Warathat Mamalik Mansiyya
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Genres
لعب دور زحل في آشور القديمة الإله نيرجال، الذي اعتبر أنه إله شمس الظهيرة العاتية، والطاعون، والموتى؛ وكان يحرس معابده تمثال ضخم برأس أسد. قد يكون من المهم قول إنه اتخذ شكل ديك صغير، يشبهه «السنجق» إلى حد ما. وفي القرون اللاحقة، نصب الميثرائيون تماثيل برأس أسد منقوش عليها «ديو آريمانيو» (أي من أجل الإله آريمانيو) - إشارة إلى أنجرا ماينيو، روح الشر في الديانة الزرادشتية، التي يبدو أن عبدة الإله ميثرا أرادوا استرضاءها. وفقا للمؤرخ اليوناني بلوتارخ من القرن الأول الميلادي، إن استرضاء الشر حدث في زمانه في إيران، واشتمل على قرابين من مستخلص نبات الهووما المسكر مخلوطا بدم ذئب مضحى به ومسكوب في كهف مظلم. ذكر يوحنا ابن الفنكي، الكاتب المسيحي الذي عاش في القرن السابع الميلادي والذي جاء من الحدود السورية التركية القريبة من حيث لا يزال بعض الإيزيديين يعيشون اليوم، أن الناس في منطقته يعبدون الشمس، والنجوم، وأيضا بعل شمين وبعل زبوب؛ والأول هو إله السماء القديم، والأخير هو لوسيفر.
المعبد في لالش. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
وبغض النظر عن أصول ملك طاووس، فقد كان رفيقا دائما طوال رحلتي مع طه إلى لالش: فشعار الطاووس، المرسوم على الأبواب والبوابات، كان يظهر في كل مكان عندما دخلت بلدة عين سفني الإيزيدية، القريبة من لالش. وكذلك نحت رأس طائر في الطابق العلوي لإحدى البنايات. كان يوجد في هذه البلدة فرع لمؤسسة تسمى مركز لالش الثقافي. كان مكانا بسيطا به مكتبة جيدة ومتحف صغير. التقيت في المكتبة بعياد، الذي كان من جيل جديد من الإيزيديين، وهو يقرأ مجلة. كان يستطيع القراءة والكتابة بأربع لغات مختلفة وكان حاصلا على شهادة في العلوم السياسية. ومثل العديد من المثقفين الإيزيديين الذين تحدثت معهم، كان مفتونا بتاريخ دينه. كنت قد بدأت أعتاد على أن يعطيني كل إيزيدي رواية مختلفة قليلا، الأمر لم يكن مفاجئا؛ نظرا إلى عدم وجود كتاب شامل لتعاليم عقيدتهم أو نصوص دينية متاحة للجمهور. وإنما يروي كل شخص قصة الإيزيديين بطريقة مختلفة قليلا، ومع ذلك توجد موضوعات مشتركة في كل نسخة من القصة.
كانت نظرية عياد عن قومه ما يلي: «نحن أحد شعوب الشمس. فيما مضى اعتبر أهل سوريا، وروسيا، وأرمينيا، وإيران، وتركيا الشمس إلها. كانت تلك هي المرحلة الأولى من ديننا، ألا وهي عبادة الطبيعة؛ ثم أصبحت إيمانا بإله واحد؛ وأخيرا جاءت تعاليم الشيخ عدي.» قال عياد إن الإيزيديين لم يعودوا يعبدون الشمس. لكنهم استمروا في الركوع لها عندما يصلون. وعندما شغل أول عضو إيزيدي في البرلمان مقعده في المجلس العراقي الجديد، لم يؤد اليمين الدستورية على القرآن أو الكتاب المقدس ولكن على علم كردستان، وبالتحديد على صورة الشمس في وسطه. لم يعتبر عياد ذلك صدفة. وقال: «نحن الأكراد الأصليون.» يخشى بعض الإيزيديين من أن الاندماج بين الأكراد سيهدد الهوية الإيزيدية، لكن عياد شعر أن المسار الأسلم والأصدق هو وضع شعبه في قلب الهوية الكردية. •••
وصفت الرحلة بالسيارة من عين سيفني إلى لالش في كتاب رحلات من أربعينيات القرن الماضي بأنها تجربة مؤلمة، يمكن أن تؤدي إلى كسر محور عجلة السيارة. لكن الأمور تحسنت؛ فيوجد الآن طريق ممهد سلس يتعرج عبر واد مشجر إلى المعبد. وفي اليوم الذي سافرت فيه على هذا الطريق، كانت السيارات واقفة على طوله، وكان بإمكاني سماع موسيقى البوب الكردية وضحك المراهقين. عندما اقتربنا أنا وطه من الضريح، مررنا بتمثال حجري للشمس. وتبين أن الضريح عبارة عن مجموعة متنوعة من المباني الحجرية التي تشبه ديرا قديما (ادعى كاهن مسيحي في العصور الوسطى أن لالش كانت بالفعل كنيسة مسيحية يوما ما) ويختبئ في واد مشجر. كان يوم زيارتي هو يوم الجمعة، عطلة نهاية الأسبوع الإسلامية. وكانت عائلات كثيرة في لالش للتنزه تحت أشجار التوت والتين التي ظللت ساحاتها المرصوفة بالأحجار. يوم الإيزيديين المقدس هو الأربعاء، حيث لا يعملون في الحقول، أو يسافرون، أو يغتسلون، أو يغسلون ملابسهم. ولكن قلة منهم هم من يحتفظون بهذا التقليد القديم، الذي قد يعود إلى المحرمات القديمة في بلاد الرافدين قبل المسيحية . وأصبح الآن يوم الجمعة، باعتباره يوم الصلاة الجماعية لدى المسلمين، العطلة الأسبوعية الأكثر شعبية من يوم الأربعاء.
