل على أن نسبة الأمية في العالم العربي تصل إلى نحو50٪ ، ومعنى هذا أن نسبة المسلمين الذين يجيدون اللغة الفصحى هي 9,6٪ فقط لا غير. أي أن أكثر من90٪ من المسلمين يجهلون اللغة العربية الفصحى التي نعتبرها نحن الركن الأساسي للدين كذلك فهناك فقهاء تعمقوا في الدين، وهم لا يجيدون العربية إجادة حقيقية، مثل أبي الأعلى المودودي، والخميني، حتى وإن كنا لا نتفق معهما في نظرتهما إلى الدين، وغيرهم كثيرون.
وبالتالي فإن الربط بين الدين واللغة له حدود ولا يمكن أن يكون ربطا مطلقا. وهناك في إندونيسيا وماليزيا والهند وإفريقيا، وغيرها مئات الملايين من المسلمين الذين لا يمكن التشكيك في تقواهم وفي صدق إيمانهم، لكنهم لا يعرفون من العربية سوى بضع آيات قصار يحفظونها عن ظهر قلب وكثيرا ما لا يفهمون معناها بدقة. وفي مسابقات تلاوة القرآن الكريم يفاجأ كبار الشيوخ من العرب بشباب من بلاد إسلامية غير عربية يقرءون القرآن دون أقل خطأ وبنطق جميل، لكنهم عندما يتحدثون إليهم بالعربية لا يفهم هؤلاء الشباب شيئا، ويلجئون إلى مترجم للتفاهم مع الأساتذة الممتحنين.
وقد مررت بتجربة شخصية زادت اقتناعي بذلك عندما أشرفت في باريس على عدد مجلة رسالة اليونسكو، والذي تم تخصيصه بالكامل للإسلام عام 1980 بمناسبة مرور 1400 عام على الهجرة النبوية. وقد طلبت بهذه المناسبة من الأستاذ حميد الله، وهو هندي الجنسية ومن كبار المتخصصين في الإسلام، كتابة مقال لإدراجه بالمجلة - ولهذا الرجل ترجمة شهيرة لمعاني القرآن باللغة الفرنسية - ولم أكد أصدق أن هذا العالم الكبير في شئون الإسلام لا يستطيع فهم العربية. وسألته كيف ترجم القرآن فقال إنه يعرف القواعد الأساسية للغة، واستعان بكل الترجمات السابقة للقرآن بعدة لغات. وفي العديد من البلاد الإسلامية يوجد حفظة للقرآن الكريم قادرون على ترتيله أو تلاوته دون أدنى خطأ، لكن المفارقة أن الغالبية الساحقة لهؤلاء لا يفهمون معنى ما يقرءون. وقد سألت بعضهم في هذا فقالوا إنهم يفهمون المعنى الإجمالي لكل آية نظرا لأنها مترجمة بلغاتهم، لكنهم عاجزون تماما عن فهم الكلمات ولا المفردات العربية التي تتشكل منها آيات الكتاب الكريم.
فالقول بأن كل المسلمين يجيدون العربية هو قول زائف يروج له بعض الذين يدافعون عن نظرية قدسية اللغة العربية. ولم يبدأ منطق تقديس اللغة ورفعها إلى مستوى المحرمات التي لا يجوز المساس بها في الظهور إلا بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم
بسنوات طويلة. وكان الدافع وراء هذا المنطق البعيد عما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم ، هو المزايدة والغلو في كل شيء.
ومن المؤكد أن عرب الجزيرة كانوا مؤهلين نفسيا لتقبل فكرة قدسية اللغة، فالهالة التي كانوا يحيطون بها اللغة والبيان وأهميتها المحورية لديهم في الجاهلية وعصور الإسلام الأولى لعبت دورا كبيرا في تثبيت فكرة قدسية اللغة. ويدل ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي على أن أعلى الفضائل في سلم أولويات العرب آنذاك تنبع من مصدرين: الأول هو الشجاعة والفروسية والثاني هو الفصاحة.
وكانت صفات الشجاعة والبطولة قاسما مشتركا أعظم مع غالبية، إن لم يكن كل، المجتمعات القديمة؛ حيث كانت القوة هي الوسيلة الأولى لبسط السيطرة والحصول على المكتسبات. وقد بحث علماء الأنثروبولوجي والاجتماع كثيرا ولا زالوا في أصل الحروب والعنف عند بني البشر. وأيا كان الأمر، فإن العرب لا ينفردون بوضعهم الشجاعة في أعلى سلم أولويات مفاخراتهم.
أما الصفة الثانية التي كانت لا تقل أهمية عن الأولى عند العرب وأقصد بها الفصاحة والبلاغة، فهي خاصية نادرة التواجد في المجتمعات القديمة، ولا أعتقد أن هناك مجتمعا في التاريخ البشري اهتم بالبلاغة مثل العرب. ولتأكيد هذا المعنى وصف الشيخ محمد عبده البلاغة بأنها «سيدة علوم العرب»، ولم يقل سيدة آداب أو فنون العرب.
صحيح أن الحضارة اليونانية القديمة كانت تولي هي الأخرى أهمية محورية للبلاغة، ولكن بمفهوم مختلف؛ فالبلاغة عندهم كانت تقوم على المعنى أكثر مما تقوم على التلاعب باللغة. كانت تقوم على الإقناع المنطقي أكثر مما تقوم على سحر الكلمات وتنميقها.
ومن المعروف أن السوفسطائيين كانوا يشتهرون بقدرتهم على إقناع أي شخص بفكرة معينة، وعندما يقر باقتناعه بها يقوم نفس الذي أقنعه بالرأي الأول، من خلال حجج مختلفة، بإقناعه بعكسه. وكان بعضهم يتكسب من هذه الحيل البلاغية، لكنها بلاغة المضمون لا بلاغة الزخرف.
وكان هناك في أذهان العرب في العصر الجاهلي ارتباط وثيق بين البيان والسحر، وهناك الحديث المنسوب إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إن من البيان لسحرا». فالعرب كانوا يعتبرون أن الشعر هو نوع من أنواع السحر وأن الشاعر تتملكه قوى خفية تنفث في نفسه الكلمات والمعاني التي تخرج من فمه شعرا، وكانوا مؤمنين بأن الجن والشياطين تتدخل في عملية الخلق الشعري.
وهذا يفسر أنه من شدة انبهارهم بالقرآن وما جاء به من إعجاز لم يجد المشركون إلا أن يتهموا الرسول
صلى الله عليه وسلم
بالسحر.
وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يعلق على شعر حسان بن ثابت ضد المشركين قائلا: «لهذا أشد عليهم من وقع النبل»؛ فالرسول
صلى الله عليه وسلم
كان يدرك ما للشعر من وطأة نفسية جبارة على عقول أهل الجزيرة ونفوسهم.
والوقائع التي تدل على حب الرسول
صلى الله عليه وسلم
للشعر لا حصر لها، فقد كان عليه السلام يطرب لشعر الخنساء ويشجعها قائلا: هيه يا خناس.
وعندما دخل الرسول
صلى الله عليه وسلم
مكة في العام التاسع للهجرة أهدر دم مجموعة من الكفار، وكان من بينهم الشاعر كعب بن زهير، ولم يجد هذا الشاعر الماكر لنيل عفو الرسول
صلى الله عليه وسلم
سوى التسلل لمجلسه وإلقاء قصيدة رائعة قال في مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
فما كان من الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلا أن خلع عليه بردته كما جاء في كتب السيرة، وهذا معناه عند عرب الجزيرة أن هذا الرجل أصبح في حماية الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فلم يكتف النبي بالعفو عنه فقط، وإنما أنعم عليه بحمايته الشخصية. ومن المؤكد أن موقف النبي نابع من رحمته وأخلاقه السامية، لكن السبب المباشر في العفو والحماية هو قصيدة شعر رائعة مست الأوتار الحساسة عند محمد
صلى الله عليه وسلم .
ويروى عن معاوية بن أبي سفيان (نحو 603-680م) مؤسس الدولة الأموية أنه كان يذكر ليلة الهرير بصفين، وهي معركته الشهيرة على السلطة مع علي بن أبي طالب (نحو 602-661م)، فيقول إنه قد هم بالفرار لولا أن ذكر أبيات عمرو بن الإطنابة التي تقول:
أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وثارت
مكانك ... تحمدي أو تستريحي
فقاتل حتى انتصر في هذه المعركة الفاصلة، أي أن معاوية يعترف بأن لهذه الأبيات فضلا في إقامة صرح دولته التي امتدت إلى جبال البرانس.
وظل عشق اللغة ممتدا بعد استتباب الإسلام وانتشاره، فبعد الرسول
صلى الله عليه وسلم
بأربعة قرون، قال أبو العلاء المعري بيته الشهير:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
ولم يطلب منه معاصروه من العرب أن يخترع شيئا جديدا مفيدا أو أن يخرق قاعدة من قواعد الطبيعة التي عجز سابقوه عنها. لم يطلبوا منه أن يشفي المرضى أو أن يغير الحديد إلى ذهب. كل الذي وجدوه لتعجيزه كان أن يجد حرفا جديدا يضاف إلى أبجديات العربية. ويقال إن أحد أطفال معرة النعمان طلب منه أن يأتي بالحرف التاسع والعشرين الذي عجز السلف عن الإتيان به.
وتدل هذه القصة إن صحت على مدى تأثر الناس وحتى الأطفال باللغة وبأنها أهم شيء في حياتهم. •••
وكان عشق العرب الأول هو التلاعب بالكلمات والبحث عن الغريب في الشكل أكثر منه في الجوهر. وقد بلغ استظهارهم لمهارتهم واستعراضهم لعضلاتهم اللغوية أن تبادلوا رسائل تقرأ فيها الجمل من اليمين أو اليسار كما جاء في رسائل القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني مثل: «سر فلا كبا بك الفرس» أو «سور حماه بربها محروس». وقد امتد هذا الجهد المنزوف عبثا إلى الشعر فيقول أحدهم:
مودته تدوم لكل هول
وهل كل مودته تدوم
ومن الواضح أن المعنى مسطح ومكرر، لكن هذا ليس مهما، فالمهم هو التلاعب بالألفاظ والزخرف الذي لا طائل من ورائه.
وكان واصل بن عطاء أحد مؤسسي فكر المعتزلة يلثغ في حرف الراء، فكان يتفاداه بقدر الإمكان في خطبه وكلامه، وله خطبة كاملة في التحريض على بشار بن برد لا يرد فيها حرف الراء على الإطلاق، وهي تعد في أدبيات العرب فتحا كبيرا، يفوق الاختراعات التي أحدثها كثير من المسلمين في تاريخهم المجيد في مجال العلم والمعرفة. والأمثلة على المكانة المحورية التي لعبتها اللغة في حياة العرب لا تعد ولا تحصى. •••
وبالتوازي مع اضمحلال الازدهار الثقافي للدولة الإسلامي كان العرب يضيعون وقتا أكبر في المحسنات البديعية وتزويق اللغة، بدلا من البحث في المعاني والأفكار الجديدة. وكان الاهتمام بظاهر اللغة من مؤشرات تخلف الحضارة العربية الإسلامية.
ونظرا للأهمية القصوى التي كان يوليها العرب للبلاغة، فقد كان من المنطقي أن تكون المعجزة الوحيدة الثابتة التي أتى بها سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
تأييدا لدعوته هي القرآن؛ فقد هبط كتاب الله بلغة لم يعهدها العرب وفوجئوا بها تماما فسحرت ألبابهم وعاونت الرسول
صلى الله عليه وسلم
على كسب المؤيدين والمريدين، فلكل أمة وسيلة إقناع تنبع من عاداتها وقناعاتها وخيالها الجماعي.
فالمعجزات التي أتى بها سيدنا عيسى كانت تناسب سكان فلسطين الفقراء الذين كانت ترعبهم فكرة الموت والفناء، فجاء المسيح بمعجزات تلهب مشاعر أهل زمانه ومكانه، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، كما جعل مجموعة ضخمة من مريديه يأكلون ويشبعون بسمكة واحدة وقطعة خبز واحدة، يكفيان شخصا واحدا بالكاد.
أما عرب الجزيرة وخاصة أهل مكة فقد كان يسحرهم البيان وحسن تنميق الكلمات. وكان نجوم هذه المجتمعات هم الشعراء والرواة الذين كانوا يتفننون في اختيار المفردات والمعاني ليخلبوا عقول سكان الجزيرة، وكانت اللغة هي أداتهم التي طوعوها للوصول إلى أغراضهم فصارت ركنا أصيلا في حياة المجتمع البدوي والحضري في زمن الدعوة.
لذلك فعندما تقرأ الإنجيل تستشعر أن الناس في عهد المسيح كانوا يؤمنون بالدين الجديد الذي كان يبشر به بفضل المعجزات التي كان يأتي بها عيسى، وكانت المعجزات من أهم أدوات نشر الديانة المسيحية بعد وفاة المسيح. أما عند ظهور الإسلام فقد كانت تلاوة الآيات حسب ما نعلم من كتب السيرة هي التي تفتح للناس طاقة الإيمان وتشرح قلوبهم للدين.
ومعروف قصة دخول عمر بن الخطاب الإسلام، عندما هجم على بيت أخته لردعها عن الدين الجديد فخارت قواه وانهزمت عزيمته العدوانية أمام بلاغة الآيات التي استمع إليها من سورة طه. وفي كل الأفلام والتمثيليات الدينية نلحظ كم كان يتأثر الناس بتلاوة الآيات الكريمة فتدمع عيونهم وتعتريهم حالة من الخشوع والانسياق النفسي لما يتلى عليهم.
فاختلاف الثقافة والطباع والعادات جعل لكل مجتمع مفاتيح خاصة لتقبل الدين الجديد. وبالنسبة للعرب فقد كانت البلاغة هي الباب الملكي الذي فتح أمام الإسلام مجتمعات مكة ثم المدينة ثم باقي الجزيرة العربية.
ومن غير شك أن نزعة إيثار الجنس العربي عند بني أمية لعبت دورا كبيرا في انتشار فكرة قدسية اللغة العربية؛ فقضية القضايا بعد انتقال الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
إلى الرفيق الأعلى كانت السلطة الدنيوية. وكان السؤال الذي يؤرق الجميع هو: من يحكم أمة الإسلام؟ ومن أحق بخلافة سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ؟
وكان هذا السؤال وراء الفتن والحروب المتعاقبة التي عرفها العالم العربي الإسلامي دون انقطاع منذ حروب الردة حتى تفسخ الدولة الإسلامية الذي انتهى إلى سقوط بغداد في أيدي المغول عام 1258م.
وبعد أن نجح معاوية بن أبي سفيان في وضع حد للفتنة الكبرى واستتبت له أمور الحكم على أثر اغتيال علي كرم الله وجهه عام 661م، عمل على تكريس ما كان معمولا به منذ وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم : أن يكون الحاكم من قريش وحدها دون غيرها. وكان من الطبيعي أن ينتج عن ذلك أفضلية وخيرية خاصة للجنس العربي، وبالتالي للغة العربية.
واستغل أنصار النزعة الجديدة من الأمويين نزول القرآن الكريم بالعربية لفرض فكرهم على أعدائهم من كل صنف ولون، ومنهم الخوارج والشيعة وأهل العراق بصفة عامة. وكان معظم هؤلاء من أبناء الأمصار التي دخلت الإسلام بعد الفتح، وكان معظمهم من غير الجنس العربي ومن خارج الجزيرة العربية.
وقد كتب الكثيرون عن مآثر اللغة العربية وتفوقها عن باقي لغات العالم، وتعمدوا الربط الاصطناعي بينها وبين الدين حتى يكسبوها مكانة عليا، تجعل الناس يخشعون للغة بدلا من أن يخشعوا للمعاني التي نزل بها القرآن. وهناك مئات من أبيات الشعر في هذه المعاني، وسأعطي نموذجا واحدا هو ما أورده الطهطاوي في «تخليص الإبريز»:
ومن شرف الأعراب أن محمدا
أتى عربي الأصل من عرب فصح
وأن المثاني أنزلت بلسانه
بما خصصته في الخطاب من المدح
وفي كتاب «فقه اللغة» يقول الثعالبي (962-1038م) بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
بما يناهز 400 عام:
من أحب الله أحب رسوله المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب.» ثم يسترسل في مقدمة كتابه قائلا: «إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
خير الرسل والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل إلخ ...
وهذا الكلام يلخص النظرية التي تربط بين الدين واللغة والتي غذتها العصبية القبلية ورغبة العرب في أن يكون لديهم سلاح قوي يواجهون به تدهور مكانتهم التي وصلت فيما بعد إلى حد الاضطهاد من قبل الأجناس غير العربية.
ويذكر هذا بمحاولات البعض اليوم الربط بين الدين والسياسة وإخضاع السياسة لمفاهيمهم الضيقة للدين، تحقيقا لمصالحهم الخاصة.
وتشعر دائما أن هناك جهدا يبذله البعض لإقناع الناس بأن العربية خلقت للدين الإسلامي، وأن الدين سبب وجودها. لكن الحقيقة مختلفة عن ذلك، فكل الأبحاث العلمية تدل على أن اللغة العربية قد ظهرت قبل هبوط الوحي على سيدنا محمد بمئات السنين.
وكان العرب أنفسهم في حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم
مقتنعين بقدم لغتهم. وكانت هناك عدة روايات عن أول من نطق بالعربية، منها أن أول من تكلم بلغة الضاد هو إسماعيل بن إبراهيم، وأنه نسي لغة أبيه وهي السريانية. وهناك رواية تؤكد أن أول من نطق باللسان العربي هو يعرب بن قحطان، وهو أيضا أول من نزل مع أولاده بأرض اليمن ليتخذ منها موطنا لأهله؛ ولذلك سمي عرب جنوب الجزيرة العربية بالقحطانيين.
وقد أكد حسان بن ثابت شاعر الرسول
صلى الله عليه وسلم
هذه الرواية الأخيرة بقوله:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب
أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديما ما لكم غير عجمة
كلام، وكنتم كالبهائم في القفر
وقد طرأت على اللغة العربية البدائية تطورات كبيرة حتى تبلورت وأصبحت هناك لغة أدبية مهذبة عرفت بلغة قريش. والأرجح أن لغة قريش كانت هي السائدة قبل الدعوة، والدليل على ذلك أن كل ما وصلنا من شعر جاهلي بهذه اللغة. وقد يجادل البعض بأن هناك شعراء كانوا يكتبون بلهجات مختلفة لكنها لم تحفظ بعد نزول القرآن واستبعاد كل اللهجات المغايرة للهجة قريش. والرد على هذا الطرح هو أن المعلقات التي اعتبرها العرب في الجاهلية أفضل ما عندهم من شعر، جاءت كلها، دون استثناء شعراء، بلغة قريش التي نفهمها اليوم. ونستخلص من هذا أنه كان هناك شعراء يضعون شعرهم بلهجات مختلفة، لكن أفضل الأشعار وأرقاها كانت بلغة قريش.
ولكن هل معنى هذا أن العربية هي لغة الدين وحده؟ وهل معناه أن أي مساس بها يعد مساسا بالدين؟
الإجابة عن هذين السؤالين هي شرط مسبق أساسي للاتفاق على كيفية ومدى التطوير اللازم للعربية في بداية القرن الحادي والعشرين. والإجابة عن السؤالين عندي هي بالنفي القاطع، فقد أصبحت العربية هي لغة التعامل اليومي لأبناء إحدى وعشرين دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأصبحت العربية تحتوي على كلمات وتعبيرات لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.
وإذا أردنا الحفاظ على اللغة العربية الفصحى بحيث تظل الأجيال القادمة قادرة على فهمها، فالحل الوحيد هو إخضاعها لمتطلبات العصر كما حدث لكل لغات العالم الحية بدون استثناء، أو باستثناء وحيد وهو اللغة العربية. •••
وفكرة قدسية اللغة وارتقاء الناطقين باللغة فوق مستوى باقي بني البشر، هي فكرة تتناقض في رأيي مع جوهر الإسلام، والمضمون العميق للرسالة المحمدية. فرسالة الإسلام تقوم على المساواة الكاملة بين أبناء الإنسانية جمعاء. ولست في حاجة لتكرار الأدلة الناصعة على ذلك سواء من آيات القرآن أو من السنة المكرمة.
أما فكرة اللغة المقدسة التي أنزلت على شعب مختار، فهي فكرة غريبة عن ديننا وإن كانت موجودة في ديانات أخرى. ومنطق أن العرب هم الشعب المفضل لله تعالى هو منطق ينافي أعظم تعاليم الإسلام حول مساواة أبناء آدم عليه السلام.
وبلغة عصرنا، فإن دعاوى تفوق العرب على غيرهم من الأجناس واحتقار اللغات الأخرى غير العربية، هي دعاوى عنصرية تحمل كل أفكار نظريات التفوق الجنسي التي ينبذها العالم الحديث وخاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. والمنطق الكامن وراء الفكر العنصري هو أفضلية جنس على باقي أجناس العالم بسبب الصفات المتميزة اللاصقة بأهله وانتفاء هذه الصفات عن الأجناس الأخرى.
وتجد في أدبيات الفكر العنصري الغربي كلاما يبدو منطقيا عن تفوق الإنسان الأبيض والجنس الآري، لكن هذا المنطق مغلوط من أساسه، وقد رفضه سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
دون لبس في خطبته بحجة الوداع وفي كل أحاديثه النبوية، فكيف نتقبله اليوم بعد مرور أكثر من 1400 عام من المفترض أننا نضجنا فيها عقليا ونفسيا وأصبحنا أكثر وعيا بحقائق العالم؟
صحيح أن المدافعين عن تلك الأفكار في العالم العربي اليوم يلبسونها أثوابا براقة جديدة كما يفعل دعاة العنصرية في الغرب، لكن المعنى في النهاية واحد وهو تفوق العرب واللغة العربية على باقي أبناء البشر ولغاتهم جميعا.
وإذا كانت معرفة اللغة العربية ليست مفروضة على بني الإنسان، فكيف نعتبرها نحن لغة فوق كل لغات العالم، وبالتالي لا يمكن المساس بها؟
وإذا أعملنا العقل الذي منحنا إياه الله تعالى لأدركنا أنه لو كانت اللغة العربية مقدسة وهابطة من السماء ، لكان من الطبيعي أن يتحدث بها كل سكان الأرض. فكيف تكون العربية مقدسة في حين أن 98٪ من أبناء البشرية لا يعرفونها؟ وكيف تكون مقدسة في حين أن أكثر من 90٪ من المسلمين أنفسهم لا يفهمونها؟
الفصل الخامس
المسيحيون والعربية
من أخطر السخافات التي تستقي أصولها من فكرة قدسية العربية، هي أن المسيحيين لا علاقة لهم بلغة الضاد، وأن المسلمين وحدهم هم ملاك العربية والعارفون بأسرارها وآدابها. ومن الغريب أن الاضطلاع بتدريس العربية بالمدارس يقتصر على المسلمين وحدهم دون المسيحيين، بحجة أن الدين يقترن باللغة وأن مدرس اللغة لا بد أن يقوم بتدريس الدين كذلك. وقد استقرت هذه الأفكار في الأذهان على أنها واقع لا يجادل، وأصبح حجب تدريس العربية عن المسيحيين تكريسا لفكرة قدسية اللغة العربية.
