Warathat Mamalik Mansiyya
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Genres
وعلى الرغم من تسميتهم بالأفلاطونيين المحدثين، كانوا أيضا من المتحمسين لفيثاغورس. يبدو أن فيثاغورس كان من دعاة التوحيد، وأحد رموزه المقدسة كان دائرة بها نقطة في المركز. تمثل الدائرة الكون، والنقطة هي «الواحد»؛ فعلى غرار «النقطة الثابتة للعالم المتحرك» لتي إس إليوت، اعتمد الكون بأسره على «النقطة الثابتة» غير المتغيرة والسرمدية. وهذا لا يعني أن «الواحد» يمتلك إرادة، أو أنه يفعل أشياء؛ فطبيعته بعيدة جدا عن عالمنا الزائل غير الكامل لدرجة أنه كان يفوق قدرة الفكر البشري على العثور على حتى جملة واحدة لوصفه، عدا أنه موجود وغير متغير ومثالي. وهو لم يخلق العالم؛ فهذا من شأنه أن يفسد كماله بتثبيته في لحظة معينة من الزمن. وإنما وجوده يستتبعه وجود كل شيء آخر؛ مثلما أن وجود العدد 1 يستتبعه وجود جميع الأرقام الأخرى. فالكون «ينبثق» من «الواحد»، على حد تعبير الأفلاطونيين المحدثين، وتسمى نظرية سبب وجود الكون بالانبثاق.
وما انبثق من «الواحد» في المستوى الأول كان الفكر أو العقل الكوني، وتلاه انبثاق كيان يسمى الروح الكونية؛ وشكل هؤلاء الثلاثة نوعا من ثالوث الفيلسوف. ومن العقل والروح الكونيين انبثق العالمان المادي والروحي. اقترح بعض الأفلاطونيين المحدثين أنه يوجد عدد من الكائنات الروحية الأخرى التي كانت وسيطة بين «الواحد» والبشرية. واستند قانون أخلاقي على هذه الرؤية للكون. فأن تكون صالحا يعني أن تتحرك نحو «الواحد»؛ أي أن تتحد معه بالابتعاد عن العالم المادي. كتب أفلوطين: «فلينهض من يملك القوة ويرجع إلى نفسه، منصرفا إلى الأبد عن الجمال المادي الذي جعله يشعر بالفرح يوما ما.» كانت الأنانية وحب الذات مصدرين للانقسام والسبب الأصلي للانفصال عن الواحد. وكان أفلوطين حريصا على إبقاء فلسفته سرا عن الغرباء. ونصت قاعدته على «عدم الإفصاح عن شيء لمن لا يملكون المعرفة»، رغم أن هذه القاعدة نقضت بعد وفاته عندما نشر أتباعه أعماله الرئيسية.
ما لم أستطع فهمه في البداية هو كيف أصبحت هذه الأفكار القديمة من صميم طائفة إسلامية حديثة في لبنان. كان الأمير على استعداد لتنويري. نظر من نافذة غرفة الاستقبال حيث كنا نلتقي إلى الشريط الساحلي الضيق الذي كان يفصل قلعته عن الشاطئ. كان يمكن رؤية الطريق الرئيسي شمال بيروت من هذا الموقع الممتاز. قال الأمير طلال: «إنه مكان استراتيجي؛ لهذا السبب أعطانا إياه العباسيون». أشار إلى أحد مساعديه، الذي حمل لاحقا في يديه كتابا عربيا ثقيلا مجلدا بأناقة. كان عن تاريخ عائلة الأمير على مدى الألف سنة الماضية. أعطاني الأمير إياه. وبقراءته، وبشق طريقي في مجموعة من الكتب الأخرى التي تلقيتها في الأيام اللاحقة من دروز تمنوا لي النجاح، جمعت تدريجيا جزءا على الأقل من قصة الدروز. •••
يحكي كتاب أرسلان كيف أرسل الخلفاء العباسيون العائلة، في القرن الثامن، من بغداد للدفاع عن الساحل اللبناني من البيزنطيين. أدى آل أرسلان هذه المهمة بكفاءة، ولكن في النهاية ظهر تهديد جديد وغير متوقع على الإطلاق. ففي عام 910، تلقى العباسيون أخبارا مزعجة؛ إذ ظهر في البراري المهملة في شمال أفريقيا، رجل ادعى أنه من نسل النبي محمد وخليفته الشرعي كحاكم للإسلام. وبفضل مساعده المخلص الذي نشر رسالته بين القبائل البربرية في المنطقة، تجمع حول هذا الرجل العديد من المؤيدين، الذين هزموا أتباع العباسيين المحليين وأطاحوا بهم. كان المهدي، كما أطلق هذا الرجل على نفسه، ينتمي إلى فرع صغير من الإسلام يسمى الإسماعيليين. بنى هو وأحفاده على مدى القرون اللاحقة الإمبراطورية الفاطمية الضخمة ودعموها، ولم تكن تشمل شمال أفريقيا فحسب، بل مصر ولبنان أيضا. وأسسوا القاهرة. وأعلنوا الحرية الدينية لرعاياهم، الذين كان من بينهم الكثير من المسيحيين واليهود. وجمعوا مكتبة ضخمة من الفلسفة الإغريقية.
