Wujudiyya Muqaddima Qasira
الوجودية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
اليوم ... عندما يكرم حيوان القطيع ... فإن مفهوم «العظمة» يستلزم أن يكون نبيلا، وراغبا في أن يصبح على طبيعته، وقادرا على أن يكون مختلفا، واقفا وحده ومضطرا إلى أن يعيش مستقلا، ولسوف يخون الفيلسوف أحد مثله العليا عندما يفترض أن «الأعظم هو من يستطيع أن يكون الأشد وحدة، والأكثر اختباء، وانحرافا، الكائن البشري غير خاضع لمعايير الخير والشر».
بهذه المعايير، كان سورين كيركجارد صورة مصغرة من نيتشه، مع أن الثاني بدا أن له مجرد معرفة عابرة بعمله. كتب كيركجارد مقالات ونشرات يهاجم فيها القوى الثلاث الأوسع تأثيرا للامتثال المجتمعي في كوبنهاجن عصره؛ ألا وهي الصحف العامة ، والكنيسة الرسمية، والفلسفة السائدة، وهي فلسفة جي دابليو إف هيجل (1770-1831)، وفي كل منها كان يتحدث باسم الفرد. كانت الصحف العامة، في رأيه، تفكر بالنيابة عن الناس، والكنيسة تؤمن بالنيابة عن الناس، والفلسفة الهيجلية تختار بالنيابة عن الناس، بمعنى أنها «توسطت» بين ما كان سيصبح قرارات فردية وحولته إلى وجهة نظر عليا وشاملة في عملية تسمى «الجدلية». بعبارة أخرى: حولت الفلسفة الهيجلية تحدي «إما/أو» إلى عملية «كل من/و» مريحة. ومع أن هذه الآراء السلبية اتخذت بحجة التحول إلى الفردية، فقد عزلت كيركجارد عن مجتمعه وتسببت في ردود فعل عنيفة من جانب المؤسسة الدينية. في واقع الأمر، روي أنه كان يفضل أن يكون النقش المكتوب على شاهد قبره هذه العبارة البسيطة: «هذا فرد منعزل». أضف إلى هذا حادثة فسخ خطبته الشهيرة والقاسية فيما يبدو مع ريجين أولسن؛ لأنه ظاهريا لم يرغب في أن يثقل كاهلها بندائه الداخلي الفردي، علاوة على حياته المتبتلة اللاحقة، فصار لدينا المفكر المنعزل الذي يمجده نيتشه بوصفه الفيلسوف الحقيقي. وبطريقة ما - كما سنرى بعد قليل - كان فارس الإيمان المثالي في نظر كيركجارد أيضا «لا يقيم بمعايير الخير والشر»، وإن لم يكن بنفس دقة استخدام نيتشه لهذا التعبير الشهير. (1) نظرية المراحل لكيركجارد
يظهر أكثر التحليلات شمولا لمشروع التحول إلى الفردية في عملين، هما: «إما/أو» و«خطوات على طريق الحياة» لكيركجارد، وكلاهما مثال لأسلوبه في التواصل غير المباشر. يحكي كلاهما قصة - أكثر من قصة في الواقع - تحت أسماء مستعارة لتمكيننا من رؤية واختبار الأخلاق الفردية الواردة بهذه القصص في حياتنا. تقدم حججهما القصصية مجتمعة وصفا دقيقا إلى حد ما لدوائر الوجود الثلاث التي شكلها كيركجارد ليتعقب عملية التحول إلى الفردية. ومع أنه سيكون علينا أن نعدل ونفصل هذه العملية عند وضعها، فإن الدوائر أو المراحل ثلاث (جمالية وأخلاقية ودينية). لكل مرحلة نموذجها الخاص بما يناسب القصة الأخلاقية: دون جوان، ضمن آخرين، في الدائرة الجمالية، وسقراط، أيضا ضمن آخرين، في الدائرة الأخلاقية، وإبراهيم في الدائرة الدينية. تمثل هذه الشخصيات قوة عاطفية ملموسة «للحجة» لدى تكشفها. ومثل المحاضر في المعرض الفني، يظل كيركجارد يشير إلى النموذج ليمكننا من أن نرى كيف يدعم هذا النموذج السمة محل النقاش؛ لذا دعونا نسر على هذا الدرب ونقابل شخصياته الأدبية والتاريخية ونحن نتلمس طريقنا نحو الفردية. ومثلما يتوقع المرء من تحليل وجودي، ستكشف كل مرحلة أو دائرة عن علاقتها بالوقتية، التي تميزها عن الدوائر الأخرى. ومرة أخرى، الوقت هو جوهر كل شيء.