لكن هذا الكلام لا يثبت أمام حقائق دامغة لا يمكن إنكارها، فالمسيحيون العرب لعبوا طوال حقب التاريخ دورا هاما في الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها، وفي إبراز كنوزها جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين، بل إن المسيحيين بدءوا هذا الدور قبل نزول القرآن على سيدنا محمد.
فالعربية بدأت قبل الإسلام بعدة قرون وتبلورت في صورتها التي نعرفها الآن قبل نحو مائة عام من البعثة النبوية الشريفة. ففي العصر الجاهلي كان هناك شعراء على أرقى مستوى ينظمون الشعر كسلاسل الذهب، ويلهبون المشاعر والعقول بأجمل المعاني.
وكان معظم هؤلاء من عبدة الأوثان، لكن بعضهم كانوا من المسيحيين، وحتى من اليهود. ومن أشهر الشعراء اليهود السموأل الذي يعد من فطاحل الشعر العربي القديم.
وكان من أبرز شعراء ما قبل الإسلام عدي بن زيد النصراني الذي كان يحظى بلقب «شاعر الحيرة الأوحد»؛ نظرا لمكانته الشعرية الضخمة وتفرد أسلوبه.
أما في جيل المخضرمين، فإن واحدا من أعلى الشعراء مكانة كان مسيحيا وهو الأعشى، وقد ولد قبل عام 570م، ومات بعد 625م بقليل حسب أفضل المصادر، وكان من أكثر العرب بلاغة وفصاحة لغوية.
وفي العصر الأموي لمع نجم عدة شعراء مسيحيين كان أبرزهم الأخطل والقطامي، وكانا يدينان بالمسيحية. ويحظى الأخطل بمكانة متميزة في تاريخ الأدب العربي. وفي الماضي كان رواة وذواقة الأدب مثل حماد الراوية وأبي عمرو بن العلاء يقدمونه على غالبية الشعراء المسلمين ويعتبرونه فحلا ذا نسب عربي صحيح ولغة عربية رصينة. وكان الأخطل يقول: «إن العالم بالشعر لا يبالي، وحق الصليب، إذا مر به البيت السائر الجيد، أمسلم قاله أم نصراني.»
وقد قام الأب لويس شيخو بتأليف كتاب بعنوان «شعراء النصرانية في الجاهلية» يعدد فيه من برزوا في الشعر قبل ظهور الإسلام، لكن يبدو أنه من فرط حماسته جعل كل من لم يثبت من شعره مباشرة أنه وثني، يدين بالمسيحية. وهو تجاوز غير مقبول علميا بطبيعة الحال، وبالتالي فقد جعل معظم شعراء العرب قبل الإسلام من المسيحيين. وكما جاء بمقدمة الكتاب، فقد تندر بذلك مارون عبود عندما قال عن لويس شيخو: «سمعنا بكتابه شعراء النصرانية فاستقدمناه، فإذا كل من عرفناهم من شعراء جاهليين قد خرجوا من تحت سن قلمه نصارى. كان التعميد بالماء فإذا به صار بالحبر.» •••
وكما أثبت في كتاب «الداء العربي»، فقد هدم الإسلام الأسس القبلية التي قام عليها مجتمع الجزيرة العربية في الجاهلية، فاستقرت بعد ظهوره مثل مختلفة تجعل لتقييم الإنسان معايير جديدة تماما، لكنه سرعان ما عاد الفكر القبلي يطل برأسه من جديد، وعادت العصبية القبلية تسيطر على العقول، وخاصة مع تولي الأمويين مقاليد الحكم. وكانت العصبية العربية تعطي فرصة للشعراء من غير المسلمين للنبوغ في مناخ يقيم الناس أساسا بمعيار العرق والانتماء العشائري.
ومع العباسيين تغيرت الأمور وضعفت شوكة العصبية العربية شيئا فشيئا وخاصة منذ ولاية المعتصم (795-842م) أي بعد نحو قرنين من وفاة الرسول، وغلبت عندئذ الصبغة الدينية على الخلافة مع سطوة الأعاجم الذين كانوا يزايدون في الدين نظرا لأنهم يستمدون قوتهم وشرعيتهم منه، فهم لا يستطيعون إثبات انتمائهم لقبائل عربية أصيلة، ولا تجري في دمائهم قطرة عربية واحدة.
وفي هذه الظروف ظهر تيار الشعوبية الذي يناصب العرب العداء، كرد فعل على احتكارهم للسلطة والثقافة ولكل الأمور العامة منذ بداية الدولة الإسلامية. وقد تعامل الأعاجم بحساسية شديدة مع اللغة العربية واضطروا لإعلاء شأنها بل والمزايدة في ذلك؛ نظرا لأنهم يريدون التأكيد على صحة إسلامهم وتمسكهم بالدين.
هنا أخذت اللغة تصطبغ بصبغة دينية مقدسة، وبدأت فكرة أن العربية هي لغة القرآن وأنها للمسلمين دون غيرهم من أبناء البشر. وظهرت مقولة أن «العربية لا تتنصر.» وفكرة أن النصرانية والبيان العربي لا يجتمعان.
ويروي بطرس البستاني في كتاب «أدباء العرب» (ج3: الأندلس وعصر الانبعاث) أنه عندما طلب داوود باشا صاحب العراق من الشاعر الشيخ صالح التميمي أن يعارض قصيدة للمعلم بطرس كرامة اعتذر بقوله:
عهدناك تعفو عن مسيء تعذرا
ألا فاعفنا من رد شعر تنصرا
ولفظة «رد» هنا بمعنى معارضة. ومن الواضح أن صاحب هذا البيت لا يرضى بأن يقدم مسيحي على كتابة الشعر؛ فالشعر واللغة في نظره حكر على المسلمين وحدهم، وليس من حق المسيحيين أن يخوضوا فيهما.
وعندما اكتملت سيطرة العناصر غير العربية على الدولة في العصر العباسي، كادت دراسة اللغة تقتصر على المسلمين وحدهم؛ نظرا لأنها تتم في المساجد والمدارس الدينية، وارتبطت بحفظ القرآن.
ولجأ المسيحيون إلى العلوم فبرعوا فيها وظهرت أجيال من الأطباء والفلاسفة وعلماء الرياضيات استعان بهم الخلفاء والأمراء. أما المسلمون فكادوا يغيبون عن ساحة العلم ودراسته في مناخ من التردي الحضاري.
وقد حاول بعض المسيحيين محاكاة الكتاب المسلمين فنظموا القصائد والبديعيات في مدح السيد المسيح وحوارييه باللغة العربية. وكان أشهر هؤلاء المطران جرمانوس فرحات والخوري نيقولاوس الصائغ صاحب أول بديعية مسيحية باللغة العربية. •••
ولم يقتصر إسهام المسيحيين في الجاهلية على نظم الشعر والارتفاع باللغة العربية إلى مستويات أرقى، فقد لعبوا دورا في غاية الأهمية في بلورة الكتابة. وكما هو معروف فإن الأمية كانت غالبة على العرب في جاهليتهم، ولم يكن عرب البادية يشعرون بأهمية الكتابة. وكان أكثر من اهتم بالكتابة أهل اليمن وعرف خطهم باسم المسند الحميري.
أما أهل الشمال فقد كانت الكتابة تستخدم في أضيق نطاق ولأسباب تجارية أو ما شابه ذلك، وخاصة في المدن الكبيرة مثل مكة والطائف ويثرب. ويتفق علماء اللغة على أن المسيحيين كانوا وراء تطور الكتابة وخاصة في الحيرة وما جاورها. ويرجح المؤرخون أن القرشيين تعلموا خط الجزم من نصارى الحيرة في رحلاتهم التجارية إلى العراق فحملوه إلى مكة فظهرت فيها الكتابة قبل الإسلام.
وكان من أوائل الذين عرف عنهم الكتابة بالعربية زيد بن حماد، وعاش نحو عام 500 ميلاديا، أي قبل نحو 70 عاما من مولد الرسول، ثم ابنه الشاعر عدي بن زيد، المذكور من قبل، وكلاهما مسيحيان. •••
وبعد قرون منذ هذا العهد البعيد أسهم المسيحيون في أحد أهم الأنشطة الثقافية التي كان لها تأثير ضخم على اللغة وهي الترجمة. وهناك دراسات عديدة عن أثر حركة الترجمة وبيت الحكمة في توهج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. لكن أثرها الهام في اللغة لم يدرس حتى الآن بما فيه الكفاية.
وقد ظهرت بشائر الاتجاه إلى الترجمة عن اللغات الأخرى في العصر الأموي، لكنها لم تتحول إلى حركة منتظمة إلا مع العباسيين، حتى بلغت عصرها الذهبي في عهد المأمون مع إنشاء بيت الحكمة.
وتكاد حركة الترجمة إلى العربية في هذا العصر تقتصر على المسيحيين دون غيرهم. وكان معظم المترجمين الذين برعوا في هذا العصر من السريان النساطرة. ومن بينهم أبناء بختيشوع، وإسحق بن حنين بن إسحق، ويوحنا بن البطريق، ويوحنا بن ماسويه، على سبيل المثال لا الحصر. وكان يوحنا بن ماسويه، طبيب الخلفاء، يتولى إدارة بيت الحكمة مما يدل على المكانة التي كان يحظى بها المسيحيون في الحياة الثقافية في هذا العصر المتألق حضاريا.
لكن أوسع المترجمين صيتا وأكثرهم نشاطا كان حنين بن إسحق (808-873م) وهو من النساطرة، وقد ولد بالحيرة وعاش في بغداد وكان نجم نجوم بيت الحكمة. كما كان من ألمع المترجمين أيضا ابن لوقا (830-912م) المولود في بعلبك، وهو ملكي. كما برز يحيى بن عدي (893-974م) الملقب بالمنطقي.
وكما هو معروف فقد ترجمت الكثير من أعمال فطاحل الفكر الإغريقي من اليونانية إلى السريانية قبل ظهور الإسلام وبعد ذلك. لكن عملية الترجمة إلى العربية لعيون الكتب الفلسفية والعلمية لم تبدأ بطريقة منهجية إلا في منتصف القرن الثامن الميلادي.
ويورد كتاب «العرب من الرسالة إلى التاريخ» معلومات قيمة في هذا المجال مستندا إلى مراجع عربية أهمها الفهرست لابن النديم وتاريخ الحكماء لابن القطفي.
وطبقا للمعلومات الواردة في هذه المراجع فقد اضطلع بعملية الترجمة إلى العربية 56 مترجما أفنوا حياتهم لأداء هذه المهمة، وكانوا كلهم من المسيحيين. ويقول كتاب «العرب من الرسالة إلى التاريخ»: إنه كان هناك 12 مترجما خلال النصف الثاني من القرن الثامن، ثم 30 خلال القرن التاسع، وهو العصر الذهبي للترجمة ثم 14 في القرن العاشر. وهو يصنفهم كالتالي: 35 من النساطرة و10 من اليعاقبة و10 ملكيين وماروني واحد.
وكان لهؤلاء إسهام ضخم في إضفاء آفاق جديدة ليس للعقل العربي فحسب، وإنما للغة العربية كذلك، فقد اشتقوا كلمات جديدة على لغة العرب التقليدية، فأضفوا بذلك مزيدا من الحيوية والمرونة على العربية التي كانت آنذاك أرقى لغات العالم قاطبة.
وقد فتح هؤلاء المترجمون الباب على مصراعيه أمام علماء العرب الأفذاذ من أمثال الفارابي وابن سينا وغيرهم. فالتراكيب والكلمات التي استحدثها المترجمون خلال نقلهم من علماء وفلاسفة الإغريق ساعدت علماء العرب على صياغة اكتشافاتهم ونظرياتهم التي كانت فتحا في كافة المجالات العلمية آنذاك. •••
وعاد المسيحيون إلى القيام بدور إيجابي فعال بعد ذلك بعدة قرون أيضا. وكان دورهم هذه المرة هو استقدام صناعة جديدة على المنطقة، كان لها أبلغ الأثر على اللغة العربية، وهي الطباعة. وقد يتصور البعض أنهم جلبوا مطابع تطبع بالحروف اللاتينية، لكن الواقع أنهم اهتموا بجلب مطابع بالحروف العربية، وهي اللغة التي يحبونها ويعتبرونها لغتهم الأم. وقد يتصور البعض أيضا أن جلب المسيحيين لمطابع عربية في الشرق كان بهدف تجاري بحت، وليس حبا في اللغة العربية، لكن ذلك أيضا بعيد عن الحقيقة، حيث لم تكن المطابع آنذاك مدرة للكسب كما هو الحال منذ الستينيات من القرن الماضي.
والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن الطباعة بالحروف العربية نشأت في أوروبا أولا خلال القرن السادس عشر على يد الإيطاليين بصفة خاصة. لكن ما يهمنا هنا إسهام المسيحيين العرب في إدخال الطباعة وانتشارها في العالم العربي.
ويرجح مؤرخو الطباعة أن أول نص طبع بالعربية كان «كتاب المزامير» وتمت طباعته عام 1610م في دير القديس أنطون قزحيا، وكان من الرهبان الموارنة، وقد طبع باللغتين السريانية والعربية.
أما أول مطبعة عربية صرفة في الشرق فقد أنشئت بحلب سنة 1698م على يد البطريرك أثناسيوس الرابع. ويورد بطرس البستاني في كتاب «أدباء العرب» (ج3) أنه قد تقلب مرارا بين الأرثوذوكسية والكاثوليكية الملكية.
وكانت أول مطبعة عربية في لبنان مطبعة مار يوحنا الصايغ من الروم الملكيين، وقد أنشئت عام 1732م في بلدة الشوير ثم مطبعة القديس جاورجيوس، وهو من الروم الأرثوذكس وأنشأها في بيروت عام 1753م. ومن الواضح أنه كانت هناك منافسة بين الملل المسيحية المختلفة للتأكيد على هويتهم العربية.
وفي عام 1874م ظهرت في بيروت المطبعة الأمريكية ثم المطبعة الكاثوليكية. وبعد ذلك أنشئت مطبعة المعارف سنة 1867م للمعلم بطرس البستاني وخليل سركيس. وأنشأ هذا الأخير بعد ذلك المطبعة الأدبية عام 1874م.
وفي مصر بدأت الطباعة مع الحملة الفرنسية (1798-1801م)، وأنشأ محمد علي مطبعة بولاق التي سميت المطبعة الأميرية. لكن أول مطبعة أهلية في مصر كانت المطبعة القبطية التي أنشأها الأنبا كيرلس الرابع سنة 1860م.
وقد انتشرت المطابع في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، لكن الريادة في هذا المجال كانت للمسيحيين فساهموا بذلك في توفير الأداة اللازمة لنشر فكر النهضة، ولازدهار الصحافة، وما واكب ذلك من تطور حاسم في اللغة العربية.
ثم جاء عصر النهضة فكان للمسيحيين مرة أخرى دور في منتهى الأهمية في بعث اللغة العربية وآدابها، وكانوا ركنا من أهم أركان الانتعاشة الفكرية واللغوية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل إن بعضهم كانوا من رواد حركة التطور الشعري التي ظهرت على استحياء مع بداية القرن التاسع عشر. وكان من أشهر هؤلاء الرواد نيقولا الترك (1763-1828م) وبطرس كرامة (1774-1851م) وهما من أبرز من سعوا لإحياء الشعر العربي وبعث تراثه العظيم.
وعاد المسيحيون إلى الصفوف الأولى في الإبداع بأجمل وأرق القصائد بعد طول انقطاع بسبب التعصب اللغوي الذي عانوا منه طويلا وحرمهم من استخدام العربية بحجة أنها لغة المسلمين وحدهم. فظهر خليل مطران وبشارة الخوري الملقب بالأخطل الصغير، وكانوا من أعظم شعراء العرب في القرن العشرين.
كما تفجرت موهبة شعراء المهجر الذين اشتعل حنينهم لوطنهم العربي بعد أن هاجروا منه. وبزغ نجم إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة ورشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي.
وربما كان ألمع من هاجروا وتركوا بصمة على الأدب العربي جبران خليل جبران (1883-1931م)، صاحب كتاب «النبي» الذي يعد تحفة أدبية بمعنى الكلمة. وبرغم أن الجانب الأكبر من إبداعات جبران باللغة الإنجليزية، إلا أنه ترك شعرا رقيقا سيظل محفورا في التاريخ الأدبي العربي. ومن أشهره ما غنته المطربة اللبنانية فيروز من قصيدة المواكب:
أعطني الناي وغن
فالغنا خير صلاة
وأنين الناي يبقى
بعد أن تفنى الحياة
أعطني الناي وغن
وانس داء ودواء
إنما الناس سطور
كتبت لكن بماء
أما دورهم في إنشاء وتطوير فن الصحافة فهو معروف للجميع. وقد أسهموا جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين في تطوير اللغة العربية وتطويعها لمقتضيات الأخبار والمقالات التي نشروها في صحفهم.
ومن أقدم دور الصحف التي لازالت تلعب دورا متميزا في الصحافة العربية «الأهرام» و«دار الهلال». وقد أنشأ الأهرام بالإسكندرية في سنة 1876م الأخوان سليم وبشارة تقلا، وهما مسيحيان، ثم نقلاه إلى القاهرة عام 1892م.
أما مجلة الهلال فقد أنشأها عام 1892 جرجي زيدان، وهو مسيحي لبناني نزح مثل الأخوين تقلا من لبنان إلى مصر بسبب الاضطهاد العثماني.
وفي الإسكندرية صدرت صحيفة «المحروسة» عام 1880م على يد أديب إسحق وسليم النقاش. أما المقطم التي انطلقت من القاهرة سنة 1889م فقد أسسها ثلاثة مسيحيين هم يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس. وفي القاهرة أيضا أنشأ نقولا شحادة «الرائد المصري» عام 1896م.
وفي عام 1910م اشترك مسلم ومسيحي هما الشيخ أمين تقي الدين وأنطون الجميل في إصدار مجلة سياسية أدبية باسم «الزهور».
وفي لبنان، كانت مجلة «الجنان» التي أنشأها المعلم بطرس البستاني عام 1870م من أوائل المجلات السياسية الأدبية التاريخية في الوطن العربي. وأنشأ ابنه سليم البستاني «الجنينة» التي كانت أول جريدة منتظمة شبه يومية في لبنان عام 1871م.
وفي دمشق، أنشأ سليم حنا عنجوري سنة 1887م مجلة «مرآة الأخلاق». وأنشأ جورج متى وجورج سمان سنة 1900م مجلة الشمس.
وفي بغداد ظهرت مجلة «زهيرة بغداد» للآباء الكرمليين عام 1905م. وحتى في الموصل أنشئت مجلة «إكليل الورود » للآباء الدومنيكان عام 1902م.
ومن الواضح أنني أقتصر هنا على الإسهام المسيحي وحده، فهناك دراسات كثيرة عن تاريخ الصحافة من الممكن للقارئ أن يطلع عليها؛ للإلمام بهذه الصناعة التي كان لها أبلغ الأثر على اللغة العربية.
ولم يكتف المسيحيون بالمشاركة في إصدار الصحف والمجلات في العالم العربي، فقد كانوا سباقين أيضا في إنشاء الصحف العربية في الخارج.
ومن الرواد الأوائل في هذا المجال رزق الله حسون الذي بادر عام 1855م بإصدار جريدة «مرآه الأحوال» في الآستانة عاصمة الخلافة الإسلامية.
وأصدر أديب إسحق في باريس مجلة «مصر القاهرة» عام 1879م، تلاه خليل غانم عام 1881م بإصدار «البصير» في عاصمة النور.
أما في أمريكا فقد أصدر اللبنانيون في المهجر عدة صحف في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين لا يتسع المجال لاستعراض أسمائها هنا.
وعندما انفتح العالم العربي على الغرب في عصر النهضة، كان المسيحيون اللبنانيون سباقين إلى ترجمة عيون الأدب الفرنسي والإنجليزي خاصة إلى العربية، تماما كما حدث في أوج ازدهار الدولة العباسية. وكان أشهر هؤلاء سليم البستاني ونجيب طراد ونيقولا رزق الله وطانوس عبده.
كما كان لبعض المسيحيين إسهام لا يستهان به في مجال اللغة والنحو، من أمثال بطرس البستاني والخوري نعمة الله باخوس ونصيف اليازجي، وله كتب في شرح النحو والصرف مثل «نار القرى في شرح جوف الفرا» و«الجمانة في شرح الخزانة».
وهناك أدلة لا حصر لها على عشق المسيحيين للعربية ودفاعهم عنها في مواجهة كل محاولات التشويه.
ففي بداية القرن العشرين ظهرت بالعراق مجلة «لغة العرب» التي نذرت نفسها لحماية العربية من أية شوائب، وللإبقاء على نقاء اللغة، وكان صاحبها الأب أنسطاس الكرملي.
كما أصدر إبراهيم اليازجي (1847-1906م) كتابا بعنوان «لغة الجرائد»، يحمل فيه بعنف على لغة الصحافة حرصا منه على لغة الضاد.
ويتضح من هذا الاستعراض السريع مدى إسهام المسيحيين في دعم وتطوير اللغة العربية في كافة العصور وكل المجالات، من نشأة الكتابة إلى الأدب إلى الترجمة إلى الطباعة إلى الصحافة، جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين.
الفصل السادس
المتنبي يخاف من الإعراب
لا أظن أن هناك شعبا في العالم يعشق لغته مثل العرب. وهناك أسباب عديدة تجعل للغة مكانة خاصة في الوجدان العربي؛ فهي أولا التي نزل بها القرآن الكريم، كما أنها اللغة التي خلف لنا بها السلف تراثا أدبيا وفنيا يهز أدق أوتار النفس البشرية. ولغتنا جميلة بالفعل وتتميز بموسيقية تلقائية تطرب لها الآذان، حتى لمن لا يفهم المعاني بدقة، كما أنها لغة اشتقاقية على عكس غالبية لغات العالم القديمة والحديثة، وكلها لغات تركيبية. وميزة اللغة الاشتقاقية المرونة والسهولة في استخراج الكلمات والتراكيب الجديدة. وصدق حافظ إبراهيم حين قال على لسان العربية:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وكل هذه المقدمات لا بد أن تؤدي إلى نتيجة منطقية واحدة: هي تمسك العرب بالتعامل بهذه اللغة الفصحى التي يعشقونها، ورفضهم لأي وسيلة أخرى للتعبير عن أنفسهم. لكن الواقع كما نعلم عكس ذلك تماما.