كانت القاهرة الفاطمية بيئة مواتية جدا لأولئك الذين أرادوا مزج الفلسفة الإغريقية بالإسلام. وأولى الفاطميون اهتماما كبيرا بالتعليم فبنوا الجامع الأزهر ومدرسة لتعليم الشريعة الإسلامية ، والفلسفة، وعلم الفلك؛ وظل الفكر الإغريقي دارجا بين علماء المسلمين في كل من القاهرة وبغداد. كيف هؤلاء العلماء أفكار الأفلاطونيين المحدثين لتتلاءم مع الإسلام. وكان من الطبيعي أن ينظر إلى «الواحد» على أنه الله. اعتبر بعض العلماء أن الكائنات الوسيطة بين الله والخلق على عقول غير مادية أو «رؤساء ملائكة»، وقال فيلسوف واحد على الأقل، وهو الفارابي، إن هذه العقول اتخذت هيئة النجوم والكواكب.
وبعد مائة عام من الوحي المثير للمهدي، كان حفيد حفيده يحكم القاهرة. كان يعرف باسم الحاكم بأمر الله، وقد خالف تقليد التسامح وفرض الشريعة على رعاياه بقسوة غير مسبوقة. وأصدر عددا من المراسيم المثيرة للجدل؛ حيث طالب بنشر اللعنات الموجهة ضد الخلفاء السنة الأوائل في المساجد ومداخل الأسواق، ومنع رعاياه المسيحيين من الاحتفال بعيد الفصح، وأمر بحرق الزبيب في المدينة (لأنه قد يستخدم في صنع النبيذ)، ودعا إلى سكب عسل المدينة في نهر النيل (لأنه قد يستخدم في صنع شراب الميد المخمر)، وأعلن أنه لم يعد بإمكان الإسكافيين صنع أحذية نسائية (حيث لم يكن مسموحا للنساء بالخروج). وأمر غير المسلمين بارتداء أشياء ثقيلة لدرجة مؤلمة حول أعناقهم. وسمع عن طقس النار المقدسة، الذي يجرى في كنيسة القيامة بالقدس يوم أحد الفصح، وقرر أنه خدعة، واستشاط غضبا منه لدرجة أنه سوى الكنيسة بالأرض. ولم يعد بناؤها إلا بعد وفاته. وساعد تدمير الكنيسة على إشعال الحروب الصليبية، التي من شأنها إفساد العلاقات بين المسيحيين والمسلمين إلى الأبد.
وعلى الرغم من أن سلوك الحاكم بدا قاسيا أو حتى غير عقلاني لضحاياه (وكثيرين غيرهم)، ظن المعجبون به أن غرابة أطواره دليل على قربه من الله. وأثارت سلسلة من الأحداث الألفية - قرب مرور ألف عام على ميلاد المسيح، وأربعمائة عام على هجرة محمد - التوقعات بأن نهاية العالم قد تكون قريبة. وفي هذا الجو المحموم ابتكر مجموعة من المفكرين فلسفة التوحيد؛ أي العقيدة الدرزية. حتى إن سبب تسمية «الدروز» بهذا الاسم غامض. ربما كان نسخة معدلة من لقب نشتكين الدرزي، وهو من أوائل الموالين واعتبر زنديقا فيما بعد. وأثارت تعاليم الديانة شائعات مروعة. فقد اعتقد الدروز، أو هكذا شاع في القاهرة، أن الحاكم كان الظهور أو التجسد البشري لله نفسه. لكن الدروز اليوم ينفون هذه الشائعات. وعلى النقيض سمحت الأفلاطونية المحدثة باستخدام طرق مبطنة لإثبات أن هناك صلة وثيقة بين شخص على الأرض والذات الإلهية. ففي الترجمة العربية، كان «اللاهوت» هو الله بذاته؛ و«الناسوت» هو الله متجليا على الأرض في هيئة إنسان.