بعد أن تركنا طه في السيارة - حيث قال إنه سيقابلنا لاحقا - انضممنا أنا وعياد إلى إحدى هذه العائلات وجلسنا تحت الأشجار، مع شرائح البطيخ على طبق بيننا. وكانت العائلة التي جلسنا معها لا تتحدث الإنجليزية ولا العربية. ابتسم الأب، الذي كان يلف على رأسه كوفية باللونين الأحمر والأبيض، بمودة، لكن محاولاتي لقول عبارة أو اثنتين باللهجة الكرمانجية المتعثرة أخفقت بالكامل. جلس أبناؤه معه، بينما تنزهت زوجته وبناته على بعد خطوات قليلة، محميين من أشعة الشمس بالجدران الحجرية لمبنى صغير تعلوه قمة مستدقة مخروطية متعرجة، وهي سمة مألوفة في الأضرحة الإيزيدية. (قد تكون الخطوط المنحدرة من القمة المستدقة، المنبثقة من قمة المخروط إلى قاعدته، مصممة لتشبه أشعة الشمس.) تطوع عياد ليريني المعبد ذاته، وهو المبنى الواقع في مركز مجموعة المباني. ومشينا في ممر غير مسقوف يطل على شرفة، بها امرأة ترتدي ملابس بيضاء تنظر إلينا بصمت. وقد كتبت رحالة بريطانية من منتصف القرن العشرين، هي إي إس دراور، التي زارت لالش خلال مدة وجودها في العراق، عن «النساء الموجودات بالضريح اللائي يرتدين ملابس بيضاء، ويشبهن الراهبات» واللائي لا يتزوجن أبدا، ويقضين حياتهن في غزل الصوف والعناية بالأضرحة والحدائق المحيطة بها. فكرت في أن هذه يجب أن تكون واحدة من هؤلاء النساء. في العصر البابلي، كانت نساء مقدسات يقضين وقتهن كذلك داخل حرم المعبد، يغزلن الصوف.
وصلنا إلى ساحة المعبد المضاءة بنور الشمس بعد أن عبرنا مدخلا بسقف مقوس يعلوه تمثال لرأس وعل. بجانب باب المعبد، كان يوجد نقش بارز لثعبان أسود كبير على الحائط الحجري، رأسه متجه لأعلى، ليكون بمنزلة تميمة لمنع الشر من الدخول. وكان للباب عتبة ضخمة. أشار إلي عياد بأنه ينبغي أن أخلع حذائي وأخطو فوق العتبة دون لمسها، كما يفعل الإيزيديون؛ لأن المؤمنين يقبلون العتبة التي يعتبرونها مقدسة. وهكذا دخلنا إلى غرفة مظلمة مرصوفة بالأحجار، تفوح منها رائحة الغبار والقدم ، ويتسلل الضوء عبر النوافذ الصغيرة، وكانت الزخرفة الوحيدة التي تدلت من أعمدتها المركزية هي بعض لفائف الحرير ذات الألوان الزاهية؛ الأصفر، والأحمر، والأزرق الفاتح. ويمكن للمارة ربط أو فك العقد فيها لجلب الحظ الطيب. وكان عدد قليل من المجموعات العائلية يتجول في الغرفة التي تبدو مبهجة ولكنها هادئة.