وهناك سؤال بسيط لا نطرحه على أنفسنا لأن ثقافتنا تملي علينا عدم الاقتراب من مناطق نعتبرها محظورة بل محرمة على التفكير. والسؤال ببساطة هو: كيف هجر العرب هذه اللغة طوعا على الرغم من عشقهم لها وتمسكهم بها؟ لماذا لا يتكلم الناس في مصر أو في العالم العربي باللسان الفصيح؟ لماذا أصبحت الفصحى وكأنها لغة إجبارية تستخدم في تحصيل العلوم والكتابة الرسمية فقط؟
فنحن نستخدم في تعاملاتنا اليومية على كل المستويات اللهجة الدارجة سواء في مصر أو في أي بلد عربي آخر. وحتى في مكة المكرمة مهد الرسول وينبوع اللغة العربية الأصيل يتحدث الناس لهجة دارجة تبعد عن العربية بقدر ما تبعد عنها اللهجات المصرية والسورية. وإذا كانت العربية لغة مقدسة كما يدعي البعض فكيف نبذها مسلمون مؤمنون بدينهم ويقيمون فرائضه ولا يدخرون وسعا في إرضاء ربهم؟
وقد وصل الأمر إلى أن العربي كان يفضل فناء الدنيا قبل فناء لغته، كما جاء على لسان الشاعر المهجري:
لغة يهون على بنيها أن يروا
يوم القيامة قبل يوم وفاتها
ومع كل ذلك، فلا يوجد عربي واحد في الشرق أو الغرب يتعامل بالفصحى بتلقائية ولممارسة حياته اليومية؛ فمن يتحدث الفصحى يتكلف ما هو ليس في طبيعته، ويبذل مجهودا للتعبير عن نفسه بها، وعادة ما يخطئ في كل جملة ينطق بها.
كيف نفسر هذا التناقض الواضح بين المقدمات والنتيجة الواقعية التي نعرفها جميعا؟
ستجد بالتأكيد بعض العقول الملتوية التي ستقدم تبريرات غير منطقية تفرضها على الجميع بأسلوب الإرهاب الفكري.
لكن الإجابة المنطقية الوحيدة هي أن العربية من الصعوبة والتعقيد بحيث جعلت العرب يعرضون عنها بالفطرة للإعراب عما في أنفسهم ومن أجل التفاهم فيما بينهم.
الإجابة المنطقية الوحيدة، مهما كانت قاسية على النفس، هي أن الفصحى لا تلائم مقتضيات التفاهم ونقل المعلومات وتفسير حقائق العالم الذي يعيش فيه العرب، سواء في مصر أو السعودية أو سوريا أو الجزائر أو في أي بلد عربي آخر. وظهرت اللهجات كبديل تلقائي على لسان الشعوب العربية لصعوبة استخدام العربية في حيز التعامل اليومي.
ليس عندي أدنى شك في أن سكان كل البلدان العربية لم يتخلوا عن العربية ببساطة أو عن طيب خاطر، وهم لم يعرضوا عن لغة الضاد منذ قديم الزمان، ولم يلجئوا إلى لهجات بديلة عن طريق الصدفة، فلا بد أنهم شعروا بالعجز الحقيقي عن التعبير عن أنفسهم باللغة التي يحبونها ويشعرون تجاهها بالتبجيل والاحترام؛ لأنها اللغة التي نزل بها كتابهم المقدس.
وقد ترجم أمير الشعراء ولع العربي بلغته في قصيدة ألقاها عند سفح الأهرام ترحيبا بالكاتب اللبناني أمين الريحاني حيث قال:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وسره في الضاد
ومع تعاقب الأجيال تم تخليق اللغات العامية في مصر والشام والعراق وشمال إفريقيا، من العربية الفصحى من ناحية، واللهجات التي كانوا يستخدمونها قبل تعريب بلادهم من ناحية أخرى.
وللأسف أننا لا نعرف بطريقة علمية كيف كان يتحدث الناس خلال الحقب المختلفة في التاريخ العربي؛ لأن الموروث المدون يقتصر على الفصحى إلا باستثناءات نادرة. قد يفتي البعض بأننا على يقين من كيفية كلام العرب في الماضي البعيد، لكن مثل هذا التأكيد أقرب إلى «الفهلوة» منه إلى المعرفة العلمية.
الشيء المؤكد هو أن العرب في كل مكان هجروا الفصحى ولجئوا إلى أساليب أخرى للتفاهم فيما بينهم. ومن هذا المنطلق علينا أن نبحث في أسباب البعد عن لغة يعشقها العرب وأنتجت أجمل المعاني الشعرية والأدبية التي يدرسونها في المدارس والجامعات.
فاللغة التي يختارها الناس للتعامل هي الأقرب إلى العقل وإلى النفس، وليست اللغة التي يتكلف الإنسان جهدا بالغا للتعبير عن نفسه بواسطتها.
والدارسون لتطور الحضارات أدركوا أن اللغة معاكسة التوازي مع التقدم الحضاري. فكلما وصلت إحدى الحضارات إلى درجة من التعقيد والتطور الراقي، كلما شعرت بالاحتياج الفطري إلى لغة سهلة تعبر عنها. وهذا هو سر الجهود المستمرة في تبسيط اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدول المتقدمة. وكلما ازداد التقدم كلما ازدادت الحاجة إلى تبسيط اللغة.
وبعيدا عن النفاق، فإن علينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التي نرفض عادة حتى التفكير فيها، ناهيك عن طرحها ومناقشتها على الملأ. وأول هذه الأسئلة هو عدد العرب القادرين على فهم التراث الشعري العربي، حيث إن الشعر هو أهم ما تركه العرب من آثار فنية وثقافية. وبمعنى آخر: من يستطيع أن يقرأ قصيدة للمتنبي أو ابن الرومي ويفهم معانيها فهما معقولا؟ كم شخصا قادرا اليوم على القراءة يستطيع أن يمسك بديوان البحتري أو أبي تمام ويتذوق ما به من أشعار؟
وإجابتي عن هذا السؤال هي أن النسبة القادرة على هذا لن تزيد بحال من الأحوال عن واحد في المائة من أبناء الشعوب العربية في أحسن التقديرات. ومن يعترض على هذه النسبة ويرفع شعارات حماسية عليه أن يقوم بتجربة عملية على من حوله من الأشخاص العاديين، أي غير المتخصصين في الأدب أو اللغة العربية، وحتى لو شملت هذه التجربة خريجي أفضل الجامعات في الطب أو الهندسة أو التجارة أو حتى كليات الآداب، باستثناء قسم اللغة العربية، فإن النتيجة لن تزيد عن نسبة هزيلة للغاية، أؤكد وأنا مطمئن أنها ستقل عن 10 في المائة.
وإذا أخذنا في الاعتبار نسبة الأمية المرتفعة في العالم العربي، والتي تزيد اليوم عن 50٪، سنجد أن افتراض 1٪ الذي ذكرته قد يكون أعلى كثيرا من الواقع؛ فأغلب الظن أن نسبة من يفهمون الشعر العربي، وهو العمود الفقري لتراثنا الثقافي، لن تزيد عن نصف في المائة أو أقل من ذلك. ربما ارتفعت قليلا في دول تعداد سكانها ضئيل، وحصل أبناؤها على قسط من التعليم أكثر من غيرهم، لكن هذه النسبة لن تزيد بحال من الأحوال عن 2 أو 3٪ على أكثر تقدير، وفي عدد ضئيل جدا من الدول، إنما المتوسط العام لن يزيد عن نصف في المائة. •••
ولا يقتصر الأمر على الشعر وحده، فلو عرضنا كتاب «الأغاني» على المتعلمين من غير المتخصصين فستكون نسبة الذين يفهمون الكتاب بصورة مرضية والقادرين على إدراك معانيه وتذوق ما أبدعه الأصفهاني نسبة ضئيلة للغاية.
والغريب أنني عندما طرحت هذا السؤال على البعض أبدى غضبه من الطرح ذاته. وقد تهرب من الإجابة غالبية من طرحت عليهم السؤال ورفضوا أن يقروا بحقيقة لا تقبل أي شك، وهي أن الغالبية العظمى من المصريين والعرب غير قادرين على استيعاب الشعر القديم والأدب الكلاسيكي دون شرح مستفيض.
ولا أفهم لماذا نتهرب من الحقيقة ونكره أن نرى الواقع كما هو. وكما حاولت أن أبرز في كتاب «الداء العربي»، فإن من أخطر عيوب العقل العربي الإصرار على رفض مواجهة الواقع، والميل إلى الاستسلام الإرادي للأوهام. فمن أكثر ما يزعجنا أن يخرج علينا من يكشف المستور الذي يعرفه الجميع، لكن الكل يتكتمه ويرفض أن يجهر به.
والغالبية العظمى من القادرين على فهم أو تذوق الشعر العربي القديم ينتمون على الأرجح للجامعات ومراكز البحث الأكاديمي والأساتذة وغيرهم ممن وهبوا حياتهم للغة والأدب. أما الباقون ففهمهم للشعر تقريبي ويدركون المعنى العام للبيت لكنهم بالتأكيد لا يدركون معانيه الحقيقية والعميقة.
ولا أعتقد أنه يوجد شخص واحد في العالم العربي يستطيع أن يدعي أنه قادر على فهم كل المفردات ولا تفوته كلمة واحدة في الشعر العربي القديم. فهل يعقل أن يستوعب عقل واحد ما يقارب 2 مليون كلمة مهما أوتي من ذاكرة حديدية؟ مثل هذا الكم الهائل في حاجة إلى كمبيوتر للحفظ والتخزين. وقد وجدت القواميس في كل اللغات لهذا السبب بالذات، وهو استحالة أن يستوعب عقل واحد معاني كل الكلمات في أي من لغات العالم. والمشكلة كما قلت هي أن القواميس اللغوية غير متوفرة في العربية بالسهولة وبالأسلوب العملي الذي نجده في اللغتين الإنجليزية والفرنسية بصفة خاصة.
وتلاميذ المدارس يكتفون بحفظ الشعر دون فهمه لمجرد النجاح بالامتحان، وهم يسرعون بنسيان ما حفظوه بمجرد الخروج من قاعة الامتحانات، وكأنه «هم وانزاح» من على كاهلهم.
وأعترف أنني كنت من هؤلاء؛ فقد كنت أحفظ شعرا كثيرا نسبيا من أيام المدرسة، لكنني لم أكن أفهمه. وعندما استرجعت هذا الشعر بعد بلوغ سن النضج الذهني، أدركت المعاني التي كانت خافية عني تماما في السابق. والغريب أنني كنت قد نسيت هذا الشعر ولم أكن أتخيل أنه لازال كامنا في أعماق ذاكرتي، لكنه كان بالفعل مخزونا في العقل الباطن حتى تم استحضاره عندما أعدت قراءته وأنا كبير.
والأرجح أن الغالبية العظمى من المصريين والعرب لا يتاح لهم أن يستعيدوا من أعماق الذاكرة أبيات الشعر التي حفظوها في مرحلة الدراسة. ولولا والدي رحمه الله الأستاذ محمد مفيد الشوباشي، ولولا احترافي الكتابة لظل الشعر الذي حفظته مدفونا في مجاهل اللاوعي بذاكرتي، ولم يظهر أبدا إلى السطح.
وأستخلص من هذا أن الذين يجيدون العربية إجادة تسمح لهم بفهم التراث، هم الذين أفنوا حياتهم في تعلم اللغة والدين، وهؤلاء مطلوبون في مجتمعاتنا، لكنه لو فعل الجميع مثلهم فلن تكون لدينا هياكل البنية الأساسية للدولة؛ لأن هؤلاء غير قادرين على استيعاب العلوم الدنيوية.
وأعلم أن مثل هذا كلام وتلك الاستفسارات ستثير قلق وحفيظة الكثيرين، وسيجد هؤلاء تبريرات وتفسيرات غير منطقية، لكنها ترضي قناعتهم العمياء بالارتباط العضوي بين الشعوب العربية ولغة الضاد. وبالتأكيد أن هذه العلاقة العضوية موجودة بالفعل، لكنها ليست كما يدعيه حراس العربية وحماة تراث السلف. •••
وصعوبة اللغة العربية ليست ظاهرة جديدة يعاني منها الإنسان العربي في هذا الجيل وحده، فهي سمة قديمة لها جذور في أبعد عصور التاريخ العربي.
ومن يجادل في ذلك عليه أن يتأمل بيتا للمتنبي والظروف التي كتب فيها هذا البيت، يقول فارس العربية:
وكلمة في طريق خفت أعربها
فيهتدى لي فلم أقدر على اللحن
ويروي لنا محمود محمد شاكر ملابسات هذا البيت في كتابه «المتنبي» فيقول: إن الشاعر الكبير كان قد اضطر للهروب من «حمى جرش» خوفا من بطش شخص يدعى ابن كروس وصفه بالأعور. وقد اقتحم الشاعر كما يقول الكتاب ظلمات البادية متوجها إلى أنطاكية، ونظم قصيدة لدى وصوله إلى بر الأمان يمدح بها أبا عبد الله الخصيبي الذي كان ينوب عن أبيه في مجلس القضاء بأنطاكية، كما يقول محمود شاكر.
لكن المهم بالنسبة لنا هنا هو المعنى الموجود في هذا البيت الوارد بالقصيدة.
فالمتنبي يقول إنه خاف خلال هروبه أن ينطق بلغة عربية سليمة خوفا من أن يكتشف الناس هويته. وكلمة اللحن هي الخطأ في إعراب الكلمة، وبالتالي في نطقها وتشكيلها، أي أن النطق بلغة سليمة يدل على أن المتكلم شخص غير عادي وخارق للعادة، فالنطق الخطأ إذا هو القاعدة، ومن لا يخطئ هو الاستثناء، فإذا نطق المتنبي دون خطأ فمن الممكن أن يكشف ويعرف أنه شخص ينتمي إلى الصفوة.
وإذا صدقت نظرية علوية المتنبي، فإن خوفه من افتضاح أمره كان هاجسا يؤرقه على الدوام، لكن المهم عندنا هنا هو أن المتنبي يقر بأن من كان يتحدث العربية في هذا العصر بلا أخطاء كان يعد شخصا غير عادي.
فكيف نلوم الناس اليوم على عدم إلمامهم باللغة وجهلهم بقواعدها؟ فمن الواضح أن عدم معرفة اللغة كان سمة دائمة في العالم العربي. ونحن نتخيل فيما يبدو أن الناس في الماضي وخاصة في عصر الرسول والخلفاء الراشدين ثم في العصرين الأموي والعباسي، كانوا كلهم سيبويه أو المتنبي أو أبا تمام. وهذا غير صحيح على الإطلاق، فصعوبة اللغة جعلت إجادتها التامة دائما صفة من صفات الخاصة التي كانت تحفظ القرآن وتقرأ كتب التراث.
أما العامة أي غالبية الشعب العربي أو الخاضع لسلطان الأمة الإسلامية، فقد كانت معرفتهم باللغة معرفة محدودة تسمح لهم بالتفاهم وربما القراءة والكتابة، لكنها ليست على أية حال معرفة رصينة وسليمة لقواعد اللغة.
وإذا كان الشباب يتكبد أعتى المشاق في بداية القرن الواحد والعشرين لتعلم قواعد اللغة العربية، فعلينا أن نلتمس لهم العذر، خاصة إذا علمنا بما أفصح عنه أحد ألمع بلغاء العرب في العصر الحديث وهو الإمام محمد عبده. ففي المجموعة الكاملة التي جمعها الأستاذ محمد عمارة يقول محمد عبده حرفيا في كتاب شرح النحو عن تعلمه لقواعد اللغة: «فحملني عدم الفهم على الهرب من طلب العلم لتمكن اليأس من نفسي.» فإذا كان محمد عبده شخصيا قد تعذب منذ نحو مائة وخمسين عاما بسبب قواعد العربية، فماذا عن شبابنا اليوم؟
وقد أدرك رفاعة الطهطاوي صعوبة اللغة العربية عندما بدأ يتعلم الفرنسية خلال بعثته لباريس التي دامت من 1826م إلى 1831م، وخلال هذه السنوات الخمس استطاع الطهطاوي الإلمام بالفرنسية وقواعدها إلى درجة مبهرة جعلته قادرا على الكتابة بها دون أخطاء في قواعد اللغة أو الإملاء. وقد وقعت على خطاب محفوظ بأحد المتاحف الفرنسية في باريس بخط يد الطهطاوي، وبصراحة فقد ذهلت لأن الخطاب ليس به خطأ واحد في اللغة. وأعتقد أن هذا لا يدل فقط على عبقرية الطهطاوي، لكنه يدل كذلك على السهولة النسبية لتعلم الفرنسية خاصة بالنسبة لشخص غريب عن الثقافة الأوروبية، فتعلم الفرنسية قد يكون سهلا على شخص إيطالي أو إسباني نظرا لتقاربها مع لغته الأم، لكنه صعب جدا بالنسبة لعربي تربى على لغة سامية.
ويقول رفاعة في «تخليص الإبريز» عن الفرنسية: «كان لسانهم من أشيع الألسن وأوسعها بالنسبة لكثرة الكلمات غير المترادفة، لا بتلاعب العبارات والتصرف فيها ولا بالمحسنات البديعية اللفظية؛ فإنه خال منها.» ومن الواضح أنه يقارن الفرنسية بالعربية العامرة بالمترادفات والتلاعب بالعبارات والمحسنات البديعية.
المشكلة هي أن من يرفضون بشدة أي تطوير ملموس في اللغة هم أنفسهم الذين يرفضون بضراوة أي تجديد في كل مظاهر الحياة، وهم الذين يقفون في مواجهة كل محاولة جادة للخروج من مأزق التمسك بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، وهم أنفسهم الذين يفرضون مرجعيات سلفية لكل قضايا المجتمع ومشكلاته المستعصية. وهؤلاء يقحمون الدين الحنيف في كل شيء، ليس في السياسة فقط لكن في التعاملات اليومية والعلاقات الاجتماعية والقوانين وقواعد السلوك العام. وهم يعمدون إلى ترويع الناس معنويا من أجل الحفاظ على القديم الذي يناسب مصالحهم.
وقد نجح هؤلاء في إسكات كل صوت ينادي بالتطوير، بتوجيه أشنع الاتهامات إليه، وأولها بأنه معاد للدين وكافر بالله. وقد أصبحت هذه الاتهامات المخيفة جاهزة على ألسنة حراس الماضي. وليسوا في حاجة إلى سند من المنطق للإطاحة بمن يفتح فمه للاعتراض، وأصبح الإنسان متهما عندهم بالكفر حتى يثبت إيمانه.
وفي كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام 1937م ينبه الدكتور طه حسين إلى خطورة تحجر اللغة العربية، ويدعو إلى إصلاح اللغة بصورة عاجلة. وفي الفصل الذي يحمل رقم 37 بطبعة دار المعارف الصادرة عام 1996م وتحت عنوان: «ما اللغة العربية التي تتولى الدولة تعليمها»، يقول طه حسين «إن إصلاح اللغة أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بل من ضرورات الدين نفسه.»
لكن المفارقة هي أن عميد الأدب العربي لا يبدأ بنفسه، فهو يكتب بلغة بلاغية رائعة الجمال، لكنها لغة ليست في متناول القارئ العادي سواء في عصره أو في بداية القرن الحادي والعشرين. واللغة التي استخدمها طه حسين في هذا الكتاب وفي كل ما كتب بعيدة كل البعد عما نادى به من ضرورة تيسير اللغة وتقريبها إلى العامية. ومع الاعتراف بجمالها الكلاسيكي فإن لغة طه حسين أقرب كثيرا إلى لغة الجاحظ منها إلى اللغة التي ينادي باستخدامها. وقد حاول في أحد كتبه تطبيق رأيه في كتابة اللغة كما تنطق لكنها كانت تجربة فاشلة، ولا يعرف هذا الكتاب إلا المتخصصون دون غيرهم. •••
ومن أبرز الأمثلة على التحجر الذهني الذي يعكسه بجلاء تحجر لغوي في الألفاظ والمعاني، ما ظل يصنعه الشعراء العرب لقرون طويلة؛ فقد كان تقليد القديم شرطا حديديا للإبداع الشعري، وكل ما خرج عن السلف كان يعتبر محاولات شيطانية غير مقبولة، فكان الشعراء حتى العصر العباسي كثيرا ما يضطرون إلى البكاء على الأطلال والتغني بالناقة وبالبيداء وبالرمح في عصور اختفت فيها كل هذه العناصر من حياتهم. فالبدو الرحل كانوا يذرفون الدموع على الأطلال التي تركها قوم حبيبتهم بسبب الترحال من مكان إلى آخر بحثا عن الماء وظروف معيشية أكثر ملاءمة. أما شعراء العصر الأموي والعباسي الأول فكانوا في معظمهم يعيشون في المدن أو القرى التي لا يحتاجون فيها إلى الترحال، وكانت حبيباتهم تسكن مكانا ثابتا ولا يحتاج أهلهن إلى التنقل.
ومع ذلك فقد كان الشعراء في ذلك العصر يذعنون لإرادة التيار المحافظ الغالب، مع أنهم لا هم يعيشون في الصحراء ولا يركبون الجمال ولا يستخدمون الرماح، لكنهم ظلوا مضطرين لمحاكاة القدماء بنفس المعاني ونفس الكلمات، فجاء شعرهم مضحكا ومحزنا في الوقت ذاته.
وكان الشعراء المتمردون على القديم يلقون ألوانا من العنت تصل إلى حد الضرب والطرد والحبس والاتهام بالزندقة. كل هذا بفعل من يدعون حماية الدين وحماية اللغة من عدوان «المارقين». لكنه إذا كانت العربية قد نالت شيئا كبيرا من التطوير فذلك بفضل هؤلاء «المارقين» الذين اجترءوا على المحرمات، وشعروا بضرورة كسر القوالب الجامدة المفروضة من قبل حراس الماضي في كل زمان.
وبرغم الإرهاب الفكري لبعض حماة القديم آنذاك، استطاع الشعراء الفكاك في كثير من الأحيان من إسار الماضي وبدءوا يعبرون شيئا فشيئا عن بيئتهم وعصرهم.
ويذكرني ما لاقاه هؤلاء الشعراء من عنت ومعاناة على يد التيارات المحافظة على القديم، بالذين يعيشون بيننا اليوم ويريدون فرض أفكار لم يعد لها ما يبررها في عالم القرن الحادي والعشرين، كما يصرون على عدم المساس باللغة التي ورثناها من السلف، وآن الأوان أن نطورها حتى نجاري عصرنا الحالي.
فلا توجد دولة كبيرة واحدة كما قلت لا تبذل الجهود المستمرة من أجل تطوير لغة التعبير التي يستخدمها أبناؤها، بهدف مواكبة التطور الطبيعي الذي يفرض نفسه على المجتمعات.
أما نحن العرب فنعاند سنة التطور ونصادر المستقبل لمصلحة الماضي. والنتيجة أن غالبية العرب يخطئون في لغتهم الأم ولا يلمون بقواعدها الأساسية.
وما أستخلصه مما سبق ليس أن الشعوب العربية شعوب جاهلة وعاجزة عن استيعاب لغتها الأم، لكن ما أستخلصه هو أن اللغة العربية لم تتطور كما ينبغي لتلائم العصر الذي نعيش فيه، وأنه آن الأوان لتحديثها. ومن العبث فعلا التمسك برفض التغيير على أساس دعاوى واهية تلعب دورا رئيسيا في تخلف العقل العربي.
الفصل السابع
شيزوفرينيا لغوية
لعل أدق توصيف للحالة اللغوية التي يعيشها الإنسان العربي منذ قرون طويلة هو ما يطلق عليه في علم النفس «شيزوفرينيا»؛ فهو عندما يتحدث على سجيته في منزله وفي عمله وفي الشارع والسوق، يستخدم اللهجة الدارجة السائدة في بلاده، لكنه عندما يقرأ الصحف أو يستمع إلى نشرات الأخبار في الإذاعة والتلفزيون وعندما يقرأ الكتب أو يكتب طلبا أو مذكرة في عمله، فإنه ينتقل إلى لغة أخرى مختلفة هي العربية الفصحى.
