ضحك ييتس بطريقته المبتهجة العفوية المعتادة، التي كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بقدرته على المضي قدما في الدنيا. فقد كان من الصعب أن يظل شخص بهذه الطبيعة المرحة المتفائلة غاضبا لفترة طويلة. «آنسة هوارد، أرى أنك لم تغفري لي كلامي يوم أمس. بالتأكيد لم تظني أنني قصدته. في الحقيقة لقد قلته على سبيل الدعابة، لكنني مستعد للاعتراف، حين أتذكره الآن، بأن الدعابة كانت سخيفة بعض الشيء، ولكن على كل حال، فمعظم دعاباتي مبتذلة نوعا ما.» «أخشى أنني أفتقر إلى حس دعابي.» فقال ييتس بثقة عفوية: «كل النساء كذلك، أو على الأقل كل من قابلتهن طوال حياتي.»
كان ييتس جالسا على كرسي خشبي، كان قد وضعه آنذاك عند نهاية الطاولة، وأماله إلى الخلف حتى استقرت كتفاه على الحائط. كانت قدماه مستقرتين على عارضة الكرسي السفلية، وكان يلوح بقبعته يمينا ويسارا، ليهوي لنفسه؛ إذ كان الجو في المطبخ ساخنا. وفي هذا الوضع، استطاع رفع ناظريه إلى وجه الفتاة الجميلة التي كانت واقفة أمامه، والتي كان جبينها الناعم مشوبا بأخف علامات العبوس الطفيف. لم ترمق الشاب الواثق من نفسه ولو بنظرة خاطفة، بل أبقت عينيها ثابتتين على عملها بكل عزم وإصرار. وفي هذا الصمت، كانت الطاولة تصدر صريرا بينما كانت مارجريت تعجن العجين. أحس ييتس بشعور غير معتاد بالإحراج يتسلل إليه، وأدرك أنه سيضطر إلى إعادة بناء المحادثة على أساس جديد. كان من السخف الجلي أن يتعرض مواطن نيويوركي واسع الحيلة سريع البديهة للإحراج بالبرود غير المبرر لفتاة ريفية في براري كندا، بعدما سبق وأن تحاور بلا خجل أو حرج مع رؤساء وأعضاء في مجلس الشيوخ وجنرالات وغيرهم من عظماء أمة عظيمة.
قال أخيرا، حين أصبح صرير الطاولة لا يطاق مع أنه كان خافتا: «لم تتح لي الفرصة لتقديم نفسي كما ينبغي. اسمي ريتشارد ييتس، وقد جئت من نيويورك. أخيم في هذا الحي، للتخلص من إجهاد ذهني، إن جاز القول، نتيجة سنوات من العمل الأدبي.»
كان ييتس يعرف من خبرته الطويلة أن السبيل الأسرع والأضمن لنيل ثقة أنثى هو كسب تعاطفها. وخطر بباله أن عبارة «الإجهاد الذهني» ستكون جيدة؛ لأنها ستشير إلى العمل بجد حتى وقت متأخر من الليل وعين الطالب المتفاني الغائرة من شدة السهر.
سألته مارجريت بارتياب، رامقة إياه للمرة الأولى بنظرة خاطفة من عينها الداكنة: «هل عملك ذهني إذن؟».
ضحك ييتس بشيء من عدم الارتياح قائلا: «نعم.» كان واضحا أن رصاصته قد خابت. «ألاحظ من نبرتك أنك تظنين على ما يبدو أن قدراتي الذهنية ضعيفة. ينبغي ألا تحكمي بالمظاهر يا آنسة هوارد. فمعظمنا أفضل مما يبدو، وإن كان المتشائمون عكس ذلك. حسنا، كما كنت أقول، تتكون رفقة التخييم من رفيقين. ونحن مختلفان جدا في كل شيء لدرجة أننا صديقان مقربان. رفيقي هو السيد ستيلسون رينمارك، أستاذ مادة ما لا أتذكرها في كلية يونيفرستي كولدج في تورنتو.»
وهنا أبدت مارجريت بعض الاهتمام بالمحادثة لأول مرة. «البروفيسور رينمارك؟ سمعت عنه.» «عجبا! لم أكن أعرف إطلاقا أن شهرة البروفيسور قد تغلغلت إلى ما وراء حرم الجامعة، إن كان للجامعة حرم. صحيح أنه أخبرني بأنها مزودة بكل سبل التطور الحديثة، لكنني كنت أظن آنذاك أن هذا مجرد تفاخر من ريني.»
اشتد العبوس الظاهر على جبين الفتاة، وسرعان ما أدرك ييتس أنه خسر أرضا جديدة في محاولاته لاستهلال حوار معها، إن كان قد كسب أي أرض أصلا، وهو ما بدأ يشك فيه بالفعل. كان من الواضح أنها لم تستحسن حديثه العفوي السطحي عن الجامعة. وبينما كان يهم بقول شيء ما يظهر احترامه لهذه المؤسسة؛ لأنه لم يكن ليتحدث بازدراء عن أي شيء، ولا خط الاستواء نفسه، إذا رأى أنه قد يكسب ود مستمعه بأن يفعل عكس ذلك، خطر بباله أن اهتمام الآنسة هوارد كان منصبا على الرجل، وليس الجامعة.
تابع حديثه قائلا: «في هذا العالم يا آنسة هوارد، نادرا ما تجد الجدارة الحقيقية مكافأتها، أو على الأقل، تبدي المكافأة بعض التمنع على إظهار نفسها في الوقت المناسب ليتسنى للمرء الاستمتاع بها. والبروفيسور رينمارك رجل كفء وجدير بالتقدير إلى حد أنني ذهلت بعض الشيء حين علمت أنك تعرفينه. أنا سعيد من أجله لأنه معروف لديك؛ لأنه لا شخص أجدر منه بالشهرة إطلاقا.»
قالت مارجريت: «لا أعرف شيئا عنه، سوى ما كتبه شقيقي في رسائله. فشقيقي طالب في الجامعة.» «أهو كذلك حقا؟ ولأي غرض التحق بالجامعة؟» «التعليم الجيد.»
Unknown page