نزلنا مجموعة من السلالم، ورأيت ملك طاووس مرة أخرى، أخفت ستارة أمام كوة أحد «السناجق» الباقية، وهي التماثيل النحاسية للملاك الطاووس. عندما وصلنا إلى الطابق السفلي، وجدنا أنفسنا في غرفة تفوح منها رائحة كريهة لزيت منتهي الصلاحية كان يتسرب من الزجاجات المكدسة على الحائط. وكان المراهقون يلقون من وراء ظهرهم ربطة من الحرير، ويرون ما إذا كان بإمكانهم كسب القليل من الحظ بضرب حجر معين في الحائط، وهو ما فكرت في أنه قد يكون تمثالا تآكل بمرور الزمن لدرجة أنه لا يمكن التعرف على معالمه. (أخبرني الإيزيديون لاحقا أن هذا الحجر كان معلقا بمعجزة في الهواء. قالوا، مذهولين من غباء ما كانوا على وشك وصفه: «لكن، قبل بضع سنوات، أصر الأشخاص الذين يفتقرون إلى الإيمان على نصب جدار خلفه.») عندما خرجت من الغرفة رأيت تابوتا حجريا مغطى بقطعة قماش خضراء. كان الإيزيديون يسيرون حوله، وهم يمررون أيديهم اليسرى على الضريح. وبسطت عباءة سوداء من الصوف، وهي تقليدية لدى الصوفية، بشكل تبجيلي في مكان قريب. ولا يسمح إلا للإيزيديين المتدينين جدا بارتدائها. وقيل لي إن الشيخ عدي كان يرتدي تلك العباءة. سألت هل كان مسلما؟ كانت هناك مجموعة من الإيزيديين تستمع، وقالوا جميعا في آن واحد: «لا!»
أخبرني عياد أنني كنت محظوظا؛ فقد اجتمعت في المعبد في ذلك اليوم هيئة تدعى المجلس الروحاني، وهو يضم بعضا من أكثر الشخصيات العامة نفوذا وكبار رجال الدين. ولكي أطلب منهم الحضور للاستماع كان علي أن أسير من المعبد إلى ركن خفي في مبنى مجاور. وكما هو مطلوب، خلعت حذائي قبل الدخول. لم تكن توجد نساء بالداخل. وجلست مجموعة من الشبان على مقاعد حجرية بطول جانب جدران الركن الخفي. خلفها كانت ساحة تؤدي إلى غرفة يعقد فيها المجلس الروحاني اجتماعه. كان بإمكاني سماع مقتطفات من محادثة الرجال الجالسين على المقاعد، الذين كانوا يناقشون بجدية (باللغة الإنجليزية) تاريخ القومية الكردية. وعندما تحدثت إليهم وجدت أن كثيرين منهم كانوا يحملون جوازات سفر أجنبية، معظمها من ألمانيا أو السويد. وكانوا ينتمون إلى طبقة الشيوخ، أعلى الطبقات الإيزيدية الثلاث. ووفقا للتقليد، يجب على الشيوخ الزواج من داخل طبقتهم. سألت أحدهم، ألم يكن هذا صعبا على الإيزيديين الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا؟ أجاب: «أنا أحافظ على العادات، وقد تمكنت من العثور على زوجة من طبقة الشيوخ. لكن عندما تبلغ ابنتي العشرين من عمرها، لن يكون بوسعي التحكم فيما تفعله!»
كان بإمكاني رؤية أعضاء المجلس يتجمعون في الساحة؛ وكان من الواضح أن الاجتماع قد انتهى. كان بعضهم يرتدي سترات، لكن خمسة رجال، بلحى رمادية طويلة ويرتدون الزي التقليدي، كان يظهر عليهم جلال خاص. كانوا يشبهون كثيرا زعماء القبائل العربية، بأغطية رءوسهم البيضاء المثبتة على رءوسهم بحلقات سوداء؛ وكان بعضهم يرتدي عباءة رفيعة تسمى «البشت» باللغة العربية وتدل على الرتبة العالية. أحد هؤلاء كان المير، الزعيم المؤقت للإيزيديين. وكان رجل آخر يرتدي ملابس مختلفة قليلا؛ إذ كان يعتمر عمامة رجل دين باللونين الأحمر والأبيض ويرتدي عباءة بيضاء مائلة للصفرة. كان هذا هو البابا شيخ، الذي كان عمليا الزعيم الروحي الأعلى للإيزيديين (رغم أنه، على الأقل أثناء وجودي هناك، ترك الحديث للمير). وإجمالا كان الرجال في الساحة زعماء المعتقد الإيزيدي. سألت إن كانوا سيمنحونني مقابلة قصيرة، وطلبوا مني أسئلتي مكتوبة ثم أبعدوني لأنتظر قرارهم؛ فجلست بعض الوقت في غرفة علوية ذات أرضية حجرية حتى استدعيت مرة أخرى. وقرروا أن التحدث معي سيكون مأمونا.
Unknown page