ولو عرفنا العربية بأنها الفصحى وحدها فسنقع في مفارقة غريبة، وهي أن أكثر من نصف أبناء الشعوب العربية ليسوا عربا، فمن المعروف أن أكثر من 50٪ من سكان العالم العربي يجهلون العربية الفصحى. ولو عرفنا العربية بأنها اللهجات التي تتحدثها الشعوب العربية، نكون قد وقعنا في خطأ كبير.
ولأنني أعيش حالة الشيزوفرينيا اللغوية، مثلي مثل ملايين العرب، كنت أتصور أن الفارق بين الفصحى واللهجات ضئيل للغاية، وأن من يعرف إحداهما وخاصة الفصحى يعرف الأخرى أو على الأقل لا بد أن يفهمها. لكن التجربة وخاصة مشاهدتي للأجانب الذين يتعلمون العربية أقنعتني بمدى الهوة بين العامية والفصحى؛ فالأجانب الذين يجيدون الفصحى إجادة تامة وعكفوا سنوات من عمرهم على دراسة لغتنا يفغرون أفواههم عندما أحدثهم بالعامية المصرية، ولا يفهمون شيئا مما أقول.
إذا فكل عربي متعلم يتعامل في حياته اليومية بلغتين مختلفتين، حتى وإن جمعتهما مفردات عديدة وبعض القواعد العامة.
وقد يجادل البعض بأن اللهجات كانت موجودة دائما في العالم العربي. فما الذي استجد حتى نفكر الآن في إيجاد مخرج من هذا الوضع ؟ وهم يرون أن حالة التعايش التي استمرت قرونا متعاقبة يمكن أن تستمر هكذا إلى أبد الآبدين. وقد سردت في المقدمة بعض المستجدات التي تجعلنا نقلق على لغتنا الجميلة.
وبالإضافة إلى تلك الأسباب، فإنه يفوت على هؤلاء البعض أن حالة الشيزوفرينيا في الماضي كانت مقصورة على شريحة محدودة للغاية في المجتمعات العربية، وهي القادرة على القراءة والكتابة. ولأن نسبة الأمية كانت تزيد بالتأكيد على 95٪ من الشعوب العربية حتى زمن قريب، لم تكن حالة الانفصام اللغوي تشكل ظاهرة تمس المجتمع ككل. أما اليوم، وبفضل انتشار التعليم، فقد أصبحت نسبة مستخدمي الفصحى لا تقل عن 50٪ من أبناء الشعب العربي، وهذا تغير جذري لا يمكن إهماله، فالقوى الحيوية للشعوب العربية هي تلك الفئات المتعلمة القادرة على دفع عملية التطور، وهي التي تعاني معاناة حادة مما أسميه شيزوفرينيا لغوية.
في الماضي كانت الغالبية الساحقة من أبناء الشعوب العربية تعيش وتموت دون أن تعرف شيئا عن الفصحى، وكانت الفئة القليلة من علماء الدين أو اللغة يكرسون حياتهم للدرس والتحصيل، فلا تمثل حالة الشيزوفرينيا مشكلة معقدة بالنسبة لهم. فتحول الشيزوفرينيا من واقع تعيشه القلة إلى مشكلة عامة في المجتمع، هي قضية حديثة، ومع زيادة نسبة التعليم المطردة في العالم العربي، سوف تتحول مشكلة الشيزوفرينيا إلى أزمة تضاف إلى ازمات العقل العربي في القرن الحادي والعشرين.
ويبذل الإنسان العربي لا شعوريا جهدا ضخما للتوفيق بين اللغتين في عقله، لكننا لا نشعر بهذا المجهود الذهني؛ نظرا لأننا نشأنا على هذا الوضع الشاذ ورضعنا منذ الطفولة تلك الازدواجية اللغوية، فاعتبرناها أمرا مسلما به يتسق مع طبيعة الأمور، بل إن المتعلمين من العرب يخلطون في عقلهم الفصحى والدارجة وكأنهما لغة واحدة أو وسيلتان للتعبير بينهما تقارب شديد. لكن الواقع أن الفارق بين الفصحى واللهجات يكاد يوازي الفارق بين لغات مختلفة، وإن كان لها أصل واحد مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية على سبيل المثال. •••
ولو فكرنا قليلا بموضوعية يتضح لنا أن هذا الوضع غير طبيعي، وأنه يكلف العقل العربي إرهاقا ذهنيا يحط من قدراته، كما يشتت ملكاته الفكرية. ولأن الإنسان كما هو معروف لا يفكر بطريقة مجردة وإنما من خلال كلمات تتشكل في عقله، فإن العربي مهدد بانفصام في التفكير: هل يفكر بالفصحى أم بالعامية؟ وأيا كانت الإجابة فمن المؤكد أن هناك تشويشا في عقله لا يساعده على الوضوح الذهني.
وما يزيد الأمر تعقيدا أن العربي الطامح إلى التقدم في العملية التعليمية وتطوير قدراته يضطر إلى إجادة لغة أجنبية سواء الإنجليزية أو الفرنسية. والسبب في ذلك لا يخفى على أحد وهو أن كل العلوم والتخصصات أصبحت تصاغ بإحدى هاتين اللغتين وبالإنجليزية بصفة خاصة.
فإذا أراد أي شاب أن يكون طبيبا أو مهندسا أو كيميائيا أو خبيرا في الكومبيوتر أو حتى صحفيا أو مؤرخا أو جغرافيا، فلا بد له من الاطلاع على المصادر الأجنبية في تخصصه، ولا يمكنه أن يعتمد على العربية التي تأخرت كثيرا في كل ميادين العلم والمعرفة؛ وبالتالي فإن العربي المثقف لا بد له أن يجيد ثلاث لغات على أقل تقدير: لغة يتحدث بها في حياته اليومية، وأخرى يكتب ويقرأ ويدرس بها، ثم لغة أجنبية تفتح له أبواب العلم والمعرفة الحديثة.
صحيح أن الإنسان العصري المثقف في أي مكان بالعالم عليه أن يعرف أكثر من لغة؛ لأن ذلك يفتح أمامه آفاقا واسعة ويجعله منفتحا عقليا على العالم الخارجي، إلا أن المطلوب هو معرفة لغة أجنبية عنه، وليس لغتين متضاربتين في صلب ثقافته الواحدة.
ولكي ندرك أهمية تعلم لغة أجنبية يمكننا الرجوع إلى ما كتبه في هذا الشأن شيخ عظيم من شيوخ الإسلام هو الإمام العبقري محمد عبده. وهذا الشيخ الجليل هو قطب من ألمع أقطار الاستنارة في الحقبة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، على عكس بعض تجار الدين في هذه الأيام من الذين يبذلون الجهود لجذب الأمة العربية والإسلامية إلى الوراء ولنشر أفكار تؤدي إلى الخرافات والخزعبلات.
يقول محمد عبده في فصل بعنوان «تعلمي للفرنسية» في كتاب «الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده»، من تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة ما نصه:
إن الذي زادني تعلقا بتعلم لغة أوروبية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوروبية. كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع مصالح الأوروبيين في جميع أقطار الأرض؟ وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم؟ أو للخلاص من شر الشرار منهم؟
هكذا لخص الشيخ محمد عبده منذ أكثر من مائة سنة الأسباب التي تجعل معرفة لغة أجنبية، وخاصة الإنجليزية أو الفرنسية، ضرورة لأي إنسان ينشد التطور الشخصي والمنفعة العامة.
وتعدد اللغات وإن كانت له إيجابياته الكثيرة إلا أنه قد يشتت الإنسان عن صلب المعرفة، خاصة عندما يضطر إلى تعلم لغتين لممارسة حياته العادية، كما هو الحال بالنسبة لنا نحن العرب.
وإذا قارنا هذا الوضع بالمواطن الأمريكي مثلا، نجد أنه من الممكن أن يكتفي بلغة واحدة ليصل إلى ما يريد، فاللغة التي يتحدث بها ليشتري حاجته من السوق هي نفسها اللغة التي درس بها والتي يشاهد بها نشرات الأخبار بالتلفزيون، وهي أيضا التي يحتاجها في كل المراجع الهامة في تخصصه، أيا كان هذا التخصص. وكذلك الحال إلى حد بعيد بالنسبة للفرنسي أو الألماني.
وقد يفتي البعض بأن مشكلة الازدواج اللغوي موجودة في الإنجليزية والفرنسية وكافة اللغات الأخرى، فالناس في الشارع وخاصة الشباب يتحدثون لغة تختلف عن لغة التدريس في جامعات أكسفورد والسربون، لكن هذه مغالطة فاضحة هدفها تبرير حالة الشيزوفرينيا التي نعيشها كعرب، وتمييع المشكلة وكأن كل شعوب العالم تعاني منها. وهو أمر غير صحيح على الإطلاق.
أما الواقع فهو أن لغة التخاطب الدارجة في هذه البلاد تختلف عن اللغة الراقية بقدر ما تختلف لغة شباب اليوم في مصر عن اللغة العامية التي يتحدث بها أفراد الأسرة في المنزل أو الموظفون في الوزارات وأماكن العمل. وهناك مفردات يستعملها الشباب لا يفهمها الكبار وتبتعد لغتهم إلى حد ما عن اللغة العامية المستخدمة في المدن المصرية الكبرى منذ عشرين أو ثلاثين عاما.
والأقرب للمنطق أن نقارن ما هو قابل للمقارنة، لا أن نقارن أي شيء بأي شيء لكي نثبت ما نحن راغبون في إثباته. ولنأخذ مثالا بسيطا نهديه للذين يفتون بأن مشكلة الانفصام اللغوي موجودة في العالم كله مثلما هي موجودة في العالم العربي؛ فإذا ذهب فرنسي مثلا إلى أحد المحال وطلب من البائع شراء حاجياته، واستخدم في ذلك اللغة التي تكتب بها صحيفة لوموند أو حتى التي يدرس بها في السوربون، فإن البائع لن يرى في ذلك أية غرابة، وسيفهم هذا البائع أيا كانت درجة ثقافته كل كلمة يقولها المشتري. كل ما في الأمر أن البائع سيدرك أنه أمام رجل على قدر عال من التعليم والثقافة.
أما إذا ذهب مواطن في مصر أو في اليمن أو المغرب وتوجه إلى البائع قائلا حرفيا: «أعطني يا بني رغيفا من الخبز، وزد عليه قطعة من الجبن.» فسيكون أضحوكة كل من يسمعه وربما لا يفهم البائع ما أراد أصلا.
فهناك إذا في هذه الحالة ثلاث لغات على الأقل يستخدمها الناس في كل بلد عربي؛ اللغة العامية المستخدمة في الحياة اليومية، ولغة مستحدثة وخاصة في أوساط الشباب، واللغة الفصحى. وحتى هذه الأخيرة يمكن تقسيمها إلى لغة الصحافة والإعلام السهلة نسبيا، ثم لغة الكتب والمتخصصين التي لا زالت تتمسك بالقديم. •••
ومن يريد الدخول في تفصيلات أكثر تعقيدا فإن سكان بعض المناطق في العالم العربي لهم أيضا لهجات خاصة، وأحيانا لغات خاصة ؛ فالصعيدي مثلا في مصر يتحدث اللهجة السائدة في جنوب مصر ويفهم العامية القاهرية، والحلبي في سوريا يتحدث بلهجة تختلف عن الدمشقي وهكذا.
لكن هذه الظاهرة موجودة في غالبية بلاد العالم، فهناك في فرنسا لغات خاصة مثل البروفنسال والباسك لا يفهمها إلا سكان هذه المناطق. ومع ذلك فإن كل الفرنسيين يفهمون لغة أهل منطقة باريس ويتحدثون بها فيما بينهم. وكل هذا يختلف اختلافا جذريا عن الفارق بين الفصحى واللهجات في العالم العربي. •••
وتطرح الشيزوفرينيا اللغوية التي يعاني منها العرب سؤالا صعبا على النفس لكنه جدير بالطرح، حتى وإن كنا مقتنعين بأن إجابته بالنفي، وهو: هل تصبح اللغة العربية الفصحى مثل اللاتينية؟ أي لغة تفرخ لغات أخرى من باطنها لكنها لا تستخدم في حد ذاتها وتتحول إلى لغة ميتة؟
وفي كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» يحذر الدكتور طه حسين بشدة من هذا الاحتمال، حيث يقول في الفصل 37 من طبعة دار المعارف الصادرة عام 1996م:
وأنا نذير للذين يقاومون هذا الإصلاح بخطر منكر (...) وهو أن اللغة العربية الفصحى إذا لم ننل علومها بالإصلاح، صائرة - سواء أردنا أم لم نرد - إلى أن تصبح لغة دينية ليس غير، يحسنها أو لا يحسنها رجال الدين وحدهم ويعجز عن فهمها وذوقها فضلا عن اصطناعها واستعمالها غير هؤلاء السادة من الناس.
وفي الواقع أن هدفي من وضع هذا الكتاب هو تفادي ما ينذر به عميد الأدب العربي الذي أبصر ما لا يراه المبصرون بأعينهم. وصدق نزار قباني في رثائه عندما أكد هذا المعنى قائلا:
ارم نظارتيك ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان
واللاتينية كانت أهم لغات العالم في عصر من العصور، وتصور أهلها أن العالم سيظل يتحدث بها إلى أبد الآبدين. وكانوا يطلقون على روما اسم «المدينة الخالدة»، لكن جحافل القبائل القادمة من شرق وشمال أوروبا، والتي اجتاحت أراضي الإمبراطورية الرومانية الغربية، لم تقض على نفوذ روما القديمة فحسب؛ فبعد بضعة قرون لم يعد للاتينية وجود وظهرت لغات هي مزيج بين هذه اللغة واللغات التي كانت تتحدث بها القبائل، مثل الفرنجة والقوط والفندال وغيرهم. وتبلورت في بطء شديد اللغات التي نعرفها اليوم مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها.
ومع ذلك فإنه لا تخفى على أي إنسان الفروق الجوهرية بين العربية واللاتينية، فالعربية نزل بها القرآن وكانت لغة تراث عظيم لا يقبل أي عاقل أن يضيع هباء لأي سبب من الأسباب. لكن واقع الحياة كثيرا ما يكون أقوى من إرادة الإنسان خاصة إن لم يعمل الإنسان على تحقيق إرادته بعزيمة صلبة وعمل دءوب. ولو قال أنصار محمد
صلى الله عليه وسلم
في بداية الدعوة لبعضهم البعض: «لا تخشوا شيئا فهذا دين الله، وهو قادر على حمايته.» ثم توقفوا عن أي جهود لنشر الدعوة ووقفوا موقفا سلبيا، فالله وحده يعلم ما كان سيحدث لديننا.
اليوم أيضا، علينا ألا نكتفي بالقول بأن العربية هي لغة القرآن، وبالتالي فلا يمكن أن تمس وسيظل العرب يتحدثون بها إلى الأبد، فهذا لا يكفي، وإنما علينا أن نعمل جاهدين على تطويرها؛ حتى تلائم احتياجاتنا وتظل لغتنا التي نفاخر بها الآخرين.
وكما قلت في المقدمة فإن اللهجات كانت موجودة منذ ظهور اللغة العربية في الجزيرة، وعندما انتصرت لغة قريش بفضل نزول القرآن الكريم بها انزوت اللغات واللهجات الأخرى كلغة أدب وكتابة، لكنها ظلت متواجدة بصورة أو بأخرى في اللغات المستخدمة في الكلام.
وأهم ما يجب أن نعرفه أن اللغة العربية الراقية التي نزل بها القرآن وكتبت بها روائع الأدب العربي الكلاسيكي، لم تستخدم كما هي كلغة للكلام في أي عصر من العصور، فحتى في زمن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان عامة الناس يتحدثون لغة تمتزج فيها اللغة الراقية باللهجات المسيطرة على اللسان العربي.
وكلما ابتعدنا زمنيا عن اللحظة الفاصلة وهي نزول القرآن، كلما ابتعد الناس عن الفصحى لحساب اللهجات في كل مكان بالعالم العربي، أي أن الناس في العصر الإسلامي بالجزيرة العربية كانوا يتحدثون لغة أقرب إلى الفصحى منهم في العصر الأموي، وكانوا أقرب إلى الفصحى في الأموي من العباسي، وهكذا إلى يومنا هذا الذي أصبحت فيه الفجوة واسعة بالقدر الذي يلمسه أي مراقب لا تحركه العواطف وحدها.
واللافت للانتباه أن اللهجات قد انتصرت كلغة للتعامل اليومي، حتى في مكة المكرمة وهي مهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
ومنبع اللغة العربية وبؤرة الفصاحة والبيان.
وهناك سؤال يقفز تلقائيا إلى الذهن: لماذا هجر الإنسان العربي في كل زمان ومكان العربية الفصحى، ولجأ إلى لغة أخرى للتعامل اليومي والإعراب عما في صدره؟ لماذا لا يذهب العاشق إلى محبوبته ويقول لها حرفيا: «أنا هائم في غرامك.» أو «وجهك الصبوح يهز كياني»؟ ولو قال لها مثل هذه العبارات، فالأرجح أن العلاقة بينهما ستنتهي بهذا الغزل البليغ. فلماذا يفضل دائما العاشق عبارات غزل مستقاة من اللهجة الدارجة التي تعبر أفضل تعبير عما في نفسه؟
من الممكن أن نجد تبريرات فلسفية ونفسانية عميقة لذلك، لكني أرى سببا بسيطا يقفز إلى العقل على الفور: إن الفصحى - بشكلها الحالي - ليست لغة صالحة للتعامل اليومي نظرا لصعوبتها وتعقيداتها. •••
وكان لانتشار العربية خارج الجزيرة مع الفتح الإسلامي آثار حاسمة على لغتنا. ومع الزحف العربي في كل اتجاه شمالا وشرقا وغربا بعد وفاة الرسول وجهت العربية ضربة قاضية إلى كل اللغات التي كانت متداولة في المنطقة، وأهمها الآرامية وهي لغة المسيح عليه السلام والقبطية وهي لغة أهل مصر قبل الفتح، وإلى اليوم فمن الصعب أن نجيب عن السؤال الآتي: لماذا سيطرت العربية على لسان الناس في الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا، لكنها لم تستطع اقتلاع لغات مثل الفارسية والتركية ولغات شعوب أخرى كثيرة في آسيا؟
وهناك نظريتان أساسيتان في هذه القضية، تقول الأولى إن العربية ارتبطت بالتعريب أي بانتقال العناصر العرقية العربية وامتزاجها بالشعوب المفتوحة. وبطبيعة الحال فقد كانت الهجرة العربية إلى البلاد الأقرب جغرافيا؛ لذلك فإذا نظرنا إلى خريطة العالم الإسلامي اليوم نجد نواة أساسية، هي العالم العربي، تحيط بها بقعة أكبر كثيرا هي العالم الإسلامي. لكن هذا العامل لم يكن حاسما نظرا لأن عدد العرب الذين خرجوا من الجزيرة للفتح والإقامة في الأمصار لا يتجاوز 200 ألف شخص وفقا لموسوعة «يونيفرساليس»، وهذا الرقم تقريبي كما تقول الموسوعة لكنه ليس بعيدا جدا عن الواقع. ولا شك أن هؤلاء قد تاهوا وسط عشرات الملايين من سكان الأقطار المفتوحة.
أما النظرية الثانية فتقوم على أساس لغوي بحت، فهي تقول إن العربية انتصرت في البلاد التي كانت تتحدث لغات سامية - حامية وهي نفس الأسرة اللغوية العربية - فاستساغت شعوب هذه البلاد مثل مصر والشام اللغة الوافدة مع الفتح؛ لأن لها نفس جذور اللغة التي يستخدمونها .
وربما لعبت عوامل كثيرة دورا في انتصار العربية على لغات البلاد المفتوحة، لكن المهم في هذا البحث هو أن الفصحى لم تنجح في فرض نفسها كلغة تعامل، وانتشرت اللهجات وفقا للعادات اللغوية في كل بقعة من بقاع العالم العربي.
وقد أطلق الجاحظ على اللهجات الجديدة تعبير: «لغة المولدين والبلديين»، والمولدون هم الأبناء المخلطون، أي الذين لهم أم أو أب غير عربي. وكان غالبية المولدين من أب عربي وأم «أعجمية» أي غير عربية. ويبدو أن العرب قد انبهروا بالفتيات الأجنبيات من فارس ومن بلاد الروم حيث كانت هاته الفتيات، وخاصة الروميات منهن، يتميزن بالشعور والعيون الملونة وهو ما لم يشهده غالبية العرب من قبل. ومع طول مدة الفتح والحروب كثر الزواج من غير العربيات أو اتخاذ جاريات يلدن الأبناء. وقد لعب المولدون دورا هاما في تاريخ الأمة العربية الإسلامية وخاصة في العصر العباسي، لكن دورهم في تطوير أو «تشويه» العربية لم يدرس بما فيه الكفاية إلى اليوم.
ومع الوقت أصبح اللحن والخطأ في اللغة العربية هما القاعدة بالنسبة لعامة الناس، ويروي ابن قتيبة أن أعرابيا دخل السوق فسمع الناس يخطئون في العربية ويلحنون فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح!
ويؤكد أحمد أمين في ضحى الإسلام أن اللحن كان فاشيا حتى في العلماء؛ فقد لحن - كما يقول مستندا إلى البيان والتبيين والعقد الفريد وطبقات الأدباء - كل من الإمام أبي حنيفة وعمرو بن عبيد وبشر الميسي. وإذا كان هؤلاء العلماء الأجلاء عاجزين عن التحدث بلغة عربية سليمة مائة في المائة، فما بالنا بعامة الناس في عصرهم، وما بالنا بعامة الناس في عصرنا الحالي، الذي لم يعد فيه الإنسان قادرا على ملاحقة إيقاع الحياة وكم المعلومات التي يضطر إلى استيعابها في كل لحظة حتى يستطيع الالتفات إلى سلامة اللغة التي ينطق بها.
ومن أبرز الأمثلة التي تضرب في فساد اللغة كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس. وهو بالفعل يستخدم لغة ركيكة في نظر كتاب التاريخ الفكري والأدبي، حيث يستخدم كلمات وتراكيب عامية، فيقول مثلا واصفا أحد الأمراء: «وأما عسكره فكانوا جيعانين العين، نفسهم قذرة، وعندهم عفاشة في أنفسهم.»
وباختصار، وحتى في العصور الذهبية للدولة الإسلامية، كان الناس يخطئون في العربية عندما يتحدثون بها كما يخطئ فيها العرب في القرن الحادي والعشرين، وكانوا يؤثرون عليها اللهجات التي سيطرت على اللسان العربي تماما مع الابتعاد الزمني عن عصر النبوة ونزول القرآن. •••
وكان من الطبيعي أن تؤدي حالة الشيزوفينيا اللغوية إلى إشاعة حالة من القلق بين المثقفين المصريين والعرب، وخاصة في العصر الحديث. وكان من الطبيعي أن ينكبوا على التفكير في وسائل الخروج من هذه الحالة الشاذة. وقد أدى ذلك إلى مجموعة من الاقتراحات والاجتهادات للعديد من عمالقة الفكر العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.