وأيا كانت الصيغة التي قد يستخدمها الدروز للتعبير عن هذا الأمر (فقد تكون مبطنة ومعقدة مثل قانون الإيمان المسيحي)، فيبدو أنهم اعتبروا الحاكم تجليا (ناسوتا) لله على الأرض. وعلاوة على ذلك، اعتبروا أن خمسة من قادتهم هم التجليات الدنيوية لكائنات سماوية أخرى أقل شأنا، وهي: العقل الكوني، والروح الكونية، وثلاثة كائنات أخرى تسمى الكلمة، والسابق، والتالي. واتخذت هذه الكيانات الخمسة هيئة البشر من قبل؛ مثل يسوع والحواريين، وموسى وهارون، وأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، ومحمد وصحابته. وفي كل مرة، كانوا يرشدون البشرية إلى مرحلة جديدة من الفهم من خلال إقامة دين جديد. فقد جاء موسى باليهودية، ويسوع بالمسيحية، ومحمد بالإسلام. والآن، كان على الديانة الدرزية أن تقود الطريق في حقبة جديدة من تاريخ البشرية، لتحل محل الإسلام التقليدي. واعتقد حمزة بن علي، زعيم الحركة الدرزية، أنه هو نفسه كان تجسيدا للعقل الكوني على الأرض. وأنه في التجسدات السابقة، كان فيثاغورس ويسوع.
عندما كان الحاكم لا يزال على قيد الحياة، كان ثمة تسامح مع الدروز. ولكن عندما اختفى في ظروف غامضة أثناء سيره على جبل المقطم فوق القاهرة سنة 1021، خلفه ابنه، ويبدو أنه كان أقل استعدادا للتسامح مع دين حظي فيه والده (ولكن ليس هو) بهذا القدر الكبير من الاحترام. فقتل آلاف الدروز. ولجئوا تدريجيا إلى تلال جنوب لبنان، وقبلوا دخول معتنقين جدد بعض الوقت، وكانوا يتعرفون بعضهم على بعض من خلال إشارات سرية وكلمات مشفرة، حيث كانت أصولهم العرقية متنوعة للغاية. فالنجمة الخماسية ، على سبيل المثال (كل نقطة فيها لها لون مختلف: أبيض، وأزرق، وأصفر، وأحمر، وأخضر) كانت تمثل القادة الدروز الخمسة والكيانات السماوية الخمسة المقابلة لهم. وسرعان ما توقفت الطائفة عن قبول معتنقين جدد، الأمر الذي عزز التوجه نحو السرية؛ وكما كتب مؤرخ لبناني: «لذلك صارت الديانة الدرزية موروثة بالكامل، امتيازا مقدسا، كنزا لا يقدر بثمن يجب حمايته بغيرة وحماسة من أي شيء قد يدنسه.» ما كان فيثاغورس ليستطيع أن يصوغ الأمر بطريقة أفضل من هذه.
وكان للعقيدة الجديدة حد أدنى من القواعد والطقوس. فقد أعيد تأويل الفرائض على المسلم المؤمن - الصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان مرة واحدة في السنة، والحج إلى مكة - واعتبرت متطلبات أكثر تجريدية، مثل التحلي بالإيمان، وقول الحق، ومساعدة المرء لإخوانه في الدين. وسمح للدروز العاديين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر. وكان بإمكانهم الصلاة بأي طريقة يرغبون فيها - أو ألا يصلوا على الإطلاق، إذا آثروا ذلك. أخبرني أحد الدروز العاديين أنه كان يدعى مرتين في السنة لحضور جلسة صلاة حيث كان بإمكانه نظريا طرح أسئلة حول العقيدة. لكنه أوضح أنه لم يكن يوجد أي التزام، قائلا: «إذا سألتني عن الأمور الدينية، فلن أستطيع الإجابة عليك. فأن تكون درزيا هو ولاء اجتماعي لطائفة؛ يولد المرء بداخلها.»
Unknown page