ربما أفضل طريقة للبدء هي البدء من النهاية، عندما تلخص إحدى الشخصيات - شخصية «الأخ تاسيتيرنوس» - في خطاب موجه إلى قراء «خطوات على طريق الحياة» المراحل أو الدوائر كالآتي:
هناك ثلاث دوائر وجودية: الجمالية والأخلاقية والدينية ... الدائرة الأخلاقية هي مجرد دائرة انتقالية؛ ولهذا فأسمى تعبير لها هو التوبة كفعل سلبي. الدائرة الجمالية هي دائرة الفورية، والدائرة الأخلاقية هي دائرة الحاجة (وهذه الحاجة لامتناهية للغاية حتى إن الفرد دائما ما يكون مفلسا)، والدائرة الدينية هي دائرة الإشباع، لكن انتبه من فضلك، فليس المقصود بالإشباع أن يملأ المرء صندوق صدقات أو أن يملأ حقيبة بالذهب؛ لأن التوبة خلقت بالتحديد فضاء لا حدود له؛ وبالتالي خلقت تناقضا دينيا؛ أن تكون وسط ماء يبلغ ارتفاعه 70 ألف قامة وتظل سعيدا في نفس الوقت.
يقلل تحليل الأخ تاسيتيرنوس - الذي من الواضح أنه كتب من وجهة نظر «دينية» - من شأن استقرار ودوام الدائرة الأخلاقية، كما لو أن أوجه قصورها - التي سنشهدها عما قليل - تجعلها غير ملائمة عند التعامل مع أكثر مشكلات الحياة إلحاحا، على سبيل المثال: الأمر الشائن المتمثل في وقوع الأمور السيئة لأناس طيبين. من منظور معاكس، سيعلن سارتر، كما سيعرض كامو في روايته «الطاعون»، أن «الشر لا يمكن الخلاص منه». هذه - على الأقل - هي وجهة نظر الوجودي الملحد. على أي حال، من الواضح أن ما سوف تسمى لاحقا ب «الوجودية» تتعامل مع أفراد محددين في مواقف متأزمة ملموسة؛ لهذا دعونا نتناول هذه المراحل عن كثب.
شكل 2-1: سورين كيركجارد، في الحادية والأربعين من عمره، قبل وفاته بعام واحد .
1
سورين كيركجارد (1813-1855)
ولد في كوبنهاجن وعاش بها طوال حياته، وقد عرف بأبي الوجودية الإلحادية. درس اللاهوت والفلسفة الهيجلية في الجامعة المحلية، ودخل في مجادلات حادة مع الكنيسة الرسمية، والصحف العامة، وأنصار الفلسفة الهيجلية؛ ربما لأنه اعتبر رسالته الخاصة مهمة مؤلمة وفردية. فسخ خطبته مع ريجين أولسين - ابنة عائلة محلية بارزة - وبقي عزبا بقية حياته. نشر الكثير من الأعمال الفلسفية واللاهوتية، العديد منها بأسماء مستعارة، وهي تتميز بمنطقها الحصيف وأفكارها النفسية الثاقبة. (1-1) المرحلة الجمالية
Unknown page