ومن أخطر هذه المقترحات التي أقول بوضوح إنني لا أوافق عليها، هي هجر الفصحى بالكامل واستخدام اللهجات كلغة تعامل رسمية في الدول الناطقة بالعربية.
وقد بدأت فكرة تبني العامية تأخذ طريقها إلى العقل العربي في نهايات القرن التاسع عشر. ونظرا لرفض العربي فطريا لهذه الفكرة، لأسباب دينية مفهومة، فقد كان أول من طرح الفكرة من المستشرقين. وظهرت كتب تروج لاستخدام العامية بديلة عن الفصحى، منها «قواعد اللغة العربية العامية في مصر» للمستشرق الألماني فلهلم سبيتا عام 1880م و«العربية المحلية في مصر» للإنجليزي سلوين ولمور عام 1901م.
وفي عام 1893م نشر الإنجليزي وليام ولكوكس بمجلة الأزهر (ولا أدري إن كان لها علاقة بالأزهر الشريف) مقالا بعنوان: «لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟» يدعو فيه إلى نبذ الفصحى واللجوء إلى العامية لتحرير الطاقات الإبداعية عند المصريين. وقام ولكوكس عام 1925م بترجمة الإنجيل إلى العامية المصرية تأكيدا لرأيه في أهمية اللجوء إلى اللهجة الدارجة ونبذ الفصحى.
وأكاد أسمع من يقول: إن رأي هؤلاء المستشرقين دليل على بطلان الدعوة إلى تبني الفصحى، فهؤلاء أعداء الإسلام والعرب ولا يدخرون وسعا لتقويض أركان ديننا وثقافتنا، فكيف نستمع إلى من يضمرون لنا الحقد والكراهية؟
ولو افترضنا صحة هذا الكلام، فإنه لا ينبغي مع ذلك أن نأخذ آراء الأجانب والمستشرقين باستخفاف لمجرد الشك في مقاصدهم، فهؤلاء المستشرقون لا يتحدثون من فراغ، وإنما من منطلق إعراض كل الشعوب العربية بلا استثناء واحد عن استخدام الفصحى كلغة للتعامل فيما بينها. وعلينا أن نرد على حججهم بقوة المنطق والعقل، وليس بالعواطف وتوجيه الاتهامات.
فهناك بعض من فطاحل الفكر العربي تبنوا هم الآخرون أفكارا مشابهة. وكان أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد من أوائل المصريين الذين روجوا لفكرة استخدام العامية، وإن كان قد أعاد النظر في موقفه وتخلى عن هذه الدعوة فيما بعد. كما كان مشروع عبد العزيز فهمي - الذي دعا من بين ما دعا إلى استخدام الحروف اللاتينية للغة العربية - قد أثار موجة اعتراض عارمة من قبل كافة الفئات.
وفي لبنان تحمس لهذه الفكرة سعيد عقل وأنيس فريحة. وكان قاسم أمين وطه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي من بين أشد الداعين إلى تيسير اللغة العربية وتبسيط قواعدها. وكل هؤلاء لا يشك في حسن نوياهم تجاه لغتنا وتراثنا.
ومن أشهر من دعوا إلى تبني العامية بديلا عن الفصحى بحجج عنيفة صدمت الكثيرين، كان سلامة موسى، وقد ساند أيضا استخدام الحروف اللاتينية واعتبر ذلك «وثبة نحو المستقبل».
ويقول سلامة موسى عن الفصحى: «ورثناها من بدو الجاهلية في عصر الناقة، ويراد لنا أن نتعامل بها في عصر الطائرة.»
وفي رأيي أن سلامة موسى قد انطلق من فرضية صحيحة، وهي أن اللغة العربية كما ورثناها لم تعد تلائم العصر، لكن النتيجة التي استخلصها من هذه الفرضية الصحيحة جاءت خاطئة؛ فهو يستنتج من عدم مواءمة اللغة لمتطلبات العصر أن نستبدلها بأخرى هي العامية. لكن النتيجة الأكثر منطقية هي أنه أصبح من الضروري تطوير اللغة، بحيث تناسب أسلوب تفكير واحتياجات إنسان القرن الحادي والعشرين.
والوسيلة الوحيدة لذلك هي الإسراع بالاتفاق على سبل تطوير اللغة بإرادة عربية مشتركة. ولن يتأتى ذلك إلا بوعي المثقفين والقائمين على أمور الثقافة في العالم العربي بأن الفصحى أصبحت مهددة فعلا، وأنه بعد عدة أجيال قد لا نجد من يعرف لغة سيبويه إلا قلة من الدارسين والمتخصصين، فالعامية تعبر عن احتياجات الإنسان العربي للتفاهم أفضل من الفصحى؛ ولهذا هجر اللغة الصعبة إلى الأسلوب الأسهل في التعامل.
والاتجاه الغالب لتناول قضية الشيزوفرينيا اللغوية العربية هي قبولها كما هي، وكأنها قدر مكتوب علينا ولا فكاك منه في المستقبل، لكن العقل يحتم علينا مراجعة هذا الموقف البراجماتي المستسلم للواقع.
من المؤكد أنه ستكون هناك دائما فجوة بين لغة الكلام اليومية ولغة الكتابة، وهي حقيقة موجودة في كل بلاد العالم، لكن واجبنا تجاه الأجيال القادمة هو تضييق هذه الفجوة بأكبر قدر ممكن. ومن الواضح أن هذا هو الاتجاه الذي فرضته طبيعة الأمور وخاصة منذ ظهور الصحافة في العالم العربي.
وكما قلت فإن ما يعرقل الاعتراف بهذا التطور الطبيعي هو الربط المصطنع بين اللغة والدين، وتخويف البعض بأن المساس باللغة هو مساس بالدين ذاته. وهو كلام بعيد جدا عن الحقيقة كما حاولت أن أثبت في هذا الكتاب. •••
وقد لعبت الصحافة دورا محوريا في إيجاد لغة مبسطة تفهمها شرائح متعددة من أبناء الشعب العربي. ويجمع الكثير من المثقفين ومحبي العربية أن الصحافة فتحت الباب أمام الحل الأمثل لمشكلة الشيزوفرينيا التي تواجه كل عربي قادر على القراءة والكتابة.
وإن كانت جهود الصحافة في تبسيط اللغة لم تسلم من انتقاد بعض فطاحل الفكر العربي، وقد عبر حافظ إبراهيم عن هذا الرأي عندما قال:
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا
من القبر يدنيني بغير أناة
وعلى الرغم من وجهة نظر شاعر النيل، إلا أن التقريب بين الفصحى واللهجات هو السبيل الوحيد لإيجاد تطوير منطقي ومقبول من الجميع للغة الضاد.
وأيا كان موقفنا من هذا الوضع اللغوي فإن حالة الشيزوفرينيا التي نعيشها معرقلة للتقدم ومعطلة لطاقات العقل العربي. والعرب في هذا المجال هم حالة لغوية فريدة ووحيدة في عالم اليوم. فإذا كان لا بد أن نتفرد بشيء، فالأفضل أن نتفرد بما هو نافع ومتميز، وليس بما هو ضار ومعرقل.
الفصل الثامن
غاية اللغة
الأصل في اللغة أنها وسيلة للتعبير عن النفس والتفاهم مع الآخرين. وهناك نظريات متناقضة حول نشأة اللغة في الأطوار الأولى من الإنسانية يختلف حولها العلماء، لكن ما لا خلاف عليه هو أن الإنسان في مراحل تطوره الأولى استخدم أصواتا يرمز بها إلى معان حتى يفهمه الآخرون، وأن الحاجة إلى التفاهم هي التي أوجدت الكلام. وظلت الغاية من اللغة في مختلف الحضارات هي التواصل والاتصال بين أبناء البشرية.
لكنه من الواضح أن المجتمعات العربية تشذ عن هذه القاعدة؛ فاللغة عندنا هي غاية تنشد في حد ذاتها. هي تستخدم بالطبع للتفاهم والتعامل، لكن لها عندنا هدفا آخر نتميز به عن غيرنا: فالعربي يطرب وينتشي من الكلمات سواء في الشعر أو في النثر لدرجة جعلت استخدام التعبيرات والتراكيب الجديدة عليه غاية تفوق في أهميتها الغاية الأساسية من اللغة.
وفي قصور الخلفاء والأمراء كان الشعراء والعلماء يتسابقون لاستخراج كلمات ومعان مبتدعة، ويتفننون في اللعب بالألفاظ من أجل إرضاء القادرين على منح العطايا. وكان الخلفاء وأولو الأمر يصلون إلى درجة من الانتشاء باللغة تجعلهم يغدقون على الشعراء أموالا تفوق ما يصرف في أهداف أخرى مفيدة للمجتمع. وكان الزخرف والتزيين الكلامي وإيقاع الألفاظ ورنينها وطنينها هي حيثيات البلاغة التي يتيه بها العربي.
فالعربي عاشق للغة ومتيم بها لذاتها وليس لمجرد نقل المعلومات والتفاهم مع الآخرين. ونستخلص من هذا أن مفهوم اللغة لدى العرب يختلف عنه في الحضارات الأخرى؛ فهي وسيلة بالنسبة للآخرين وهي غاية بالنسبة لنا، ثم وسيلة بالدرجة الثانية.
ومنذ بداية القرن العشرين بدأ العلماء يدركون أن اللغة تؤثر في عقل المجتمعات وفي سلوكيات الأفراد، وتعتبر نظرية «سابير-وورف» أول دراسة تربط بصورة مباشرة بين اللغة وتشكيل عقل الإنسان. وظهرت بعد ذلك دراسات كثيرة لم تصل بعد إلى مستوى مطمئن تماما، لكنها تدل كلها على أن هناك صفات عامة للمجتمعات تتصل بقالب اللغة وتركيبها وروحها. واللغة تعبر بصدق عن المجتمع لكنها تؤثر فيه بالتوارث من جيل إلى جيل، فالعلاقة بين العقل واللغة هي علاقة تبادلية؛ فاللغة تعبر عن روح المجتمع بنفس القدر الذي تؤثر فيه.
وإذا أخذنا الإنجليزية مثلا يتضح لنا كم أنها تعكس الروح العملية التي تميز الأمريكيين والإنجليز، وسهولة الحياة وغياب التعقيد في ثقافتهم. والألمانية مرآة للدقة والانضباط، وهما أبرز سمات الشعب الألماني عبر تاريخه. أما الفرنسية فهي تتصف بالوضوح والسلاسة، وقد أفرزت هذه الثقافة وهذه اللغة الفكر الديكارتي العقلاني القائم على منطق محكم وواضح المعالم.
ومنذ نحو ألف ومائتي عام، تنبه رجل ذو بصيرة نافذة، هو الجاحظ لهذه الفروق بإحدى رسائله في «البيان والتبيين» فيقول: «إن الحكمة وقعت على ثلاث: عقل الإفرنج، وأيدي أهل الصين، ولسان العرب.»
وفي كتاب «تاريخ العرب» يعزز فيليب حتي هذه الفكرة حيث يقول:
والعرب لم يبدعوا أو ينشئوا فنا عظيما خاصا بهم من الفنون المعروفة، ولكنهم عبروا عن الغريزة الفنية بصورة واحدة هي: الكلام. فإن فاخر الإغريقي بما عنده من تماثيل الفن ومنشآت هندسة البناء، فالعربي يرى قصيدته أفضل ما يعبر عن خلجاته الداخلية.
ويبدو أننا قنعنا بهذه القسمة الجائرة التي تجعلنا بارعين في الكلام وليس في أمور العقل والقدرة على العمل.
وإذا كانت اللغة تلعب دورا حاسما في وجدان كل شعوب العالم، فإن أثر اللغة على المجتمع العربي أكبر كثيرا من أي تكتل ثقافي آخر؛ فاللغة بالنسبة للعربي هي التي نزل بها القرآن، وهي لغة الأحاديث الشريفة، وهي لغة التراث الأدبي العظيم الذي تركته لنا أجيال متعاقبة من المبدعين في كل مجال، من امرئ القيس إلى نجيب محفوظ. وفوق كل هذا فهي كما قلنا بمثابة غاية تنشد لحد ذاتها. •••
وسنسعى في هذا الفصل لاستعراض أبرز الآثار الناتجة عن اللغة والمؤثرة في العقل العربي. ومن السذاجة أن نتصور أن اللغة تشكل العقل بطريقة آلية، وأن كل سمات العقل العربي التي سنطرحها في هذا الفصل هي نتيجة للغة وحدها؛ فهناك بالتأكيد عوامل أخرى ثقافية واقتصادية وتاريخية وبيئية وغير ذلك أثرت في تكوين العقل العربي. لكن لغة الضاد تلعب دورا هائلا في تشكيل هذا العقل، وهي كالجينات التي تؤهل الإنسان لصفات معينة ثم تتفاعل مع ظروف الطبيعة والحياة لتخلق شخصية الفرد، فاللغة تحدد ملامح اتجاهات الشخصية العامة لكنها تنعكس بعد هذا بطريقة متفردة على كل شخص.
وكما أن «الفكر القبلي» و«ثقافة الأذن» و«حضارة اليقين» كانت كلها في البداية عناصر إيجابية في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ثم انقلبت إلى عوامل سلبية مع مرور الزمن، كما أثبت في كتاب «الداء العربي»، فإن اللغة ينطبق عليها هي الأخرى نفس التحليل.
فقد لعبت العربية دورا حاسما في انطلاق العقل العربي من خلال النص المؤسس لحضارة العرب وهو القرآن الكريم. وجاءت بعد ذلك الإبداعات الشعرية والنثرية في العصر الإسلامي ثم الأموي فالعباسي.
وكانت لغتنا الجميلة تسهم في رقي المشاعر وسمو النفوس وتساعد على الاستمتاع بكل ملذات الحياة الروحية والحسية. ولا شك أن اللغة كانت ركنا من أهم أركان الحياة في قصور الخلفاء والأمراء، وعنصرا من عناصر الارتقاء والشموخ النفسي. وكتاب الأغاني يدل على مكانة اللغة في الحياة العربية في عصور الازدهار. ومع تطور الزمن ورفض العرب أي تطوير للغتهم يتواءم مع التقدم الطبيعي للمجتمعات، أخذت اللغة تتحول تدريجيا إلى عامل من عوامل الجمود المعوقة للتقدم. •••
ومن أبرز الانعكاسات السلبية للغة جنوح العقل العربي إلى الاهتمام بالشكل على حساب الجوهر. وقد تنبه المتنبي لهذا العيب الخطير منذ أكثر من ألف عام بفضل بصيرته النافذة، وكأنه يستشرف آفاق المستقبل ولا يكتفي برصد حاضره. وقد شاع قوله في الشطر الثاني لأحد أبيات قصيدة يهجو فيها كافور:
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
لكن الشطر الأول من هذا البيت أبلغ كثيرا في رأيي وأكثر دلالة على انحياز العقل العربي إلى المظهر على حساب الجوهر، ويقول فيه المتنبي:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟
فقد لاحظ أبو الطيب أن الناس في عصره يلتزمون بإحفاء شواربهم وإطلاق لحاهم، وهي سنة معروفة، ثم بعد ذلك يفعلون ما يشاءون مما يتناقض مع جوهر الدين وينافي تعاليمه الأساسية. ومن هذه الملاحظة طرح سؤاله العبقري: هل الغاية من الدين الذي نزل للإنسان في الأرض هو المظهر الذي يبدو عليه الإنسان، أم هو الجوهر الكامن في قلبه ويترجم بمواقفه من الآخرين؟
وكأن المتنبي يعيش بيننا الآن ويرى البعض يختزل ديننا العظيم في بعض المظاهر غير الجوهرية، وكأنها لب الدين وأساسه الركين. نرى البعض يختزل الدين الإسلامي في الحجاب بالنسبة للمرأة واللحية بالنسبة للرجل. أما أن يلتزم الناس بالأمانة في المعاملة والبعد عن الفحشاء وعن الرشوة والسرقة، أما عن مساعدة المحتاج وأداء العمل بضمير متيقظ والسعي لخدمة الناس وإسعادهم، فكل هذه أمور ثانوية في نظرهم ولا ترقى إلى مستوى المظاهر.
وهناك مقولة أن العربي يهتم بالكلمات أكثر من المعاني والمعاني أكثر من الأفعال. والأمثال الشعبية تعكس هذا النزوع إلى تفضيل الشكل مثل «لاقيني ولا تغديني» و«لبس البوصة تبقى عروسة» و«الصيت ولا الغنى». وهذه الأمثال، وإن كان فيها الكثير من الحكمة إلا أنها ترمز بوضوح إلى العقلية العربية التي تولي الشكل أهمية قصوى. •••
الخاصية الأخرى الواضحة في العقل العربي والتي تنعكس في اللغة ثم تعود فتؤثر على الإنسان العربي هي النزعة إلى المبالغة. ونلاحظ أن البلاغة والمبالغة مشتقان من نفس المصدر، مما يعطي انطباعا بأن المبالغة هي جزء لا يتجزأ من البلاغة، التي تعد من أنفس المزايا وأقيمها عند العرب. وبحكم تركيبها فإن اللغة العربية تسوق المتحدث أو الكاتب وتدفعه دفعا إلى أن يضخم المعنى ويسعى إلى تفخيمه والنفخ فيه حتى يؤثر على سامعه.
وإطلاق اسم لغة الضاد على العربية لم يأت من قبيل الصدفة، لكنه يعكس هذه النزعة، حيث إن العربية هي اللغة الوحيدة في العالم التي تحوي حرف الضاد، وهذا الحرف هو تفخيم وتضخيم لحرف الدال الذي تكتفي به كل لغات العالم الأخرى.
ولا تكاد قصيدة أو عمل إبداعي عربي منذ العصر الجاهلي يخلو من المبالغة والتهويل. ولعل من أشهر الأبيات التي وصلت بملكة المبالغة إلى حد الكاريكاتير هو بيت عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة التي مطلعها:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
ويقول البيت:
إذا بلغ الفطام لنا رضيع
تخر له الجبابر ساجدينا
ويروى في بعض المصادر: «إذا بلغ الفطام لنا صبي.»
وهناك أبيات في هذه القصيدة المعلقة تثير الضحك فعلا، فهو يقول مثلا:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
ونحن البحر نملؤه سفينا
أما نحن، فنعرف أن العرب لم يملئوا واحدا في المائة من أرض الجزيرة العربية، كما لم يعرف لهم أية أساطيل، صغيرة أو كبيرة. فما بالنا أن تضيق بهم الأرض وأن يكون لهم أسطول يملأ البحر سفنا.
وظلت المبالغة صفة متوارثة من جيل إلى جيل وكأنها سمة لاصقة بالعقل العربي ومرتبطة بالأسلوب واللغة وبالفصاحة ذاتها. واشتهرت العنتريات التي ارتفعت بالتهجيص والتهويش إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه أسلوب لغوي.
ولنتأمل النص التالي الذي يورده ابن قتيبة في «عيون الأخبار» في «باب الحرب»:
كان لأبي حية النميري سيف ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان يسمى (لعاب المنية). قال جار له: أشرفت عليه ليلة وقد انتضاه وشمر وهو يقول: أيها المغتر بنا والمجترئ علينا، لبئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهور ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيسا تملأ الأرض خيلا ورجلا، يا سبحان الله، ما أكثرها وأطيبها. ثم فتح الباب، فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفاني حربا.
وهذا النص الذي تنضح منه السخرية مثال كاريكاتيري للكلمة التي تفقد معناها بسبب العنترية والتهويل، وينطبق عليه المثل القائل: «الجنازة حارة، والميت كلب .» •••
واستمرت هذه النزعة إلى المبالغة ونقلت عدواها إلى رجال السياسة الذين اعتادوا على إطلاق التصريحات النارية التي يعلمون سلفا أنهم غير قادرين على تنفيذها.
ولعل أشهر مثال على ذلك هو تصريح أحد القادة الفلسطينيين قبل نكسة 1967م قال فيه بأننا سنلقي إسرائيل في البحر، وقد أضر هذا التصريح بالقضية الفلسطينية ضررا بالغا. ولم يدرك العالم آنذاك أنه مجرد نتاج لثقافة المبالغة ولغة التهويل، ولم يكن ينم عن نوايا حقيقية بقتل كل الإسرائيليين وإلقائهم في البحر. وقد أخذ العالم أجمع وخاصة العالم الغربي هذا التصريح بمعناه الحرفي؛ نظرا لأن غالبية ثقافات العالم لا تميل مثلنا إلى الإفراط في المبالغة.
وكان صدام حسين وريثا وفيا لأسلوب التهويش الذي يتأثر بتركيبة اللغة العربية، وبلغ فيه ما لم يبلغه زعيم عربي من قبل ولا بعد. وقد قال في تصريح عنتري في عام 1990م إنه في حالة الاعتداء على العراق فإنه «سيحرق نصف إسرائيل». وقد رأينا الهوة السحيقة بين تصريحات صدام البطولية وأفعاله الفاشوشية.
ولا تخلو الصحف العربية من أساليب المبالغة الفجة والتي تعتبر في نظر كتابها والعديد من قرائها بلاغة تصل بالمعنى إلى أعلى مراتبه، فتجد مقالا ينتقد شخصا لأمر غير خطير، فيتحمس كاتبه ويقول إن فلانا يستحق أن يشنق في ميدان عام. ومع سياق الكلام «يسخن» الكاتب أكثر فيضيف أنه لا بد وأن يسحل هذا الشخص في شوارع المدينة وأن تحرق جثته ليكون عبرة لغيره.
ويبدو أن العربي يرضع مع تعلم اللغة نزعة فطرية إلى المبالغة والتوكيد. وقد أجريت دراسة على عينة من الشباب العربي والغربي فاتضح أن التصريح الذي يعتبره الغربي موقفا واضحا وتوكيدا للمعنى، يعتبر بالنسبة للشباب العربي موقفا حياديا يحتمل التأويل، ولا يتضمن توكيدا واضحا.
ولأنني أنتمي قلبا وقالبا إلى الثقافة العربية فقد مررت بتجربة مماثلة في بداية إقامتي بفرنسا عام 1980م، وقد صدر آنذاك تصريح البندقية الشهير الذي اعتبر موقفا أوروبيا جديدا ونقلة من التأييد الكامل لإسرائيل إلى موقف يتفهم الحق العربي ويقف إلى جانبه. وصدرت في فرنسا تصريحات كثيرة في نفس هذا الاتجاه بل تذهب إلى أبعد مدى في اتجاه العرب. وكان الدبلوماسيون الفرنسيون الذين ألتقي بهم، وكانوا مؤيدين للعرب، يبدون سعادتهم أمامي، لكني كنت أختلف معهم لأنني أجد هذه التصريحات مائعة وغير قاطعة، وكانت تدور مناقشات حامية بيننا.
ولم أكن أفهم آنذاك أن هناك فجوة في المفهوم اللغوي بيني وبينهم، وأن المواقف في المفهوم الغربي يتم التعبير عنها بأسلوب بعيد عن المبالغة والتوكيد، وهو الأسلوب الذي اعتدنا عليه. •••
ومن العيوب العربية المرتبطة بالمبالغة استغلال الكلمة بإيقاعاتها وإيحاءاتها الفضفاضة بديلا عن الفعل الغائب. وقد ذكر القرآن الكريم هذا العيب المستقر في العقل العربي منذ قديم الأزل حيث يقول تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (سورة الصف: 2).
وقد رصد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش هذه الخصال فقال في قصيدة بعنوان: «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا»:
أفقت، تعلمت تصريف فعل جديد، هل الفعل معني بآنية الصوت؟ أم حركة؟
وتكتب: ض، ظ، ق، ص، ع، وتهرب منها.
ضجيج الفراغ حروف تميزنا عن سوانا.
طلعنا عليهم طلوع المنون، فصاروا هباء وصاروا سدى.
سدى نحن، هم يحرثون طفولتنا، ويصكون أسلحة من أساطير.
أعلامهم لا تغني، وأعلامنا تجهض الرعد.
نقصفهم بالحروف السمينة: ض، ظ، ص، ق، ع. ثم نقول انتصرنا.
وتبقى غريبا، جراحك مطبعة للبلاغات، والتوصيات، باسمك تنتصر الأبجدية.
وفي كتاب «العقل العربي» الصادر عام 1973م، يورد المفكر روفائيل بطي دراسة ميدانية عن الأطفال العرب، يتضح منها أن 88٪ من الأمهات يعترفن بقيامهن بتهديد أطفالهن بالكلمات، ثم لا يتبعن ذلك بالتنفيذ. ونظرا لما تحتويه العربية من كلمات رنانة وعبارات فضفاضة، فإن التهديد الكلامي يكون عادة عنيفا للغاية ومفزعا بالنسبة للأطفال.
وتلجأ الأمهات إلى الأسلوب العربي اللغوي في التهويل والمبالغة بأن يهددن أطفالهن بالضرب وربما بالقتل والحرق وقطع الأيدي وغير ذلك، ثم لا ينفذن هذا الوعيد بسبب الرحمة أو الشفقة وحبهن لأطفالهن. ولا شك أن التهديد والوعيد والتخويف هي عمليات تنفيس تقوم بها الأم العربية لكيلا تؤذي طفلها الحبيب، لكن المشكلة أن هذا الأسلوب يترك في نفوس الأطفال آثارا لا تنمحي، وتترسخ في عقلهم الباطن عادة الكلام الذي يعبر عما في داخل النفس من رغبات كامنة، لكنه لا يعبر عما ينوي الإنسان أن يقوم به من أفعال (الكلمة بديلا عن الفعل)، فالكلام في واد والواقع في واد آخر.
وهناك مئات من الأمثلة تؤكد ميل العربي إلى استعواض الأفعال بالكلمات، والشعر العربي منهل لا ينضب لهذه الأمثلة، من امرئ القيس إلى يومنا الحالي؛ فالشعراء الذين يتحدثون عن الفضيلة وأفعالهم تتناقض مع أبسط قواعدها، والشعراء الذين يتحدثون عن القناعة وهم يتكالبون على الحياة، كلهم قد ملئوا سماء الأدب في القرون الماضية. ربما كانت أشعارهم الجميلة تشفع لهم الفجوة بين كلماتهم وأفعالهم، لكن وقع أشعارهم على النفسية العربية كان سلبيا للغاية.
وكان حسان بن ثابت شاعر الرسول من الأمثلة البارزة على ما نريد أن نثبته؛ فقد كان حسان أفضل من يتحدث عن الحرب والقتال واليأس، لكنه لم يرفع سيفه يوما واحدا في ساحة معركة. وفي تلك الأيام لم يكن هناك محاربون ومدنيون في الجزيرة العربية، فكل من يستطيع حمل السلاح كان يشارك في الذود عن قبيلته أو مهاجمة قبيلة أخرى، لكن الرسول كان يعفي حسانا من القتال لعلمه بأنه ليس قادرا عليه.
وتروي صفية بنت عبد المطلب وهي بنت عم الرسول، وقت غزوة الخندق في كتاب «الأغاني»:
وكان حسان معنا مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من اليهود، وليس بيننا وبينه أحد يدافع عنا. قالت: فقلت: يا حسان، انزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
فما كان من صفية إلا أن هوت على رأس اليهودي بعصا فقتلته. وكان يهود بني قريظة يساندون أعداء النبي خلال غزوة الخندق ويناصبون المسلمين العداء في ذلك الوقت كما هو معروف.
في كتاب «البخلاء» أورد الجاحظ قصة طريفة تبرز بوضوح نزعة الكلام الذي لا يعبر عن الحقيقة، فيحكي الجاحظ عن محمد بن يسير، وهو شاعر بصري، أن أحد الولاة بفارس استمع في أحد الأيام إلى شاعر أخذ يمدحه مدحا مفرطا، فقال الوالي لكاتبه: أعطه عشرة آلاف درهم ففرح الشاعر، فقال الوالي للكاتب: اجعلها عشرين ألفا، فتضاعفت فرحة الشاعر، فقال الوالي: اجعلها أربعين ألفا، وهنا طار الشاعر فرحا وقال للوالي ما معناه أنه سينصرف حتى لا يحرجه ويزيد هذا المبلغ.
ولما انصرف الشاعر أمر الوالي كاتبه بألا يعطيه شيئا. فلما أبدى السكرتير استغرابه، قال الوالي مفسرا موقفه: إن الشاعر زعم أنه أحسن من القمر وأشد من الأسد وهكذا، وهو يعلم أن كل هذا غير صحيح، لكنه فرح بهذا الكلام الذي لا علاقة له بالواقع. وعندما وعد الشاعر بأربعين ألف درهم، فرح الرجل فرحة كبيرة، فكما أفرحه الشاعر بالكلام فهو أيضا قد أفرحه بالكلام.
وتذكر هذه القصة بالمثل الذي يقول: «كلام ابن عم حديت.» •••
وتتضح الفجوة الثقافية الناجمة عن اللغة في مفاوضات العمل والتجارة بين الأطراف العربية والأطراف الأخرى، سواء من الشرق أو الغرب. والمسألة لا علاقة لها بالترجمة، فربما تحدث الجميع نفس اللغة، وربما قام المترجمون بواجبهم بأمانة، لكن دلالة الكلمات تختلف بين الطرفين؛ فالعربي يكره أن يقول: لا. وهو يستعيض عنها بكلمة: ربما، عندما لا يريد تنفيذ شيء، وعندما يقول نعم فهو يقصد عادة: ربما. أو أن الأمر ممكن تنفيذه.
وقد قامت الثقافة العربية في بدايتها على الأذن نظرا لأنها ازدهرت في مجتمع تسيطر عليه الأمية (انظر كتاب الداء العربي باب «ثقافة الأذن»).
وكان من أهم آثار ذلك أن العقل العربي يقبل الحقائق عن طريق الأذن، فاليقين بالنسبة له هو ما يسمعه، في حين أن اليقين في معظم الحضارات الأخرى، هو ما يراه الإنسان رأي العين.
ومنذ اختراع التصوير الفوتغرافي والسينما والتليفزيون تقهقر دور الأذن وزاد دور العين في المعرفة، لكن سحر اللغة العربية والمكانة التي تحظى بها في ثقافتنا تجعل المجتمعات العربية لا تزال تتمسك باليقين عن طريق الأذن والكلمات، بينما الآخرون يصلون إلى اليقين عن طريق العين والعقل.
وربما يفسر ذلك أن الشائعات تنتشر في مصر والعالم العربي بسرعة أكبر كثيرا من أي مكان آخر في العالم، فالإنسان العربي، منذ أن أفل نجم حضارتنا، ميال بفطرته إلى أن يصدق ما يسمعه دون أن يخضعه للتفكير والنقد. ويكاد الحس النقدي يكون منعدما في الثقافات العربية منذ قرون طويلة، فالعربي يثق في اللغة وبالتالي يثق فيما ينقل إليه عن طريق هذه اللغة. •••
ومن أبرز خصائص اللغة العربية خاصية الإبداع في التعبير عن الفكرة بأسلوب غير مباشر؛ فالأسلوب المباشر غير محبب في العربية، ويعتبر ضعفا وركاكة في التعبير. وبرغم ما يقال بأن البلاغة في الإيجاز فإن الواقع عكس ذلك على خط مستقيم، فبراعة الشاعر والكاتب تقاس بمقدرته على اللف والدوران حول المعنى، والوصول إليه من طرق ملتوية ومعقدة ربما تزيده جمالا في عيون المستمعين.
ومن المؤكد أن هذه الخاصية قد انعكست على العقل العربي وخاصة في القرون الأخيرة حيث يؤثر العربي عدم مواجهة الواقع والالتفاف حول الحقائق بقدر المستطاع، خاصة تلك التي تصدم قناعاته.
ويظهر الميل الفطري لعدم المباشرة في أسلوب التعامل اليومي، سواء في العمل أو في الحياة الخاصة، فعادة ما يبدأ العربي بديباجة طويلة ومقدمات لا آخر لها، قبل أن يدخل في الموضوع الذي يريد الخوض فيه. ومع تزايد سرعة الإيقاع في مصر ظهر تعبير جديد كرد فعل هذه الظاهرة وهو: «هات من الآخر»، أي قل ما تريد بغير مقدمات. •••
ومن أخطر الخصائص النفسية التي تلعب فيها اللغة دورا لا يستهان به، هي علاقة العربي بالزمن، فقبل ظهور الإسلام لم يكن هناك أي تقويم زمني بالأعوام، وكان هم عرب الجزيرة الوحيد في مجال الزمن هو معرفة الشهور؛ لأسباب تتعلق بحياتهم العملية.
أما الحضارات الأخرى التي ظهرت قبل الإسلام فقد عرفت التقويم بالشهور والسنين. وقد أصدر يوليوس قيصر مرسوما بالعمل بما عرف بالتقويم الروماني في عام 45 قبل الميلاد أي نحو 700 عام قبل أن يشعر العرب بضرورة التقويم بالسنين. وقبل يوليوس قيصر كانت الحضارة اليونانية تعرف التقويم بالسنين، وبفضل تقويمهم نعرف الآن أن سقراط ولد عام 470 قبل الميلاد ومات عام 399 قبل الميلاد، وكذلك أفلاطون (428 ق.م-348ق.م) وأرسطو (384ق.م-320ق.م).
أما قصي الجد الأكبر للرسول
صلى الله عليه وسلم
وأول من نزل بقريش في مكة فلا يعرف أحد متى ولد ومتى مات ولا حتى بالتقريب، على الرغم من أهميته الكبرى في تاريخ العرب. ونفس الأمر بالنسبة لهاشم الذي ينتمي إليه الرسول مباشرة حيث يسمى آله: بنو هاشم. ربما نعرف بالتقريب أنه عاش في النصف الأول من القرن السادس الميلادي. والغريب أنك لا تجد من يهتم كثيرا بمعرفة متى عاش هؤلاء ومتى كانت القصص المتواترة عنهم، فكتب التراث تتحدث عنهم وكأنهم أناس من خارج الزمن، فالماضي بالنسبة للعربي هو كيان هلامي يتوه فيه، ومن الصعب التفرقة بين مراحله.
وعندما ظهر نور الإسلام، كان هناك تقويمان أساسيان للأعوام: الأول هو التقويم البيزنطي، والثاني هو التقويم الساساني في بلاد فارس.
ولم يبدأ التقويم الزمني عند العرب إلا في عام 16 بعد الهجرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وقد حسم الفاروق جدلا حول الحدث الذي يبدأ منه التقويم فجعله الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة.
قبل ذلك كان هناك بالنسبة للعربي زمن حاضر وزمن ماض، والماضي ليس له أي تحديد. وكان التحديد التقريبي الوحيد هو بعض الأحداث الهامة التي وقعت في الجزيرة وعلى رأسها عام الفيل، وهو الذي حاول فيه أبرهة غزو مكة وتحطيم الكعبة المشرفة. وكانوا يقولون مثلا قبل عام الفيل أو بعده بقليل، وهكذا.
ومن يبحث في تصريف الأفعال بالعربية يكتشف السر في علاقة العربي بالزمن، فالأفعال العربية مبنية على الماضي والمضارع بالنسبة للترتيب الزمني، لكن هناك خلطا لا حد له بين الاثنين، فالمضارع قد يستخدم للماضي والعكس صحيح، فنقول مثلا: أكلت الآن كذا، وأكلت فعل ماض، ويقول والد العروس: «زوجتك ابنتي.» مع أن «زوجتك» فعل ماض لكنه يعني هنا الحاضر والمستقبل. كما يقال: غدا نصلي الجمعة، و«نصلي» فعل مضارع لكن المقصود به هنا المستقبل.
كما أنه لا يمكن ترتيب الأزمنة بوضوح من خلال الأفعال في المضي وتحديد وقوع فعل قبل أو بعد فعل آخر.
وبالنسبة لعظمائنا الذين نعرف العصور التي عاشوا فيها بدقة، فإن الغالبية العظمى للعرب تعرفهم اسما لكنها لا تهتم بمعرفة الأزمنة التي عاشوا فيها. فكم مصري يعرف متى عاش صلاح الدين الأيوبي أو الظاهر بيبرس أو طومان باي أو المقريزي؟ من يعرف بالتحديد تاريخ ميلاد أو وفاة سعد زغلول أو مصطفى كامل أو طه حسين؟
الغالبية الساحقة لا تعرف، بل لا تهتم أن تعرف؛ فقياس الزمن بالنسبة لعامة العرب رفاهية لا لزوم لها.
أما في فرنسا فإن الغالبية تعرف بدقة تاريخ ميلاد ووفاة نابليون وهوجو وغيرهما، ويعرف الألمان متى ولد ومات بسمارك وجوته. •••
ومن المهم في النهاية أن نعي المناخ النفسي والاجتماعي والعقائد التي كان يؤمن بها عرب الجاهلية في العصر الذي نشأت وتبلورت فيه اللغة العربية بقواعدها ومنظومتها التي نتعامل معها حتى الآن.
كان العرب في الجاهلية يؤمنون بوجود الجن والعفاريت وكانوا مقتنعين بأنهم تخالطهم في السكن والحل والترحال والزواج، وهناك أشعار جاهلية كثيرة تدل على ذلك.
وكانوا يؤمنون كذلك بالكهانة والعرافة وبشيء اسمه «الهامة»، وهي طائر يشبه البومة يخرج من رأس القتيل ليطالب بالثأر، وهو يصيح اسقوني ... اسقوني.
ويقول شاعر جاهلي هو ذو الإصبع العدواني:
يا عمرو، إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني
وكان عرب الجاهلية يتشاءمون ويتفاءلون بشدة، وإذا خرج أحدهم من داره فوجد شيئا يدعو إلى التشاؤم عاد إلى الدار وأغلق على نفسه الباب، ولا يخرج منها طوال اليوم.
وكانوا يؤمنون بشدة بالحسد ويعوذون أطفالهم بسن ثعلب وبسن قط خوفا من «العين».
كما كانوا يتشاءمون من الغراب كما يقول النابغة الذبياني:
زعم العواذل أن فرقتنا غدا
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
وفي هذا المناخ المفعم بالخرافات والخزعبلات نشأت اللغة فعكست إلى حد بعيد تلك المنظومة العقلية الجاهلية.
وقد أطاح الإسلام بالكثير من هذه الخزعبلات، وكان دين العقل والحكمة. وهناك عشرات الأمثلة على رفض سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
للخرافات التي كانت سائدة في عصره.
لكن المشكلة هي أن اللغة مرآة للتركيبة العقلية لمجتمع ما، كما أنها تؤثر تأثيرا حاسما في تشكيل عقل المجتمعات التي تستخدمها.
الفصل التاسع
ضد تحنيط العربية
من يقرأ في تاريخ الفكر العربي يتضح له أنه زاخر بمحاولات التجديد والتطوير التي وجدت دائما من يتصدى لها وينجح في إجهاضها.
ولأنه يجري على اللغة ما يجري على باقي شئون الفكر، فقد ظهرت في تاريخ العرب تيارات تدعو للتجديد ورفض الجمود في مجال اللغة، فعندما تبلورت أفكار المعتزلة في العصر العباسي ظهر تيار ينادي بتوسيع اللغة عن طريق القياس والتوسع في الاشتقاق، وكان رافع علم هذه المدرسة أبا علي الفارسي وتلميذه ابن جني، وكان موقفهما من اللغة كما يقول أحمد أمين في كتاب «ظهر الإسلام»: «موقف أبي حنيفة ومدرسته في الفقه.» ويضيف أن انتماء أبي علي وابن جني إلى مدرسة الاعتزال مكنهما من التحرر وإخضاع اللغة لحكم العقل.
لكنه كالعادة في التاريخ العربي الإسلامي فإن التيار المحافظ الذي كان يتزعمه آنذاك في اللغة أبو سعيد السيرافي، نجح في إجهاض الأفكار الجديدة ووأد محاولة التجديد.
ويقول أحمد أمين في «ظهر الإسلام» معلقا على ذلك:
ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر لتؤتي أكلها، فذهبت مع ذهاب المعتزلة؛ لأن مدرسة المعتزلة كانت تحث على البحث والتجربة والشك والاستدلال العقلي، فلما ذهبت ذهبت آثارها.
ثم يضيف:
مدرسة القياس ترى أن اللغة ليست مقدسة وأنها ملك للناس، لا أن الناس ملكها.
وعندما بدأ العرب يهتمون بالنحو وبوضع قواعد ثابتة للغة ظهرت مدرستان متنافستان: الأولى في البصرة والثانية في الكوفة. ويمكن تشبيه الفرق بينهما كالفرق بين مدرستي النقل والعقل اللتين سيطرتا على علم الحديث والفقه الإسلامي عموما. وكانت مدرسة البصرة، ومن أشهر علمائها الخليل بن أحمد وسيبويه، تعتمد على إعمال العقل في وضع قواعد اللغة. أما مدرسة الكوفة التي كان يتزعمها الكسائي والفراء وابن السكيت فكانت تصر على نقل كل ما قاله العرب كما جاء على ألسنتهم، وتضع القواعد بناء على ذلك حتى للشواذ.
وبرغم جهود بعض علماء اللغة بعد ذلك مثل ابن جني وابن قتيبة للتوفيق بين المدرستين إلا أن منطق مدرسة الكوفة هو الذي انتصر في النهاية. ولا شك أن في ذلك رمزا لسيطرة مدرسة النقل بصفة عامة على العقل العربي.
ومحاولات التجديد في اللغة والخروج من الإطار الحديدي الذي وضعه النحاة، لم تتوقف في تاريخ العرب على الرغم من وطأة حراس الماضي في كل العصور. وخلال عصر النهضة في القرن التاسع عشر، واكب التيارات الفكرية الجديدة التي تولدت من الاحتكاك بالخارج، وعي شديد بالحاجة إلى التجديد اللغوي؛ فقد شعر رواد النهضة مثل الطهطاوي والكواكبي وقاسم أمين بأن اللغة أصبحت عقبة للتعبير عن أفكارهم الجديدة، فقد كان الهاجس الأول لكل هؤلاء هو تطوير العقل العربي ومواءمته مع التطورات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والحياتية التي عاشتها المنطقة منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ولم يقتصر الأمر على المثقفين، فقد شعرت الدولة نفسها أن الوقت قد حان لإيجاد أداة لغوية مرنة تعكس الواقع الجديد. وفي عام 1938م أنشأت وزارة المعارف لجنة مهمتها دراسة سبل تيسير اللغة العربية. وقد عهد برئاسة اللجنة إلى الدكتور طه حسين، وتقدمت بنتائج دراستها للمجمع اللغوي الذي أقرها في يناير 1945م. وقد تبنى المشروع مؤتمر المجامع اللغوية الثلاثة، الذي عقد في دمشق عام 1956م، لكن الأفكار التي طرحتها اللجنة لم تر النور بسبب اعتراض الكثيرين على مبدأ المساس باللغة. من الواضح إذا أن المهمة الصعبة التي سيواجهها العرب هي تبسيط لغة الضاد.
والمبدأ الأول الذي يجب الاتفاق عليه قبل الخوض في عملية التطوير، هو ضرورة الحفاظ على اللغة الفصحى وعدم استبدال اللهجات بها. فمن اللازم أن يكون هدف التطوير هو تخليق لغة وسط بدأت تظهر بالفعل من خلال لغة الصحافة، وخاصة منذ بداية القرن العشرين. ويجب السير في هذا الاتجاه، ومحاولة إيجاد صيغة تعتبر قاسما مشتركا أعظم بين كل اللهجات العربية.
وأعلم أن هذه مهمة صعبة للغاية وتستلزم عشرات السنوات من البحث والتجارب، لكنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ لغتنا الجميلة من الاندثار. •••
وبعيد عن ذهني تماما أن أدعو إلى تطوير جذري يقضي على أسس اللغة العربية؛ فمثل هذا التطوير يقطعنا عن تراثنا وثقافتنا، وهو مرفوض تماما بالنسبة لي؛ فنحن العرب أصحاب ثقافة من أهم الثقافات الإنسانية، ومن الجنون التفريط في هذه الكنوز التي تركها لنا السلف.
والمطلوب هو العمل على تطوير اللغة بجرأة لكن دون نسف الأسس التي قامت عليها، والحفاظ على الشكل والقواعد الأساسية التي وضعها السلف. وأعلم أن أي تطوير للغة يمس جوهرها هو خوض في بحر غريق، لكن عبور هذا البحر هو سبيل الخلاص للعقل العربي، وإنقاذه من الحلقة المفرغة التي يدور فيها منذ عدة قرون.
والتطوير الذي أقصده يجب أن يحافظ على أساسيات اللغة؛ بحيث إن من يتعلم العربية بعد التطوير، يكون قادرا على فهم ما كتب قبل إجراء عملية التطوير.
لكن كل المؤشرات التي ذكرتها تدل على أن المنظومة اللغوية العربية في حاجة إلى إعادة نظر شاملة. ولأنني لست عالما لغويا، أو نحويا، فإنني أكتفي في هذا الكتاب بإعطاء بعض الأمثلة الملموسة لما أقصده بالتطوير الذي لا يخل بجوهر اللغة، فالغرض هو أن يظل العرب بعد مئات السنين قادرين على قراءة القرآن، وفهم التراث تماما كما يفهمونه اليوم، لا أكثر ولا أقل.
وقد اكتشفت بعد أن وضعت بعض الأمثلة أن ما أقترحه قد جاءت به اللهجات بالسليقة؛ لأنه أقرب إلى المنطق، وأبعد عن التعقيد غير المفيد. وقد وصلت من هذا المنطلق إلى قناعة بأن تبسيط اللغة العربية سيكون بتقريبها من المنطق اللغوي للهجات؛ مما يساعد على تقبل الفصحى من كل أبناء الوطن العربي. وبعد ثلاثة أو أربعة أجيال ستصل نسبة القادرين على القراءة والكتابة إلى 80 وربما إلى 90٪. وعندئذ ستزداد الحاجة لإيجاد لغة وسط؛ لكسر حالة الشيزوفرينيا اللغوية التي تحدثنا عنها. •••
ولكي نضع تصورا لكيفية تبسيط اللغة؛ يتعين علينا أن نضع أيدينا على مواطن الصعوبة الكامنة في العربية.
ومن أبرز المفارقات التي تلفت النظر في العربية أن الكلمة تأخذ معناها من التشكيل، وليس من موقعها في الجملة، فالأصل في العربية هي الجملة الفعلية، وإذا قلنا مثلا: ضرب الشاب الرجل، (بدون تشكيل) فإن هذه الجملة التي من المفترض أنها واضحة، تحتمل معنيين متناقضين لا يمكن التفرقة بينهما إلا بالتشكيل.
فإن كان التشكيل هكذا: «ضرب الشاب الرجل» لكان المعنى أن الشاب قد ضرب الرجل. أما إن كان التشكيل هكذا: «ضرب الشاب الرجل» لكان في هذه حالة الشاب هو المضروب، والرجل هو الذي ضربه.
والجملة في اللغات الحية الحديثة هي جملة اسمية، وليست فعلية. والسبب في ذلك هو ما تجره الجملة الفعلية من التباس لدى السامع، أو القارئ؛ لأن المعنى فيها لا يستنبط من ترتيب الكلمات وإنما من التشكيل، مع أن المنطق يقول إن الفعل لا يأتي إلا بفاعل، فالفاعل هو الذي يسبق الفعل، وله أولوية عليه.
وأذكر أن والدي الأستاذ محمد مفيد الشوباشي - رحمه الله - والذي كان من أفضل من يجيدون العربية في مصر، كان يغضب مني لكثرة استخدامي للجملة الاسمية، التي كنت أجدها أقرب إلى التعبير عن المعنى الذي أقصده، وكان يتهمني بالتأثر باللغات الأجنبية التي كنت أجيدها بفضل دراستي. وبرغم امتثالي لنصائح والدي إلا أنني كنت أشعر بالفعل أن الجملة الاسمية أقرب إلى المنطق، وإلى التعبير المباشر والسليم عن المعنى المقصود.
الصعوبة الثانية التي تواجه دارس العربية هي النقص الغريب في حروف العلة. وفي مقابل ذلك، هناك وفرة مشكوك في ضرورتها في الحروف الساكنة. وإذا قارنا العربية بالإنجليزية نجد أن لدينا ثلاثة حروف علة في مقابل خمسة لديهم، وعندنا 25 حرفا ساكنا في مقابل 21 عندهم. وغالبية الكلمات والأفعال في العربية تتكون من حروف ساكنة فقط، على عكس كل لغات العالم الحديثة، فكلمة مثل: «رجل»، أو فعل مثل: «ضرب» لا يمكن قراءتها إلا بإضافة حروف علة في عقل وعلى لسان القارئ نسميها التشكيل، فنحن نقول: «را جو لون» و«ضا را با».
ولنتمثل كلمات مشابهة باللغة الإنجليزية، فسنكتب مثلا:
rgl
و
drb
هذه التراكيب هي: ضرب من اللامعقول عندهم، لكنها المعقول ذاته بالنسبة لنا. ومن هذه المفارقة جاءت فكرة طه حسين التي ذكرناها من قبل ولم يتقبلها أحد.
وما يضاعف من المشكلة أن كلمة واحدة من الممكن أن تشكل جملة كاملة في العربية، وهذا ليس موجودا في غالبية اللغات الأخرى باستثناءات نادرة، مثل: فعل الأمر، لكن وجود الكلمة - الجملة وضع نحوي عادي في العربية، فعندما تقول مثلا: «كتبت» فالفعل يحتوي على الفاعل، وبالتالي فقد اكتملت أركان الجملة في عبارة واحدة. وقد يجد البعض ذلك قوة مضافة للعربية، لكن الممارسة تثبت العكس، فلو أخذنا كلمة مثل «قتلت» نجد أن لها عشر دلالات ملتبسة على الأقل، وفقا لنطقها، أو لتشكيلها، فهناك «قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت » و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت» و«قتلت».
فهل من الطبيعي أن تكون لكلمة واحدة تكتب بطريقة واحدة أكثر من عشر دلالات؟ ألا يؤدي هذا إلى فتح باب اللبس، والغموض في المعنى، والحيرة، والتأويلات المختلفة؟ وربما كان ذلك أحد الأسباب وراء الخلافات التقليدية بين أبناء لغة الضاد، فهم أحيانا غير قادرين على الاتفاق على معاني اللغة التي يتحدثون بها. فما بالنا بمضمون هذه الكلمات وفحواها؟
ولا بد لمن يقرأ العربية أن يتمتع بملكة التكهن ودرجة عالية من القدرة على الاستنتاج، بل والرجم بالغيب؛ فغالبية الأفعال والكلمات تحتمل عدة معان، ولا بد للقارئ أن يختار واحدا منها.
وأود قبل الاسترسال في مقترحاتي أن أعطي نموذجا واضحا لما أعنيه بالتطوير الذي لا يخل باللغة؛ فالفيصل هنا هو المقدرة على فهم العربية بعد التطوير لمن لا يعرفها قبل تطبيق عملية التطوير. فإذا تقرر جعل الأرقام حيادية؛ أي لا هي مذكرة، أو مؤنثة، كما هو الحال في غالبية لغات العالم، فإن من يقرأ أو يسمع بعد ذلك جملة بها رقم لن يعجز عن فهمها. فلو استقر الرأي أن تكون الأرقام مذكرة، فقلنا مثلا: سبع رجال، بدلا من سبعة رجال، لما استعصى فهم ذلك على أي شخص ولو بعد مئات السنين.
وهذا ما أقصده بدقة عن تطوير اللغة، دون الانقطاع عن تراثنا. •••
والقواعد الخاصة باستخدام الأرقام هي مثال للتعقيد الذي لا داعي له. لماذا لا نقول تسع رجال، وتسع نساء، بدلا من تسعة رجال، وتسع نساء؟ لماذا لا نوحد الأرقام حتى نوفر على أنفسنا تعقيدات لم تعد تناسب العصر؟
فالمذيعون في الإذاعة والتلفزيون يبذلون جهدا جهيدا لقراءة الساعة بالعربية الفصحى بالطريقة السليمة، فيقولون مثلا: الساعة الآن الحادية عشرة وخمس وثلاثون دقيقة.
وهناك مثال يضرب للتعبير عن بلاغة اللغة العربية وثرائها، وتميزها عن باقي لغات العالم، لكنني أعتبر هذا المثال دليلا جديدا على ابتعاد العربية عن متطلبات عالم اليوم، وانعزالها في برج عاجي يضاعف من المحنة الثقافية التي يعيشها العالم العربي اليوم.
فيقال إنه لو ذهب رجل إلى آخر وقال له: إني قاتل ابنك، فإنه سيجيبه لماذا؟ وسيحاول أن يثنيه عن قتل ابنه.
أما إذا قال له: إني قاتل ابنك، فمعنى ذلك أنه قتل ابنه بالفعل، وسيكون رد فعل الأب مختلفا تمام الاختلاف.
وواضح طبعا أن الجملتين تكتبان بنفس الحروف بالضبط، والاختلاف الوحيد هو في التشكيل.
فهل مثل هذا نقطة قوة في اللغة؟ أم أنها نقطة ضعف خطيرة؛ لأنها تؤدي إلى الالتباس والغموض، دون أن تكتسب اللغة بسببها بلاغة في التعبير، أو قوة في المعنى.
فالبلاغة تقوم على الوضوح والبعد عن التقعر والتكلف والمبالغة والتضخيم. والبلاغة ليست التلاعب بالألفاظ، وإن كان من الممكن أحيانا أن تقوم على ذلك، وقد قيل: البلاغة الإيجاز. ولعل أجمل وصف للبلاغة هو ما قاله الجاحظ: «البلاغة هي التي إن سمعها الجاهل ظن أنه قادر على مثلها.»
والبلاغة هي السهل الممتنع التي يتصور أي شخص أنه بسيط وفي متناول اليد. لكن الحقيقة هي أن أصعب شيء هو التوصل إلى أسلوب سهل وجزل عند القراءة، لكنه صعب ومجهد عند التأليف.
ولعل من أبرز أسباب تعقيد العربية ووقوع الغالبية في شرك الخطأ هو المفعول به. والمشكلة أن المفعول به في العربية لا يعرف من مكانه في الجملة، وإنما من إعرابه، وبالتالي من تشكيله.
وأرى أنه من الأقرب إلى المنطق أن نقول مثلا: رأيت رجل طويل يأكل خبز، بدلا من: رأيت رجلا طويلا يأكل خبزا.
والسبب الوحيد الذي يجعلنا نتمسك بالمفعول به (منونا) هو أننا ورثناه من نحاة العصور السالفة وأصبح مألوفا لآذاننا، لكنه من غير المنطقي أن نقبل هذا السبب ونستكين لثقافة الأذن.
وإذا قلنا: رأيت رجل طويل يأكل خبز، فهل يؤدي هذا للقارئ أو المستمع أي التباس في المعنى؟
وبغير مكابرة فإن الغالبية العظمى من العرب يخطئون في المفعول به عند الكتابة، كما أنهم لا يفهمون معنى بعض الجمل غير المشكلة بسبب ذوبان المفعول به وسط مفردات الجملة؛ حيث إن تركيبة اللغة العربية لا تحدد له مكانا محسوبا ومعروفا سلفا. •••
ومن أوضح الأدلة على معاندة قواعد العربية لسنة التطوير تربع المثنى على أصول النحو العربي حتى بداية القرن الحادي والعشرين؛ فالمثنى بالنسبة لكل لغات العالم أصبح كالديناصور الذي انقرض من على وجه الأرض. وغالبية اللغات الحية المتداولة اليوم لم يكن بها مثنى أصلا؛ فهذه الصيغة كانت شائعة في اللغات السامية القديمة، وقد اختفى مع اختفاء معظمها وألغي بصيغته القديمة في اللغات الباقية حتى اليوم مع عمليات التطوير التي قاموا بها.
وهناك بقايا مثنى تظهر بدرجات متفاوتة في بعض اللغات السامية الحالية، لكنها لا تصل إلى تعقيد قواعد المثنى في العربية، فالعبرية مثلا بها كلمات تعبر عن المثنى خاصة الأشياء المزدوجة في الطبيعة، مثل العينين، والقدمين، واليدين، وهكذا، لكن لا تنسب الأفعال فيها للمثنى، مثل «شربا» أو «قاما» أو غيرها كما في العربية، ولا يوجد مثنى للكلمات مثل «رجلان» أو «امرأتان».
ومعنى هذا أن غالبية لغات العالم أدركت أن المفرد والجمع يكفيان تماما للتعبير عن المعنى. وما زاد عن واحد يعتبر ببساطة جمعا، سواء أكان اثنين أو مائة أو أكثر، لكن المثنى الذي أصبح غائبا عن كل لغات العالم لازال محورا هاما للغة العربية حتى بداية القرن الواحد والعشرين.
فما فائدة المثنى؟ هل يضفي دقة على المعنى؟ هل يضيف جمالا؟
لقد أدرك الجميع أنه لا فائدة من المثنى إلا زيادة تعقيد اللغة فهجره الجميع إلا نحن.
صحيح أن المثنى له مكانة في التراث الشعري العربي، وأن أول كلمة في أول بيت يذكر في المعلقات، هي فعل مثنى وهو: «قفا» في معلقة امرؤ القيس، وقد استخدم الشعراء المثنى كثيرا، مثل «يا خليلي»، أو «يا ساقيي»، و«بكاؤكما» في مطلع مرثية ابن الرومي الشهيرة.
وهناك بيت للمتنبي يعتبره الدكتور طه حسين من أجمل الأبيات في الشعر الغنائي العربي قاطبة كما يقول في كتابه: «مع المتنبي»، والبيت مذكور في قصيدة هجاء عنيفة ضد كافور نظمها المتنبي عندما هرب من مصر، وهو:
يا ساقيي أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد
لكن وجود المثنى في الأدب القديم، لا يعني أن نحنط اللغة ونرفض التغيير، فهناك تعبيرات وأساليب كثيرة تركناها؛ لأنها أصبحت معرقلة للتفاهم.
ويؤدي المثنى أحيانا إلى اللبس في المعنى، فإذا كتبنا دون تشكيل: رأيت فلاحين، فمن الممكن أن يكون المتكلم قد رأى اثنين من الفلاحين، أو جمعا منهم، كذلك لو قلنا: مصرع عراقيين في الحرب، فمن الممكن أن يكون المقصود اثنين أو أكثر من ذلك، والتشكيل هو الوسيلة الوحيدة لرفع اللبس في الكتابة.
وقد تخلصت اللهجات العربية من المثنى تلقائيا وأصبح الاثنان جمعا كما يريد المنطق. •••
ومن المشكلات الأخرى التي تنفر دارسي العربية جمع المؤنث، وتصريف الفعل الناتج عنه، فالجمع في كل لغات العالم المنتشرة يغطي الكافة وهو محايد لا يخص جنسا دون آخر. لكن لماذا عزل النساء عن الرجال؟ ألسن بشرا مثلهن مثل الرجال؟ وقديما قال المتنبي في رثاء أم سيف الدولة:
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
وقد ناقش المجمع اللغوي في مصر هذه القضية، لكنه من الواضح أن أعضاءه استقروا على ضرورة الحفاظ عليه. ولا أدري إن كان السبب هو تعذيب الطلبة وكل من يستخدم العربية كلغة كتابة؟
ويعتبر المؤنث من أعقد التركيبات التي لا لزوم لها لفهم المعنى، فلو قلنا: «النساء كلهن أكلن.» أو «النساء كلهم أكلوا»، فإن المعنى واضح في الحالتين، ولن يتصور أحد في الحالة الثانية أن النساء تحولن بقدرة قادر إلى رجال، وغالبية لغات العالم لا تستخدم تلك التراكيب البالغة التعقيد التي عفا عليها الزمن، والتي لا تقدم ولا تؤخر، ولا تضيف دقة إلى المعنى.
وحتى في اللغة المصرية الدارجة نجد أنه لا يوجد فرق بين المذكر والمؤنث إلا للضرورة، فنحن نقول بالفصحى مثلا: الرجال الذين كذا، والنساء اللائي كذا، أما باللهجة الدارجة فيكتفى بتعبير «اللي» عوضا عن الذين واللائي. •••
ومن الدلائل التي تساق للتدليل على ثراء اللغة العربية كثرة عدد الكلمات. ويقول جاك بيرك في كتابه «العرب» إن أحد علماء اللغة العربية يقدر عدد مصادر الكلمات في العربية بنحو 19000 يتكون كل منها من ثلاثة حروف، ومن الممكن وفقا لنفس العالم الذي ينقل عنه بيرك اشتقاق أكثر من مائة كلمة من كل مصدر.
ومعنى هذا بحسبة بسيطة أن عدد كلمات اللغة العربية يصل إلى ما لا يقل عن 1900000 كلمة.
لكن أبا بكر الزبيدي الذي اختصر كتاب العين للخليل بن أحمد أحصى نحو 6,5 ملايين كلمة عربية من الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي.
وكل هذه الأرقام تعد فلكية مقارنة بغالبية لغات العالم؛ فالإنجليزية لا يزيد عدد كلماتها عن 250 ألف كلمة، والفرنسية عن 300 ألف كلمة وفقا لقاموس «كنوز اللغة الفرنسية». صحيح أن عدد الكلمات لا يشمل كل تصريفات الأفعال، لكن الفارق في كل الأحوال شاسع بين عدد الكلمات العربية، واللغات الأخرى.
والسؤال هو: هل يعكس هذا العدد المهول من الكلمات العربية دقة وقدرة تعبيرية تفوق أي لغة أخرى في العالم؟ البعض يرى أنه كلما زادت المعاني، كلما اكتسبت البلاغة أبعادا جديدة؛ حيث يمكن اللعب بالألفاظ والإيحاء دون الإفصاح عن المقصود، لكن التجربة أثبتت على العكس؛ حيث إن هذه الوفرة المتناهية أصبحت تزيد غموض المعاني، وتجعل المستمع أو القارئ في حيرة: أي معنى يستنتجه من الكلمة؟ وكلما زادت الاحتمالات ازداد الغموض والالتباس وكثرت التأويلات.
أما بالنسبة للقوة التعبيرية فقد أثبت الشعر العربي أن هذا كان صحيحا في عصر من العصور؛ فالشعراء العرب توصلوا إلى قدر من البلاغة تكاد تصل أحيانا إلى حد الإعجاز. وأنا لا أتحدث هنا عن إعجاز القرآن الكريم الذي نزل بالعربية؛ لأنه معروف للجميع. وقد نجح الشعراء في العصور الذهبية أن يترجموا أفكارا، وأحاسيس غاية في النبل والسمو، ربما لم يصل إليها أي شعر في العالم، لكن الشعر تطور بعد ذلك تطورا ضخما في أوروبا بعد عصر النهضة، وظهر شعراء أبدعوا قصائد بديعة تسمو هي الأخرى إلى السماء السابعة في عالم الإبداع والجمال.
أما عن الدقة فهذا أمر مشكوك فيه جدا. وإذا كان العلماء العرب قد نجحوا في الماضي في التعبير العلمي، فإن العلماء الغربيين قد تفوقوا عليهم بعد ذلك، وأصبحت العربية اليوم تلهث وراء الإنجليزية لمواكبة التطور العلمي والتعبير عنه باللغة الدقيقة. •••
وكان العرب مولعين بالمترادفات منذ العصر الجاهلي، ففي باب الأسد تقول الموسوعة الإسلامية إن هناك ثلاثة من علماء اللغة العرب قد عددوا 600 مرادف لاسم الأسد (والرقم هو «ستمائة» لمن يتصور أن هناك صفرا أو اثنين أضيفا بفعل خطأ مطبعي). وقد قام المستشرق جرونرت بدراسة في الشعر العربي القديم فأحصى أكثر من 400 اسم مذكور فيها للأسد منها: الليث، والسبع، والغضنفر، والهزبر، والأسامة، والعباس، على سبيل المثال لا الحصر.
والجمل له في العربية 160 اسما بأنواعه المختلفة. وصحيح أن هناك جملا بسنمين وآخر بسنم واحد؛ لكن هذا لا يبرر أن يكون هناك 160 اسما مختلفا للجمل.
ويروى عن أبي العلاء المعري، وكان كفيفا كما هو معروف، أنه داس على قدم رجل عندما دخل أحد مساجد بغداد في زيارته الوحيدة لها، واستشاط هذا الرجل غضبا وشتم أبا العلاء قائلا: «إلى أين يا كلب؟» فاكتفى أبو العلاء بأن قال: «الكلب هو من لا يعرف للكلب سبعين اسما.»
فحتى الكلب كان له عند العرب سبعون اسما على أقل تقدير.
لماذا كل هذه الأسماء؟ ألا تكفي خمسة، أو حتى عشرة مرادفات، قد تعكس اختلافات بين أسد وآخر، أو جمل وآخر في اللون أو في النوع مثلا؟
وفي الجزء الأول من كتاب «تاريخ آداب اللغة العربية» يتعرض جرجي زيدان للإفراط في المترادفات. ومن الواضح أنه يراه إيجابيا حيث يقول إن:
كثرة المترادفات في اللغة العربية وتعدد المعاني في اللفظ الواحد جعلتها واسعة التعبير وسهلت على أصحابها التسجيع.
وفي هذا المجال يذكر أن للأسد 350 اسما فقط. وأنا أميل إلى تصديق الأرقام التي وردت في الموسوعة الإسلامية. ويضيف جرجي زيدان أن للزرافة 255 اسما، والبئر 188 اسما، والماء 170 اسما.
كذلك فللمطر 64 اسما، وللسحاب 50، وللشمس 29. أما الصفات فهي أيضا تنعم بنهر المترادفات: فللقصير 160 لفظا، وللطويل 91 لفظا. ويضيف زيدان: «ونحو ذلك للشجاع والكريم والبخيل مما يضيق المقام عن استيفائه.»
ومن المعروف أن قضية الترادف خلافية في التراث العربي كما هو الحال بالنسبة لمسائل لا حصر لها. •••
ومن عجائب العربية أيضا التعدد المفرط لمعاني اللفظ الواحد خاصة أن بعض الكلمات تحمل معنيين متضادين، فلفظ العجوز، كما يقول زيدان، له 60 معنى، ولفظ العين 35 معنى. وإذا كانت هذه التعددية في المترادفات، كان لها ما يبررها في الماضي البعيد، فقد تغير الموقف اليوم تغيرا جذريا، وأصبح الإنسان يبحث عن الوضوح والوصول إلى المعنى من أقصر طريق ممكن. فالصفات التي كان يفخر بها العرب من أربعة عشر قرنا تحولت اليوم إلى معوقات تشل الناطقين بالعربية، وتعجزهم عن مجاراة التقدم.
فالمطلوب من اللغة اليوم هو التعبير المباشر والسريع المتوازي مع إيقاع الحياة، وليس «الفذلكة» والاستعراض والبحث عن الغريب من المعاني.
وإذا سلمنا بأن ثراء المترادفات والمدلولات هو معيار قوة اللغة، فإن اللغة الإنجليزية التي تعد اليوم لغة العلم الدقيق والأدب الرفيع، تصبح لغة ضعيفة وركيكة؛ حيث إنه لا يوجد للتعبير عن نفس المعنى سوى عدد محدود من المرادفات لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، لكن الواقع أنها تكفي تماما لتحديد المعنى. والدليل على هذا أن الإنجليزية هي اليوم لغة العلم والأدب الأولى في العالم.
ولا شك أن وجود الجذور يعطي للكلمات تجانسا غير موجود في غالبية لغات العالم، فإذا أخذنا ثلاثة حروف مثل: ك ت ب فمن الممكن أن نشتق منها فعل «كتب» وكلمات «كتاب» و«مكتبة» و«كاتب» و«كتابات» و«كتيب»، وكلها لها معان ذات علاقة ببعضها البعض. أما في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية فإن هذه الكلمات لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر إلا فيما ندر. وكل كلمة لها جذور مختلفة وتركيبة متباينة. وفي لغات العالم الأخرى يتم إضافة بضعة حروف قبل أو بعد الكلمة لاشتقاق معنى آخر لها.
فبالإنجليزية مثلا:
يظهر
appear .
يختفي
disappear .
مظهر
appearance .
ولهذا السبب، يطلق على هذه اللغات اسم لغات تركيبية.
ولا أدعي أنني أملك حلا سحريا للانفصام اللغوي الذي يعاني منه العالم العربي، لكنني أقول إن مثل هذا الانفصام لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. وأخشى ما أخشاه كما أثبت، أن تأتي حلول جذرية تفصل بيننا وبين تراثنا العظيم، ويكون حراس الضاد قد وصلوا إلى عكس مقصدهم؛ فهم يريدون الحفاظ على اللغة كما هي دون تطوير، فتكون النتيجة أن يكون التطوير أكبر كثيرا مما نريده جميعا ويمس جوهر لغتنا الجميلة التي نفخر بها.
الفصل العاشر
الاستثناء العربي
يتفرد العرب بين شعوب العالم بالالتحام الوثيق بين هويتهم ولغتهم. ويقول جمال حمدان في كتاب: «شخصية مصر» (الوسيط: دراسة في عبقرية المكان):
وإذا كان لا بد من مقياس مدرج للعروبة، فليس جنسيا هو، ليس بكمية الدم العربي التي أضيفت، ولكنه كمية اللسان العربي التي استعيرت. بمعنى آخر، مقياس العروبة، مثلما هو أساسها، اللغة لا الجنس.
والتعريف الشائع للعربي كما قلنا، هو أنه من يتحدث اللغة العربية. لكن هذا التعريف لا ينطبق على أبناء الشعوب الأخرى؛ فلا يمكن أن يعرف الفرنسي مثلا بأنه من يتحدث الفرنسية؛ لأن هناك شعوبا أخرى في بلجيكا وسويسرا وكندا وغيرها، لغتها الأم هي الفرنسية. كذلك فالإنجليزي لا يعرف بأنه من يتحدث الإنجليزية، وأيضا الإسباني والألماني والروسي وهكذا.
لكن الانتماء إلى العروبة لا يكون إلا باللغة كشرط مسبق للتدليل على الهوية.
ومع بدايات القرن الحادي والعشرين يواجه العرب هجوما شرسا يستهدف الأسس الراسخة لثقافتهم الموروثة. ولا شك عندي في أن الصراع العربي الإسرائيلي يكمن بصفة أساسية وراء محاولات تعديل العقل العربي وتشكيله تشكيلا جديدا، بحيث يتقبل السلام بالشروط الإسرائيلية.
فأمريكا، والغرب عامة ، يسعون منذ نصف قرن إلى إقناع العرب بضرورة السلام مع الدولة العبرية. ولأن الولايات المتحدة ترفض، أو لا تستطيع، ممارسة أية ضغوط على إسرائيل، فإن الجانب الذي تستطيع إقناعه بالحجة أو بالقوة هو الجانب العربي.
ومنذ كامب ديفيد وقبلها، لجأت واشنطن إلى كافة أشكال الضغوط على الدول العربية التي تعتبرها حليفة لها، وهي دول ترتبط بالفعل بمصالح حيوية مع أمريكا. لكن كل «النصائح» والضغوط فشلت في إقناع العرب بالاستسلام لإرادة إسرائيل والتخلي عن القضية الفلسطينية، أيا كان رأينا في أسباب ذلك.
وقد أدرك خبراء العرب أن منبع الرفض الحقيقي ليس الحكام العرب وحدهم، وإنما الشعوب العربية، وأن الأنظمة لا تستطيع، حتى لو أرادت، أن تقبل بتسوية غير عادلة.
وقد أسهمت حادثة 11 سبتمبر 2001م في زيادة الفجوة بين الغرب بزعامة أمريكا من ناحية والعالم العربي من ناحية أخرى. وهنا لم يجد الغرب حلا إلا في إعادة تشكيل العقل العربي؛ ليتواءم مع المنطق الغربي ويخضع لرغبات إسرائيل. وتبلورت شيئا فشيئا فكرة إعادة تشكيل العقل العربي فيما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير.
وقد بادرت الشعوب العربية برفض هذا المشروع؛ لأنه من غير المعقول ولا المقبول أن تتدخل إرادات خارجية في تشكيل عقل الأجيال الصاعدة من أبناء الشعوب العربية.
لكن هل يعني ذلك أننا لسنا في حاجة إلى إصلاح؟
الإجابة في رأيي أننا اليوم في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة العقلية العربية بكاملها؛ فقد أصبح العرب يعيشون وكأنهم على هامش المجتمع الدولي بسبب انكفائهم على مجموعة من الأفكار المتحجرة التي نستلهمها من ماضينا ولم تعد تجاري زماننا. •••
ولعل اللغة العربية هي نموذج واضح ورمز ملموس لتحجر العقل العربي ورفض التغيير من منطلق التمسك بالماضي؛ فنحن نرفض المساس باللغة العربية بدعوى أنها لغة القرآن، لكن الواقع من خلال التحليل الذي أوردته في هذا الكتاب هو أن تواصل الأجيال المقبلة مع القرآن والدين الإسلامي يمر حتما بتطوير اللغة وتطويعها لمقتضيات العصر، فالتطوير مع مصلحة الدين، كما أنه من مصلحة الشعوب العربية.
وكما أثبت في الصفحات السابقة، فإن الدين لعب دورا حيويا في الحفاظ على العربية، وإذا أخذنا مثال مصر في عصور الحكم التركي المملوكي منذ الغزو العثماني، وحتى عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، فسندرك حقائق عن اللغة ربما لم نفكر فيها من قبل. ولنطرح على أنفسنا هذا السؤال: من كان يجيد اللغة العربية الفصحى في تلك الحقبة؟
الطبقة الحاكمة كانت تتحدث التركية بصفة أساسية، وكانت هذه اللغة هي لغة التعامل الرسمي والفرمانات والأحكام. أما أبناء الشعب فكانوا يتحدثون اللهجة المصرية الدارجة، وكانوا في غالبيتهم الساحقة لا يعرفون القراءة والكتابة ولا يفهمون الفصحى .
الفئة الوحيدة التي كانت تجيد العربية هي علماء الدين ودارسو أو خريجو الأزهر الشريف، وكان عدد هؤلاء لا يزيد عن بضع مئات تعد على أصابع اليد الواحدة، ولولا هؤلاء لتعرضت العربية في مصر إلى أخطار حقيقية.
وكما أشرت في كتاب «الداء العربي» فإنه عندما أصدر الطهطاوي كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» أمر ولي النعم محمد علي باشا بترجمته إلى اللغة التركية حتى يستفيد منه الحكام الحقيقيون للبلاد وغالبيتهم العظمى لا يجيدون سوى التركية.
وخلال القرن العشرين، أدت وسائل النقل والاتصالات إلى التقريب بين شعوب العالم، وبدأت ترتسم معالم قسمات مشتركة تجمع بين أبناء البشرية بصور متفاوتة.
ولا شك أن الحربين العالميتين: الأولى (1914-1918م)، والثانية (1939-1945م)، برغم ضراوتهما البالغة، لعبتا دورا هاما في التقريب بين شعوب العالم، وفي إيجاد قاسم مشترك أعظم من القيم والمبادئ والمثل تصلح للمجتمعات الإنسانية في كل مكان.
وحتى قبل الحرب العالمية الأولى، بدأت شعوب العالم تتفق على مبادئ عامة، وتلفظ بعض الممارسات التي كانت مقبولة من الجميع لقرون طويلة، فكان هناك إجماع تحقق تدريجيا حول إلغاء الرق ونهاية عصر العبيد، وإلغاء التعذيب البدني الذي كان مباحا بل ومستحبا في غالبية مجتمعات العالم، كما ظهر اتفاق عام حول ضرورة إعطاء المتهم فرصة الدفاع عن نفسه من خلال محام يترافع عنه أمام المحاكم.
واستقرت هذه المبادئ في أذهان كافة مجتمعات العالم وأصبح من الصعب على أي مجتمع أن يستثني نفسه من الالتزام بها.
واليوم تجمع غالبية مجتمعات العالم على مبادئ ومثل تتفق حولها بصفة عامة، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحرية التجارة، والمساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، ومساواة جميع المواطنين أمام القانون.
لا شك في أن الدول الغربية الكبرى كثيرا ما تستغل هذه المبادئ لصالحها وتخرقها عندما تصطدم بمصالحها العظمى، ولا تعبأ باعتراض شعوب العالم التي ترفع صوتها رفضا للظلم الواقع عليها.
ومع ذلك، فإن رفض هذه المبادئ من أي طرف يعد نوعا من الخروج على القانون الدولي الذي يتمثل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والعرف الذي أصبح سائدا في العلاقات بين الدول المختلفة.
صحيح أن لكل حضارة هويتها الثقافية الخاصة، لكن القاسم المشترك الأعظم في القيم والمبادئ العامة، أصبح ظاهرة لا يمكن الفكاك منها في القرن الحادي والعشرين.
فهل يعقل مثلا أن يذهب عربي إلى طبيب غربي فيعطيه دواء مناسبا لحالته فيعترض المريض قائلا: هذا الدواء ينفع أبناء بلدك، لكنه لا ينفعني لأني عربي؟!
للأسف إننا نجد مواقف مشابهة لذلك الموقف العبثي عندما نرفض أفكارا واردة من الخارج بادعاء أنها تتناقض مع ثقافتنا وديننا. •••
وإذا اقتصرنا على مجال اللغة وهو موضوع هذا الكتاب فإن التيار الغالب عندنا يقول: كل لغات العالم قابلة للتطوير والإصلاح، إلا لغتنا العربية، ثم يسوقون حججا عديدة لتبرير هذا الاستثناء، على رأسها أن العربية لغة القرآن.
وقد سعيت في صفحات هذا الكتاب أن أثبت كم أنه من مصلحتنا كمسلمين حريصين على ديننا وتراثنا، أن نقوم بتطوير شامل للمنظومة اللغوية العربية ولا يمكن أن تظل العربية ممتنعة عن أي تحديث دونا عن كل لغات العالم الحية، فهذه النظرة التي تستثني العرب من ممارسة التجارب الناجحة في العالم هي أهم أسباب تخلف العالم العربي عن ركب الحضارة العالمية.
بالتأكيد أن لنا خصوصيتنا التي لا بد أن نقيم لها ألف حساب فنحن قد نقبل حرية المرأة، لكننا لا نقبل الانحلال الخلقي، ونقبل حرية الرأي، لكننا لا نقبل التهجم على الأعراض.
والمشكلة أن البعض عندنا يتذرع بخصوصية الأخلاقيات العربية لرفض حرية المرأة وحرية الرأي بدعوى أنهما تؤديان إلى الانحلال والفوضى وتعارضان قيمنا الدينية، ويغلف هذا الرفض بحجج واهية تنطلي على البعض نظرا لتبجيلنا لديننا الحنيف والتزامنا بقيمه ومبادئه.
والاستثناء العربي له وجود بالفعل على أرض الواقع، فنحن أصحاب ميراث ثقافي يندر أن يتواجد لدى أي حضارة أخرى في العالم. وثقافتنا تعطي أهمية كبرى للروحانيات، والأخلاقيات، والعواطف الإنسانية، والترابط الأسري، والتراحم، وكلها مثل عظيمة توارثناها جيلا بعد جيل، ويكون من الجنون أن نفرط فيها، بل علينا أن نتمسك بهذا الاستثناء الإيجابي الذي يميزنا عن باقي حضارات العالم.
لكن أن يكون الاستثناء العربي هو استثناء من تقبل الديمقراطية ومثل الحرية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الرجل والمرأة، ومساواة الجميع أمام القانون، فهذا استثناء سلبي يجعل من العرب جماعة خارجة على القانون الدولي والأعراف التي اتفقت عليها الإنسانية مع بداية القرن الحادي والعشرين. وقد أصبح واضحا اليوم أننا لا نستطيع أن نعيش في جزيرة معزولة اسمها العالم العربي.
ورفضنا لأي تطوير ملموس في قواعد النحو والصرف العربي نابع من حاجتنا وحاجة اللغة إليه، هو دليل صارخ على أن فهمنا للاستثناء العربي هو فهم سلبي يعوق أي تقدم للعقل، وبالتالي أي تطوير للمجتمعات العربية.
وإذا كان علينا أن نرفض بشدة أن يتحكم أحد في عقولنا، وأن يملي علينا أسلوب تفكير معين، فإن علينا بنفس القدر أن نرفض من ينادون من بيننا بالتحجر والانغلاق، ورفض كل جديد.
فعلى مر عصور الدولة الإسلامية لعب تجار الدين على وتر الإيمان العميق للشعوب العربية وجهلها بتعقيدات اللغة الفصحى، فاستخدموا كلاما مبهما وتعمدوا استخراج أصعب الكلمات والتراكيب اللغوية ليبهروا الناس فيصدقوهم، ويتبعوا ما يقولون من منطلق إيمانهم الراسخ بالدين. ولازال البعض في العالم العربي اليوم يستخدم نفس الأسلوب، عامدين إلى تسييس الدين واستمالة أبناء الشعب البسطاء المسحورين بالكلم.
ونحن نعتبر اللغة من ثوابت العقل العربي التي نفخر بها. والواقع يملي علينا أن نفخر بتراثنا الأدبي والفكري واللغوي، لكنه يملي علينا أيضا أن ننتفض ثائرين على قواعد النحو والصرف والتعقيدات اللغوية التي تغلق أبواب العقل العربي وتحبسه في الماضي البعيد، وفيما أملاه السلف من آراء وأفكار لم تعد تناسب العصر الذي نعيش فيه.
لقد تأخرنا أكثر من ألف عام عن إحداث تطوير حقيقي في اللغة العربية؛ بسبب ميل العقل العربي إلى التمسك بالقديم وتقديس كلام السلف. فعلينا أن نتدارك دون إبطاء كل هذا الزمن الذي راح هباء، وجعل الآخرين يتفوقون علينا ويتحكمون بالتالي في مصائرنا. •••
ولا يمكن اعتبار اختيار السياسة اللغوية لأي مجتمع على أنه من ثمار الصدفة، أو أنه اختيار محايد؛ فوراء هذا الاختيار سياسة عامة لكل مجتمع تقوم على مفهومه العميق لهويته.
وبالنسبة لنا في مصر فإن كنا نرى أن مصر للمصريين وحدهم، وأنه علينا أن نقتطع أنفسنا عن الجسد العربي، فإنه من الممكن عندئذ أن نتجه إلى اللهجة المصرية ونعطيها الأولوية. أما إذا كنا مقتنعين بأن مصر جزء من ثقافة أوسع، ومن عالم أكبر هو العالم العربي، فإنه يتعين علينا في هذه الحالة أن نتمسك باللغة التي تربطنا بجذورنا التاريخية كما تصلنا بامتدادنا الجغرافي الطبيعي.
ولا شك أن هناك من يتربص بعالمنا العربي ويتمنى تقطيع أوصاله وتفكيك الروابط بين أقطاره ومن أقواها اللغة.
فالعالم العربي يكاد يكون كما قلنا الكيان الوحيد الذي يتمرد على إرادة واشنطن، وخاصة في علاقته بإسرائيل. فليس غريبا أن نسمع من يؤكد أن العالم العربي مجرد خرافة ووهم كبير، وأن نسمع من يطالب بنبذ اللغة العربية وجعل اللهجات هي اللغات القومية الرسمية لبلادنا.
وبالتأكيد أن تجارب الوحدة فشلت وستفشل في المستقبل المنظور، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد عالم عربي له مصالح مشتركة ورؤى متقاربة ووجدان متوحد. ومن المؤكد أن اللغة العربية هي العنصر الأساسي في ترابط الوجدان العربي. ولو تركنا هذه اللغة تتحطم فوق صخور عاتية، فإننا نهدم فكرة من أهم أفكار القرن العشرين، وهي وجود عالم عربي واحد له صفات وخصائص متميزة عن باقي الكيانات الثقافية. •••
وأعلم أن الأفكار الواردة بهذا الكتاب ستكون بمثابة صدمة لبعض الذين اعتادوا السير في الطرق المعبدة التي مهدها السلف منذ قرون طويلة، ويسير عليها كل من جاء من بعدهم في حالة استكانة عقلية غريبة.
وأعلم أن بعض من يعتبرون أنفسهم حراس اللغة العربية سينتفضون غضبا من الاقتراحات التي يتضمنها هذا الكتاب. وأعرف مقدما الاتهامات الجاهزة التي ستوجه للأفكار الواردة في هذه الصفحات؛ فثقتي كبيرة في نزعة المزايدة واللعب على وتر الدين والتقاليد والموروث وكل القيم التي نؤمن بها جميعا بنفس الدرجة، لكننا نفهمها من منطلقات متباينة.
وأكاد أسمع من يتساءل عن مدى تخصصي في اللغة العربية، وهي الحجة التي يواجه بها كل من يحاول الخروج عن الطرق المرصوفة والممهدة، والتي أجمعت الأجيال الماضية عليها، لكنها مع هذا لم تعد صالحة لجيلنا الحالي وللأجيال القادمة، إذ إن اللغة كما يقول عميد الأدب العربي هي ملك لكل من يستخدمها.
ومع كل ذلك، فإنني على ثقة تامة من أنه سيأتي اليوم الذي يضطر فيه العرب إلى تبسيط لغتهم حتى لا تواجه أزمة طاحنة تعرضها للخطر. فلماذا لا نبدأ من الآن؟ ألا تكفي القرون التي ضاعت منا هباء؟
وكما قلت فقد تمت عملية تطور عشوائية للغة على أيدي المفكرين والمبدعين من مصر والشام وكل البلدان العربية، وخاصة من خلال الصحافة. ولا ينبغي اليوم أن يحدث أي شطط أو قرارات منفردة بالتطوير من أي بلد عربي، أيا كان، ولا ينبغي أن يتأثر المثقفون وعلماء اللغة بالخلافات السياسية والحزازات بين الحكام؛ فكل هذه الخلافات زائلة، أما اللغة فهي باقية.
فلتنكب الجامعة العربية وذراعها الثقافية المعروفة باسم «أليكسو» على مهمة تقنين التطوير الواقع، وإعادة النظر في أسس القواعد والنحو. ولتشكل الجامعة منتخبا من المجامع اللغوية الخمس الموجودة بالعالم العربي الآن؛ ليضطلع بهذه المهمة الملحة. •••
والمعضلة التي ستواجه الذين يتصدون لمهمة تطوير اللغة تتمثل في ازدواجية الهدف: الاقتراب من اللغة العامية التي تستخدمها الشعوب العربية للتفاهم اليومي، وفي الوقت ذاته عدم القطيعة مع اللغة العربية الأصيلة، لغة القرآن ولغة الأدب التي مارسها العرب خلال القرون الماضية .
وفي النهاية فإن كل ما أطلبه من القارئ الكريم، هو أن يتمهل قبل أن يصدر حكمه على هذا الكتاب، فما جاء به يسير ضد التيار الغالب، وعكس الموقف الذي اتخذه العرب من لغتهم طوال القرون الماضية. وأفهم أن يكون رد الفعل الأول هو الرفض القاطع للفرضيات والاقتراحات التي عرضتها في الصفحات السابقة؛ فقد اعتدنا على خط تفكير معين تربينا عليه وفطرنا على تقديسه وعدم مراجعته أو حتى مناقشته.
لكننا لو فكرنا بشيء من الموضوعية لاتضح لنا أنه آن الأوان لإعادة النظر في مسلمات طالما آذتنا، وأوضاع ثقافية متحجرة هي السبب الحقيقي وراء تعطيل مسيرة التقدم في العالم العربي بأكمله.
قالوا عن الكتاب
آثار الكتاب أكبر معركة ثقافية هذا العام، وهو صرخة من أجل الإصلاح صادرة عن نية ثقافية حسنة، فقد وجدت في كتاب شريف الشوباشي حبا صريحا وقويا وصادقا للغة العربية، إضافة إلى ما في الكتاب من إحساس قوي بالمسئولية الفكرية.
رجاء النقاش (الأهرام)
عنوان الكتاب المثير هو في رأيي عنوان مقصود، فقد نجح في إثارة وجذب الانتباه وصنع مناخا من الحوار في قضية آن أوان طرحها على المستوى القومي.
فاروق شوشة (الأهرام)
ليس مستغربا أن يثير كتاب ردودا ثقافية، لكن أن يتحول إلى قضية في مجلس نواب، فهذا غير مألوف وغير مبرر.
جوزيف باسيل (النهار اللبنانية)
تكمن قيمة هذا الكتاب في تخطي المحظور، والتصدي لقضية نعيشها ونهرب من مواجهتها ونترك مستقبل لغة العروبة للمجهول، وخطورة الدعوة لمصادرة الكتاب وتجريم مؤلفه، أنها تفتح الباب أمام أعداء النهضة والحرية وخفافيش الظلام في مرحلة لن ينفعنا فيها سوى أكبر قدر من التحرر حتى نتخلص من شوائب وقيود زمن المياه الراكدة الآسنة التي أوقفت تيار الإبداع والتجديد عبر تاريخنا.
جريدة البيان (الإمارات)
الكتاب، ضربة معلم من الكاتب والمفكر شريف الشوباشي، وهو الأكثر مبيعا، والأكثر شهرة، والأكثر جاذبية، والأكثر عرضة للنقد الظالم أو التأييد الحماسي.
حسن شاه (الأخبار)
كتاب أقام الدنيا ولم يقعدها بعد.
أحمد صالح (الأخبار)
أثار كتاب شريف الشوباشي «لتحيا اللغة العربية : يسقط سيبويه»؛ جدلا كبيرا سوف يتسع أكثر، والذين ربطوا بين صيحة المؤلف لتطوير اللغة وبين محاولات الاستعمار قديما لاستبدال العامية بالفصحى، أو استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، كل هؤلاء مخطئون، متشنجون، عصبيون.
إبراهيم عبد المجيد (مصر اليوم)
الحمد لله، وجدنا قضية تحرك الحياة الثقافية الهامدة.
هدى أبو بكر (الأنباء الكويتية)
شريف الشوباشي ليس صاحب رسالة أيديولوجية معادية للتراث العربي، إنما هو مثقف يعي مشكلة اللغة وعلاقتها بالمأزق الحضاري الذي يعيشه عرب اليوم، فيوظف آراءه فيما هو إيجابي لتجاوز المأزق.
محمد علي فرحات (الحياة)
كتاب أثار زوبعة من الغضب وقليلا من الردود العقلانية ، والجديد الذي طرحه بشجاعة فائقة، أن اللغة العربية لم تشملها سنة التطوير. إن شريف الشوباشي يرفض الدعوة إلى هجرة اللغة العربية على حساب اللهجات.
إقبال بركة (الأهرام)
كتاب أثار أزمة في البرلمان المصري. (الخليج)
تابعت بكل الأسى محاولات أحد النواب الكرام المستميتة للوشاية بكاتب مثقف، وبدلا من أن يحترم نواب الشعب الدعوة العقلانية التي وجهها المؤلف وجدنا من يكيل له الاتهامات ويلعب على وتر المشاعر الدينية بحجة أن المساس بلسان العرب يعتبر اعتداء على القرآن الكريم.
أمال عثمان (أخبار اليوم)
إن من رأيي أن نتمسك باللغة العربية بكل قواعدها في النحو والصرف، وإلا لن تصبح لغة عربية وتتحول من لغة إلى لغو.
البابا شنودة (الأهرام)
اجتهاد الشوباشي أثار عليه «المرفوعين» و«المضمومين» والمتشدقين بضاد كانت ثم زالت.
عمرو علي بركات (القاهرة)
هل كان يعرف المؤلف ما سوف يسببه هتافه بسقوط سيبويه من جدل ويناله من اتهامات وصلت إلى حد المطالبة بمصادرة الكتاب؟!
محمد العزبي (الجمهورية)
شريف الشوباشي يقتحم اليوم حقل الألغام الذي انفجر قبلا في كل من أراد أن يقترب من تابوهات اللغة العربية بقصد تحريرها من جمودها وإحيائها ودفع ماء التطور في أوصالها التي تيبست على قواعد الزمن الغابر البعيد التي أسسها نحاة مثل سيبويه.
وفي كتابه الطموح والجريء «لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه» أطلق الشوباشي قذيفة نافذة، ولكنها لا تكفي وحدها، ولنعتبرها مجرد فتح انطلاقه لتخرج إلى الساحة كل الاجتهادات والأفكار دون خوف أو جزع.
أسامة أنور عكاشة (الوفد)
Unknown page